18 déc. 2018

كلمتي في لقاء برلين الّذي نظّمته “أمم للتّوثيق والأبحاث” (اللبنانية) من 28 إلى 30 نوفمبر تحت عنوان: “في سبيل منتدى المشرق والمغرب للشّؤون السجنيّة”


 
 
يافعا علمت السّجن غرفة مخيفة تغلق على التّلميذ المهرّج- أو هكذا كان يزعم التّلاميذ الأكبر- ومظلمة أودت بأربعة من رجال مرابعنا ناضلوا ضدّ الاستعمار واختلفوا مع الزّعيم وهو يسعى لأن يكون الواحد الأوحد فحبسهم،يختلف معهم البعض ولكن يجلّهم الكلّ حتّى من لم يكن من صفّهم.
وتلميذا في الثّانويّة رأيت رجالا جيئ بهم من خارج جزيرتنا يبيتون بزوايا الصّالحين ويسيرون كلّ صباح صفّين متوازيين يحرسهم سلاح ينظّفون الحدائق ويرمّمون المعالم…وعلمت أنّهم سجناء معتقل صحراويّ يباشرون عملا لفائدة الصّالح العامّ؛أو هكذا قيل لي.
ومع اختيالي شابّا،أو مراهقا يحسب نفسه شابّا،رأيتني أهتمّ بالسّجن مسألة مأساة إنسانيّة وبدأت أشاهد أفلاما وأقرأ روايات فيها عذاب وتعذيب وغدر وعسف وتوق جبّار إلى التّحرّر…صحيح أنّ أغلب ما شاهدت وقرأت عندها كان يرد علينا من الضفّة الأخرى للمتوسّط (هذه الّتي نحن فيها الآن)ولكنّ حكايات عن أبطال بل وحتّى عن صعاليك محلّيين أو من الجارة الجزائر كانت ضمن ما شاهدت أو قرأت.
بعدها صنعت لنفسي ،أو خيّل لي أنّي صنعت لنفسي،طريقا للنّضال-النّضال من أجل الحرّية والعدل والمساواة-أو هكذا كنت أحسب – فطفقت أبحث عن حركات يساريّة علمت عنها أساسا من محاكماتها وما سلّط على أعضائها من ضيم ومقاومتهم المصرّة لا لمطمع ولا لمطمح بل لمبدإ بل لحلم.
ببساطة وصادقا أقول:استهوتني مسيرة هؤلاء وأصبحت أروم أن يحصل لي مثل ما حصل لهم وبدأت أراني سجينا…عن وعي أو عن لاوعي كنت أعلم أنّ كلّ من يتجرّأ على قول لا ويخالف الزّعيم الأوحد أو ينفي عنه تميّزه الأعظم بأن يقول:”لا مجاهد أكبر إلاّ الشّعب ” مآله السّجن…كان السّجن يبدو لي عتمة وجوعا وعسفا لكنّه كان يستهويني لأنّ فيه الإصرار وفيه الرّفض وفيه سعي لاجتراح المستحيل…ولأنّ الكفّة لم تكن عادلة أو متوازنة لم يكن بدّ للمعترضين سوى أن يقولوا أو أن يكتبوا فيعذّبوا ويحبسوا…
طالبا جاءتني أمّي من ريفها البعيد واشتهت جولة في أرجاء العاصمة ترى خلالها حديقة الحيوانات والمباني الشّاهقة (بمقاييس وقتها) ودار الإذاعة والكلّية الّتي أروح إليها…حقّقت رغبتها ولكن عنّ لي أيضا أن أضيف إلى مزاراتنا السّجن المركزيّ ،وعند بابه صارحتها:”وهذا يا أمّي الحبس الّذي ستزورينني فيه في يوم غير بعيد.”
ولمّا سجنت تعلّمت أمّي أن تزورني لا في ذلك السّجن فقط بل في أحباس كثيرة…وكثيرا ما مازحتها من وراء القضبان المشبّكة فادّعيت أنّ سجني حرّرها:تعلّمت كيف تركب وسائل النّقل العموميّ وحدها،وخاطبت رجالا من غير ذويها،وخاصمت الحرّاس وجادلت ذوي النّفوذ…
غير أنّ أخواتي لم تستهوهنّ هذه الصّورة.قلن أنّ سجني عذّبهنّ:حرمن من الدّراسة وارتدّ عنهنّ الخائفون وضايقهنّ الخدم المطيعون القوّادون للسّلطة.وإلى ذلك-هكذا أفهمنني-كنّ يتعذّبن كلّ يوم وليلة بتخيّلي في سجني أتعذّب…
وفي السّجن تأكّدت أنّ السّجن ليس ضرورة وبالتّأكيد قبرا أو تيها أو انكسارا…ورأيت السّجن يتحوّل حرّية وتحدّيا ونهلا من العلم ومن الثّقافة وبناء ذاتيا متينا وصداقات تنشأ فلا تزول ولا تذوي…
 
 نعم،لقد عايشت “غلابة”(حسب تعبير الإخوة المصريين) يساقون إلى المشنقة ولمست معنى المعاناة لمس الجسد،وجعت قصدا وبغير قصد،ولكنّ ذلك لا يمنعني أن أقول جادّا:السّجن مقاومة وتعلّم الحكمة والثّبات وفي تحمّله شيء من الفلسفة ومن…الشّعر.
وممّا قرأته في السّجن كثير ممّا كتب عن السّجن وفي أبواب عدّة:في الشّعر(كقصيدة ناظم حكمت عن النّساء تنتظرن زيارة مساجينهنّ…) وفي الفلسفة (كبعض ممّا كتبه فوكو…) وفي الأدب رواية وسيرة ذاتية.
وإذ خرجت من السّجن فهمت أنّه عليّ أن أخرج السّجن منّي…فالسّجن يحشرك،يحاصرك،يضيّق عليك الخناق ،لكنّ أفظع ما فيه أنّه يتسلّل إلى وجدانك ويخلد فيك.وفي رأيي أنّ الخروج من السّجن قد يكون أعسر من دخوله…فالسّجين السّابق كثيرا ما يعسر عليه أن يندمج في محيطه،والسّجين – خصوصا متى طال حبسه – يجد عسرا في أن يواكب محيطه وبيئته وحتّى أقرب النّاس منه وقد كبروا وتغيّروا في غفلة منه…والسّجين السّابق يجد الآخرين ينظرون إليه إمّا كبطل وإمّا كخطر، وإمّا كسكّين وإمّا كمسكين،يهابونه أو يحنقون عليه،يرغبون في صحبته أو ينفرون من رؤياه،لكنّهم،على أيّ حال، لا يسهّلون عليه أن يسلّ السّجن وغلظته وآفاته وأن يعود بشرا كالبشر ومواطنا كالمواطنين…
حتّى وأنت قد أعدت بناء حياتك وتمتّعت بعفو أو بعفو عامّ من المفترض فيه فسخ الماضي ستظلّ دائما سجينا سابقا…ينطبق هذا على مساجين الحقّ العامّ كما على مساجين الرّأي.
وأسرع حتّى لا أملّ فأقفز إلى أوان الثّورة الّتي تسارعت في غير إدراك منّا ولكن بما أسرّنا وما يزال يسرّنا وإن حلكت بعض أيّامنا.
ممّا فاجأتنا به الثّورة تمرّد المساجين الّذي لم تعتده بلادنا أبدا؛وسواء نبع تمرّد المساجين من دواخلهم أم كان نتاج مناورات فهو قد ترجم عن أشياء كثيرة وأزاح السّتار، بل الحاجز الرّصاصيّ، عن واقع لم يكن المجتمع يراه أو كان يشيح ببصره عنه.
فجأة تحوّل السّجن من شيء كالثّقب الأسود السّماويّ يبتلع دون أن يشبع ويتستّر على ما فيه إلى عالم مكشوف -وإن إلى حدّ- وإلى مسألة يتمّ التّداول فيها وموضوع يناقش في المجالس العامّة والخاصّة:هذا يتناول الظّروف الصحّية والتّعامل اللاّإنسانيّ وسوء التّغذية والاكتظاظ ، وهذا يهتمّ بإعادة التّأهيل وبالإدماج وباستبدال عقوبة السّجن بما هو أنفع وأقلّ إيذاء…
وكان أن زرت السّجن مع جمع من المدافعين عن الحقوق منهم من هو اليوم بيننا وتساءلت وأنا المعتبر نفسه مدافعا: أليس عليّ أن أفعل شيئا؟
فكان أن مضينا إلى السّجون بأيّام قرطاج السّينمائيّة…ثمّ كان أن تفتّقت قريحة ابنتي المدوّنة عن حملة لجمع الكتب لإحداث أو تدعيم مكتبات بالسّجون…
والآن ها نحن هنا نبحث عن أبعاد وعناصر أخرى ونناقش أمورا تتجاوز تحسين الأوضاع بالسّجون إلى التّفكير في إلغاء السّجون، ولم نعد نرى السّجون مجرّد مسألة قضائية أو عدليّة بل إنّنا نتساءل إن لم تكن فكرة الحبس وتوصيفها كعقاب أمرا يتطلّب المراجعة،وإن لم يكن إضفاء صبغة مقرّات سيادة على السّجون بدعوى أنّها تمثّل رمزا لسلطة الدّولة كنائبة عن المجتمع أو مؤطّرة له أمرا يستدعي تركه؟..
أسئلة ومشاغل تتعدّد وتتوالد وتتفرّع،لكنّها جميعها تحاول أن تفهم.ولعلّ من أبرز ما تريد أن تستشفّ سرّه:لماذا لا تتّفق البشريّة ، أمما وشعوبا وقبائل،على أشياء كثيرة حلوة ولطيفة وتجمع كلّها على الحبس كحلّ للرّدع والزّجر والعقاب والأخذ بثأر؟
تساؤل أخير-وهو سؤال يريد الفهم وليس استنكاريا بالمرّة-:ما تفسير تهافت النّاس هذه الأيّام على السّجون يرتادونها فنّانين وعلماء اجتماع ومكتبيّين وعامّة ويريد كلّ منهم أن يدلي فيها بدلوه؟..

"رسائلكم هي تليدورة"



الصّادق بن مهني  في رسالة رائعة لماراطون كتابة الرسائل..يتحدث عن الرسائل التي وصلته في السجن من مناضلات ومناضلي منظمة العفو الدولية من كل أنحاء العالم، من كل مكان فيه ولو ناشط واحد من منظمة العفو الدّولية #Amnesty_International لمساندة حالات  #W4R_2018الرجاء دخول الرّابط التّالي: https://bit.ly/2LlLJei




"رسائلكم هي تليدورة"








رسائلكم و مكاتيبكم و عرائضكم و تحرّكاتكم هي على أقلّ تقدير "تلّيدوره" يستنير بها المظلومون من المحبوسين و

 المتخفّين و الفارّين و اللاجئين و الملاحقين كلّما ادلهمّت الأفق و عمّت الظلمة و ضاقت فسحة الأمل...
رسالة وحيدة تصل سجينا أو يسمع عنها تمنحه نفسا يوسّع عليه حيث يضيق النّفس و أملا حيث يغيّب الأمل و تفتح له في معزله سماوات يحلّق فيها و رحابا يرتادها و بحرا يجدّف فيه بلا موانع ...
رفاقي، رفيقاتي
شمعتكم شمس – قمر – قناديل – مصابيح تضيء أنفس المظلومين و المتصدّين للعسف و المكافحين من أجل أن يحسب الإنسان إنسانا أيّا كان موطنه و أيّا كان جنسه و أيّا كانت اختياراته ... شمعتكم قبس منه ترد الأنفس المعذّبة نور يضيء كينونتها فتهزم الدّياجير المحيطة وتظلّ واقفة شامخة أيّا كان عواء العواصف و نكد النّوائب...
رفيقاتي ، رفاقي
أشدّ على أياديكم أشكر مساعيكم ...و أنهي بأنّني بالأمس كنت في مبنى آخر كم أفرح وأنا أرتاده حتّى و إن كان الارتياد شبه يوميّ لأنّ به شقّة تأسّس فيها الفرع التّونسيّ للعفو الدّولية دون ترخيص و رغم أنف البوليس الّذي كان يحاصرنا...اليوم غدا لي عند طرفي الشّارع الكبير مزاران : مزار للتّحدّي و مزار انتصار... و بينهما تجمع شمعتكم النّورانية.

ولا تسهوا أبدا عن أنّ "كلماتكم- كلماتكنّ تدفّئ برد جدرانهم ."

15 avr. 2018

إلى المسؤولين عن أمن البلاد وأمانها

إلى المسؤولين عن أمن البلاد وأمانها

تتسابق السّلطات هذه الأيّام  في مضمار ادّعاء إدراك الحلول الّتي يتطلّبها وضعنا الرّديء والتشدّق بإصلاحات كبرى بداتها أو على الأقلّ شخّصتها.
وليكن القدر في عونها.
غير أنّ إصلاحات أقلّ كبرا وقد تبدو للبعض مجرّد تفاصيل لا معنى لها بالنّسبة لمن يتغاضون عن أهمّية التّفااصيل  تطرح نفسها بحدّة وتنتظر من يأبه بها ويذهب في ظنّي أنّ الأخذ بها لا يتطلّب جهدا غير متاح وأنّ جدواها ستكون كبيرة لدى المواطنين جميعا وخصوصا لدى فئات الشّباب الّتي ما تزال تتشبّث ببصيص من أمل رغم أنّ الأمل أضحى قاتلا.

من هذه الإصلاحات الصّغيرة ذات الجدوى الكبيرة أذكر هنا وهذه المرّة مسألة التّنصيص على المهنة في بطاقة التّعريف ومسألة الاعتراف أو عدم الاعتراف ببعض شهادات العمل .

وفي الحالتين أنطلق من معيشي الشّخصيّ :
1. لا أدري لماذا بل في علاقة بطمعي في أن يسهل عليّ الحصول على تأشيرات سفر قد أفلح في ارتكابه رغبت عند دخولي في التّقاعد في أن تسجّل على بطاقة تعريفي ، وتبعا لذلك على جواز سفري ، مهنتي ووظيفتي قبل التّقاعد فتبيّن لي أنّ بطاقة التّعريف يكتفى فيها بالتّنصيص على وضعية التّقاعد فحسب .
بل وعلمت  إن لم تكن ذاكرتي تغالطني أنّه سيعمل لاحقا حتّى على عدم التّنصيص على المهنةبأيّة صفة.
ولكنّي لاحظت أنّ أعوان الأمن أو أغلبهم  كلّما تثبّتوا من هويّتي يسألونني عن المهنة والوظيفة الّتي تقاعدت منها .
وكمواطن أطمح إلى أن أعيش مواطنتي كاملة أي بما في ذلك حقّي في أن أفهم وواجبي في أن أسعى للفهم أسألكم ما السّرّ في هذا التّناقض ولماذا لا يرفع .ولا أخال إلاّ انّ كثيرين يرغبون في مثل ما أرغب.

2. ابنتي  - واسمها لينا بن مهنّي ولا أخالكم لا تعرفونها - اشتغلت أستاذة جامعي’ متعاقدة .وهكذا رسّمت مهنتها في بطاقت التّعريف وعلى جواز السّفر.
بعد ذلك انتهى تعاقدها وانضمّت إلى صفوف أصحاب الشّهائد المعطّلين . ولم يشفع لها في ذلك حتّى أنّها تنتمي إلى فئة المعوقين . لكنّها لم تستكن ولم تخنع .وظلّت تبتدع لنفسها أنشطة مختلفة تقتات منها حتّى متى كان الجهد الّذي تبذله أكبر بكثير من المكافأة الّتي تحصل عليها . بصفتها مدوّنة وصحافية مواطنيّة كتبت في جرائد ومواقع عدّة لقاء أجر أو دون أجر .وحصلت من ذلك على جوائز ذات صيت عالميّ ( جائزة صحيفة الموندو . جائزة إيسكيا للصّحافة...) ...وقدّمت محاضرات ومداخلات في بلدان عديدة . هذا عدا عن أنّها حصلت على جوائز وتكريمات دولية من أرقى مستوى ... ومن ذلك أنّها رشّحت لنيل جائزة نوبل للسّلام سنة 2011 وبلغت مرحلة القائمة القصيرة.وأنّها حصلت على جائزة سين ماك برايد للسّلام العالمي وعلى جائزة غ-فوروم الدّولية .و أنا أتجنّب هنا ذكر كامل ما جعلها تتميّز وتشرّف تونس في محافل عديدة فأنا أعلم أنّكم تعلمون وأنا حريص على وقتكم .
ابنتي لينا بن مهنّي هذه اضطرّت لاستبدال بطاقة تعريفها . فسجّل في خانة المهنة أنّها قائمة ب "شؤون المنزل ."
فطلبت أن تسوّى على الأقلّ بزملائها العاطلين من الذّكور فتسجّل على أنّها عاطلة أو عاملة يوميّة فرفض ذلك.
بعدها حصلت على عقد عمل وقتيّ مع جمعيّة تونسيّة مرخّص لها فرغبت أن تستبدل بطاقة التّعريف طبقا لذلك. فجوبهت بالرّفض .
ولأنّه يتعيّن عليها الآن تجديد جواز سفرها فإنّه سيكون عليها أن تجابه صعوبات التّأشيرات والتثبّتات مستقبلا بجواز ينص ّ على أنّ مهنتها هي "شؤون المنزل" وستجد نفسها تجابه الاستفسارات المحتملة بل المؤكّدة الّتي ستتهاطل كلّما سافرت بالاضطرار إلى شرح واقع الحال بما لا يعلي من صيت تونس .
وهنا أسأل أسئلة ثلاثة :
    - أليس في هذه الحال  أو على الأقلّ لانعكاساتها المتوقّعة تقييد غير مشروع ولاقانونيّ للحقّ في السّفر  وفعل بل أفعال تمييز؟
    - وأليس في هذه الحال مساس بالشّباب وتعطيل له وشحن لشعوره بالحرمان والحقرة ؟
    - ماهي المقاييس الّتي اعتمدت في ضبط المهنة ؟ 
وهل هي مقاييس معقولة ولها ما يبرّرها ؟ وأليس من النّافع تلافيها؟

11 janv. 2018

خواطر حرّكتها الأحداث الجارية



حنا عليّ التّلفاز فتعطّل .واستعذبت الحال فعدت إلى الكتب أقرأ. غير أنّ وتائر الأحداث الجارية وخصوصا وتائر الصّخب - لكي لا أقول التّهريج - الّتي تهزّ وسائل الاتّصال هزّا وتفتح المجال ليس أمام من قد يقدر على الإسهام بتهدئة أو على الأقلّ بخطوة نحو الفهم بل - خصّيصا - للمزايدين والأدعياء والمتهالكين على نثارسلطة ولو كان سرابا سرعان ما سينفسخ حالت بيني وبين أن أدفن رأسي في الرّمل حتّى لا أرى ولا أسمع .
فسمعت ما سمعت ورأيت ما رأيت.
رأيت جماهير من شعبنا يكاد يصحّ الجزم بأنّه لم يعد يربطها بأجهزة الدّولة رابط .
ورأيت أجهزة الدّولة تتمادى كلّ يوم أكثر في عجزها بل في رفضها لأن تفهم جماهير الشّعب : نفسيتها ونوازعها وحقيقة أحلامها القائمة والّتي تلاشت وإحساسها اليوميّ بالغبن-الحقرة-الإهمال-الإنكار-الرّخص والبخس...
رأيت سلطة تسرع الخطو كلّ يوم أكثر نحو التّحوّل إلى مجرّد هراوة تلاحق الغاضبين واليائسين وغير المصطفّين وبهيم مرشد أو مرشد بهيم يجلي المسالك أمام العتاة والمخاتلين والسّرّاق ويهدي صكوك البراءة للفاسدين...
رأيت جماهير يشقّها فرز لم تختره ولم تعد تعنيها خزعبلات السّاسة ، جماهيرلم تعد تقدر على تحمّل أوضاعها وكرهت وجودها ولم تعد تثق بأيّ بوصلة ، جماهير فقدت الحلم والأمل لكنّ طاقة فيها لامتناهية قد يفسّرها كون أغلب شعبنا شباب تجعلها تصنع لنفسها كلّ يوم أملا ولو كاذبا ييسّر لها تمضية اليوم ليس إلاّ ، جماهير خطف بعضها دعاة الجهاد السّافل واستباح بعضها هوس المخدّرات وأغوى بعضها خداع الضفّة الأخرى تتهافت إليها على ألواح بائسة لا تصلح حتّى لقبرها ، جماهير لم يعد بعض منها - قد يكون قليلا لكنّه يتنامى -يجد له من متنفّس سوى في العنف بألوانه ...
ورأيت سلطة ليست سلطة لا عمق في نظرتها ولا وضوح في أجندتها ،سلطة لا أفق تتحرّك باتّجاهه ولا همّ لها سوى البقاء ولا مدى لما تبتغيه سوى الحينيّ والمباشر ، سلطة - بل ماسكين بالسّلطة - لم يتّعظوا من خطايا أسلافهم ، وعجزوا عن فهم الواجبات الّتي أضحت واجباتهم هم لأنّهم غدوا حيث هم وإن صدفة ومكرا بنا من الزّمن ،سلطة أضحى شعارها "ربّي يعدّيلنا ها النهار" ، سلطة لم يعد يخجلها حتّى كذبها وهي تدرك أنّها تكذب (كقولها إنّ صعوبات الاقتصاد ستنتهي إن انقضت السّنة الجارية على النّحو الّذي تنشده . وكادّعائها أنّها تسمّي المحرّضين على أعمال التّخريب والقائمين وفي غلظتها وحنقها وصلفها وزيغ أبصارها ما يبين أنّها لا تفعل سوى أن تكذب و تحرّض...)
رأيت نفقا يتلوه نفق بعده أنفاق ...
رأيت سلطة بلون العتمة -طاعونا-آفة جثمت على صدر البلد بثقلها وثقل المروّجين لها .
ورأيت سلطة مضادّة ما زالت ترتبك لاتدري بالضّبط ما تفعل قد تكون فعلا تحكمها القيم والمبادئ لكنّ ذلك لا ينفي عنها أن لا بوصلة لها وأنّها لم تع من هموم النّاس سوى الظّاهر...
لكنّي أسترق بصيص نور -وإن ضعيفا- قد يهزم -وإن بعد حين- العتمة الّتي انقضّت علينا .
بصيص النّور هذا أراه في عيون الشّباب والشّابات الثّابتين والثّابتات والمبدعين والمبدعات والرّافضين والرّافضات لعيش بلا كرامة وبلا حرّيات وبلا رغد عيش...
أرى الفجر يينع ولا بدّ مع بنات وأبناء التحرّكات المدنيّة السّلميّة والصّابرة على الضّيم : "مانيش مسامح" ، "حاسبوهم" ، "فاش تستنّاو" ، أهالي الشّهداء والجرحى ومحاميهم ، وجماهير منسيّي السّلطة على امتداد تاريخها في مختلف مناطق البلاد...
يكفينا أن ننظر في السّنوات السّبع الأخيرة لنقتنع بأنّ الأمر لا يمكن أن يستقرّ لسلطة لا تدري أو لا يهمّها إلى أين تمضي الأيّام بشعبها حتّى وإن هي تدثّرت بالقمع والتّقتيل ...
يكفينا أن ننظر حولنا لنرى أن لا أحد من العجائز وبلاطاتهم يملك حلاّ .بل ولا خيال حلّ...ولا حتّى نصف منهج يؤدّي لحلّ...
ولكن لأنّ الشّباب قد برهن بعد على قدرة فائقة على تخطّي المستحيل فأنا واثق من أنّه سيفاجئنا مرّة أخرى فينهض لنفسه ويبتدع حلاّ وإن عسر الحلّ واستعصى وثقلت موازينه .