27 août 2010

قراءة شخصية جدّا في كتاب محمد الصّالح فليس "عمّ حمده العتّال" الصّادر عن دار "نقوش عربية"-2010

قراءة شخصية جدّا في كتاب محمد الصّالح فليس
"عمّ حمده العتّال" الصّادر عن دار "نقوش عربية"-2010


عندما صدرت أولى ورقات محمّد الصّالح فليس التي اقتطفها من "سجلّ الاعتقال السياسي في تونس السّبعينات" لم أفاجأ بتاتا بأنّه قد خصّصها –بالأساس- لوالده "عمّ حمده"، ثمّ لمجمل عائلته، و-إلى حدّ كبير- لمدينته : بنزرت.
ورغم أنّني أتطلّع لقراءة مذكّرات محمّد الصّالح السجنية وخواطره حول الاعتقال السياسي، التي أبى إلاّ أن يعلن ضمن غلاف كتابه هذا على أنّه منكبّ على كتابتها، فإنّني أحسّ في قرارة نفسي أنّه قد حقّق بعد أهمّ ما كان يرومه وأهدانا –نحن الذين تقاسمنا معه الاعتقال- ما كنّا ننتظره منه وما كنّا ندرك أنّه الأكثر أهلية للوفاء به : إيفاء عائلاتنا جزءا من حقّها في أن نذكر عطاءها وأن نصف همّها ومعاناتها ووصف تلك العلاقة المعقّدة –لكن الناصعة- التي ربطتنا بأهالينا : دعم لا محدود من قبلهم رغم أنّ اعتقالنا مثّل صدمة وحتّى خيبة رجاء للعديد منهم، وتوق من قبلنا إلى تأدية ولو شيء بسيط من واجبنا إزاءهم بتأمين حضور أدنى رغم غيابنا الذي اخترناه وفُرض عليهم.

أؤكّد هذا الذي أؤكّده لأنّني، إذ عايشت محمد الصالح بضعة أشهر خلال تخفّينا عن البوليس وممارستنا للنشاط السياسي السرّي ثمّ أعواما عدّة ونحن في معتقلات تونس العاصمة والقصرين ثم برج الرّومي ببنزرت، قد لمست لديه التصاقا عاطفيا شديدا بأسرته لا يضاهيه قوّة ألاّ تفرّغه الكلّي لممارسة الفعل النضالي الذي كان يملأ وجدانه.
فمحمّد الصالح كان لا يفتأ، ونحن نعدّ منشورا أو عددا من جريدة العامل التونسي -التي أصررنا على إعدادها كليا وطبعها في تونس ولو بوسائل بدائية رغم عنت الوضع وعسر الظرف –أو ونحن نناقش إستراتيجية نشاطنا وتكتيكاته، كان لا يفتأ يجد الفرصة (ليروّح عن نفسه و/أو لأنّه مسكون كليّا بذلك ؟) ليحدّثنا عن بنزرت وحرب بنزرت، وعن والديه وإخوته وأخواته حتّى أنّنا عرفنا هؤلاء عن قرب وحميمية من قبل أن نلتقي بهم، وتجوّلنا في أرجاء تلك رغم أنّ أقدام أغلبنا لم تكن قد وطأت أرضها بعد...
روى لنا محمّد الصّالح أيضا تفاصيل حرب بنزرت كما عاشها هو وأسرته وأخوه الشهيد وكما لم نسمع ولم نقرأ عنها في كلّ ما أصدره النظام الحاكم حولها... ووصف لنا "حومة القصيبة" و"بالاص الغالي" والثكنات العسكرية التي تخنق المدينة والكورنيش الذي هو روضة من الجنّة...
وخلال الاعتقال –خصوصا أيّام سجن القصرين ومعتقل برج الرومي- عنى لنا محمد الصالح –رغم أنّه لا يحسن الغناء- مرّات لا تحصى أغنياته المفضّلة : "أنا إنسان بسيط لم أضع يوما على كتفيّ مدفع"، و "لا يهمّ المناضل حين يضحّي" و "يا زهرة !". كما أنه كثيرا ما جعلنا ننتقل بمخيّلاتنا إلى شوارع بنزرت ومقاهيها وشواطئها وضواحيها. وأحيانا وصف لنا بعضا من عشيقاته (الحقيقيات أو المختلقات ؟) اللواتي كان يحبّذ أن تكنّ
"mûres et sensuelles ".
ولأنّنا في الاعتقال كنّا -أو كدنا نكون- سواسية في كلّ شيء، وتقاسمنا –تقريبا- كل شيء فلقد قرأت أغلب ما حبّره محمّد الصالح من رسائل وأغلب ما ورد إليه من مكاتيب... فعرفت عن قرب- وإن أنا لم أقابلهم أو لم أقابل إلاّ بعضهم ولدقائق معدودات- جميع أعضاء العائلة وخصوصا منهم "عمّ حمده" و"الشّرفون" (شريفة التي غادرتنا قبل أسابيع قليلة) وإدريس "الكوّارجي" الذي لم تمهله الحياة والذي لن أنسى أبدا الطرفة التالية عنه : لاحظ إدريس أننا كنّا نصرّ على أن نضمّن المكان المخصّص للمرسل من الظرف صفتنا كسجناء سياسيين وعلى أن نسمّي السّجن الذي نحن فيه معتقلا، فيما كانت هيئات الرّقابة السجنية التي كانت تودّ أن نسمّي أنفسنا "نزلاء" وتواظب على تعمية ذلك، فتضامن معنا بأن كتب عنوانه على رسائله إلى أخيه كالتالي : "إدريس فليس- 76 نهج حسن النّوري- معتقل بنزرت" !

وأذكر أنّني عشت –كما لو أن الأمر كان يتعلّق بي أنا ذاتي –معاناة محمّد الصالح خلال الأيّام الأخيرة من حياة "عمّ حمدة"، ثمّ تلك الساعات بل الدهور الحرجة التي قضّاها ينتظر الخروج لحضور مأتم دفنه، وعودته التي تمّ تسريعها، وما تلا ذلك من أيّام وليال سيطر أثناءها على محمد الصالح هاجس أنّ عائلته أصبحت بل معيل وخصوصا بلا موجّه، وسعيه –بألف شكل وصيغة- إلى الحلول محلّ أبيه.

فمحمّد الصّالح –كما العديدون من بيننا- كان يدرك أنّه كان محطّ آمال أبيه وكلّ عائلته، وكان يحسّ أنّ التزامه بالنّضال قد حوّله من حلّ لمشاكل أسرته إلى مشكل إضافي أو حتّى إلى المشكل الرئيسي لها... فالعائلة جاهدت ليدرس وكانت تأمل أن يتخرج ويفرّج كربها... وهو بتخفّيه وبأسره تحوّل عبءا إضافيا أثقلها وكبّل البعض منها وزاد إلى حرمانها حرمانا...

ومحمّد الصّالح –كما جميعنا- كان في قرارة نفسه يحسّ، لذلك، بشيء من الذّنب ويسعى – عن وعي وعن لا وعي- لأن يعوّض "خذلانه" ذاك بالنّصح والتّوجيه وتأكيد الحضـــور المعنــويّ... أدواتــه في ذلــك "خطابــه" خلال الزيارة و"خطابه" في مكاتيبــه و"تدخّلاته" الأخرى بواسطة الأنصار والأحبّة والأصدقاء والمتعاطفين.

محمّد الصالح رفض الظلمة الحالكةبأنّ عاش مدينته وعرّف بها وهو في غياهب الزنزانات... ورفض العزلة بأن فتح قلبه وخياله لأهله ولجميع الأهالي، ولنا... وصدّ الشعور بالذنب بأن استحدث لنفسه أدوارا جديدة، وبأن تواجد بين أهليه وهو في الغياب...
تجتاحني الآن فكرة : صحيح أنّنا زدنا معاناة أهالينا معاناة وحرمانهم حرمانا... لكن ألم تكن نتيجة ذلك أنّهم، وهم يندفعون كلية لحمايتنا ورعايتنا، قد زادوا التصاقا ببعضهم البعض وانفتحت أمامهم دروب وسبل وخبرات ؟!

في قراءة كتاب محمّد الصّالح ما يفصّل ويعمّق ما ذكرته أعلاه... وفي قراءة كتاب محمّد الصّالح ما يجب ويفترض ويَحْسُنَ أن يدفع بكلّ فئات مجتمعنا وبكلّ مكوّنات السّلطة فيه إلى أن تراجع قيمها وممارساتها وبأن تتساءل عن حقيقة ونوعية المعارضات التي عرفتها بلادنا وعن طبيعة التصدي الذي واجهتها السلطة بها، وعن فعل الحبس وكيف أنّه يتعدّى مجرّد حرمان شخص ما من حريته الجسدية إلى "اعتقال" كافّة ذويه وأقاربه وإلى محاولة تدميره بل سحقهم جميعا، وعن مدى حقيقة تبقّي شيء ما من القيم والمشاعر الإنسانية في أفئدة وعقول من يحرّكون الآلات القمعية (التي لا تتحرّك إلاّ بإذن عِلِّيّ) لتحرم أمّا من احتضان فلذة كبدها وهي تزوره في سجن سحيق، ولتمنع ولدا من مرافقة والده حتّى مثواه الأخير لا لشي إلاّ لأنّه معارض، ويتمسّك بكرامته وبإبائه.

في قراءة هذا الكتاب، كما في قراءة غيره ممّا كتب عن سجون بلادنا في ما بعد الاستقلال ما يجب أن يدعو كلّ مواطن أيّا كان مشربه، وأيّا كان حاضره وماضيه أن يعجّل بسؤال نفسه : ألي أنا أيضا قسط من ذنب في ما حدث ؟ وكيف لي أن أسهم بنصيب في إيقاف الدّوامة ؟



الصادق بن مهني
15 جوان 2010