14 juil. 2012

هذه هي المسألة.. كلّ المسألة


      
 موقع جوهرة أف أم جوان 2012

من المغالطات الفظيعة التي يحرص البعض على إشاعتها أنّ شعبنا ينقسم بين مؤمنين متمسّكين بدينهم ولهم أخلاق رفيعة وقيم سامية من جهة، وبين كفار ـ علمانيين ـ ملحدين ـ حداثيين من جهة ثانية.
وتتلوّن هذه المغالطات وتراوغ حتّى ترسخ أكثر وتشيع أزيد، فيتمّ الحديث عن حماة للدّين والمقدّسات ومنادين بالشريعة (بالألف واللام كما لو أنّ الشريعة واحدة وحيدة وما هي كذلك) يقابلهم تابعون للغرب ـ فاقدون للهوية ـ مستهترون... وأحيانا أخرى يتمّ الحديث عن نزهاء ـ مناضلين ـ مؤمنين ـ متمسّكين بالثورة (رغم أنّه من الواضح أنهم لم يصنعوها، على الأقل في تمظهرها الإنفجاري بين 17ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، وقبل ذلك في الحوض المنجمي وفي بنقردان... ولا دليل لديهم يثبت عكس ذلك) يقابلهم أزلام النظام السابق وأيتام فرنسا والغرب ـ اللائكيون...
ويُرمى من هذه المغالطات ـ إضافة الى تحقيق مكاسب انتخابية بالمداورة والمناورة والتظليل والخداع ـ إلى إخفاء حقيقة التناقض الأكبر والجوهري الذي يشقّ شعبنا فعليا وعمليا.
هذا التناقض يواجه بين من يطمحون الى الاستفراد بالسلطة واستبدال ناس بناس واستدامة نظام الحزب الواحد أو الغالب أو المهيمن المالك لوحده للحقيقة والحق المطلقيْن من جهة، وبين المتمسّكين بحقّ كلّ التونسييين في مواطنتهم وفي إنسانيتهم.
فمن الجهة الأولى ينتصب هؤلاء الذين أتتهم السلطة من حيث لا يدرون وبفعل من يعرفون، ولأنهم يعلمون أنهم أبعد ما يكونوا اقتدارا على تحقيق ما نادى به المتمرّدون الثائرون المنفجرون من أهداف اقتصادية واجتماعية وأبعد ما يكونوا فكرا وخيارات عن القبول بأهداف الشباب الثائر ـ المتمرّد ـ الشجاع في الحرّيات واسعة وكاملة: فردية وجماعية فإنهم لا يملكون سوى الشدّ بالنّواجذ على السلطة بتكبيلها واستملاكها واستبعاد الآخرين من مراكزها ومفاصل القرار فيها، وبتسليط الرعب والترهيب والعنف والقمع على من لا يصطفّ معهم... ومعهم يقف في نفس الجهة هؤلاء الذين لا يبحثون إلاّ عن التموقع حيث يتاح لهم أن يخدموا مصالحهم الفئوية والطبقية والشخصية فيناورون ويعارضون ويعاضدون، لكنّهم في حقيقة الأمر وفي خاتمة المطاف ينضمّون الى من في يده السّلطة حتّى وإن بدا في آن ما أنهم لا يشاركونه لا فكره ولا رأيه ولا أعماله...
أمّا في الجهة الثانية فيتموقع جميع من تغويهم الحرية ويرون أنفسهم بشرا كالبشر وأناسا جديرين بكلّ المقوّمات والحقوق والحرّيات والواجبات التي يفرضها عليهم ويؤهّلهم لها انتماؤهم للجنس البشري...
في الصفّ الأول يتدافع كلّ من يرون السلطة سلطانا مطلقا يحكم رعية ليس لها إلاّ أن تواليه وتخضع له وتخدمه... وفي الصفّ الثاني يحتشد جميع من يرغبون في الانتقال من وضعية الرعية الى وضعية المواطنة الحقّة...
في الصف الأول يتعاضد يتدافع ـ يتفاوض ـ يتعامل ـ يتكاتف من يستغفلون الشّعب يتكلّمون باسم الدّين ـ ينصّبون أنفسهم حماة مطلقين وحيدين مستخلفين لرسول الله وللشريعة كما يفهمها دعاتهم وإن رآى دعاة آخرون قراءات سواها... وفي الصف الثاني يقف، لكن في ارتباك واختلاف يفسّرهما قدم القمع والاستعباد والاستبعاد، جميع من حلموا ـ  إبتغوا ـ يحنّون ـ يطمحون  ـ يعزمون على أن يكون مجتمعنا مجتمعا يحكم نفسه حقّا وإن إلى الحدّ المحدود الذي تيسّره آليات الديمقراطية، وإلى أن تكون فئاته ـ طبقاته ـ جهاته ـ جميع ألوان أطيافه وأن يكون كلّ أفراده معنيين بحكم أنفسهم ـ ينعمون بالمواطنة الحقّة، واجبات واستفادة، وتفصل بينهم حين يلزم الفصل وتجمع بينهم حين تلزم الوحدة المبادئ التي     اجترحتها البشرية على امتداد تاريخ مختلف حضاراتها وترجمتها في مواثيق وعهود لم يعد من اللائق والمعقول رفضها تحت أية مسميات وإن تسربلت بالشّرع.
في الجهة الأولى فئات وأحزاب وحركات وأفراد يسعون أو ينزلقون أو يندفعون الى رفض الأخر وإنكار حقّ مخالفهم حتّى في مجرّد الوجود ولا تهمّهم طبيعة الوسائل المستخدمة طالما أنّها تمكّنهم من السلطة ثم تمكّنهم فيها... وفي الجهة الثانية ناس همّهم الأول إنسانيتهم ـ وطنيتهم ـ مواطنتهم ـ توقهم للإبداع والشمس والإنعتاق  من أيّ غلّ وإيمانهم بالانتقال السلس والكيّس إلى قدر جديد بدؤوا برسم عناوينه وعليهم جميعا ومع الآخرين كلّهم أن يضبطوا تفاصيله ومناهجه ودربه وسيرورته المتصاعدة...
في الجهة الأولى يصطفّ أناس همّهم الأول مصالحهم المادية وتمظهرهم ويقبلون بكلّ المخاتلات والتحالفات والتآزرات حتّى أغربها وأقلّها توقّعا ولا يخجلهم أن يكرعوا  من قواميس العهد البائد سبابه وعصيّه ومراوغاته... وقبالتهم في الجهة  الثانية عزّل إلا من أفئدتهم وأحلامهم وصدق إحساسهم يتألمون ويكافحون من أجل أن تكون تونس كجغرافيتها وطبيعتها وتاريخها ثريّة فيها ألوان كثيرة خلاّقة وبديعة.
ولأنّ الحال هي الحال فإنّنا حتّى الساعة لم نصنع شيئا يحقّق الأهداف التي صدحت بها الحناجر ـ أهداف الشغل والمساواة والحرية والكرامة، ولم نحسّ أنّنا بدأنا ننتقل فعلا باتّجاه الديمقراطية: فلا عدالة انتقالية ولا مساءلة ولا محاسبة للفاسدين وممارسي القمع ومكبّلي التنمية وحارمي الجهات والفئات، ولا شفافية في الحكم والقرار والتصرف، ولا سيطرة على الخارجين على القانون عنفا أو جشعا وتكالبا بالسلع الفاسدة والمهرّبة والبناء الفوضوي والتعدّي على حقوق الناس وهيبة الدولة وأملاكها.
ليس صحيحا أنّنا نسير سوية وجميعا باتّجاه تحقيق أهداف الثورة وبناء مجتمع ديمقراطي: بعضنا ما يزال يتمسّك بطموحاته وأحلامه وينشدّ إليها وينشدها وإن بوسائل غير مفيدة أحيانا، وبعضنا الآخر يعدّ العدّة لينقلب على الثورة إن لم يكن قد انقلب بعدّ وليحلّ بدل النظام الجائر نظاما جائرا وبدل الفاسدين فاسدين وبدل القمع قمعا....
ولكن في الجهتين أفرادا قد ينتقلون من جهة إلى الجهة الأخرى....
كما أن المواجهة لم تُحسم بعدُ وإن بدا أنّ السلطان قد اشتدّ عوده وتكاثرت أخطبوطاته... فالثورة قد اندلعت من حيث لم يتوقّع أحد وفي وقت لم ينتظرها فيها أحد أو يكاد.
وفي النّهاية، المسألة، كلّ المسألة: أن نكون مجتمعا مدنيا ومتمدّنا و بشرا ومواطنين كاملي الحقوق والواجبات أو أن لا نكون إلا رعايا يحكمها سلطان  جائر كسابقيه!
الصّادق بن مهنّي
29 جوان 2012

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire