27 sept. 2011

الفساد وما أدراك ما الفساد (الصباح 22 سبتمبر 2011 ص 10)

الفساد وما أدراك ما الفساد !
كلّ الملفات التي فتحتها الثّورة –ملّفات التشغيل/ وتنمية الجهات، وتوزيع الثروة، وسوء استخدام التشريع والتقنين، ونوعية المشاريع، والقهر الاجتماعي والسياسي، والتعذيب، والظلم، وشطط الاقتراض وما سوى ذلك... –كل الملفّات التي فتحتها الثّورة متى تأمّلنا فيها، بل حتّى متى اكتفينا بمجرّد تصفّح ورقاتها الأولى، تُحيلنا وتقودنا ضرورة إلى مسألة محورية اسمها الفساد .
فالفسادُ قد عمّ بلادنا، بمختلف أنشطة الناس : الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإعلامية وغيرها، وبمختلف الأنحاء والمناطق...
والفساد لم يقتصر على الاستثمارات والتمويلات والتأمينات والتجارة والصناعة فحسب بل شمل القطاع الفلاحيّ (استملاكا لما هو عامّ، –أرضا وماء وتجهيزات- ونهبا للتمويلات الموضوعة، نصّا، لتنمية القطاع...) وقطاع الخدمات السياحية وغيرها، وقطاع التربية (بيع الشهادات ومواطن الشغل والترقيات... إلخ) وقطاع الإعلام (شراء الأقلام الأوروبية والشرقية وتمويل جرائد ومجلات وكتب وإذاعات وتلفزات...)...
ولأنّ فم الفساد جائع على الدّوام لا يشبع أبدا فإنّه طال أوجه النشاط أيّا كان حجمها حتّى عطّلها، وأوقع في حباله حتّى مؤسسات كانت تحيط بها هالة من القدسية ولا يجرأ عليها أحد كالدّيوانة والحدود ومختلف المصالح التي من دورها تسليم تراخيص تخضع لضوابط معلومة...
ولأنّ الفساد تغوّل فهو، بعد أن اعتمد على أجهزة ومؤسسات وأصحاب مواقع في الدّولة، قد ابتلع الدّولة بطمّ طميمها –أو يكاد- وسخّرها لخدمته هو مصّاص الخيرات والثروات والدّماء الذي لا يصحّ وصفه حتّى بأنّه مافيا إذ أنّ المافيا، خلافه، وخصوصا خلافه في سنواته الأخيرة، لا تعطّل التنمية تماما بل توظّف عليها إتاوات غير شرعية وتكتفي بجني بعض من فوائدها، لأن الفساد تغوّل فهو قد أحكم قبضته على جلّ مفاصل الدّولة ومواطن التصميم والقرار والتنفيذ فيها :
- فالرئاسة – رئيسا ومستشارين وديوانا وحكومة ظلّ –أصبح همّهم الأوّل تيسير الأمور للفاسدين ؛
- والحكومة، وإن هي ظلّت –بحكم الضرورة- تسيّر البلاد وتحقّق بعض الإنجازات، قد سُخّرت طاقات هائلة تتبعها لخدمة الفاسدين ؛
- وأغلب الأجهزة القضائية وجلّ أجهزة الأمن أضحت مجرّد أدوات تنفيذ تأتمر بأوامر الفاسدين وخدّامهم ذوي المراتب العليا ؛
- وحتّى السلطات التشريعية أصبحت مجرّد يد تكتب ما يملى عليها حتّى أنّها شرّعت حتّى لما لم يكن من المعقول مجرّد التجرّؤ على تخيّل تشريعه : كالحصانة المطلقة التي منحت للرئيس، والمنافع العميمة التي قرّرت لعائلته، وإمضاء اتّفاقيات الصداقة والتعاون مع جزر قصيّة، لا صلة ولا منفعة لبلادنا بها، لمجرّد تأمين تهرّبهم و هروبهم وتهريبهم، وكالمصادقة للحكومة على إمضاء اتّفاقيات ملزمة للبلاد دون النظر فيها...
ولأنّ الفارّ كان يعي أنّ استشراء الفساد هو محور الهبّة الشعبية التي عصفت بسلطانه فإنّه قد بادر في أواخر ساعاته، التي حاول فيها مراوغة الشعب بوعود إصلاح، بإقرار مبدإ بعث هيئة مستقلّة تتقصّى الحقائق المتعلّقة بالرشوة والفساد.
ثمّ جاءت حكومة الغنّوشي، التي كان همّها الأوّل المحافظة على النظام المنهار حتّى انهارت هي، فأحدثت هذه الهيئة : لجنة على شاكلتها :
- لجنة يتمركز فيها القرار بكلّ أبعاده عند رئيسها ذي الصلوحيات المطلقة،
- ولجنة لا شفافية في أعمالها، ولا وضوح في أهدافها، ولا دقّة في سيرورة أبحاثها، ولا خطّة بيّنة لسيرها، ولا منهج يتحكّم في أولوياتها ؛
- ولجنة عسر على المجتمع المدنيّ التفاعل معها، فهي وإن قبلت ببعض ممثّليه أعضاء في هيئتها العامّة، قد انتقتهم أو كادت بمثل ما اِنتقت به أعضاء هيئتها الفنية. وهي قد أغلقت أمامهم إمكانية الاطلاع على الملفات وضبط توجّهات عمل اللجنة الذي يدخل في صميم مشمولاتهم. وهي قد صمّت آذانها إزاء جميع ملاحظاتهم واقتراحاتهم التي لم تكن الغاية منها سوى إصلاح شأنها –وهي قد تعاملت مع الاستقالات التي دُفع إليها بعض أعضائها دفعا بصلف وعنجهية وأحيانا حتّى بالازدراء والادّعاء... وهي قد تعاطت مع الهيئة العليا التي من دورها مساءلتها وتقويمها بكثير من التعالي والاحتقار وحتّى القذف ؛
- وهي لم تفد النّاس لحدّ الساعة، بأيّة تحليلات أو تقييمات تفضح منظومات الفساد وتفكك تركيباتها، ولم تطح بأجهزة فساد بعضها ما يزال يشتغل وبعضها معروف للعامّ والخاص، وظلّت تكتفي بأعداد الملفّات التي وصلتها والتي عالجتها .. وهذه لا تؤخّر ولا تقدّم في الفهم والإدراك والمكافحة، ولا تفسّر ولا تبرّر محدودية عدد الملفات المحالة إلى القضاء وأسباب الاحتفاظ بسواها. وهي لم تعمّم لحدّ الساعة أيّ تقرير مفيد حول أنشطتها ؛
- وهي – فيما يبدو- لم تستخدم الصلوحيات الواسعة التي مُنحت لها لتستبق الأحداث وتسبق معدمي الملفّات... فرغم أنّها تمتلك حقّ مساءلة أيّ كان، وطلب أيّ ملفّ، والتعويل على جميع الهيئات الرقابية والأجهزة الإدارية، فهي في ما يظهر من ندواتها الصحفية التبريرية في عمومها، قد ركّزت على مداهمات القصور الرئاسية والاستماع إلى عدد من الشخصيات الرسمية... وظلت تتحدّث عن الفساد بما يفهم منه أنّها لا ترى منه سوى "مآثر " لبن علي وعائلته وأصهاره دون سواهم ؛
- وهي قد انطلقت تعمل على استدامة وجودها بالإعداد لجهاز قارّ ودائم تعتمد في إنشائه على القانون المقارن وتجارب بلدان أخرى أغلبها فاشل بدل أن تبنيه على أساس "تفريك رمّانة" ماضي الفساد وحاضره في بلادنا : آليات، وعمليات، ومنظومات ومراوغات للقانون والمؤسسات ؛
- وهي ما تزال تصرّ على غلق أبوابها أمام الرأي المخالف لرأي رئيسها، بل وأمام أيّ رأي حتّى وهو لا يسعى إلاّ لتفعيلها وتقويتها و"تعديل أوتارها" بما يحوّلها من مجرّد لجنة محدودة الإشعاع إلى واحدة من أهمّ مؤسسات العدالة الانتقالية التي يحتّم الظرف تفعيلها ؛
- وهي ما تزال تفاخر بأنّ "الدّولة هي التي أحدثتها" وأنّها باقية، وأنّها مفلحة في أعمالها، في حين أنّ المجتمع المدنيّ منصرف عنها، يدير لها ظهره ويسعى إلى تدارك عثراتها ونقائصها وحرنها بوسائله وجهده الذاتي، حتّى أن مقاومة الفساد وفضحه أصبحت تتمّ في غالبها خارج دائرة فعلها هي المحدثة للغرض والحائزة على جميع الإمكانيات والصلاحيات للفعل الحقيقي،
- وهي ما تزال تقتّر في تعميم معطيات ووثائق ليست ملكها الخاص، وتتصرّف في أرشيف غال وثمين وتاريخي في غير شفافية، ولا تعطي المعلومة حتّى متى تلقّت أذونا قضائية في ذلك إلاّ بعد طول تمنّع ومخاتلة ؛
- وهي، وإن تبجّحت بأنّ عملها سيتواصل ويستمرّ وسعت إلى استدامة وجودها، لم تول اهتماما يذكر –حسب ما يظهر من القضايا المنشورة ومن "غزواتها الإعلامية"- للفساد الذي ما يزال ساريا في القطاعين المنظم وغير المنظّم ؛..
- وهي تصرّ على أن لا تقترب من الشعب أكثر بالخروج إلى الجهات والمناطق... كما تصرّ –فيما يبدو –على أن لا يمضي جميع أعضائها إبراء ذمة يقطعون به الشبهات والدعاوي التي تطال بعضهم...
-
ولا يظهر من المعطيات الميدانية أنّ الحكومة الحالية قد تعاملت مع هذه اللجنة بغير ما تعاملت به معها سابقتها... يظهر ذلك في ما سلف تبيانه، ومن واقع أنّ الوزير الأوّل، بدءا، ثم الرئيس المؤقت لا يشيران إلى هذه اللجنة وأعمالها إلاّ عند استقبالهما تباعا لرئيسها الذي يتكرّم بزيارتهما كلّما ابتغى المشاركة في ملتقى دولي بالخارج أو تنظيم ملتقى يظلّ حديثه عنه لوسائل الإعلام هلاميا وغامضا من حيث محتواه والمشاركون فيه ولا يصرّ صاحبه فيه إلاّ على التشديد على مشاركة جهات دولية فيه كأنّ في ذلك الضّامن للنجاح !
الفساد محور الثورة، وفي مقاومة الفساد بحزم وشفافية نجاحُ الانتقال الديمقراطيّ فلماذا يحدّ رئيس اللجنة من نجاعة لجنته ويحيطها بالكتمان والعتمة ولا يبنيها على أسس الاعتماد على الشعب ووضوح الخطة وسواء السبيل؟
ولماذا يجرؤ على جرجرة رئيس الدّولة المؤقت لإكساء ملتقاه القادم المبرمج ليوم 22 سبتمبر بالحمامات عباءة رسمية عليّة ؟
ولماذا يستجيب رئيس الدّولة رغم التجاذبات التي تحيط بعمل اللجنة.
الصادق بن مهني
19 سبتمبر 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire