24 mai 2012

إنهم يستديمون المقام...إنّهم ينقلبون على مجتمعنا يبدّلون نمط عيشه !

هادنّا، وخنعنا، وبلعنا ألسنتنا أو كدنا، وغدا النصف منّا محسوبا ضمن من أصابهم اختلال نفسيّ أو حتى مسّ من الجنون، وعاشرنا الإحباط حتى خلنا ذلّنا وهواننا قدرا محتوما وفقدنا العزم والأمل...
لكن فتية منّا فاجؤونا إذ هبّوا من حيث لم نكن ندري وفي وقت لم تدركه حساباتنا فانفجروا غضبا هادرا ويأسا تحوّل رغبة في الأمل واستكانة انقلبت إصرارا على الفوز"الآن وهنا"، وصنعوا لنا انطلاقة ثورة صفقّ لها العالم بعضه احتراما ورغبة في الاستفادة، وبعضه مخاتلة وعزما على الاستحواذ...
ولوهلة استعدنا طعم الشّعر وتصالحنا مع الشّابي والحدّاد، وغنّينا لقمر عدنا نغازله، وتعلّقت هممنا بما وراء العرش نسعى إليه، وضحكنا طربا إذ خلنا أنّنا حقيقة طوّعنا القدر فغدا يأتمر بمطامحنا ورأينا الوطن واحدا والشّعب متراصّا وحلم "المساواة والتّنمية والحرّيات" قد استقرّ فعلا لا يتزحزح ولا ينثني...
ثمّ جاءت الأشهر الأخيرة وتبدّل كلّ شيء، تبدّل بعضه بعد بعض، خطوة بعد خطوة، ولكنّه تبدّل بثبات وصفاقة وصلف، وفي شبه غفلة منّا...
غدا الفعل الثّوري ممنوعا ومستهجنا ومقموعا...
وتبدّت السلطة الجديدة لا شيء يميّزها عن سلطة تجرّعنا سمومها لأكثر من نصف قرن وأغلبنا يصفّق أو يستكين حتى انفجرت القدر وخضع القدر...
ورأينا سلطة مؤقّتة ارتقت من أوجاعنا وفعلنا وجراحاتنا، وأردناها سعيا إلى اجتراح جمهورية جديدة ، جمهورية بديلة أساسها العدل والمواطنة والاتّفاق، وهمّها الأول تجاوز إعاقات الماضي وأن نرفع رؤوسنا بين الأمم إلى الأبد، تتحوّل سلطة غرّة مغترّة، متعالية، ينفخ أوداجها الصّلف وتستخرج مفرداتها من الخطب القديمة...رأينا سلطة مؤقتة تستند على القول صباحا مساء بأنها تستمدّ شرعيّتها من الشّعب ومن الانتخاب ومن التّوافق وتعمد صباحا مساء وبين الصباح والمساء وقبل الصباح وبعد المساء إلى الاستخفاف بالشّعب فتحول مجرى الثّورة إلى غير مسار صانعيها، وفي حين يزداد وجع الجرحى والثّكالى، تطعمنا كلّ يوم هويّة،وفتاوى، ودعوات، وكتبا صفراء، وخطبا هوجاء، ولحيّ،      وهدم أضرحة ومقامات، وضرب فنّانين، وقمع فكر... رأينا سلطة اتفقنا على أنّ همّها الأوّل أن تخطّ دستورا ينقلنا من غياهب الماضي المباشر إلى شمس الانعتاق تتغوّل عددا وفعلا، ومثلها في ذلك مثل السّلطة التّي خلناها انخلعت والحال أنّها باقية لم ينخلع منها إلا رأسها بل بعض رأسها، تنادينا إلى الاصطفاف وتمنعنا من شارع حرّره أبناؤنا وبناتنا، وتصفعنا بالكلم السيئ، وتضربنا بهراوات هي وحدها تعلم من يمسكها، وتعجز عن علاج الجرحى لكنها تفلح في تنويع الغازات التّي ترشّنا بها،...رأينا سلطة بزت سابقتها إذ فاقتها سرعة وفلاحا وتهافتا وشدّة في سعيها إلى تدجين الإعلام وتخوين غير المصطفّين وراء عباءاتها وبرانسها وغير المقتنعين بأنهم إنما خرجوا إلى الثّورة والنسائم الطيّبة من إبط راعيها الأكبر، وإذ وزّعت أبواقها بين مغنّ للغرب يطنب في مديح الحرّيات والانتقال وينفتح، وبين لجوج غليظ يتوعّد ويرغي ويزبد، وبين ممسوس بالغفلة والسّهو، وبين من همّه تلميع الصورة ومحو السبورة وتكذيب ما لا يكذّب، وبين من يوزّع البركات ويكفّر ويدعو لهذا بأن" يرضى الله عليه ويرضيه" ولذاك بالثبور والخسران...
 وفي ما توزعنا فئات مختلفة، ومناهج متضاربة، وعروشا متناحرة، وأحزابا لم تفلح في نزع الغشاوة عن بصرها، وإرادات لم تجد الطريق إلى الاتحاد، واتّحادا لا يحثّ الخطو، وفيما غلبنا الإحباط مرّة أخرى وصعقنا بواقع لم نكن نتبيّن تفاصيله، وأصابتنا البهتة ونحن نرى من حميناهم بالأمس وعاضدناهم حين عزّ النصير يكشّرون عن أنيابهم القديمة والجديدة ويعضّوننا نحن، في ما نحن على هذه الحال التي لا نستبين حلّا لاستبدالها، خاتلونا وخدعونا واستباحونا، فهذه أسس الدّولة ينقضّون عليها هدما وتقويضا: التعليم الذّي هو واحد من أسس الجمهورية يخرجونه من كنف الدّولة ويهدونه لعباءات القرون الغابرة، النّظام الصّحّي الذي أضحى مفخرة لنا بجهد وعطاء أبنائنا وبناتنا من كلّ جيل ومن كلّ حدب وصوب يريدون إدخال الفصل بين الجنسين فيه، والقرارات التي لا تدخل ضمن صلوحياتهم الأكيدة تغدو همّهم الأوّل ويتّخذون في شأنها القرار وإن لم يحل  ذلك إلّا للمغالين منهم، والساحات والقرى والمساجد والمعالم تستباح من أرهاط منهم فتفتعل لهم التبريرات ، وفعل الزّجر الذي هو في الجمهورية فعل تستفرد به الدّولة يغدو فعلا مشاعا بين ميليشيات يقصر نظرهم عن تمييزها، وأولويات الناس ذات الصّلة بالشّغل والتّنمية تؤجّل ، والشّفافية التي خلناها مطلبا مشاعا تغدو ترفا فالصفقات تعقد خارج الإجراءات، ومشاريع كبرى تؤكّد رغم أنها في مطبخ المخلوع أعدّت و توهب دون طلبات عطاء، والقروض والهبات يمضى عليها لتصرف على قروض سبقتها ، والشّعب يقسم فئتين: "هؤلاء يذكّروننا بشبابنا فلينتشروا، وأولئك كفرة فليخسؤوا !"، والفاسدون من كلّ لون نهادنهم ونلاطفهم ونريدهم محرّكين للاقتصاد وننسى أنهم من عطّل فعل التنمية ، وفعل الإقصاء نصرّفه وفق ما نشاء للتّهديد مرّة وللتّرغيب مرّة ومرّات لأمر في نفس غير يعقوب، ومؤسّسات الدّولة وإدارتها التي أثبتت الأحداث صلابتها وعطاءها ونجاعتها رغم كلّ ما طالها من تخريب وهوان  نستلّها ونحتلّها ونسلّط عليها الأدعياء والجاهلين وتثبّت في مفاصلها عيوننا والمصطفّين دون عقل ولا شرط، والاقتصاد نتّخذه تعلّة ولا نحرّك ساكنا في شأنه: ليزدد الانتهازيون ثراء، ولتعمّ الفوضى الشّوارع والأرصفة وليغنم المهرّبون من كلّ شيء ولتخسر خزائن الدّولة عوائد التّوريد والتّصدير، وليبن الناس حيثما أرادوا وكيفما شاؤوا، ولتفقد التقاليد والإجراءات هيبتها و مضاءها ، ولتغمرنا القاذورات والفواضل ...
في ما نحن نتجادل وننصاع ونلهث وتتحوّل أنظارنا كيفما شاؤوا، يفكّرون ويخطّطون وينفّذون...ويفلحون فيجثمون على صدر البلاد كلّ يوم بل كلّ ساعة أكثر...
نحن ننتظر الاقتراع الآتي وهم يصنعون المجلس الآتي...المجلس الآتي سينتخب في الأجل والسّاعة التّي يقرّرونها (والسّاعة التّي سيقرّرونها ليست ضرورة السّاعة التّي أعلنوها)، المجلس الآتي سيتشكّل وفقا لمشيئتهم هم وحدهم وسيعمّ لونهم(الأزرق كلون الجنّ أو الأسود كالعتمة التّي يلفّون بها بناتنا)، المجلس الآتي سيكون آخر الأجهزة والمؤسسات التّي سيقبضون عليها، بعد أن استحوذوا على أجهزة الدّولة الواحد تلو الآخر، وبعد أن استمالوا فئات الشّعب الواحدة بعد الأخرى هذه طمعا والأخرى رهبة وثالثة  لقصور ذهني أو خطإ في الحساب والرابعة كسلا...
إنهم لا يستفردون بالسّلطة فحسب، ولا يصنعون لنا استبدادا جديدا فحسب....
بل هم يبدّلون مجتمعنا تبديلا: في نمط تنميته، وفي ثقافته وتقاليده المشاعة، وفي خصوصياته التي راكمتها الأزمنة والحضارات، وفي ألوان أطيافه وتنوّع أحلامه وهواياته، وفي قدرته على التعايش وسعة صدره وتناغمه رغم الاختلاف...
إنهم يبسطون علينا رداء أسود خشنا ثقيلا كذلك الذي يسجنون فيه فلذات أكبادنا، ونداءاتهم ستتكشف الواحد تلو الآخر عن عود إلى المقولات العتيقة وعن طرح لكلّ ما كسبناه من معاني الانتماء إلى البلد مواطنين ذوي حقّ وواجبات وإلى الدنيا بشرا يحقّ لهم أن ينعموا بحقوق الإنسان كما هو هنا على الأرض أيّا كان المقام، والآن في هذا الزّمن بالذات و للجميع لا فرق بين رجل وامرأة وبين جنس وآخر وبين صاحب معتقد ومنتم إلى معتقد سواه...
                                                                             الصادق بن مهني  
                                                                                  21 ماي 2012

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire