1 juin 2011

أحمد العثماني


أحمد !
جمع الصّمتُ بيننا لزمن قبل أن ترحل، ومذ رحلت.
غير أنّه لا الصّمت، ولا المسافات، ولا القيل والقال، ولا السّؤال حَسَنُ النّيَةِ أوسيئها، ولا الموت، ولا الرّحيل عبر الحدود ونحو الأثير، ولا شيء-لا شيء البتّة- يمكن أن يقطع حبل التّواصل بيننا. فمن اجترح ما اِجترحنا، ومن شرب ممّا شربنا، ومن اكتوى بما اكتوينا منه، ومن ارتاد الدّروب التي ارتدناها، ومن حلّق بعيدا وعاليا كما حلّقنا بعيدا وعاليا يتواصل حتّى بصمت وفي الصّمت...

ردّاوي !
أتذكر كيف طلبتني ذات يوم والليل يخيّم أو والفجر يولد –لم أعد أذكر- وجئناك-نجيب وأنا-عند السّكة نراوغ من وراء خطواتنا أشباحا تطاردنا ؟
كنت لا أعرفك إلاّ عَلمًا، اِسما، رمزا، وحُلُمَ لِقَاء.
وتجنّبناكُ-، فررنا منك فنجيب لم يعرفك بلحية ونظَارتين وسيجارة... -ثمّ بعد ذاك، كان اللقاء: شدُّ إزرٍ، ووتعليمات عجلى، وحملٌ ثقيلٌ ألقيتَهُ على عاتقي...
وظللنا نناور ونسير متخفّين لكن نسير، وظللنا نجمّع أشتات أحبّة فرّقت صفوفهم عصا الجلاّد ومداهمات العسس حتّى...
وقعتَ.
ولم نقع إثرك... فأنتَ قد صمَتّ مرّة أخرى.
واِزددت رِفعة مقام، ونصاعَةَ مثال، وأصبح الهدفُ أعلى وأعسرَ !
ودون سابق إعداد أو تخطيط وَجَدْتُنِي في دَوْرِكَ : في رأسي همومك، وفي قلبي أحلامك، وفي قدميّ حذاؤك !

وبِنَفْس الإقدام الطّفوليّ والتحفّز ذي الأصل البدويّ والتّوق الذي لا يَعرف لا حدودا ولاعقلانية ولا عقالا، اندفعتُ أواصِلُكَ...
...حتّى وقََعْتُ.
ولمّا وقعتُ كان في بالي : مثالك، وازدراءُ رفيقٍ لم ينفكّ يرغب منّي أن أثقّف نفسي لأصمدَ...إلى حدّ ما.
...ولم أخيّب ظنّك... ولم أُحبِط عزمي.
وبعد زمن لاقيتك... كُنْتَ في بنزرت على قمّة الجبل منذ فترة. وكُنتُ قد قدمت إِلى هناك منذ أشهر بعد أن نُقّلتُ من حبس لحبْسٍ لحبْس... هل تذكر كم ضحكنا عند ما قلتُ لك ذات مرّة أنّني بدأت أعرف أرجاء بلدي التي لم تكن على مسار جربة-تونس وأنا في السّجن : من تلك الثقوب الصّغيرة على جنبات علب السّردين أو "قفف السلاطة" التي كانت تحملنا؟

عثماني !
هل تعلم أنّ عربات نقل المساجين غدت بلا ثقوب على جنباتها ؟

يا السّارحُ !
ولكن ما بالنا قد سرحنا. لنعد إلى هنالك، إلى البرج.
أذكر كيف أطللت علينا ذات مرّة فجأة وكنت قد تحدّيت ما لا يقلّ عن ستّة جدران عالية لتبسم فينا وتلقي إلينا بفكرة...
ما أروع اختلاس البسمة-النظرة في غفلة العسس وما أشهى إبلاغ الفكرة من وراء الجدران الشاهقة- العيون المرتابة- السلاح المشهور ! ! !
ثمّ اِلتقينا : لزمن الفسحة فحسب بدايةً، ثمّ لتؤوينا معا نفس الحيّزات التي كانوا يريدونها قبرًا لنا، وجعلناها جامعَةً متعدّدة الاختصاصات والأبعاد- سهلا للفكر المتعدّد-رحبا للمرح- منزلا للأحلام- وأنبت رشيد فيها النّوْرَ فتسلّقت الأزاهير القزحية سوق الحيطان- ومنح النّوري اسمه الحركيّ لقُطَيْطٍ وُلد ذات ليلةٍ على برنس محمّد وتبنّيناه كلّنا- وأضاء نور الدّين ليلاتنا كلّها بقهقهات أحلام كم كنّا نترجّاها كلّ ليلة.
كم ناقشتك، وكم أهديتني وأهديتك عبق رسائل قادمة من الأبعاد وكم قرأ كلّ منا للآخر ما حبّره للأحباب، وكم عانقت معك طيف "سيمون" ورأيتك تقفز من الواقع إلى صور وصلتك، تدخل فيها وتنصهر وكم استمتعت ببسمتك الطفولية وأنا أتبعك إلى شواطئ "كورسيكا" وشوارع البندقية ومنزل "كلوئي"...
وكم تنادينا مع رفاق –إخوة- أصدقاء إلى فكر-نقد- حوار، أعدنا فيه تفصيل العالم- جرّحنا ذواتنا- وأعدنا رسم ملامح الشّمس  القادمة !

أحمد رفيقي-صديقي- أخي !
ثمّ بعد لأي خرجْتَ- خرجتُم. ووجدنا فيكم نعم السّند... حتّى خرجنا أيضا.
ما أبهى اللّقاء الذي كان. وما أيسَرَ أن  تُعيدَ تعلّم المشي وأنت تستند إلى من بدأ يعيد تعلّمه  قبلك !
ولأنّ رؤوس- قلوب عديدين منّا كانت قد اِلتقت حول هدفين : حقوق الإنسان والثّقافة... فقد تظافر العزم بيننا حتّى ولد الفرع التّونسيّ لمنظّمة العفو الدّولية دون ترخيص، وفي ديارنا أوّلا، ثمّ برخصة كم احتفينا بها وهلّلنا لها علما مضيئا يقول للآخرين : ها نحن ننجح مرّة !
ويقول لمن شدّوا إزرنا : ها نحن نشدّ بدورنا إزر أمثالنا !

أبا ياسين !
أراك الآن وأنت تحنو على رضيعك، وفي عينيك وعيني "سيمون" أنجم تتلألأ، وعلى محيّاكما رقّة حبّات رذاذ البحر المتناثر على عاشقين.

رفيقي –صديقي- أخي أحمد بن عثمان  العثماني الردّاوي !
أحسّني مدفوعا اِلى صمت –صمت من نوع آخر... فلنترك للخواطر أن تتولّى مواصلة جمعنا في رِفقٍ ودون منطوق كلام حتّى...


                                                                       مـــــــــارس 2009 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire