29 sept. 2011

لماذا "لينا بن مهنّي" بالذّات؟... بقلم الدكتور الأمين ذويب



مثلي غيري من التونسيّين، كنت متوقّعا أن يكون أحد التونسيّين مرشّحا لنيل جائزة نوبل للسّلام، وكانت سعادتي كبيرة جدّا حين علمت أنّ المناضلة ( وأؤكّد: المناضلة) "لينا بن مهنّي " وقع اختيارها كأبرز مرشّحة لنيل الجائزة. وكيف لا أكون سعيدا ليس من أجلها فقط، وليس من أجل وطني فحسب، بل أيضا من أجل أبيها السيّد الفاضل "الصّادق بن مهنّي" وهو أصيل ج...زيرة جربة الّتي أسكنها وأعشقها، وهو كذلك صديقي وزميلي في أسرة تحرير صحيفة "الجزيرة"، وهو فوق ذلك أحد المناضلين القدامى الّذين سكنوا السّجون حين كنّا نحن نسكن ديارنا.
كنتُ سعيدا جدا بهذا الخبر، وكنتُ أظنّ أن كلّ شباب تونس سيشاركني نفس السّعادة... فتحتُ صفحة "الفايسبوك" لأقرأ ردود أفعال التونسيّين... وكانت الصّدمة... وجدت صفحات الانترنيت مليئة بالرّوابط الّتي تقذف "لينا" بأبشع النّعوت والصّفات الّتي يندى لها الجبين... وطبعا، وكالعادة، اكتشفتُ أنّ هذه الرّوابط "القاذفة للمحصنات" تصدر عن نفس "أدمينات" الصّفحات الّتي تدعو إلى دولة "تونستان" الإسلاميّة.
ووجدتُ نفسي أمسك القلم لأطعن به كلّ الاتّهامات والإدّعاءات البغيضة الصّادرة من أعداء "لينا"، وأعداؤها وأعدائي سواء!... وليس لي من سلاح سوى قلمي!
وأقول لهم: لماذا "لينا بن مهنّي" بالذّات؟
- لأنّها كانت من القلائل الّذين تكلّموا حين كانت الأغلبيّة صامتة زمن القمع والاستبداد.
- لأنّها تنتمي إلى الشّريحة العمريّة الّتي قامت بالثّورة، وهي شريحة الشّباب.
- لأنّها بارعة في المجال الّذي صنع الثّورة بلا منازع، وهو مجال الانترنيت.
- لأنّها رمز للشّباب التّونسي المدافع ليس عن الدّيموقراطيّة فقط، بل أيضا عن الحداثة ونمط العيش التّونسيّ (وهل لدينا شيء آخر نفاخر به الأمم المسلمة وغير المسلمة؟؟!!).
- لأنّها رمز للمرأة التّونسيّة الّتي قادت الثّورة (نعم! المرأة التّونسيّة هي الّتي قادت الثّورة، وعندي الدّلائل والقرائن الّتي تؤكّد ذلك بالصّوت والصّورة والوثائق)، المرأة التّونسيّة الّتي شاركت في كلّ مراحل تطوّر هذا الوطن حين كانت النّساء في الدّول الأخرى لا تقود السيّارة ولا تشارك حتّى في الانتخابات.
- لأنّها على المستوى الإنساني عظيمة جدّا، كافحت مرضها المزمن بصبر وعزيمة، وأنا كطبيب أعرف مدى المعاناة الّتي يسبّبها ذلك النّوع من الأمراض. "لينا" كافحت مرضها المزمن ليس فقط من أجل أن تعيش هي فحسب، بل أيضا من أجل أن يعيش كلّ المجتمع الّذي تنتمي إليه.
- لأنّها لم تركب على الثّورة مثلما فعل الكثيرون، ولن تركب عليها أبدا، وهي المناضلة ابنة المناضل، الصّادقة ابنة الصّادق.
- لأنّها كانت ومازالت تقاسي من ألسنة الأصوليّين والحاسدين الّذين يتجرّؤون على نعتها بأبشع الأوصاف لأنّها لا تلبس حجابا ولا تضع على جسدها ذلك الكفن الّذي تضعه نساء بني سعود و الإخوانجيّة والوهابيّين
- لأنّها لم تحارب ديكتاتوريّة السّياسة فقط، بل أيضا دكتاتوريّة الدّين، تلك الدّكتاتوريّة الشّنيعة جدّا الّتي تقوم بها جماعة من النّاس تدّعي أنّها الوحيدة الّتي تمسك بمفاتيح جنّة الدّنيا والآخرة.
- لأنّها تمتلك العديد من الصّداقات مع العديد من شباب العالم، ولأنّها بذلك تمثّل رمزا للتّعايش والتّلاقح بين الحضارات.
فكيف لا تكون مرشّحة لنيل جائزة نوبل، ومن هو التّونسيّ الّذي يفوقها استحقاقا وأحقّيّة بهذه الجائزة؟

27 sept. 2011

حمّة و الخالطون بين الدين و السياسة و العبد لله نص للصادق بن مهني نشر في جريدة الأولى ليوم السبت 24 سبتمبر 2011

أمّا وقد غادرت الفعل السياسي المتحزّب باكرا فإنّه لم يعد يجمعني ببعض من رفاقي القدامى ,كحمّة الهمامي الاّ الحنين لماض  مشترك فيه لحظات صفاء وضوء كثيرة, ونوع من الودّ يجعل كلّ اختلافاتي معهم تتلاشى كلّما التقينا ...صدفة.
و لّنّ الحال هي هاذه فقد تحوّل لقائي بحمّة بمناسبة العرض الأوّل لفيلم "لا خوف بعد اليوم "إلى لحظة حميمية وصريحة  :تحدّث عنّي من أعماق قلبه, و بادلته المشاعر بكلّ صدق ...وتناغمنا...

و لأنّني عشت اللحظة إيّاها بكلّ جوارحي,فلقد أحسستني إثرها مندفعا لأهتف لحمّة أطلب مقابلته لنتحدّث و نتناقش,ولأقول له   أشياء و أشياء يفيض بها قلبي و أخنقها...أشياء منها البعيدالبعيد لكن الحاضر  قيدا يمنعني من أن أكتب مذكّراتي ...و منها ماهو أقلّ بعدا و إلى العقل و الموقف أقرب...

إلاّ أنّ اندفاعي لم يطلقني بل ظللت أراوح مكاني و في رأسي اعتراض: لو التقينا و تحاورنا فإنّنا قد نوّضح كلّ الأمور فنأكّد
  اختلافات و نزيح اختلافات و نتبيّن اختلافات... و لكنّه سيعسر عليّ في كلّ الأحوال أن أقبل منه, و لو مع التشديد على اختلافنا, ما فعله بنفسه ذات عام و هو يحسب أنّه يضرب الظلاميين, و ما يفعله بنا منذ وهلة و حتّى الشاعة و قد نصّب نفسه و حركته محامين عن" النهضة "و ضامنين لصفاء روحها و نقاء نيّتها و طهارة مقاصدها حتّى فيما  لم يضمنه أبناؤها ذاتهم...
 و حتى يصحّ عليّ اسمي أعلن بوضوح: "نعم ...أنا خائف من النهضة  و من جميع السياسيين  المتلّحفين بالدين ...خائف منهم على وطني و على مستقبل بناتنا و أولادنا...خائف منهم على الهبّة التي فتحت لنا باب السماء الحقّة: سماء الحرية و العدل و "المساواة و الانعتاق و الابداع و الارتقاء.
أقول "أنا خائف "و أنا أعني ما أقوله.وحتى يعلم المحبطون و المتشائمون و دعاة الاستسلام و من يخطّطون بعد لترك السفينة تغرق دونهم أنّ خوفي لا يكبّلني و لا يشلّ حركتي و لا يجعل الأفق أمامي كئيبا قاتما...خوفي يملأني , ولكنّه أيضا يشحذ عزيمتي و يحفزني أكثر للتصدّي و المعاندة و التجاوز و يحسّن كفاءتي و يمضي إصراري على البقاء و المقاومة و الانتصار ...
و لأنّني أسمع بعضهم, بل الكثير  الكثير منهم  يحتجّ :ها أن واحد منهم يؤكّد مرّة أخرى أنّهم في النهضة و أضرابهاالعدوّ الأوّل , ويرومون إقصائها مثلهم مثل من كانوا ... فانّني أوّضح  للتوّ: أنا لم أحارب النهضة و أشباهها يوما ...بل وناصرت بعض مناضيلها بما قدرت عليه حين عزّ النصير,ولم أمدّ يدي يوما لجلاّديها...و أنا لم أدعو أبدا لإقصاء الإسلامويين أيّا كان لونهم عن الساحة و التأسيسي و عن الشأن العام...وكلّ ما في الأمر أنّني أرى فيهم خصما لدودا بل أكثر من خصم لدود: خطرا داهما يتستّر بالديمقراطية و يهيّئ مخالبه للانقضاض على وطن يحسبه  فريسة...و أنا لا أدعو بتاتا لمحاربة النهضة بل أنادي بأن نتصدّى لها بفضح تناقضاتها و كشف زيف ادّعاءاتها ورفض هيمنتها و مجانبة الانسياق مع خزعبلاتها و مناوراتها و تكتيكها ...
ولأنّني أصيح لصوت بعض المغرّر بهم أو المنغرّين ذاتيا يتّهمونني بأنّني أتّهمهم  بما ليس فيهم و ألبسهم لبوسا ليس لهم فإنّني أقول : "أنا أيضا حرصت على تعميق اطلّاعي,وقارنت,,حلّلت ,و استمتعت ,وشاهدت فلم أجد في خطابكم لا إخلاصا ولا صدقا و لا وضوحا و لا ديمومة...أنتم تقولون الشيء و ضدّه و ضدّضدّه , وكلّ منكم غار لا قرار له الأسرار المخبّأة فيه من كلّ لون و كلّ صنف و كلّ هول...وجميعكم غابة استوائية فيها أهوال و أغوال...أنا أيضا حلمت بأنّكم تغيّرتم فعلا و أنّكم تعلّمتم فعلا و أنّكم أصبحتم مدنيين فعلا...ثمّ تبيّن لي من تكتيكاتم و تنقّلاتكم و تهافتكم على الجوامع و المساجد و الملاعب ووسائط الاتصال و باحات المطارات وزوايا السفارات و أموالكم الممنوحة هنا و هناك ,أنّه لا يمكن أنّه لا يمكن لراجح عقل أن ينتظر منكم ما تبدونه ...فوراء
 سواتر ما تبدونه هول ما تتستّرون عليه و تسرّونه فيما بينكم.. و لمن يلومني بالادعاء أنّني أحكم على النوايا أقول: فليعلنوا بجلاء و نصاعة أنّهم ضدّ العنف و ضدّ خنق الحريات...وضدّ الانفراد بالرأي وضدّ بسط رؤيتهم للدين,ومع التعدّد بكلّ ألوانه و أصعدته و أنّهم مع احترام الاخر  بل الاخرين ومع احترام المواثيق الدولية المتعلّقة بحقوق الانسان جميعها , وسواء كان الانسان رجلا أو امرأة ...و ليلتزموا جهارا على أنّهم لن ينقلبوا على كلّ هذا إذاما  هبّت ريح نفخت في أشرعتهم و دفعت بسفنائهم لتسبق...
و اذا ما قيل لي :لما كلّ هذا التوّجس و كلّ هذه الحيطة و انعدام الثقة , فإنّني سأجيب : لأنّ الخلط بين السياسة و الدين برهان على فكر شمولي مستبدّ و مقاتل .و لأنّ إسناد الخيارات و البرامج و الخطابات السياسية للماوراء و المافوق و لقراءات محنّطة  لا يدعو الى الاستبشار و الاحساس بالأمان و لأنّ ادّعاء امتلاك الحقيقة الربّانية لا يبث في النفس الطمأنينة 

يا هؤلاء ,و يارفيقي قديما حمّة : أنا ابن لامرأة  أحبّها كثيرا  فلولاها ما كنت  و لولا صبرها  و تفانيها ما عشت  و لولا حرصها ما فككت  الحرف فهي قد رافقت  تعلّمي و هي لم تتعلّم ... و أنا أخ أخوات أحبهنّ كما نفسي كابدن  و حال ضعف الحال و تفضيل الذكر بين بعضهنّ و الدراسة و لولاهنّ  ما عشنا ما عشناه ...و أنا زوج امرأة أعشقها لولاها لما وجدت طريقي و ما صمدت أمام الأنواء ...و أنا أبو بنيّة  هي في فؤادي و دمي و أفخر بأنّني تعلّمت منها المكابدة و التحدّي  و قهر الأقدار و ارتفاع الهامة. و لي حبيبات و معارف و مواطنات أخريات كذلك وجدت فيهنّ  المناصرة و المؤازرة  و الوفاء و الصدق و خبرت فيهنّ ما لم أجده و لو لوهلة في كثير من الرجال. 
يا هؤلاء و يا رفيقا قديما , حمّة : لكلّ ذلك و لأنّني أؤمن بالانسان  قيمة و قدرا ووحدة متناغمة , أنا هكذا , و هطذا أظلّ و لن أرتاح لكلّ سياسيّ يتستّر بالدين و لكلّ فعل دنيوي يتمنطق بالدين

و رغم أنّ ما سأقوله الان لا يعدو أن يكون إلاّ حلما أو خرفا سأقول :"كم أتمنّى أن يكذّبوني, وكم سأسعد لو لم أعد أجد لخشيتي ما يسوّغها".

الفساد وما أدراك ما الفساد (الصباح 22 سبتمبر 2011 ص 10)

الفساد وما أدراك ما الفساد !
كلّ الملفات التي فتحتها الثّورة –ملّفات التشغيل/ وتنمية الجهات، وتوزيع الثروة، وسوء استخدام التشريع والتقنين، ونوعية المشاريع، والقهر الاجتماعي والسياسي، والتعذيب، والظلم، وشطط الاقتراض وما سوى ذلك... –كل الملفّات التي فتحتها الثّورة متى تأمّلنا فيها، بل حتّى متى اكتفينا بمجرّد تصفّح ورقاتها الأولى، تُحيلنا وتقودنا ضرورة إلى مسألة محورية اسمها الفساد .
فالفسادُ قد عمّ بلادنا، بمختلف أنشطة الناس : الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإعلامية وغيرها، وبمختلف الأنحاء والمناطق...
والفساد لم يقتصر على الاستثمارات والتمويلات والتأمينات والتجارة والصناعة فحسب بل شمل القطاع الفلاحيّ (استملاكا لما هو عامّ، –أرضا وماء وتجهيزات- ونهبا للتمويلات الموضوعة، نصّا، لتنمية القطاع...) وقطاع الخدمات السياحية وغيرها، وقطاع التربية (بيع الشهادات ومواطن الشغل والترقيات... إلخ) وقطاع الإعلام (شراء الأقلام الأوروبية والشرقية وتمويل جرائد ومجلات وكتب وإذاعات وتلفزات...)...
ولأنّ فم الفساد جائع على الدّوام لا يشبع أبدا فإنّه طال أوجه النشاط أيّا كان حجمها حتّى عطّلها، وأوقع في حباله حتّى مؤسسات كانت تحيط بها هالة من القدسية ولا يجرأ عليها أحد كالدّيوانة والحدود ومختلف المصالح التي من دورها تسليم تراخيص تخضع لضوابط معلومة...
ولأنّ الفساد تغوّل فهو، بعد أن اعتمد على أجهزة ومؤسسات وأصحاب مواقع في الدّولة، قد ابتلع الدّولة بطمّ طميمها –أو يكاد- وسخّرها لخدمته هو مصّاص الخيرات والثروات والدّماء الذي لا يصحّ وصفه حتّى بأنّه مافيا إذ أنّ المافيا، خلافه، وخصوصا خلافه في سنواته الأخيرة، لا تعطّل التنمية تماما بل توظّف عليها إتاوات غير شرعية وتكتفي بجني بعض من فوائدها، لأن الفساد تغوّل فهو قد أحكم قبضته على جلّ مفاصل الدّولة ومواطن التصميم والقرار والتنفيذ فيها :
- فالرئاسة – رئيسا ومستشارين وديوانا وحكومة ظلّ –أصبح همّهم الأوّل تيسير الأمور للفاسدين ؛
- والحكومة، وإن هي ظلّت –بحكم الضرورة- تسيّر البلاد وتحقّق بعض الإنجازات، قد سُخّرت طاقات هائلة تتبعها لخدمة الفاسدين ؛
- وأغلب الأجهزة القضائية وجلّ أجهزة الأمن أضحت مجرّد أدوات تنفيذ تأتمر بأوامر الفاسدين وخدّامهم ذوي المراتب العليا ؛
- وحتّى السلطات التشريعية أصبحت مجرّد يد تكتب ما يملى عليها حتّى أنّها شرّعت حتّى لما لم يكن من المعقول مجرّد التجرّؤ على تخيّل تشريعه : كالحصانة المطلقة التي منحت للرئيس، والمنافع العميمة التي قرّرت لعائلته، وإمضاء اتّفاقيات الصداقة والتعاون مع جزر قصيّة، لا صلة ولا منفعة لبلادنا بها، لمجرّد تأمين تهرّبهم و هروبهم وتهريبهم، وكالمصادقة للحكومة على إمضاء اتّفاقيات ملزمة للبلاد دون النظر فيها...
ولأنّ الفارّ كان يعي أنّ استشراء الفساد هو محور الهبّة الشعبية التي عصفت بسلطانه فإنّه قد بادر في أواخر ساعاته، التي حاول فيها مراوغة الشعب بوعود إصلاح، بإقرار مبدإ بعث هيئة مستقلّة تتقصّى الحقائق المتعلّقة بالرشوة والفساد.
ثمّ جاءت حكومة الغنّوشي، التي كان همّها الأوّل المحافظة على النظام المنهار حتّى انهارت هي، فأحدثت هذه الهيئة : لجنة على شاكلتها :
- لجنة يتمركز فيها القرار بكلّ أبعاده عند رئيسها ذي الصلوحيات المطلقة،
- ولجنة لا شفافية في أعمالها، ولا وضوح في أهدافها، ولا دقّة في سيرورة أبحاثها، ولا خطّة بيّنة لسيرها، ولا منهج يتحكّم في أولوياتها ؛
- ولجنة عسر على المجتمع المدنيّ التفاعل معها، فهي وإن قبلت ببعض ممثّليه أعضاء في هيئتها العامّة، قد انتقتهم أو كادت بمثل ما اِنتقت به أعضاء هيئتها الفنية. وهي قد أغلقت أمامهم إمكانية الاطلاع على الملفات وضبط توجّهات عمل اللجنة الذي يدخل في صميم مشمولاتهم. وهي قد صمّت آذانها إزاء جميع ملاحظاتهم واقتراحاتهم التي لم تكن الغاية منها سوى إصلاح شأنها –وهي قد تعاملت مع الاستقالات التي دُفع إليها بعض أعضائها دفعا بصلف وعنجهية وأحيانا حتّى بالازدراء والادّعاء... وهي قد تعاطت مع الهيئة العليا التي من دورها مساءلتها وتقويمها بكثير من التعالي والاحتقار وحتّى القذف ؛
- وهي لم تفد النّاس لحدّ الساعة، بأيّة تحليلات أو تقييمات تفضح منظومات الفساد وتفكك تركيباتها، ولم تطح بأجهزة فساد بعضها ما يزال يشتغل وبعضها معروف للعامّ والخاص، وظلّت تكتفي بأعداد الملفّات التي وصلتها والتي عالجتها .. وهذه لا تؤخّر ولا تقدّم في الفهم والإدراك والمكافحة، ولا تفسّر ولا تبرّر محدودية عدد الملفات المحالة إلى القضاء وأسباب الاحتفاظ بسواها. وهي لم تعمّم لحدّ الساعة أيّ تقرير مفيد حول أنشطتها ؛
- وهي – فيما يبدو- لم تستخدم الصلوحيات الواسعة التي مُنحت لها لتستبق الأحداث وتسبق معدمي الملفّات... فرغم أنّها تمتلك حقّ مساءلة أيّ كان، وطلب أيّ ملفّ، والتعويل على جميع الهيئات الرقابية والأجهزة الإدارية، فهي في ما يظهر من ندواتها الصحفية التبريرية في عمومها، قد ركّزت على مداهمات القصور الرئاسية والاستماع إلى عدد من الشخصيات الرسمية... وظلت تتحدّث عن الفساد بما يفهم منه أنّها لا ترى منه سوى "مآثر " لبن علي وعائلته وأصهاره دون سواهم ؛
- وهي قد انطلقت تعمل على استدامة وجودها بالإعداد لجهاز قارّ ودائم تعتمد في إنشائه على القانون المقارن وتجارب بلدان أخرى أغلبها فاشل بدل أن تبنيه على أساس "تفريك رمّانة" ماضي الفساد وحاضره في بلادنا : آليات، وعمليات، ومنظومات ومراوغات للقانون والمؤسسات ؛
- وهي ما تزال تصرّ على غلق أبوابها أمام الرأي المخالف لرأي رئيسها، بل وأمام أيّ رأي حتّى وهو لا يسعى إلاّ لتفعيلها وتقويتها و"تعديل أوتارها" بما يحوّلها من مجرّد لجنة محدودة الإشعاع إلى واحدة من أهمّ مؤسسات العدالة الانتقالية التي يحتّم الظرف تفعيلها ؛
- وهي ما تزال تفاخر بأنّ "الدّولة هي التي أحدثتها" وأنّها باقية، وأنّها مفلحة في أعمالها، في حين أنّ المجتمع المدنيّ منصرف عنها، يدير لها ظهره ويسعى إلى تدارك عثراتها ونقائصها وحرنها بوسائله وجهده الذاتي، حتّى أن مقاومة الفساد وفضحه أصبحت تتمّ في غالبها خارج دائرة فعلها هي المحدثة للغرض والحائزة على جميع الإمكانيات والصلاحيات للفعل الحقيقي،
- وهي ما تزال تقتّر في تعميم معطيات ووثائق ليست ملكها الخاص، وتتصرّف في أرشيف غال وثمين وتاريخي في غير شفافية، ولا تعطي المعلومة حتّى متى تلقّت أذونا قضائية في ذلك إلاّ بعد طول تمنّع ومخاتلة ؛
- وهي، وإن تبجّحت بأنّ عملها سيتواصل ويستمرّ وسعت إلى استدامة وجودها، لم تول اهتماما يذكر –حسب ما يظهر من القضايا المنشورة ومن "غزواتها الإعلامية"- للفساد الذي ما يزال ساريا في القطاعين المنظم وغير المنظّم ؛..
- وهي تصرّ على أن لا تقترب من الشعب أكثر بالخروج إلى الجهات والمناطق... كما تصرّ –فيما يبدو –على أن لا يمضي جميع أعضائها إبراء ذمة يقطعون به الشبهات والدعاوي التي تطال بعضهم...
-
ولا يظهر من المعطيات الميدانية أنّ الحكومة الحالية قد تعاملت مع هذه اللجنة بغير ما تعاملت به معها سابقتها... يظهر ذلك في ما سلف تبيانه، ومن واقع أنّ الوزير الأوّل، بدءا، ثم الرئيس المؤقت لا يشيران إلى هذه اللجنة وأعمالها إلاّ عند استقبالهما تباعا لرئيسها الذي يتكرّم بزيارتهما كلّما ابتغى المشاركة في ملتقى دولي بالخارج أو تنظيم ملتقى يظلّ حديثه عنه لوسائل الإعلام هلاميا وغامضا من حيث محتواه والمشاركون فيه ولا يصرّ صاحبه فيه إلاّ على التشديد على مشاركة جهات دولية فيه كأنّ في ذلك الضّامن للنجاح !
الفساد محور الثورة، وفي مقاومة الفساد بحزم وشفافية نجاحُ الانتقال الديمقراطيّ فلماذا يحدّ رئيس اللجنة من نجاعة لجنته ويحيطها بالكتمان والعتمة ولا يبنيها على أسس الاعتماد على الشعب ووضوح الخطة وسواء السبيل؟
ولماذا يجرؤ على جرجرة رئيس الدّولة المؤقت لإكساء ملتقاه القادم المبرمج ليوم 22 سبتمبر بالحمامات عباءة رسمية عليّة ؟
ولماذا يستجيب رئيس الدّولة رغم التجاذبات التي تحيط بعمل اللجنة.
الصادق بن مهني
19 سبتمبر 2011

13 sept. 2011

أضغاث أحلام ؟



يحدث  كثيرا أن لا أنام إلا نوما متقطّعا تختلط فيه أضغاث الأحلام بإرهاق الأرق بثقل الكوابيس بسرابات اليقظة غير المكتملة و بما يفيض من الأنا المتخفيّة أو يتسّرب من مزيج يجمع بين ذكريات الماضي و عذابات الحاضر و انتظارات المستقبل.
 و في ليلة من ليالي الأسبوع الماضي رسخ  في ذاكرتي ما سأرويه هنا و أنا لا أدري هل هو حلم أو كابوس، أم فكر وليد فترات اليقظة التي تخلّلت لحظات النوم المتقطعة، أم خليط من هذا و ذاك:
حلمت أو تخيّلت أو خامرتني فكرة أنّ التونسيين يتخلّون عن المطالبة بمحاكمة الجبان الهارب و لا تعود تستهويهم الرّغبة في محاسبته و محاكمته و معاقبته ... ,و أنّهم يوجّهون وفد شبّان و شابّات يعاهدونه هو و السلطات التي وهبته القرى على أنّه إن عاد إلى البلاد سيحظى بالأمان فيؤويه حتّى فيضان روحه الخبيثة ذاتُ المنزل الذي سجن فيه سلفه و تبذل له فيه الخدمات ذاتها التي أمّنها هو لمن انقلب عليه... و رأيت الوفد يؤكد للفارّ أنّه سيسمح له حتّى بأن يخرج من حين لآخر ليزور الأمكنة التي فتنته فيها ليلاه و حتّى بأنّ يقدّم للتأسيسيّ أو لمن يعيّنه التأسيسي  رئيسا مؤقتا شهادات الولاء و الإخلاص ، بل حتّى و بأنّ يقرأ على  النّاس خطابا أخيرا يعدّه المختصون الذين كتبوا له  خطاب الثالث عشر من جانفي 2011  يروي فيه وقائع اليوم الموالي الخالد ، يوم 14 جانفي، كما يراه هو ، و يبكي فيه بلادته الذهنيّة و عماه و صممه و ينهيه بأنّ يعتذر لا لليلاه، لبل لمحمّده و لجميع أبناء و بنات شعبنا الذين سدّ أمامهم الأفق و أورثهم تركة تكبّل أعمالهم و تكبح مطامحهم و تعطل مساعيهم لأمد طويل... و رأيت الصّانع الصنيعة يهش و يبش و يسارع بالاستجابة و بقبول كلّ شروط الوفد و في روعه أنّه إن عاد سيفلح في صنع انقلاب آخر يهيء له ظروفه و عوامله  صنائعه المنبثّون في كلّ مكان من مواقع صنع القرار و مفاصل النفوذ... و رأيت وفد الشابات و الشبان يعودون بالواجف الراجف المخلوع(بالمعنى العاميّة للكلمة) ، فيضعونه حيث قالوا و يضعون أمامه كاميرات و مسجّلات و حتّى أوراقا و أقلاما رغم علمهم بأنّه لا يكتب... و اتضح لي أنّ الوفد إنّما اشترط على المستردّ أن يسرد تاريخه الحقيقيّ و سيرته الذاتيّة التي لا يعرفها أحد سواه أفضل منه و اعترافاته بكلّ ما فعله و ما فعل به و ما فعل تحت إمرته أو بحمايته... رأيت الأمان يبذل للمخلوع لقاء إحياء الذاكرة و إذكاء الفهم و تفكيك منظومات الفساد ... و رأيت صاحب مؤسسة التميمي مبتهجا جذلان ...
و حلمت أيضا بأبناء و بنات الشّعب ممّن صنعوا الثورة و ليس ممّن ركبوها أو زايدوا عليها أو من الساعين لاستدراجها إلى عدمها يهبّون إلى القصبة، و ينادي مناد منهم بمنح الأمان للباجي و رشيد و فؤاد و بعض آخرين ممّن حولهم ، عهد أمان يضمن لهم أنّهم لن يساءلوا عن الماضي و أنّ جميع ما قد يثبت عنهم من خطايا لن يلاقي إلاّ الصفح شريطة أن ينصرفوا إلى خدمة الشعب وحده، خدمة أهداف الضحايا الذين لولاهم لما احتلّوا مواقع لم يكونوا حتّى ليحلموا بها ليوم بل للحظة ... و رأيت المذكورين يهبّون يغالبون تردّدهم و تذبذبهم و يلتفون إلى ستائر ورائهم ينفضونها فتنقطع و تصبح حبائل تكبّل حركات أشباح لم أتبينّهم... و رأيت الانفلاتات الأمنية و الطرقية و الاقتصادية و الإعلامية تتراجع كجزر عظيم لكن ما بعده تسونامي... و رأيت البناء الفوضوي يتهاوى... و رأيت الناس يهتفون:"مساءلة فمحاسبة فصفح". و رأيت بني التجمّع يعتذرون متباكين عن إسهاماتهم في بناء مملكة الظلم و الظلام... و رأيت المرحلة الانتقالية تقطع على نسق الأنترنات و ليس على وتيرة سير الإبل أيّام الريح السموم... و رأيت بلدي يتوهّج ألقها من جديد... و رأيت النجمة في علمنا تراقص هلالها و الأحمر فيه يضحك جذلان... و رأيت رضّعا و أطفالا بل و حتّى جنينا منشرحين في تاله و الرقاب و مدنين... و سمعت زغردات لا تنقطع... و رأيت الناس يتزاورون و يتحابون و يتضامنون و يصّر كلّ منهم أن يكون هو خادم الآخرين... رأيت التونسيين يستعيدون أخلاقهم النضرة التي رأيتها فيهم في جانفي و فيفري 2011 ... و لم أعد أسمع سؤال الحيرة الذي أنهكني:"كيف ترى المستقبل القريب. و هل ستنجح الانتخابات و هل ستنتهي الفوضى؟"
الصادق بن مهنّي
12 سبتمبر 2011

سي الباجي وفاؤك له مدعاة للإعجاب فلتف بالمثل للشّعب

بعجبني في الوزير الأول الباجي قائد السبسي وفاؤه. فهو وفيّ لمعلّمه و زعيمه  ومثله الأعلى لحدّ التماهي معه. وهو وفيّ لمجاهده لحد يبدو معه أنه اعتقد أن الربّ أو الزمن أو القدر أو الصدفة أو حرص الثّوار على الوفاق و حرص الثّورة على سلميتها و طول نفس فاعليها وسعة صبرهم لم يأتوا به هو لأمر آخر غير أن يحوّل الثّورة من ثورة كرامة  وحرية وتنمية واستحقاقات شغل إلى ثورة ردّ اعتبار بل ثورة أخذ بالثّأر للزّعيم الأوحد من ذاك الذي هرب.
ويتجلّى وفاء سي الباجي في حرصه وهو يتكلّم على أن يظهر بمظهر معشوقه في حركاته وسكناته وطريقة خطابه وردود فعله وغضباته المبرمجة مسبقا وتضخيمه لأناه وتشديده على هيبة الدّولة التي هي هو وتهكّمه على من يجرؤ على أن لايشاطره رأيه أو لايصفّق له.
وفاء سي الباجي لملهمه ظهر منذ اليوم الأول  الذي رأيناه يفتح فيه فاه . . .فهو لا يسهو أبدا، وكلّما تحدّث ،عن ذكره والتبريك له و تطييب ذكراه ،وتقليد أسوإ ما كان فيه :عنجهيته وغروره وتسلّطه.
غير أن الحدث الذي تجلّى فيه وفاء سي الباجي لسيده بأكثر صفاء هو خطابه الأخير :
فمن حيث الإخراج والتّوزيع الرّكحي رأينا سي الباجي يقف على مصطبة قعد على طرف منها من اصطفاهم من حكومته يكادون يتخفّون وراء عرصة وقفت أمامهم كأنها القدر المحتوم ، وتظهره الكاميرا كلما تحدّث عنهم ووجّه وجهه نحوهم كأنما ليطلب شهادتهم  أو ليورّطهم وكأنه يبحث عنهم في حفرة الموسيقيين لكن وراء الرّكح. ورأينا أعضاء هيئتين مستقلّتين أو هكذا توصفان بل إن احداهما ادّعت لنفسها ذات أيام حتى حقّ مراقبة الحكومة – يقبعون كما الخجل الوجل في مرتبة أدنى في ركن منزو من القاعة الفسيحة التي تصدّرها هو واقفا مرتفعا عن الجميع وانتصب وسطها –أغلبهم قعودا- جماعة من الصّحافيين المتهيّبين ينتظرون متى تصعقهم أو تصعق بعضهم أو أحدهم غضبة الواقف العظيم المهيب
وأنا أرى الرّكح والإخراج  تراءت لي صور ثابتة شتّى عتيقة، صور بورقيبة وزيرا أول أو أكبر يرسي سلطته الباتّة ويبسط نفوذه المطلق ويسوّي مؤسّسات الدّولة اليافعة على مقاسه...
وخيّل لي أن سي الباجي قال لنا خطابا وأبلغ إلينا خطابا غيره ... وعندما سمعته يذكر أن الرّئيس على علم بقراراته سمعت بورقيبة يتحدّث عن الأمين باي الذي من المرجّح أنه لم يكن يدري وقتها أن مملكته تعيش أنفاسها الأخيرة أو على الأقلّ لم يكن يعي جيّدا أن ابنه البارّ سينقضّ عليه بعد حين قصير ... ولبرهة ربّما لم تكن أطول من رمشة عين .تبدّى لي سي الباجي رئيسا انتقاليا يشغل قاعة الاجتماعات الكبرى بقصر قرطاج ويخطب خطبة عصماء تعيد إلى القصر المجاهد االأكبر (وهو في عرفه غير الشّعب الذي لا مجاهد ولا أكبر سواه كما كان يحلو لنا أن نقوله ونكتبه  منذ السّبعينات  وندفع لقاءه بعضا من عمرنا سجنا و تشريدا )
ولما توجه سي الباجي إلى بضعة الرّجال معهم امرأة في ذاك الرّكن الواطئ على يساره ليشكرهم تبدّى لي بورقيبة المتعملق يقول لتأسيسيّه و"منظّماته القومية " : "أنتم منّي ... وبدوني لن تكونوا إلاّ عهنا منفوشا"...أمّا لمّا تبجّح بأن لا أحد سوى حكومته (التي سلف أن وصفها  بأنّها أفضل حكومات تونس بعد حكومة الاستقلال الأولى) يحافظ على الثّورة، فلقد تبدّت لي في صوته نبرة سخرية تضحك على ذقون الجالسين هناك المؤتمنين على أهداف الثّورة  وتريد أن تهزأ من كلّ أولئك الذين استشهدوا أو جرحوا أو فقدوا أحبّتهم او استنشقوا غازات مستوردة بالعملة الصّعبة أو أصابتهم هراوات حرص هو وأتباعه أن لا تفارق الزّبانية وأن لا تقع في البطالةحتّى أيّام حكومته المثالية المتفرّدة و إلى اليوم .
وعندما تكلّم سي الباجي عن الانفلاتات وأزبد وأرعد وهدّد وتوعّد
وأعلن حالة الطّوارئ وحلّ النّقابات وأذن بالويل والثّبور فلقد رأيته قد انتفخ كما لو كان عرفه وهو ليس عرفه ، وخشيت أن يهلكه وفاؤه وأن يكسر عظمه إصراره على مطاولة هامة أستاذه وأن يهزّئه من هزئ منهم.
ولما تحدّث سي الباجي، في شبه إيحاء أو إيماءأو بسط ألغاز عن الاستفتاء، فتحلّل منه وتبرّأ ثمّ هشّ له وبشّ ، وبسط له فرشا من ديموقراطية  وتوافق ، رأيت بورقيبة وهو يحثّ التّأسيسي بداية على الانقلاب على الملك ويشرع في- غير إعلان- في إقامة ملكه هو الجديد، ثم وهو يطيل أو يهمس لمن يتبعه دون شرط ولا حتى أبسط نقاش بأن يطيل عمر التّأسيسي حتى يغالبه ويسبقه فلا يكون الدّستور إلاّ عهدا يكرّس ما أراد وما بنى .
ورغم الخشية والتّوجّس ورغبة جامحة في أن  أنزع من دماغي ما يتوارد عليه من تحليلات وصور وتخمينات ومقارنات واستقراءات انتابني إحساس بالرّهبة وخشيت على مجلسنا التّأسيسي القادم علّه لا يقدم أو يقدم مشوّها أو مبتورا أو يرقد للأي في رحم أمّه وقلت في نفسي : ٌ لماذا تصرّ هذه الحكومة على اللّعب بأعصابنا فلا تنفكّ تعدّد الموانع والعراقيل والمعوقات والصّعوبات والانفلاتات حتى ليخيّل للمرء أنّها تهواها وتعشقها فتراها حتى حيث لا توجد ويحسب (على الأرجح غالطا ) أنّها قد تكون   تنفخ فيها لتشغل النّاس بها أو لتنشر الفزع  وتسعى إلى خيبة المسعى ؟ ولماذا يصرّ هذا الوزير الأول على أن يصمّ أذنيه عن نداءات القصبة والقصرين وسيدي بو زيد ووسط العاصمة وكلّ أنحاء البلاد وأرجائها الدّاعية إلى إسقاط النّظام كلّه لا رأسه فقط وجميعه لا بعضا من مؤسّساته فحسب ،ولماذا لا ينصت إلى الذين قالوا : " ها أننا غادرنا لكنّنا إن عادوا نعود" وهم يهتفون :" نريد مجلسا تأسيسيّا حقّا  يؤسّس لنظام جديد بديل يكرّس القطع الكامل مع ما سبق ،كلّ ما سبق ، فيهبنا دستورا جديدا ، ويمنحنا نظاما يوائم طموحاتنا ومواطنتنا، ويفتح في وجوهنا أبواب الأمل "، ولماذا يحرص هذا الوزير الأول الذي جاء أو جيء به أصلا ليكرّس مطامح الشّعب  في أوسع تجلّياته  وبأغلب فئاته على أن لا يسمع إلاّ تلك القلّة القليلة من المتعنّتين الجاذبين الى الوراء والمنادين إلى الردّة والمناشدين باستدامة المتهاوي .                                   وفاء الرّجل يبهرني.
لكنّني أخال أن الرّّجل غير الرّجل الذي يصبّ عليه وفاءَه، وأن الزّمن غير الزّمن ، والجمهور غير الجمهور والظّرف غير الظّرف...
ولأن الحال هي على هذه الحال فمن اللاّزم أن يتغيّر الخطاب ونسق الخطاب ، ظاهر الخطاب أو منطوقه ومرئيّه وباطن الخطاب وإيحاءاته والمسكوت عنه فيه .
يا سيدي الوزير الأول : قطعا يعجبني وفاؤك...لكنني أخشى أن  يكون في وفائك لمعلّمك وعرفك ما يجعل بصرك يزيغ فلا تدرك أنّك تخاطب شعبا أغلبه لا يعرف معلّمك ولا يرى مثلك أنّ عليه واجب الوفاء إليه ، وما يؤدّي بك إلى سوء التّقدير فلا تدرك أنّ مطامح الشّباب المتحفّزلا يصحّ مغافلتها ولا تقوى عليها قوّة مهما تخفّت وتلوّنت وخبثت...
يا سيّدي الوزير الأول: معك قطعا حقّ الاختلاف وحقّ الحذر والحيطة لكنه ليس من حقّك أبدا أن تنصّب نفسك حاكما بأمرك وبورقيبة جديدا لا يسمع إلاّ أناه ولا يتساهل إلاّ مع السّاعين إلى مغالبة سير التّاريخ و ثني حركة الانتقال ... وقد يكون من حقّك أن تنادي مع من ينادي إلى ضبط عمر التّأسيسي وتقصيره لكن دخولك التّاريخ  معزّزا وحسن الذّكر قد يعطّله إشراكك في المسّ من صلوحياّته والتّعدّي على شرعية صندوق الاقتراع بتغوّل حكومة لا شرعية لها إلاّ بالتّوافق البسيط الذي لا يرقى إلى شرعية صندوق الاقتراع.
يا سي الباجي :أتحوّل مناشدا فأناديك إلى الوفاء بوعدك للنّاس بأن تؤدّي الأمانة وتقود السّفينة إلى مرفئها... وأغار عليك فأقترح أن ينظر- توافقا أو في التّأسيسي- في إقرار بقائك وحكومتك(بعد تعديلها وطرح من من الأنسب عزلهم منها) حكومة انتقالية ترافق التّأسيسي هي والرّئيس المؤقّت ،لكن مع خضوعها الفعلي لرقابته وإشرافه  وتخلّيها له عن كلّ ما هو تشريعي ...
وأخاف عليك تماهيك حيث لايصحّ التّماهي فأرغب منك في أن تكون أنت أنت ،وأن تـدخل التّأريخ علما عرف كيف يمهّد للانتقال مجراه .

الصّادق بن مهنّي         12  سبتمبر 2011