6 oct. 2013

تغريدات إلى روح والدي شعبان بن رجب بن مهنّي نشر بجريدة الجزيرة لشهري اوت ـ سبتمبر





أستسمحك، والدي، أن أقضّ مضجعك الأبديّ في زمننا هذا الجميل / الرديء لأخبرك أنّهم فقدوا صوابهم وأنّ عنجهيتهم ـ غرورهم ـ غطرستهم ـ غباءهم ـ صلفهم ـ لاإنسيانيتهم ـ تدافعهم المرضيّ يقودهم إلى إهلاكنا / هلاكهم. ولأؤكّد ما تعلمه: نحن لن نخاف ـ لن نهلع ـ لن نتراجع ـ لن نهرب بل سنتصدّى: بصدورنا العارية الصّادحة سنتصدّى، بمداومتنا سنتصدّى، بحناجرنا سنتصدّى، بأقلامنا سنتصدّى، وبهؤلاء القادمات / القادمين من كلّ حدب وصوب ـ من عمق تاريخنا ـ ومن مستقبلنا الوضّاء سنتصدّى... سنتصدّى وسـ... يهربون... سيهربون كما هربوا. ولكنّهم سيفرّون هذه المرّة بلا أمل في رجوع وتحت البصاق.
****

أمّا حفيدتك لينا فهي قد ردّت على هديّتك بمثلها: تغيّرت وأنت تتهيّأ لتغادرنا فأصبحت مع المرأة وأوصيتنا بأنّ لا فرق بين رجل وامرأة وقلت «أريد حفيداتي كما أحفادي: ناجحات، متعلّمات، متحرّرات»... ووهبتك ـ وهبتنا هي نجاحا رغم النوائب وبريقا حقّا رغم الدياجير، وتموقعت في الكوكبة الأولى تفتح طريقنا صوب الشّمس ـ تروّض أشواكه من مجالدتها وترشّه أزهارا وعشقا...
****

حفيدتك لينا تستظلّ بعشقها لهذا الوطن الزّاهي، لهذا الشعب الغالي، تحمل عمرها على كفّها هبة للكلّ، لا تعبأ بالمارقين ـ المنافقين ـ الغاصبين ـ التّابعين ـ الهمّج، ولا ترتاح يحفظها حبّ النّاس وصدق العزيمة وحسن السّريرة... لكنّني أكاد أجزم أنّك أنت أيضا تحميها ـ تظلّلها وتضلّل الآفكين ـ تدثّرها من عليائك بغيمة خير تردّ رصاص المتربّصين وتفشل مخطّطات القنّاصة ومنهم واحد رأيته ذات ليلة يتخفّى وراء نخلة مدخل الممرّ، وهمست لي: «أن اخرج ترَ !» ففضحته.
****
والدي، أعرف أن كان في قلبك شيء من مرارة وإحساس بالغبن لأنّك عشت وأسرتك سجني  في وحدة وتنكّر لك حتّى من كنت تحسبهم أحبّة وتحاشاك حتّى غالب أصدقاء العمر... لذلك أقول لك: «اهنأ بالا، حبيبي!، لقد دار الزّمن دورته وجاء تكريمك من نساء / رجال عرفوك وإن لم يكن لك بهم سابق صلة كرّموك إذ كرّموني وصفّقوا لذكر اسمك وذكراك، ومنهم من بكى، ومنهم من غنّى، وكلّهم كانوا / كنّ صدقا ـ حبّا ـ وانطلاقا ـ توثّبا...
****

والدي العزيز ـ معلّمي ـ وملهمي! علّمتني أن أقول كلمتي، أيّا كانت، ورأيتك كم مرّة تتمعّن في ما أكتبه ـ تحثّني على أن لا تنقطع كلماتي عن «الجزيرة»، ولأنّهم الآن يريدون إخراسي فيصبّون جام غضبهم على «لطفي» ـ أخي وإن لم تلده أمّي ولا ولده أبي، ويلوّحون أمام عينيْه بدنانيرهم وبعصيّهم الغليظة، أجدُني أؤكّد لك: أن اهنأ بالا: لن أسكت ـ لن أخرس ـ لن أتراجع... وسيخسؤون!
****

والدي صديقي ! صدق توقّعك: بعد أن أعلن بورقيبة أنّه «يوغرطة الذي انتصر» تصرّف بما يجعله يكون «آخر يوغرطة ينتصر»... لذلك نحن اليوم في ما نحن فيه... وبالمقابل قادك تشاؤمك ذاك العام إلى تقدير خاطئ: بدا لك أنّ أجيالنا الجديدة غير مهتمّة بالشّأن العام، وقلت لي: «حبّ الوطن يُرضع مع حليب الأم... وأطفالنا أصبحوا يرضعون حليبا جافّا نستورده من أمريكا، فكيف نتوقّع أن يكون أبناؤنا وطنيين؟... وها أنّ بناتنا ـ أولادنا يبزّوننا وطنيّة ويتفوّقون علينا إبداعا ويبهروننا بمداومتهم.
****

 سيظل وطننا كما حَلُمتَ به: أمسا مشرّشا في التّاريخ وحاضرا يعرفه النّضال وغدا أبهى.

هم الماضي والطمع الذي لا يشبعه شيء… ونحن قلب هذا البلد الخفّاق نشر بموقع اسطرلاب


متى تعلّق الأمر بمصير شعب وبمآل بلد لا يصحّ أبدا أن نتوهّم إمكانية الالتقاء والتّوافق وأن نسعى إلى حلّ وسط إلاّ إذا ما كان المعنيون جميعا يضعون فعلا نصب أعينهم الأفق ذاته !
يمكن أن نختلف ونتحالف ونتصارع وحتّى أن نتدافع ثم أن ننتهي إلى وفاق في جميع الأحوال والأزمان لكن شريطة أن يكون الهدف واحدا لجميعنا. أمّا إذا ما نحن اختلفنا حول الهدف النّهائي، حول نمط العيش المنشود، حول الألوان والتنوّع والتعدّد والحقوق النّوعية، فإنّه سيستحيل علينا أن نتآلف ونتوافق نهاية  وإن لحين !
هؤلاء الّذين عبّدوا طريقنا إلى ما نحن فيه وأعادوا الأمل إلى الأمل البائس وقادونا إلى أمجادنا التي لم تنقطع إلاّ لماما….. أمجاد الاستبسال والتحدّي والصّمود صدورا عارية إلاّ من أصواتها الصّداحة – خرجوا علينا من ديارنا ذاتها وقد نهلوا من واقع افتراضيّ، لم نكن لننتبه لكنهه ولا لصداه ومضائه، وانهمكوا فيه فقادهم إلى واقعهم يبغون اجتراحه أحلى وأبهى وأعدل وأحدث !
ومقابلهم  طلع علينا الآخذون الآن برقابنا ينوون حبس الأنفاس فيها، أو بالأقلّ عدّها، من ثنايا أزمان عفى الزّمن عليها وبهتت ألوانها ونصلت أنسجتها اِلتقطوا من ذكراها أحلك ظلماتها وتمنطقوا من أصفادها بأغرب ما ابتدعه جلاّدو الفكر فيها !
الخارجون منّا إلى الشّوارع هاتفين بالشّمس، ياسمين لغد أقسموا على أن ينبلج رغدًا، والمتمترسون بالسّاحات لا تحميهم فيها إلا خلجات .
أمّهات وأخوات وبنات جدّاتُهُنَّ الكاهنة وعليسة والفلاّحاتُ الصّابرات وعزيزة وصانعات أمجادنا المنسيات وسوفونيبه ومعالجات النّفس والرّوح والجسد، والمقبلون والمقبلات على الشهادة يحسبونها واجبا بل شرفا لا يبتغون منه  جزاء ولا شكورا ولا بطولة أو تعويضا، والمرابطون/المرابطات في ثغور الحرّيات فكرا وتعبيرا وحقوقا للإنسان أيّا كان عرقه وجنسه وموطنه وأيا كانت عقيدته أو ثقافته … هؤلاء جميعا عاشوا هنا ولم يغادروا إلا لشغل أو درس ولم تتعلّق هممهم إلا بالهنا وبالحاضر عيشا ومعاناة وإعدادا لغد أسعد…
أما هم فأغلبهم تواروا عن الأنظار وغادروا البلد أو فرّوا منها واِنتصبوا في أسواق العالم سماسرة يرتزقون يمنة ويسرة يكتنزون الرّيال والدولار ومن حين لحين يجاهدون على ركح تلفاز أو ببهو فندق عال العال، وبعضهم ظلّوا هنا يرفلون هانئين، وجميعهم ناحوا مذ مكر التّاريخ فبوّأهم ما ليس لهم وما يزالون ينوحون أنّهم عذّبوا وحرموا وهجّروا وضُيّق عليه وعلى ذويهم العيش… وما صحّ ذلك إلا لغير نافذين منهم… حتّى أنّك ما إن تنادي بفتح أرشيف العهد السابق وملفّات البوليس السياسي حتّى يهبّون إليك بل عليك من كلّ حدب وصوب وفجّ بل وشقّ يهوّلون الموضوع ويستعطفون النّاس ويعقّدون الأمر يلفّون به من تأجيل إلى تأجيل وفي نفسهم أن يجعلون نسيا منسيا…
وفيما هبّ ناس الثّورة يبغون بناء بلد للجميع، يحمون المبادئ، ويبشّرون بقوس قزح، هاتفين أنّ البلد يسع الكلّ وأنّ الشعب كفسيفسائه، تربّصوا من ناحيتهم بالسّلطة حتّى انقضّوا عليها، ثم أعملوا في أصلد وأرقى ما في البلد- نمط العيش وبعض مؤسّسات غالبت التخريب وأخلاق لم تهترئ رغم كلّ شيء- أعملوا أنيابهم وأظافرهم بل سكاكينهم وسيوفهم وأقوالا استلفوها من عباقرة الرّعاة ظاهرها خادع وباطنها كالقتل.
وفيها هبّ الشّباب يبغون الانتقال الحقّ ويحلمون جهارا بالتأسيس السويّ ويتنادون إلى  وطن لهم جميع ويشمّرون على سواعد الجدّ يبغون تدارك مافات وإحكام البنيان تسرّبوا كالغازات السّامة وراوغوا كالثّعالب وتسلّلوا كالجرب وأغراهم ما اكتنزوه وما وهب لهم فأرادوا ضعف أضعافه فحوّلوا الوطن حانوتا بل حوانيت وفاخروا بأنّهم إنّما كانوا يرومون الحصول على دكّان ففازوا بالسّوق كلّه…
وفي حين خجل أهالي الشهداء والجرحى وذووهم من مساعدات هي حقّهم ولم تصلهم، تهافتوا على تعويضات يوزّعونها فيما بينهم “شف الوجوه وفرّق اللحم” وعلى السّمسرة بكلّ شيء : شبابنا ليقتل وشاباتنا لينكحن ومقدّرات البلد يمتنّون بها لمن والاهم ولمن سحبهم إلى الصفّ الأوّل ودفع بهم – في لحظة إغماء أصابت التّاريخ عن غفلة- إلى عرش ما يزال أكثرهم غطرسة وادّعاء ومكابرة وتجبّرا يدّعون أنّه هبة الله سخّرها لهم…
وفي حين يبحث الباحثون عن مخارج من أزمة أرقّتهم إذ بدأت تقصم ظهور العامّة وتفتك بتوازن كثيرين، لم ينفكّوا من جهتهم يناورون ويسفهون ويخادعون ويصطنعون لعسفهم رجالا يركّزونهم في الأنحاء والجهات والمدن والبلدات والأحياء والمفاصل وحيث مفاتيح الإغواء والإغراء والترهيب والبطش والإيحاء والجذب والدفع والزّيف والتزييف.
وإذ ترفّع النّاس على أحزانهم وتعالوا على جراحاتهم ورفضوا أن ينجرّوا إلى العنف والتدافع بما زاد عن الفكر والكلم، ها هم يمضون في غيّهم لا يهمّهم –بل قد يُشبعهم- أن تتحوّل تونس –وطنُنا وسوقهم- ساحة وغى ودمار، وهاهم يهدّدونا مرّة بالصّوملة ومرّة بالسّحل –وقد جرّبوه- ومرّة بتهجيرنا ومرّات بقمع يعدّون العدّة له غازات وأسلحة يقتنونها وآليات تمنح لهم…
وفيما لا نكفّ نغنّي للسلام وننشد أناشيد الحرّيات هاهم قد دفنوا العدالة الانتقالية في مجلس شيوخ فاسد حوّلوه وزارة حيث لا تصحّ الوزارة، وها هم يحاصرون الإبداع والثقافة التي انطلقت مع الثورة بل قبلها وانعتقت منذ أوائل جانفي 2011 شعرا وصورة ورسما على الجدران وأفلاما وروايات وأغاني من كل مذهب واختيار ويبتغون جرّها من الساحات العامّة والاعتصامات ووسائط الاتّصال إلى سجون بسطوا عليها شراك دعاتهم وتحوّزوا بمفاتيحها وسخّروا لأقفالها بعضا من آليات قضاء لم يعصف بها بعد القدر الذي استجاب وما استجاب !
هم ماضون في غيّهم، وسيتمادون في التباكي وفي وعودهم المستحيلة، وسيقتلون منّا كما قتلوا، وسيهيئون لنا السّجون والمعتقلات والمنافي، وسيحاصرون بيوتنا وحركاتنا بل وحتّى أنفاسنا، وسيظلّون يعقدون الاتّفاق تلو الاتّفاق لينقضوا العهد تلو العهد، ولن يكفّوا عن احتكار الله يمثّلونه وحدهم ولا يهبُ سواهم، وسيستمرّون في القول باحترام الشرع والشرعية والقانون لكنّهم لن يتنازلوا عن إشفاء غليلهم من دم شعب هو في عرفهم ليس سوى عامّة ورعاع وبضعة ضالّين…
ونحن ماضون بنسائنا الرائعات وبشبابنا البديعين والبديعات وبكلّ الذين تخفق قلوبهم حقّا للرّاية الحمراء ولا يهمّهم أن يقضوا أو يعذّبوا كي تزهر الشمس في تونسنا جداول وشفافية وأزهارا وأغاريد…
هم الماضي والغيّ الفاضح والطمع الذي لا يشبعه شيء وتسلّط لن يدوم… ونحن قلب هذا البلد الخفّاق … هم يمضون باتّجاه النهاية / الانطفاء / الانخساف… ونحن نناضل من أجل غد يستند إلى ماض مشرّش نبنيه اليوم من عرق ودماء ليتباهى به وبنا ذات نصر هذا الوطن الغالي الذي ميّزهم فراموا اغتياله.
 ملاحظة : كتب ليلة 1-2 أكتوبر 2013 أي قبل الندوة الصحفية للطيب العقيلي ولجنته.

20 août 2013

إلى نساء بلدي


وأخيرا اتّضحت الأمور للنّاس جميعا وانجلت عن بعض العيون غشاوة كادت تتصلّد : ليس فيهم لا معتدلون ولا حمائم ولا ساعون وراء مصالح النّاس ولا مشفقون على هذا الشّعب !
بان الخيط الأبيض من الخيط الأسود وتجلّت ضحكات أكثرهم وسامة صفراء ، سمِّية ووراءها دم !
الصّلف والغطرسة والرّعونة والعنجهيّة والنّفاق والطّمع المتهافت وشهوة لا متناهية على السّلطة ورقاب النّاس وتجنّ حتّى على الرّبّ وباسم الرّبّ ، وتصرّف العصابة – المهرّبين –المتكالبين على الثّراء السّريع – جماعات الضّباع الضّارية متى جاعت ... هذه أخلاقهم و واعزهم ...
لا شيء غير ذلك وتلوّن الحرباء لكن ليس تخفّيا بل للهجوم بل للهجوم وحرص على منكر العلاقات وتباك وشره للمغانم وعجز بيّن لخلق تبريرات وعبث بالأرقام والحقائق ومقدّرات الوطن !
لاشيء غير ذلك وسلاح يكدّس ومليشيات تُدَرًّبُ ولوائح المحكوم عليهم بالقتل تمتدّ و تتمطّط و الوطن و المواطنون – المواطنات متاع – رعايا وكلّهم مستباح !
ومقابل هؤلاء بل حولهم من كلّ الجهات في مواجهتهم ومن خلفهم وعلى رؤوسهم شعب رائع تحدّى القدر وطوّعه ، غلب خوفه وسخّره اندفاعا و إصرارا ، بدأ يتسامى على ما يفرّق و يبني عماد النّصر : وحدته و تآزر فئاته.
 مقابل هؤلاء ثورة غلبت أشعلها الشّباب وبعض شابّات وغدت مع الأيّام ثورة غلبت 
عليها الأنوثة ... نساءٌ...نساء ... نساء !




في كلّ الأماكن نساءٌ ...في الاعتصامات وفي المسيرات و في المظاهرات و في التّجمّعات  وفي حلقات التّكوين وفي نقل الأحداث وفي الحوارات ... نساء يطلعن من كلّ الأماكن : من الأحياء الشّعبية جميعها و من ملاذات الرّفاه : من الإدارات و المستشفيات ومن المعامل  و عطونة البطالة و من الجامعات – المعاهد – مدارس الصّغار ... نساء متطوّعات لا يرعبهنّ لا غاز و لا الخرطوش بل يزهو ببشائر الشّهادة المحتملة جدّا محيّاهم ..تساء يتحدّين التّعب والسّهر يغنّين ويرعين النّاس يعددن لهم ما يشدّ أزرهم ويدفعن الشّباب أن داوموا ولا تتراجعوا ، ويحدثن لدى أهل السّياسة خجلا يصدّ نزوعهم للمراوغة والتّنازل ويمنعنهم من التّفريط ..
يوم 6 أوت ويوم 13 أوت كانا يومي الثّورة الحقّ / يومي نسائنا – بناتنا – أمّهاتنا – حفيداتنا – صديقاتنا – رفيقاتنا – جدّاتنا / يومي المرأة تهلع من دامس ينهال على أبنائها – بناتها فتنقضّ عليه زاهية – جميلة – بألوان الوطن – صادحة – غير مبالية بالضّباع /  يومي التّصدّي والتحدّي من قبل من يحسبونهنّ جنسا ضعيفا وهنّ القوّة – الإبداع – الولادة – العطاء – الوفاء – المكابدة ...
حًصُلً الفرز واندلع الضّياء و غدا الدّرب سالكا .
نساؤهم متاع – نكاح جهاد – ببّغاوات يردّدن ما يهمس به إليهنّ – عورات يعيّرن بذلك – لا طعم / لا رائحة / لا لون ... و رجالهم بغي و تسلّط و طمع وعمى البصيرة و تيه خارج الزّمان و التّاريخ ...
ونساؤنا المستقبل يتعالى على الذّبح – يشددن أزرهنّ الواحدة بالأخرى وجماعات جماعات وينبعثن من ترمّلهنّ لبؤات ومن تثكّلهنّ مجاهدات ، ورجالنا تعلّقت هممهم  بمواطنتهم وإنسانيّتهم وتحرّروا يتعلّمون من أمّهاتهم / يفخرون بزوجاتهم / يسندون بناتهم / و يتصدّون جنبا  إلى جنب مع أخواتهم ...
هم الأمس السّحيق يريد أن يسحق الآمال و يسدّ باب المصائر و يحول دوننا ودون الشّمس .
ونحن من مجالدة أمّهاتنا جُبِلْنًا ومن توق بناتنا نهلنا وبشموخ أخواتنا انتشينا ومن صبر زوجاتنا استمددنا المداومة وكيف نقاوم مبتسمين ... نحن : نساؤنا ونحن سنصبر عليهم ولن نشدّ حبالهم / لن نجاريهم إلى عنف يعشقونه بل سنطيل حبالهم لا كي نطيل حياتهم بل لتكفيهم لينشنقوا  - لينشنقوا بتكالبهم وتهافتهم وصلفهم وخبثهم ينقلب عليهم  / وسنغضّ الطّرف عنهم ينزاحون الواحد إثر الآخر يعودون إلى مهاجرهم وقد تقوّست ظهورهم بما حملوا من دمنا – حقّنا متاع دنيانا – يندحرون تباعا ويغدون كما هم على حقيقتهم  : عصابة سوء انتشت من سلطة ألقاها مكر الزّمان بين أيديهم : عصابة هدم وشقاء وغدر وتسلّط أهلكها الطّمع ...
سيؤذوننا أكثر وسيلقون شباكا أبشع على غد بناتنا ، أبنائنا ...ولكنّهم حتما سيندحرون ...قريبا جدّا سيندحرون .

الصادق بن مهنّي                                                 19/08/2013

8 mars 2013

يحيا الشباب


مرّة أخرى ،ومرّة ، ومرّة يأتينا الجواب والحلّ و فتح الآفاق من شباب هذا البلد فتيات وفتيانا .
ومرّة أخرى ، ومرّة و مرّة تكون نخبنا عاجزة عن الفهم والإدراك وفالحة في إضاعة الفرص وصمّ الآذان عن هدير التّاريخ ، وتغشى أبصارها فلا تنظر للشّمس بل لخيالها .
شبابنا وشابّاتنا اختبروهم – جرّبوهم – ناوشوهم – تحدّوهم – ناوروهم - داوروهم ،ومثلما فعلوا مع من خلفوه وأداموا عهده وإن باسم مغاير  ، فضحوهم – كشفوهم – عرّوهم – وأفلحوا في استثارتهم بما أبان عن بعدهم الحقّ وأنطقهم بلسانهم الصّحيح وأعطاهم  حجمهم الذي لا حجم لهم سواه ...
انظروهم يهرولون – يتردّدون – يتهافتون – يتكالبون – يجنحون ...انظروهم: وجوههم حقد وضغينة ووعيد – ومنطقهم صلف وتضارب وعتاد المرضى وعنجهيّة الفاشلين وحنق الفزعين وهراء الجهلة – وتصرّفاتهم خيلاءُ الهمّج وصراخُ الحاقدين وتلاعب الحمقى يرون الحمق في غيرهم وهو قد تأصّل فيهم ...
وانظروا نخبنا – معارضتنا – مُعَاضَدَتهم - طبقتنا السّياسية – مستشارينا – مختصّينا – محلّلينا يهابونهم – يخشونهم – يتهافتون على ظلّ كلّ فتات يلوّحون لهم به – يجرون وراء كلّ سراب يبدونه لهم  - لا يرون أبعد من اللّحظة – يستهويهم وهم الأوهام التي يلوّحون لهم بها  - يصمّون آذانهم عن هرطقتهم وسبابهم ووعيدهم بل وحتّى عن تناديهم الذي لا يكفّ إلى العنف والدّم والغياهب – يصمتون على زحفهم المستمرّ على صدورنا \صدور الدّولة والبلد والتّاريخ والحياة\ صدور مستقبلنا وأمسنا ويومنا الذي نفروا  وعده وتوثّب شبابه – لا يرون أو يتعامون على فعالهم – يصفونها بالتّخفّي والتّستّر وهي ظاهرة ، بارزة ومتبجّحة – يفرشون تحت أقدامهم بساطا \ يمدّون إليهم أطواق النّجاة \ يصيّرونهم طالبين وهم المطلوبون \ يرونهم " مفروشين " يرتعدون فيحسبونهم الغالبين ...
انظروا دم الشّهيد رسم معالم الدّرب واتّجاهه ومداه والشّمس في آخره ... انظروا كيف باغتهم الحشد يوم  6 ولكنّهم سرعان ما استعادوا جأشهم وأخلاقهم  الحقّة وهاجموا النّاس \ ضربوا النّساء والأطفال كما في يوم  9 من أفريل \ وأطلقوا الغازات غزيرة وكثيفة على سيّارة إسعاف عزلاء فزعا من شهيد جاءهم قائما حاملا كفّه ماسكا بقبضة زوجه مرفوعا على أسى رفاقه ...
انظروهم وقد سعوا إلى إفساد العرس \ أطلقوا عليه مسعوريهم \ فرّوا من حشده الذي راعهم بل أرعبهم مداه  وأذهلتهم ألوانه وأصواته ، وأقضّ مضاجعهم صداه ...
 اسمعوا شبابنا – فتياتنا – نساءنا – شيوخنا - عجائزنا شخّصوا الفعل \ أشاروا إلى القاتل الحقّ \ رفضوا الدّم \ لم يفكّروا في خوفهم \طوّعوا حزنهم \برّدوا غضبهم وخرجوا هادئين ،واثقين ، مصرّين \ تنادوا إلى الثّبات – المقاومة – رفض الخنوع والخضوع والانجرار إلى أوحال التّدافع الذي يدعون إليه \أشاروا إلى الآثم في صبر وترفّع \ وتماسكوا  متعالين عن الإسفاف وغرائز الثّأر \واستعادوا الشّارع وحناجرهم وإبداعاتهم وثقتهم في الشّمس تنتصر .
واسمعوهم هم يخادعون أنفسهم يتهجّون كلمتي" الشّرعية "و " الشّارع " ،ينبحون \يتصايحون \ لا يقدرون إلّا على ذمم أضاعها الفقر والغباء \يصرفون مالا ليس مالهم ولعابهم ولغتهم "البائتة " للإيحاء بأنّهم "من حديد " و" دائمون " و" ربّانيّون " ومالكوا الحقّ والحقيقة والمطلق والدّين \ ويطلقون على النّاس وعيدهم بالويل والثّبور \ ويقرّون من حيث لا يشعرون أنّهم ليسوا سوى طلّاب سلطة اغتصبوها واستداموها ولا ينوون ، حتى بمجرّد أن يفترضوا ذلك جدلا ، أنّها يوما ستغادرهم ...
 وتساءلوا : هل فعلت نخبنا – طبقتنا السّياسية شيئا ممّا كان مفترضا أنّها تفعله ؟ هل تنادت إلى شعبها – مجتمعها المدني – شبابها – تفرّعاتها ودفعت الأمور إلى الأمام ؟
طبعا لا أعمّم : بعض الشّباب وبعض "جبهة "وبعض أحزاب سعوا ، وتعفّفوا وتمسّكوا بدم الشّهيد ولم يخطئوا معالم الدّرب السّالك وإن شرط العناء والبذل ...

سمعني أقول إنّنا دخلنا في نفق مظلم ...وأنّنا سنعاني ونقاسي ونُطْعَنُ  و نُجْرَحُ ونُقَتّلُ ويجوع شعبنا وتنتهك حرماتنا  ونُخْرَجُ قسرا من الزّمن والتّاريخ و" الهنا " و "الآن "
-         قال : "أنت متشائم"
-         قلت: " لا ...سيدوم الأمر لهم خمسا أو ستّ سنين نخسر ونهان فيها يشنّعون بنا خلالها وتهدّم أثناءها حضارتنا وثقافتنا ومكتسباتنا وحقوقنا وتضرب أعناقنا وأخلاقنا ويسود أيّامها العبث والجهل والعدم والتّبجّح وسرقة حقوق النّاس والرّبّ ...ولكنّنا سنصمد ...ليس أمامنا من خيار غير أن نصمد ...ستصمد نساؤنا ، سيصمد شبابنا ، سيصمد جنوبنا وشمالنا والغرب والشّرق والوسط ، ستصمد الحناجر والأقلام ، سيصمد المسرح والخطّ والرّسم ،سيصمد الفكر ، والتّوق والإباء والعزم الرّاسخ ...ثمّ سيبدأ تسارع هبوطهم الذي بعد قد بدأ... ومن هنا من أرض تونس الرّقص واللّحن الشّذيّ، تونس الوطن الحقّ ، وطن المواطن لا بلد الرّعايا ، وطن الإنسان إنسانا كاملا بشرا كالبشر لا بلد الدّعاة والمدّعين وقاهري النّساء والمفترين على الدّين والمنغلقين على استيهاماتهم و خيالاتهم الباغية ...من هنا من أرض الياسمين والزّيتون والبرتقال والهندي والشّيح والإكليل والزّعتر سينطلق الفصل النّهائيّ بين اليوميّ والمقدّس ، بين الدّين والدّولة ، بين الحكم والدّعوة ، بين الحقّ والباطل ..."
-         قال : " ولماذا نقبل أن نخسر ستّ سنين من عمر وطننا ، بخلاف ما سينجرّ عن هذه الخسارة من تدهور وانحطاط وفساد وإفساد  ، وخراب وعجز ودمار ؟ "
-         أجبت :" لأنّه لا خيار لنا غير ذلك ..علينا أن نصمد ونقاوم حتى ندحرهم ويندحروا "
-         سارع :" ولماذا لا نردّ عليهم خططهم ونعمل بمنهجهم وسلاحهم وتكتيكاتهم ؟ لماذا لا نهاجمهم كما يهاجموننا ؟ ولماذا نتمسّك بالدّعة والسّلام ونتركهم يقتلوننا ؟"
قاطعته :"هذا هو قدرنا ...ثورتنا ثورة هادئة مسالمة ومتحضّرة .وهم أجلاف غلا ظ وذبّاحون ...فلنُطِل عليهم حبالهم : بصبرنا وعزمنا ورفضنا ان نماهيهم ، لنُطِلْ عليهم حبالهم لا كي نطيل حياتهم : فهم أعداء الحياة ، بل لتكفيهم لينشنقوا لينشنقوا بحقدهم وضغينتهم وغيظهم وجهلهم ومعاداتهم للحياة والإنسان والوطن ."
-         قال : " عمّي لو سمحتم  وقبلتم أن نبارزهم فنحن لهم غالبون ...لا يهمّ أنّهم سبقونا إلى العنف وأعدّوا جحافلهم له وراكموا السّلاح من أجله ...جحافلهم مرتزقة ونحن جنود الوطن ...وشتّان بين المرتزقة وبين الذّائدين عن أمّهاتهم وآبائهم وعن الغد ... شتّان بين خفافيش الظّلام والنّعيق والتّعدّي وبين عشّاق الوطن والحياة والشّمس ."
-         أجبت :" لا يا ولدي لن نكون مثلهم ولن نتخلّق بأخلاقهم : سنهزمهم بعزمنا لن تعوزنا التّضحية ولن تخيفنا شرورهم ، لن نردّ بالحقد على حقدهم الأسود ...سنهزمهم بالكلمة والفكرة والإبداع والإصداح والتّظاهر ...وسيهزمهم معنا صلفهم وتعاميهم وخروجهم عن الوطن والتّاريخ ونواميس البشر ..."
-         أصرّ : "نحن هنا ...ونحن ندرك أن لا استجابة لديهم لأهدافنا ، وأن لا قدرة عندهم على تحقيق ما نصبو إليه ... سرقوا ثورتنا وعطّلوا سيرنا إلى النّماء والعدل والحرّيات ...ويمضون قدما في عنفهم ...لكنّنا ندرك أنّنا أبناء وبنات شعب نادى : "ما شئنا لا ما شاءت الأقدار؟ "
-          فمتى يرعوي ساستنا ؟

                                                      الصّادق بن مهنّي

15 févr. 2013

بصيصُ أملٍ في فضاء عَتَمَة


 جريدة «الجزيرة» ـ فيفري 2013

أن تسافر على الطرق الطويلة وأنت تسوق سيّارتك ليس كأن تستقلّ لذلك وسيلة نقل عموميّ: قطارا أو حافلة!وأن تتجوّل في جربة بسيّارة ليس كأن تمشي على الأقدام!قد يبدو التأكيدان أعلاه تكرارا لجمل فارغة أو إعادة مسلّمات. ولكنّني لم أستخدمهما إلاّ لأنّني عشتُ في الأيّام الأخيرة ما جعلاهما يملآن وجداني ويدفعانني إلى أن أقرّر الاعتماد منذ الآن على المشي والوسائل العموميّة للنّقل.في أقلّ من أسبوعيْن سافرت من تونس إلى جربة والعكس ـ وبين جربة والجم ذهابا وإيابا ـ وبين جربة وقابس في الاتّجاهيْن، وتجوّلت على الأقدام في أنحاء عدّة من جربة فاكتشفتُ أنّني في الحافلة أرى ما لا أراه في السيّارة ـ لأنّك تكون أعلى وغير مركّز على السياقة ـ وصحبة أناس عديدين وليسوا ـ ضرورة ـ ممّن أنت متعوّد على صحبتهم. واكتشفتُ أنّني وأنا أمشي أرى ما لا أراه راكبا. لأنّك وأنت تمشي لا تركّز على الطريق إلاّ قليلا بل يسرح نظرك في جميع الاتّجاهات ويمكنك أن تتوقّف لتركّز على مشهد ما أو تغيّر زاوية النّظر وفي وسعك أن تتأمّل...وفي الحافلة كما في حالة المشي يمكن لذاكرتك أن تتفتّق بأكثر يسرـ فتسترجع من خباياها صورا ومشاهدا وأحداثا ـ فتمكن المقارنة ويتيسّر البناء على البناء ـ ويرتبط الأمس باليوم وينفتحان على الغد.في الحافلة عاينتُ ما لم أعاينه من قبل رغم كثرة تنقّلاتي: ما بين البطّاح وقابس أوّلا رأيت بوضوح تصحّر واحاتنا الجميلة ـ تصحّرها من نخلها ونخلها ورمّانها وطوابقها الزراعيّة الثلاثة ونخلها ـ وسطو الرّمل ـ عذرا الاسمنت ـ عليها... رأيت هذا من عرّام حتّى قابس... ولم يخفّف ما أحدثه ذلك في نفسي إلاّ ما رأيته من انبساط الزيتون على تلك المساحات الشاسعة التي كانت من قبل جرداء في «الدّخله» ما بين الجرف وعرّام... كتّانة لم تعد كتّانة... ومارث لم تعد مارث... وطلبلبو لم تعد طبلبو.. ومدخلا قابس من الجنوب ومن الشمال أصبحا ينطقان بالدّمار.زرعوا فأكلنا. ونحن لا نزرع بل ندمّر. ندمّر ونصحّر. بل نحن نفعل أكثر من أن نصحّر. فالتصحّر يُعالج ويُداوى ويمكن أن يُغلب. أمّا الاقتلاع ـ اقتلاع سنين بل عشريات وحتّى قرون من النّماء البطيء لكن المستمرّ ـ وإثقال الأرض ، كاهلها وباطنها، بالإسمنت المسلّح فيعسُر، إن لم يستحل، التدارك معهما.ونقول إنّنا بلد له استراتيجيّة لتهيئة ترابه. ونقول إنّنا بلد له مثال تهيئة عمرانيّة لحوالي 250 بلديّة. ونقول: إنّنا بلد لنا مخطّطات للسياحة وللفلاحة وللصّناعة وللتّعمير وللمناطق الهشّة وللمناطق الحسّاسة و... و... و!!!!ونزعم أنّ ما عملناه لحدّ الآن من فصول الثورة قد حقّق خيرا عميما وأنّنا بدأنا نبني ديمقراطيّة.أديمقراطيّة هذه؟!!! أَ مِنَ الديمقراطييّة أن نبدّد مواردنا الطبيعيّة وتراثنا الذي قدّه أسلافنا الخيّرون من جهدهم وعرقهم وسهرهم وإبداعهم؟! أَ مِنَ الديمقراطيّة ومن علامات الانتقال نحو الافضل أن تعمّ الفوضى والعشوائيّة مدننا وقرانا وأريافنا وأن يغدو معنى الحريّة الأوّل حريّة التبديد والإفساد والتعنّت والفردانيّة وتجاهل الآخر ـ الآخرين وسحق مقدّرات أجيالنا القادمة؟!وما شاهدته في النّواحي التي ذكرتُها آنفا شاهدتُ مثله في محيط صفاقس وبالجمّ... ورأيت أيضا كيف أنّ طرقاتنا تتهرّأ ولا من يهتمّ، وكيف تعمّ الأنقاض والأوساخ والزّبالة والبلاستيك كلّ مشاهدنا!ورأيتُ كيف تهرّأت تلك الواحة التي كانت فاصلا أخضر بين شنتش... النّجاة ـ التي بُنيت في الستّينات على ربوة جرداء بعد أن فاضت قابس المدينة ـ وبين قابس التاريخيّة وأصبحت تحتلّها هي وسبختها ـ بما كانت تعجّ به من حياة ـ مبان لا جماليّة فيها ولا أنغام ولا ميزة ولا خصوصيات، ومنها مبنًى كريه الواجهة يزاحم حتّى الطّوار ضيّق المدخل يشتدّ فيه الزّحام ويُسأل النّاس فيه: «شدّوك سكران؟ وعندك سلاح أبيض؟ علاش سيّبت نعاجك تسرح في غابة النّاس؟ .. إلخ، .. إلخ، .. إلخ.» ثمّ يُسأل فيه شباب تونس التوّاق إلى الشّمس والمتوثّب إلى الأمل الحقّ: «كتبتم على الحيطان؟». ويستوي بذلك ـ بل يُراد أن يستوي ـ من أذنب أو جَنح أو اعتدى أو أجرم ومن عبّر، عبّر، ولم يفعل سوى أن يعبّر!يستوي أو يُراد أن يستويَ، من لعلعه السّكر هربا من هموم الدّنيا فترنّح، ومن أطمعه برسيم أخضر في عام جدب، وشباب الثّورة الذين أطلقوا شعبا كاملا من قمقمه وتصدّوا للطّغيان وما زالوا ولن يزالوا يتصدّون!وأنا أنزل من حافلة ركبتُها فجرا وتعطّلت بعد البطّاح بقليل فذكّرتني بأيّام زمان ـ أيّام الدراسة بقابس وتنقّلاتنا كلّ ثلاثيّ التي كانت مغامرات أو كالمغامرات ـ شعرتُ بفخر إذ رأيت شبابا ـ فتيانا وفتيات ـ يتحدّون المنع والكبت والتسلّط والاستبداد المهين إثر ثورة، ويصدحون بحبّهم لبلادهم وعشقهم لناسهم ويعرّضون ذواتهم ـ ذواتهنّ ليكونوا هم ـ هنّ أيضا «زواوله» كالـ «زواوله» يُسألون أمام محاكم كان من الأجدى والأجدر أن تُسخّر لتبني حرّيتنا ـ كرامتنا ـ عدلنا فتُسائل وتحاسب وتحاكم من ينتظر غالبيّة النّاس أن يُساءلوا ويُحاسبوا ويُحاكموا!أمّا عن المشي فلا تسأل!بدت لي جربة هذه المرّة أكبر من كلّ غزاتها الجدد.زرت شاطئ حومة السّوق وطلب صديق أن يرى مسلّة «برج الرّوس».وكان لنا ذلك... المسلّة ما تزال هنالك وإن أزال حاكم خانع «برج الرّوس» ذاته بإلحاح من غاصب يتوثّب... ولكنّ الرّمز لم يُطمَر والأثر لم يُمحَ والتّاريخ لم يُنسَ...وكما الحال مع «برج الرّوس» الذي كان تعبيرا عن الإرادة والتحدّي والعزم والحزم، والذي دلّل على أنّ الشعب وإن شحّت قدراته قادر على تسخير القدر وتطويعه وصنع المستحيل، تظلّ جربة قادرة اليوم على الحفاظ على الكثير من ثرائها وميزاتها وخصوصياتها وحلاوتها...صحيح أنّ جربة تعاني وتئنّ وتبكي.وأنا أمشي: رأيت أجداث نخل اِقتُلع أو حُرق... في كلّ مكان... ورأيت زيتونا دهريا كم شاهد من غزاة يعبرون يجتثّ عند مداخل ميدون... ورأيت بنايات في وسعها أن تفوز بجوائز «البشاعة» أيّا كانت المعايير... ورأيت أناسا لا يهمّهم إلاّ بطونهم وما يحسبونه رفاههم... ورأيت تكثيفا عمرانيا بالطول والعرض وعموديا سدّ الآفاق وتطاول على التّاريخ وسرق الزّرقة الصّافية...ولكنّني رأيت أناسا ما زالوا يعشقون البساطة والصّفاء والجمال.ورأيت زياتين تصمد بحَبّها الخيّر وحُبّها المضيء وسخائها الأزليّ... ورأيت النّخل يعود من توحّشه الذي صيّره إليه الإهمال فيعطي ويغري...رأيت أناسا يجاهدون ـ يجمعون الزيتون ـ يرعون أراضيهم ـ يحيون منازلهم ـ يعودون إلى عشق شواطئهم المنعزلة و«غاباتهم» التي كانت مهجورة وينظرون بعيون الشفقة إلى كلّ أولئك يتهالكون على الرّبح السّريع أسمنتا و«مناشر» و«نصبات» غزت حتّى ما لا يُغزى...أن تسافر في الحافلة يعني أيضا أن توهب فرصة بل فرصا لتقابل أناسا من كلّ الأعمار وكلّ الجهات وكلّ الخلفيات وكلّ الأفكار والرؤيات والآراء...غير أنّني لن أفصّل في هذا إذ يكفي ما أطلت... فقط أريد أن أقول للثوريين والسّاسة: «سافروا على وسائل النّقل العمومي... وستكتشفون مظاهر وعناصر ومعطيات وناسا لم تكونوا تتوقّعون سبلا إليها وإليهم.»
27 جانفي 2013

يد عون الى ان نمضي قدما

قبل أشهر كنبت أنّ الثّورة تتواصل بين مدّ وجزر وجزر .ولمّا ابتغت الجريدة حذف"جزر" الثّانية تمسّكت بها .وها أنّتي الآن أقول "إنّ الثّورة تستمرّ بين جزر ومدّ ومدّ..."بل وها أنّني أضيف "بل الثّورة أصبحت في مدّ عظيم ، هائل هادر و...ممتدّ."
لاحظوا :قليل هم  أولئك الذين يتسائلون "من القاتل؟"واستمعوا إلى الحناجر الهادرة : حناجر النّساء والبنات  والشّبّان والعجائز والأطفال  والكهول جميعا تعلن من هو القاتل  ، بل من هم القتلة ، وتتحدّى ...
تأمّلوا الصّور والفيديوهات : لا أحد كان يقود ...لا أحد كانت تصدر عنه الشّعارات لوحده ...التّاس جميعا كانوا يبادرون - يعبّرون – يصدحون – يفضحون- يتصدّون- يتعالون على الألم والغضب – ويدعون إلى أن نمضي قدما .
وتأمّلوا صور وفيديوهات وكلمات الطّرف الآخر: هجومات على الجنازة خارج المقبرة وداخلها (وأنا أعتذر هنا لفتى خطفوا هاتفه وحاول التّصدّي وكان شجاعا لكنّهم كانوا كثرا ورموه بالحجارة وهدّدوه بموسى ولم يكن في وسعي أن أنصره ...وعذري أنّني لم أعد في عنفواني وأنّني كنت حينها أحمي آخرين ...حدث ذلك في الطّريق إلى مربّع الشّهداء ) وغازات "تخطئ" طريقها فتتهاطل على الموكب وعلى المستشفى بدل أن تستهدف السّرّاق والمخرّبين ،وسيّارات – كميونات تهرّب المفسدين تسرع فتهدّد المعزّين والمارّة:وأناس "يخشون الله" يسبّون الشّهيد ويلعنون ذكراه ويتبجّحون علنا على الشّاشات وفي الشّوارع أنّهم لا يأسفون لاغتياله ، ووزراء يمتنعون عن الإقرار بشهادة الشّهيد وهو لم ينتظره منهم يوما – وسارقو الدّين  - وآسرو الله – يدّعون أن لا أحد يعرف تعاليمه سواهم – وينسبون له نصرته لهم وليسوا لا رسلا ولا أنبياء ولا حتّى أولياء صالحين ينفثون حقدهم وبغيهم ووعيدهم في كلّ مكان .
لا حاجة لنا أن نعرف من القاتل – القتلة فلقد عرفتهم الحناجر المتعالية على ألمها .
لا حاجة لنا أن نعرف من القاتل – القتلة فهو- هم  قد فضحوا أنفسهم هذا بصمته ،وذاك بصلفه والأخرى بادّعاءاتها وتبجّحها .
لا حاجة لنا أن نعرف من القاتل –القتلة فهو – هم قد أبانوا عن هويّاتهم بصلفهم- ووعيدهم-تهديداتهم  وبعبيدهم الذين سخّروهم – حرّكوهم على الشّبكة يفبركون وقائع مزيّفة ويركّبون الشّهادات المضلّة .
لا حاجة لنا أن نعرف من القاتل – القتلة ، فنحن وهم نعرف من القاتل القتلة وإن لم نعلم من ضغط على الزّرّ.
ولنتأمّل ما حدث وما يحدث ولنستعدّ لما سيحدث .
ارتقوا إلى السّلطة بالانتخابات ... لكنّه كان للانتخابات غاياتها  وكان للمرحلة استحقاقاتها وكان للسّلطات الوقتية إطار محدّد ... وتجاوزت السّلطات الوقتية إطارها المضبوط صلوحيات وأهدافا ، وتعدّت الظّرف الزّمنيّ المقرّر لها . ولم تهتمّ إلّا بغزو أجهزة الدّولة تركّز فيها تابعيها . ولم" تناضل" إلّا من أجل تأبيد بقائها على رأس حكم وإن وهن وتشتّت وغدا عاجزا عن الاستجابة لأبسط أحلام النّاس ولتأمين أدنى حقوقهم في البقاء ...أي أنّ السّلطات المؤقّتة تنكّرت عمليّا وعلى أرض الواقع لأحلام كلّ الذين تمرّدوا – تمرّدن وثاروا – ثرن ، وانقلبت حتّى على من انتخبوها ، وفشلت فشلا ذريعا – وهذا من طبعها وطبيعتها – في أن تصغي لنبض الشّارع ، ولم تتجنّد إلّا للتّرحيب بكلّ من هبّ ودبّ ممّن أنقدونا من مالهم  وكلامهم من المتعجرفين  والمتخلّفين والجهلوت  واللّاهثين شبقا يتستّر بالدّعوة ...
هم لم يخونوا الثّورة وأهداف الثّورة والشّهداء والجرحى . لا ، كلّا ، وألف كلّا . فهم لم يكونوا يوما مع الثّورة  ولا مع أهداف الثّورة وإن ادّعوا ذلك مخاتلة وتغريرا و خداعا .
هم هواة سلطة ... سلطة مطلقة ولم تستهويهم يوما المبادئ  التي توافقت عليها الإنسانية جمعاء وإن هم استمتعوا بغلّاتها .
هم غرباء عن هذا البلد تاريخا وفكرا وحسّا وجغرافية : انظروهم يدرّسون أبناءهم وبناتهم بالغرب الذي يشتمونه ...وانظروهم يؤسّسون الشّركات ويستملكون العقارات هناك ، وتذكّروا: كلّ الفاسدين والطّغاة يسارعون باستملاك عقارات خارج بلدانهم بل ذلك هو أوّل ما يفعلون ... وهؤلاء فعلوا حتّى قبل أن يتربّعوا على العرش...
هم سلاطين وخلفاء و أمراء ونحن في عرفهم رعايا – مسخّرون – أتباع –جواري  سريّات – منقادون – بل متاع .
الصّورة واضحة وجلية : هم قد أدركوا أنّ ما ادّعوه عن تمثيل الشّارع ووقوف النّاس وراءهم ليس إلّا سرابا ...هم تبيّنوا أنّ كلّ الأموال التي يستلفونها على حساب مستقبل أبنائنا لا تكفيهم لحلّ مشاكل النّاس هم فهموا أخيرا أنّ صلفهم وطمعهم ووعيدهم وتباكيهم وادّعاءاتهم هي كلّها تكتيكات غدت فاشلة وعاجزة ...هم قد أدركوا أنّهم لم يعد أمامهم للبقاء على عرش السّلطة إلّا طريق العنف والقمع والقهر والتّقتيل ...
لكنّهم سيكتشفون – وإن بعد أن يكونوا قد أحدثوا دمارا هائلا وجراحا مثخنة – أنّ هذا الشّعب قد تعلّم كيف يتغلّب على خوفه وكيف يغالب وجعه وكيف يروّض القدر ويمضي .
النّاس اختاروا مسارهم ...الجماهير هدرت بأهدافها ...نساؤنا زغردن للشّهيد وزغردن للمستقبل الوضّاء .فهل ستجد الطبقة السّياسية هذه المرّة سبيلها إلى ملاقاة النّاس ومستقبلهم؟               


مقال بجريدة ضد السلطة بتاريخ 16 فيفري 2013

3 févr. 2013

ثور يا صادق ثور

أيّام الدّراسة بالمعهد الثّانوي بقابس – وكنت بيّاتا بالمعهد الفنّي – كنت من أولئك الذين يسهرون طويلا ويعسر عليهم أن ينهضوا باكرا . وكان رفيقي بالمعهد ، ساكن السّرير العلويّ ،على عكسي، ولذلك كان يسعى كلّ صباح لإيقاظي بأن يهزّني هزّا ويناديني : "ثور يا صادق ، ثور ."
وبعد ذلك بسنوات طويلة التقيت رفيقي  - إيّاه- وأنا خارج للتّوّ من جامعة برج الرّومي... عانقني بحرارة وهمس في أذني : " أعتقد أنّ سوء تفاهم قد حصل بيننا ... حين كنت أناديك لأن تثور. لم يكن في خاطري فعل الثّورة بل أن تنهض ... من نومك "
قفزت إلى ذاكرتي هذه "الطّرفة"( ولم تكن طرفة بل واقعة) وأنا في طريقي إلى محاكمة "زواولة"بقابس .
ومعها قفزت كلّ التّساؤلات التي غدوت أسمعها كلّ يوم حتّى أرهقتني بل أنهكتني :" هل أنجزنا ثورة ؟ ألم تكن مجرّد انتفاضة ؟ بل ألم تكن تضافر أفعال أهمّها مؤامرة أو انقلاب ؟ وألم يكن العامل الخارجي هو المحدّد ؟ وألم نكن على حال أحسن من قبل ؟...إلخ"
لن أجيب على هذه التّساؤلات هنا ، بل إنّني سألامس بعضها وأجدّد دعوة رفيقي في الثّانوي: "ألا انهضوا يا شباب تونس واستمرّوا ، استمرّوا فالقمر في متناول أياديكم ." ألا انهضوا  من النّهوض وضدّه القعود ، وليس من نهضة همّها أن تخضعنا للأجداث و"العبابث" والكتب  البالية .ألا ثوروا- ثوروا – ثمّ ثوروا ، واستمرّوا : بدأتم وأفلحتم ، وائتمنتمونا فخذلناكم – لكن الغد - بل اليوم – في أيديكم ،حناجركم ،لوحات حواسيبكم ، تظاهركم،اعتصاماتكم ،أشعاركم ، رسومكم ، مسلسلاتكم المصوّرة ، فديوهاتكم ، قرافيتيكم ، مسرحيّاتكم ، إبداعاتكم وإن حسبها الخاسئون كفرا .ألا تجاوزونا ولا تقدّمونا بل سخّرونا : أنتم النّخبة والحقّ والصّدق والتّطلّع والفلاح ، وأفضل من فينا لا يصلح إلّا أن يكون جنديّا في خدمتكم ... فلتبدعوا ، ولتنتفضوا ولتفاجئونا مرّة أخرى بل مرّات ومرّات ، ولترفضوا نزوعنا إلى الإحباط والتّفلسف المرضيّ  والتشاؤم أو حتّى التّـشاؤل ".
القضية لم تعد قضيّة " شغل  وحرية وكرامة وطنية " فحسب . القضية غدت مسألة بقاء  .والسّؤال المطروح صار ك:هل نحن حقّا جديرون بأن نكون  إنسا كالإنسانية  جمعاء      و مواطنين كاملي المواطنة كما حلمنا ؟
القضية يا بناتي وأخواتي ويا أبنائي وإخوتي يا أيها السّاعون إلى الشّمس والسّاعيات إلى الجنّة الحقّة ، القضية غدت الآن تمسّ كياننا وبقاءنا وجدارتنا بأن ننتمي فعلا إلى الجنس البشريّ ، وأن لا نداس بالنّعال ، وأن لا نهان كلّ يوم ولحظة في بلدنا وأطفالنا وتاريخنا وإرثنا وحقوقنا ، وأن لا نتحوّل جواري– غلمانا – تابعين – عبيدا- سريّات ، وأن لا تكمّم أفواهنا وتقطّع أصابعنا ويقيّدنا هؤلاء القادمون إلينا من قصور أوروبا وبول بعير  الأعراب من خلاف ، وتكسّر أقلامنا وألسنتنا ... القضية أضحت يا أعزّائي  - عزيزاتي أن نحفظ قليلا من ماء وجهنا وأن ننفض عن وطننا هؤلاء الجهلوت – المرضى الخارجين من ظلمات الدّهور المتمترسين وراء الدّولار ...
من قبل كنت ألعن الزّمن والظّروف وقلّة وعيي وخور عزيمتي لأنّني لم أكافح كفاية حتّى تواصل أخواتي كلّهنّ دراستهنّ ... من قبل كنت ألوم نفسي على تقصير إزاء الأخوات – الصّديقات – الرّفيقات - الحبيبات -  زوجتي ، لأنّي لم أعاملهنّ أحيانا ككاملات لا كمكمّلات ...
واليوم ها أنّني أرى كلّما تحقّق يراد هدمه ودحره وطمره ... وأرى صغيرات في عمر الورد المتفتّح يوأدن بالحياة ، في جلابيب حالكة ، يتصيّدهنّ شيوخ الشّبق في سنّ التّاسعة ، ويراد لهنّ أن يكنّ مجرّد خديمات – متع -  خنوعات ... وأرى عسفا وقهرا وقيودا وخسفا وإيذاء ...
أرى أمّي - خالتك - عمّتك – بناتنا  - أخواتكم – زوجاتنا – رفيقات دربكم يرمين في غياهب الجهل والتّحقير ... أرانا نساق جميعا رعايا بلا إرادة ولا قدر ، أرانا نعصر ونؤكل أحياء ...
أفهل هذا قدرنا نحن من هبّ بناتن
ا وأبناؤنا يسخّرون القدر لإرادتهم ؟
ألا ثوروا وتمرّدن والفظوهم وعاندن الزّمن الماكر ... واستمرّوا .

مقال في ضد الشلطة بتاريخ ٢ فيفري 2013 

7 janv. 2013

لا تدعوا جربة تندب حظّها



تستقبلكم جربة بطقس ربيعيّ يتحدّى «دجنبر» ويدعو إلى الشواطئ ونزهات صيد الأسماك... تستهويك غابة «مزراية» منذ ليلتك الأولى بهدوئها وبالضّياء الشفّاف الذي يقهر الفضاءات الفارغة والمسافات فيُظهر الزياتين وأعشاش النّخل التي ما تنفكّ تتباعد نهارا وكأنّها غابة كثيفة متراصّة لكن في كثير من الرّفق... ويلحّ ولدك على أن يسارع بتجربة زورقه المطّاطيّ فتجد في شاطئ سيدي الحشّاني ما يصطادك ويلقي عليك بشباكه فلا تعود تروم انتهاء النّهار: يأسرك بهاء البحر، ويسحرك بياض كثبان الرّمل الفاصل بين الأزرق ـ اللاّزوردي وبين بنيّ السبخاء، وترحل بك الذاكرة إلى أيّام الصّبا وأنت مع شلّة الأقارب والأصدقاء تقدمون سيرا أو على البغال أو الدرّاجات فتقضّون يوميْن أو ثلاثة تتحدّون ما كان يبدو لكم يمّا شديد الخطر وتتعلّمون شيئا من الاعتماد على النّفس فعلى الصّحبة في مأكلكم ومنامكم وفي تعاملكم مع محيط لم تألفوه...
وترتاحون من ضغط الأيّام المتسارعة التي تعيشونها منذ عامين فتتجاهلون التلفاز والمذياع وتغالبون جاذبية الانترنات... غير أنّ الأحداث تشاء غير ما شئتم، فتتسارع وتتكثّف ويبلغكم صداها فلا تستطيعون له صدّا...
هذه جربة الهادئة ـ المضيافة ـ البديعة ـ الوديعة ـ الرّائعة ـ اليسيرة ـ البشيرة ـ الكريمة ـ رحبة الصّدر ـ الوثيرة ـ قبلة الزوار ـ ملجأ الفارّين على مدى التّاريخ والحضن الدافئ للمستضعفين والأقليات والباحثين على الخروج من العوز... هذه جربة تغدو مفازة للغدر والضّنك والضّيم والعنف والعدوان والتجنّي واستعراض القوّة والإفك وتقطيع أوصال الماضي وبتر معالم المستقبل... هذه جربة التي فرحنا لأنّها ظلّت تحافظ على حدّ من جاذبيتها وأفلحت في أن تلفلف تناقضات شاغليها وفردت جناحيها للجميع: من يعتبر نفسه وأهليه متأصّلين، ومن قدموا على امتداد القرنين الماضيين، وحديثو القدوم من الباحثين عن شغل وعن طيب المقام، جربة هذه تتحوّل بين عشيّة وضحاها، بل في أيّام أطول إذا ما نحن لم ننس جهد الإعداد إلى حلبة، إلى مفازة، إلى ساحة وغى: يهجم فيها التونسيّ على أخيه التونسيّ وأخته التونسيّة وعلى أطفال تونس، ويزبد ويرغي ويشتم ويضرب ويكسّر ويتجنّى ويصنع لنفسه بطولات من الافتراء على النّاس ومن المنع والبتر والقمع وتكميم الأفواه وكبت الاختلاف...
هذه جربة التي كانت تتبختر في خيلاء لأنّها بلد المسلم ـ مسلمين، هذا إباضيّ وهذا مالكيّ وهذا حنفيّ وهذا بين هذا وذاك أو بين ذاك والآخر، والآخر آخذ من كلّ شيء بطرف حسب الحاجة والاجتهاد وفي أمان لا يكدّره مكدّر... وبلد اليهوديّ، هذا من الحارة الكبيرة والآخر مختلف عنه بعض شيء إذ هو من ديغت ـ الحارة الصغيرة جارة الغريبة مجمّعة أهل تونس بل أهل المغرب كلّه من القائلين بدين موسى.. وبلد المسيحيّ ـ مسيحيين من أتباع الكاتدرائيّة، ومسيحيين أورثودوكس أجدادهم قدموا من بلاد أثينا أو من صخرة مالطا أو من الباحثين عن الدفء من سكّان أوروبا... جربة هذه تطأطأ برأسها لا حياء بل خجلا وتصيبها الرعدة لا خوفا بل إحساسا بالذّنب وحتّى بالمهانة...
جربة التي لم تعرف المطر هذا العام تتلبّد الأفق فيها حلكةً فيها القتامة وفيها رائحة الدّم...
وتنطلق الأفواه في كلّ مكان لا همسا بل جهارا: هم لم يتظاهروا بل اعتدوا، لم يحتجّوا بل أهانوا وعنّفوا، لم يتصدّوا بل هاجموا وتعدّوا... هم أرهاط قدموا بل جُلبوا من كلّ حدب وصوب... هم خليط من منحرفين وقوّادين و«متشعبطين» ومن قفّافي شُعب العهد الذي انخلع رأسه... لقد شُحنوا وهُيّجوا وجُنّدوا تجنيدا.. منهم بعض أبناء البلد ممّن تخفّوا بعد انخلاع رأسهم وسلكوا المسالك المهجورة هلعا وخوفا وحتّى ينساهم النّاس، وها هم اليوم يطلعون على الملإ حماةً لإرث ليس إرثهم وجنودا في جيش كانوا حاربوه..
ولا يقف حبل الأحاديث والتأكيدات والتوقّعات: الأمن كان غائبا.. عدد رجال الأمن كان دون المطلوب... من رجال الأمن من تواطأ... سبق الهجوم تخطيط محكم.. يوجد مخيّم أقيم في ناحية ما من الجزيرة آوى أناسا اِستُقدموا للحدث وتدرّبوا عليه... الجوامع والمساجد جيّشت النّاس...
سيتكلّم الكثير منّا في المقاهي والمآتم وما تبقّى من أفراح صغيرة وسيكتب بعضُنا على الصفحات الاجتماعيّة، ثمّ سيعود كلّ منّا إلى شؤونه الصّغيرة وينسى أو يتناسى الشأن العام ويبذل الجهد كلّ الجهد ليطرد من ذاكرته ما حدث، وسيعاودنا إغراقنا في الابتذال بحثا عن حليب لا لأنها نحتاجه بل لأنّه شحّ، أو عن «عركة» مع جار لا لأنّه اعتدى علينا بل لنرشّ شيئا من الملح على أيّامنا الباهتة...
ومثلما رأينا الإيطاليين والمالطيين والإغريق يرحلون، ومثلما رأينا أبناء شعبنا من اليهود يقعون في فخاخ الصهيونيّة أو يهاجرون إلى أوروبا بحثا عن حياة أفضل وعن مناعة أطفالهم... ومثلما نرى أباضيينا وغير إباضيينا يُحملون ـ بعضا بعد بعض ـ على الاصطفاف وراء اختيار يدّعي احتكار الحقيقة كلّها بل جوهر الدّين كلّه، سنرى الباقين يُجرّون إلى الدّين الواحد والفكر الواحد والولاء الواحد والخليفة الأوحد، وسيتحوّل فرحنا باكتساب الحقّ في المواطنة واجبا وحقوقا إلى كآبة الإذعان للسلطة الربانيّة التي لا نقاش لأحكام مستبدّيها..
عشّاق جربة يُنشدون دوما ببطولاتها القديمة: وهبت امبراطورا لروما وإن لأيّام قليلة، اِختصّت بصنع صباغ كساء الامبراطور، ظلّت تزوّد تونس كلّها بل وربوعا ومدنا أخرى من المتوسّط بزيت الزيتون حتّى في الحقب التي كادت إفريقية خلالها تنسى زراعة الزيتون، واجهت الغزاة مرّة ومرّة ومرّة وصنعت من جماجم الأعداء برجا سيظلّ التّاريخ يذكره حتّى وقد قُبرت الجماجم والعظام، حافظت على الدّوام على نوع من الاستقلال حتّى متى كانت ضريبة ذلك دفع الجزية والأداءات مضاعفة لتونس والأستانة، انقسمت بين مقاوم للاحتلال وبين مناور براغماتي ثمّ اتّحدت ضدّه، وانقسمت بين بورقيبة وبن يوسف لكنّها سرعان ما تجاوزت، التزمت دوما بحميميّة دنيا ولم تفقد خصوصيّة انغلاق أهل الجزر لكنّها في نفس الآن ومعا عرفت كيف تتفتّح على الدّنيا فأصبحت مقصد السوّاح من كلّ الأصقاع، وقبلة الباحثين عن شغل وكرامة وشيء من بذخ العيش من كلّ جهات تونس... ولكنّ الإنشاد يبدو وكأنّه بلغ مداه، بل منتهاه!
فلقد أصبح من المرجّح والمحتمل جدّا أنّ جربة ستدخل التّاريخ هذه المرّة على أنّها كانت محطّة مفصليّة في بسط نفوذ الاستبداد الجديد... صحيح أنّها لم تعرف سحل تطاوين ولا رشّ سليانة ولا غازات قابس وقفصة! لكنّها كشفت عن تنظيم محكم وتجييش ناجع وحبكة في الإخراج وصلف في المقال وإصرار على المواصلة.
لا تدعوا جربة تندب حظّها! انقذوها بل انقذوا الوطن! كلّ حسب ما هو مؤهّل له، وكلّنا مؤهّلون لفعلٍ ما.

4 janv. 2013

بلد المتوّثبين الى الابهى مقال صادر في ضد السلطة بتاريخ 5 جانفي 2013


كنّا في الصّالة بين الكتب والجرائد والحواسيب والتّلفاز- كلّ منهمك فيما يقرأ وجزء من سمعه يتابع الحوار – العراك...
قالت :"مرّة أخرى يتأكّد أنّ الجواسيس والبوليس السّياسي  و" الصّبّابة " كانوا في كلّ مكان ... ألا ترون كم عرّضنا أنفسنا للأخطار وكم غفلنا ،أحيانا كثيرة ،عن أن نحمي بعضنا بعضا ؟ "
وهي تنضمّ إلينا، على حين غفلة ،علّقت لينا:" بل أعتقد أنّه كان في وسعنا، بل في وسع التّوانسة جميعا ،أن يفعلوا أكثر ممّا فعلوه ،وأن يبدؤوا المقاومة باكرا ، وأن لا يخشوا "الصّبّابة " والمخبرين والقمع بتاتا ... لقد ثبت أنّ كلّ هذه الأجهزة والشّبكات سرعان ما يجرفها التّاريخ بشرط انهيار حاجز الخوف أو تدجين النّاس لخشيتهم وهلعهم ..."
في العدد السّابق من " ضدّ السّلطة " كتبت أنّني  "أرى تونس تُونسيْن  : واحدة تبلع والأخرى تبتلع ."...أنا أعتقد أنّ الأحداث الجارية لا تفعل سوى أن تؤكّد ذلك كلّ يوم بل كلّ ساعة ...كما يخيّل لي أنّ أناسا كثيرين انتبهوا أو استفاقوا أو هم بدؤوا ينتبهون ويستفيقون ...
فلنقل الآن إنّ تونس انشطرت تُونسَيْن : واحدة تَبْلَعُ وتَبْتَلِع، والأخرى تُبْلَعُ وتُبْتَلَعُ،
الأولى تستثري وتستكرش وتنشر حبائلها وشباكها وشبكاتها ، وتستقوي بكلّ ما أوتيت من مناورات ودسائس وتحالفات (حتّى مع الشّيطان بل مع الشّياطين جميعا وأتباع الشّياطين كلّهم )...وهي تكشف كلّ يوم أكثر صلفها وعنجهيّتها واستهتارها...لكنّها تحقّق كلّ يوم تقدّماعلى درب بسط نفوذها المطلق وسلطتها الاستبدادية وتحكّمها الجائر في مصائر الأجيال القادمة وفي رقاب النّاس جميعا .. وهي تفرض في "التّأسيسي" الذي لم تعد له صلة بالتّأسيس الحقّ ، قرارات نهب المال العامّ تعويضات وأجورا خيالية ... وهي تمسك كلّ يوم أكثر بالسّلط جميعها فتحتكرها وتجمّعها وتسخّرها تسخيرا ...وهي تغالط كما شاءت ، وتضرب كما شاءت ،وتدّعي كما شاءت ، وتتعامل كما شاءت ومع من شاءت ...وتطوّع القوانين والشّريعة والأخلاق كما شاءت...
أمّا الثّانية فهي تعاني كلّ يوم أكثر ...وهي تتشظّى وتتباين وتختلف وتتوه وتنساق كلّ يوم أكثر ...هؤلاء تشغلهم الأسعار وتضاؤل الدّخل وشحّ الموادّ (وأغلب الشّحّ مفتعل) ويلهثون وراء شغل أوّل أو ثان أو وراء"تدبير الرّأس"ببيع أو شراء أو حيلة ...وأولئك يتصدّون بإضراب أو اعتصام أو جوع أو مناداة لكنّ مطامحهم تظلّ جزئيّة ومباشرة كما أنّهم يظلّون بعيدا عن إدراك السّائر والصّائر والمتحوّل ...والنّخب السّياسية ما تزال مصدومة من أنّ ما حدث في البلاد حدث  خارج إرادتها وخارج رؤيتها تلهث وراء المسك بخيوط سبقها إلى المسك بها هؤلاء القادمون من فنادق الخليج وإقامات أوروبا حيث استراحوا واستأثروا وتدرّبوا وتحنّكوا ومن معهم من شركاء كانوا مرتاحين في الظّلّ يقبضون الإعانات والهبات وينتظرون ساعتهم ...النّخب السّياسية ما تزال تغازل متنفّذين انزاح الزّمن عنهم وانخلع رأس سلطتهم ومتنفّذين جددا كم خدعهم كلامهم المعسول عن اعتدال تسلّل إليهم ...وقلّة أغلبهم في الجمعيّات واللّجان وينشطون أساسا خارج الأحزاب يجهدون النّفس ليبقوا وليستديموا تونس السّمحة التي صنعوها أيّام ديسمبر 2010 وجانفي وفيفري ومارس وأفريل 2011 ويقاومون ...غير أنّهم لم يعودوا يحلمون بالقمر والضّياء وقوس قزح بل يكتفون بالقليل :أن يبقوا وأن لايضطهدوا وأن لا يهوي بلدهم إلى العتمة ...
فتونس الثّانية إذن تونسان هي أيضا ، بل ثلاث :
- تونس العامّة –الجمهور- المحرومون –الكادّون – الجهات الدّاخلية – طوق المدن – وهؤلاء يلهثون وراء العيش –اكتووا بنار الخيبة –أفرحتهم الهبّة وسرّهم انخلاع رأس السّلطة لكنّهم لم يعودوا يرون آمالهم في طريقها إلى أن تتحقّق ...هؤلاء سيصطفّون أو ينسحبون-  سيهادنون ويشترون أو يخافون – وسيخبو البريق في عيونهم وينعقد العقال مجدّدا حول ألسنتهم ، وبعضهم سينتظرون فرصة أخرى أو وجعا لا يطاق وضيقا يكتم المعدة والأنفاس لينفجروا – لينفجروا كما اتّفق ...
- وتونس الأحزاب والهيئات وأصحاب الاختصاص وذوو المهن الذين ما انفكّوا يناورون ويداورون همّهم الأوّل الاستقرار –استقرار حالهم ، والذين يرفضون أن يروا الواقع والإبداع ...وغالبية منهم ينصبّ همّهم الأوّل على افتعال العلل لتبرير صمتهم ومهادنتهم في الزّمن الماضي لكنّهم لا ينتبهون إلى أنّهم يصمتون ويهادنون ويختلقون لأنفسهم الأعذار في الزّمن الرّديء هذا أيضا .
َ
-وتونس الشّابات والشّبّان الذين أخذتهم النّخوة لأنّهم أبدعوا انتصارا ...ثم كاد يغلبهم الانكسار لأنّ انتصارهم سرعان ما اختلس منهم ...لكنّهم عازمون لم يفلّ فيهم التّخويف ولا التّرهيب ولا ما اعتراهم أحيانا من خيبات وهؤلاء هم الذين سيواجهون البلع والابتلاع ، وسيجرّون تونس معهم تونس وتونس وتونس فيدحرون معا الاستبداد والاستغباء ...وهم لن يكتفوا هذه المرّة بانخلاع رأس النّظام بل لن يهدؤوا إلّا بعد أن يسقط النّظام كلّه ...هؤلاء هم النّاهضون –المتوثُبون دوما إلى الأبهى ...