5 avr. 2011

أيا جربة :... من العشق ما قتل !



عشقك أحياني، يحييني... عشقك يقتلني !
وأنا أعيش لحظات الفرح الذي اِنتهينا إلى أن خلناه مستحيلا فانبجس، فجأة انبجس، ونحن لم نعد ننتظره انبجس، كنت في وجداني...
كنت فيّ وأنا أنظر ابنتي أحسبها تعيش لحظاتنا الأخيرة معا... كنت فيّ وأنا أشدّ أيادي رفيقتي –ابني-أختي-بنات أختي-أصدقائي-صديقاتي-بنات وأولاد "البلوقسفار"- شباب جلمة والحامة وسيدي بوزيد وتالة والرقاب وحيّ التضامن والقصرين (التي هي في ماضيّ قصر وحيد هو سجنها) والمزّونه وبئر صالح وبنقردان و...و...
كنت فيّ وأنا أقطع إليك ومنك إلى الجمّ فسيدي بوزيد فالزّهراء طريقا وعرا رغم الأسفلت، أسابق منع التجوال وأشفق على عشيرتي الصغيرة أن يغتال هناءها طائشٌ طامعٌ أو رصاصة ذيل من ذيول النّهابين الذين طغوا...
كنت فيّ وأنا أتابع عن بعد طفلتي تنتقل إليك من لظى نيران القناصة تفضحهم شجاعتها الإلكترونية مع تلفزيون تبتغيه سندا للسياحة فيتلقّفها بوليس العهد البائد يخيّل إليه أنّه ما يزال في وسعه أن يمارس بلا متصدّ لغته البذيئة وانشداده المرضيّ إلى خدمة الأنذال وعماه عن الوطن أرضا ومواطنين، فتقهره، هي التي لم تتنه بعد عقدها الثالث، هي الرقيقة كالياسمين الهشة كالنور الخفيفة كالنسمات، تقهره بلغة الوطن الجديد وعشق الحريّة والفناء في الآخر للآخر ومن أجل الجميع... كنت فيّ وأنا أسمع وأرى "حوسين" لا يهدأ له بال : عين على سواحل الجزيرة، وعين على القصبة، وبين هذه وتلك مهجة في سيدي بوزيد وبنقردان...
كنت فيّ وأنا أهتف لأميّ أقول لها وهي المقدمة على جراحة لم يكن من المستغرب أن تذهب بها : "ألَأبشري واِهنئي بالا فطوافك بين المعتقلات صفحة طواها الماضي وأنت الآن تعيشين ثورة حقّة، ولدم عشيرتك-بناتك-أبنائك-حفيدتِك، حفيدتك تلك صعبة المراس متمرّدة الطبع غريبة الصّمت يدٌ فيها وعقلٌ...
كنت فيّ وذهني يسرح في رحاب الآتي المشمس البديع- يرسمك جنّة أحلى فيها تفّاح أصيل ونخل باسق وكروم غنّاء وناس هبّوا من كلّ حدب وصوب هائمين بك، حانين عليك يسحرهم تاريخك-ذاكرتك-بهاؤك العتيق ويومك الذي انتهيت إليه وقد أفلحت في أن تكوني أنت أنت، بخير ما ورثت وأبهى ما ابتدع العصر...
كنت فيّ وأنا أرى وطني جموعا قوسُ قزح ألوانُها، والفرح قسماتها، والتعدّد فكرها، والنوعان عماداها، والحريّةُ دروبُها، والماضي المتنوّع والأفق الزّاهي وتداها...
كنت فيّ وأنا أقاتل أرقي وأطارد جزعي ويشحذ عزمي إقدام ولدي ينصبّ طفولتَه المتحوّلة شبابا حارسا أمينا لنا لا يهزمه لا السهر ولا لعلعة النّار الحقودة...
كنت فيّ وأمّه-أمّها-أمّهما تقول لي : لاحق لك في الخوف... كلّ بنات تونس وأبناؤها فلذات أكباد الوطن الغالي... وكلّ من ذهبُوا، بل حلّقوا إلى المعالي متحدّين الخونة سرّاق البهجة وعصيّ الطاغي، هم أبناؤنا وبناتنا نبكيهم ونزغرد لهنّ، والضّير لن يكون لا أثقل ولا أدهى لو رفرف نحوّهم أخرون من صلبنا.
كنت فيّ وأنا أتشوّف إلى غدٍ-غدِ أبنائنا وأرى فيه تجسُّدَ أحلام كَم عذّبتنا وأرى سُعْدَى الحيّيةَ تدفعني إلى قدري تقول : "لا تحزن يا صادق ولا تتردّد، قدرنا الشخصيّ لا شيء أمام قدر الوطن والخيارُ واضح فلتنطلق ولتهنأ بانطلاقك : أنا معك !؟..
كنت فيّ وأنا أرى سي شعبان يبسم لي من عليائه في فخر ويهمس : "روسكم كاسحة" هذا صحيح، ولكنّي سعيد بكم : أطلت شعرك الذي كنت أريده قصيرا، وقصّت شعرها الذي كنت أريده طويلا... ولكنّها مثلك تعجبني ... وأفرحتني رغم الجزع.."ثمّ أتذكّره ينصحني-يربّيني : "لا أريدك مهزوما ولا هاربا... إن أحسست نفسك لا طاقة لك بالمواجهة لا تنهزم... بدّل سلاحك وتكتيكك وستنتصر... إن صارعك ظالم ولم تقو على الصّراع، ناور واختَر أنت توقيت الصراع ونوعه..!
كنت فيّ وأنا بين بنات وبنين كالزّهور كالورد اليانع بألوان الضوء الزاهية المتسلّلة إلى عين مغمضة تعاضد فكرا على تركيز الحلم البهيّ نتحدى البلطجية والبوليس وفرق التدخّل ونهدف على بعد شبرين من مداخل حصن الطغاة الأغبر : "ديقاج... ويسقط حزب الدستور، يسقط جلاّد الشعب..."
كنت فيّ وأنا لم أعد أعرف أأنا أحمي بنتا وأختا تكاد حنجرتاهما المتفتّقتان أملا وإرادة تجفّان أم أنّهما تحميانني...
كنت في ذاك اليوم الرابع عشر، يوم اكتمال القَمر، يوم نضج الحبّ في الأجساد، وأنا أرى شارعا يزهو وينشد ويبسم ويثق-ينشرح ويتعلّق بالمستحيل يراه ممكنا للتوّ وهنا...
كنت فيّ وأنا أرى على الأعناق بناتا كالفجر وعلى الطوار الذي كان حتّى اللحظة هنجعيّ المنع نساء أرواحهنّ على شفاههنّ أغواهنّ شبق مطلق الحريّة ولم يعد يعنيهنّ أهي الحرية بقاء أم الحريّة انتقالا عنيفا إلى المطلق !؟...
كنت فيّ وأنا أحنو على ولدي-أمّه أخته-عمّتهما-بنتي عمّتهما تتسارع دقّات قلبي إشفاقا عليهما من برد القصبة، عنف المتسلّطين فيها، ويخفق وجداني سعادةً بهذا الشّمل الثَّمِلِ بالحريّة يريدها كاملة وإن كانت حياته قد تنتهي أو تشوّه برصاصة غادرة...
كنت فيّ طوال هذه الأيّام والليالي الصّعبة الحلوة التي كنت قد كففت أو كدت أكفَ عن الحلم بها... كنت فيّ وأنا أذكر الهادي النجّار وهو يعبر من البرّ إليك منشدا أغاني كان مجرّد الترنّم بها أيّامها شبهة وخطرا.
كنت فيّ لأنّني منك وفيك مرابع صباي وأشواق كثيرة، ومنطلقي وشهوة استقرار ما قبل الرحيل النهائي...
كنت في وتظلّين فيّ اليوم... وغدا.
لكنني حزين منك، مريض بك... وعشقك يقتلني.
عشقك يقتلني ولا سبيل لأن أبرحه.
عشقك يقتلني يا جربة !
لكم سعينا لأن تبقيْ على الدّوام جرْبَةً يعني جنانا نضرا فيه الماء والشجر والخير وبهاءٌ لا مثيل له... رفاقَ "صيانة الجزيرة" ورفاق "جربة الذاكرة" وعشاقك الكثر غيرهم...
وكم تباهينا بأنّك مهد التنوّع والجمال الهادئ والكنوز البسيطة والسّهل الممتنع والممتنع اليسير والفصول الخمسة وتناغم الأرواح وتعايش الأهواء والرّحب للجميع ونقطة التقاء الأمس بأطواره وعطاياه بالغد بإبداعاته ذات الغصون المتوثبة نحو الشمس والجذور المشرّشة في ذاكرة الأرض والتاريخ.
ولكم عملنا على أن تداوي جراحاتك وأن نمنع عنك الطامعين والنهابين والبهائم والمستكبرين...
كنّا ثلّة-قلّة لم نصمت لا على اغتصاب مشاهدك- شواطئك- بحرك ولا على التغاضي-الصّمت الآثم على اندثار نهب تراثك-جوامعك-آثارك وهدر ما يزيّنك من نخل وزيتون وإتلاف معمارك المتميّز المتفرّد وتشويهه من هذا وذاك...
وأنا أفخر إذ قال لي الشيخ  الصادق بن مرزوق ذات عام وأنا أنافح على صفحات "الجزيرة" أستغيث لوقف اندثار جامع ولحي : "كفاك جهادا يا ولدي، فالجوامع كما الكائنات كلّها تموت هي أيضا ! وبارك الله فيك أن وجدت جوامع جربة فيك أنت بالذّات مدافعا صريحا لا يتردّد ولا يناور في زمن عزّ فيه من يجرأ حتّى على مجرّد ذكر الجوامع !؟"
عشقك يقتلني... فعشقك كلّي-واسع-عميق-متجذّر-ممتدّ... ويقتلني. يقتلني لأنّي أسمع أرى-همّجا يستبيحونك ؛ يستحوذون على جوامعك-يثقلون صدرك بمبان لا طائل منها-يهدرون جمالك وسحرك-ينصّبُون ذواتهم أنبياء بل ظلالا لله على أرضه يفتكّون المنابر ويغرسون الصوامع أوتادا تؤذي سماءك البهيّة وتطحن جوامع أرادها مشيّدوها كما الطفولة هشّة بسيطة رائعة جذّابة وحيّية...
عشقك يقتلني...يقتلني لأنّني لم أعهدكِ إلاّ متسامية سمحة منفتحةَ نيّرة فإذا بك تخضعين لأرهاط خرجوا للتوّ من بعبعهم يتدثّرون بالثورة زورا وبهتانا يوقظون أفاعي التفرقة، يوقدون نيران الفتن، يبتغون غبن الفكر والروح والجسد، يزعمون علما وإخلاصا ونقاوة نيّة ويَطرشون عن كلّ لومة لائم...
عشقك يقتلني... يقتلني لأنّك تُقْتلِين صبحا مساءً تذبحين في غفلةِ وعلى الملإ : دينصورات عهدي العسف وسنوات النهب التي لم يطلهم الزلزال ما يزال ينقضّون على شطآنك ينخرونها-يحيلونها إلى العدم...
عشقك يقتلني... يقتلني لأنّ مرضى العنصرية والجهوية يتهافتون عليك فمن يهود يرادُ تهجيرُهم أو يرومونه، ومن عملة داخل البلاد قادهم الأملُ إليكم يغتالهم اليأسُ والخذلان...
عشقك يقتلني... لأنّي أراك خالدةَ الجمال والرّوعة والسماحة والحضن الدافئ للجميع، مضيافة، عتيقة كزيتوناتك الدّهرية، خفيفة الظلّ كنخلك الرّشيق، زاهية الألوان كربيعك وإن لم ينهمر الغيثُ، متنوّعة كمشاهدك رغم ضيق المساحة، فسيحة الصّدر كبحرك، متواضعةً كجمالك ومساجدك...
عشقك يقتلني... ولن ينقذني منه إلاّ...عشقك أكثر !


                                                                                        الصادق بن مهني
                                                                       30 و31 مارس 2011


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire