جريدة المغرب 15 جويلية 2012
ونحن نقترب
من العيد الوطني للمرأة خامرت ذهني وطرقت جوارحي بعض أفكار أردت أن أتوجّه
بها إليكن، علّكن تجدن فيها شيئا من شأنه أن يعطي للعيد بعض ألق ومضاء
أعتقد أن بلادنا أضحت تحتاجه أكيدا.
*أوّلا : أنا ممّن يعتقدون
راسخا أن أصل البلاء-بلاء بلادنا وشعبنا تخلّفا وتمزّقا وشدّا إلى الوراء
وعزوفا عن الانتقال إلى غد أفضل- يكمن في وضع المرأة في مجتمعنا. فمكانة
المرأة عندنا ما تزال دونية بل إنّها تزداد دونية... وفي هذا حيف كبير بل
الحيف كله... فالمرأة دعامة المجتمع : أسرة-وقطاعات مهنية- وقدرة على
اجتراح المستحيل-وتنشئة على الانعتاق والتوثّب... المرأة عندنا أمّ ترضع
من دمها وأخت تضحّي بأحلامها وشريكة درب ترعى من عمرها وصديقات تمنحن من
رخائهن ورفيقات رائعات البذل والتحدّي وعاملات-ممرّضات-طبيبات-
معلّمات-أستاذات-فلاحات –قاضيات-محاميات- موظّفات-باحثات- نساء أعمال
تصنعن الغد ولولاهن لأضحى الحاضر واليوميّ علقما ولانعدَم البقاء... ولكنّ
المرأة رغم ذلك أمّ يحكمها زوج أو ولد، وأخت يهينها أخوها ويتسلّط عليها-
تخدمه فيحكمها وتمنحه فيتسلطن عليها، وشريكة درب تذوب عملا وخدمة خارج
الدّار وفيها فيستأسد عليها بعلها ولا يحسبها إلا مغنما وجارية وخدوما
ومفرغة أدران، وصديقات يأخذ منهن الصّديق ويقتّر عليهنّ وكثيرا ما يحسب
صداقته منّة منه ومزية، ورفيقات كثيرا ما تبقين في الدّرجة الثانية أو
بعدها وما تكنّ زينة وشعارا، وعاملات ممرّضات-طبيبات - معلّمات - أستاذات
- فلاحات - قاضيات - محاميات - موظّفات - باحثات- نساء أعمال يفقن رجالا
كثيرين في أعمالهن ولكنّهن يبقين على الدّوام رائدات-متقدّمات عند الطلب
وعندما يلزم البذل، وآخر الصفّ كلّما تعلّق الأمر بالتّرتيب والتّصنيف
والمجازاة...
وأنا ممن يعتقدون أنّه لولا النّساء لما بلغت بلادنا
ما بلغته اقتصادا واجتماعا وتنمية، ولولا النساء لتدحرجنا أكثر إلى الكتب
الصفراء وغياهب الزمن... ولولا النساء لما انفجر الناس هبّة غالبت الخوف
وسخّرته...
ولأنّني أعتقد ما أعتقده في شأن النساء فإنّني أصدح مع الشاعر والمغنّي : "مستقبل الإنسان عند المرأة ! "
*ثانيا
: كنت من بين الذين نادوا بالتناصف في انتخابات "التأسيسي" ... وكنت أحلم
بمجلس نصفه نساء... وخاب أملي في الصّدد لاعتبارات عدّة : الطريقة التي
ضبطت للانتخابات وسير الانتخابات والنتائج التي انقلبت بالمجلس من التأسيس
إلى التكريس -تكريس هيمنة طرف ومن الوفاق المجتمعي الذي تفرضه المرحلة إلى
إرادة الاستفراد والتطويع والتغوّل وإلى تمشّي إخضاع الدولة مؤسسات وهياكل
وسلطا وإجراءات بدل الجدّ في إرساء مستلزمات الانتقال بالمجتمع من حال إلى
حال عبر أعمال العدالة الانتقالية المسائلة والمقررة للحقيقة والمنفتحة
على الناس والرافضة لمساومات الغرف المغلقة ناشرة الغسيل أمام كل العيون
رانية بذلك إلى التجاوز تحمّل مسؤولية وجبر أضرار واستباق توقِّ...
ثمّ
خاب أملي أكثر بل أصابني-لحين- الإحباط لمّا تابعت بعضا من أشغال اللجان
ومقاطع من بعض من الجلسات العامّة فرأيتُ الثورة تنسى كليّة، وأهدافها
تبدّل بأهداف سواها وهمومها واهتماماتها تطلّق ما صدح به الشهداء والجرحى
والمتظاهرون عامّة من مطالب ومطامح ارتبطت بالعدل والمساواة والتنمية
والكرامة والحريّات وتستخلفها دعاوى تتستّر بالدين وخلافة تستملك الربّ
لها وحدها ووعودا تعلم مسبقا أنّها كاذبة ورغبة جامحة في التسلّط وصلفا
وغرورا واستنقاصا للآخرين وعتمةً.
*ثالثا : رغم أنّني فهمت
مثل كثيرين غيري أنّ تواجد نساء النّهضة في "التأسيسي" هو محض صدفة تمخّض
عنها القانون الانتخابي والاضطرار إلى المداولة بين الجنسين في قائمات
الترشّح والرغبة في تلميع صورة الحركة بتوشيحها بزعم الحداثة والاعتدال،
رغم ذلك فرحت به وقلت في نفسي : تواجد نساء، وإن كان صدفة، لا بدّ أنّه
سيصنع الحدث والمفاجأة ... فالنّساء لا يمكن لهنّ إلا أن يجترحن المستحيل
وأن ينظرن إلى الغد كأمّهات وولاّدات وبصفتهنّ تمسكن بأيديهنّ مستقبل
البشر... والنّساء لا بدّ أن يقدرن كما هو حالهنّ على الدوام على الإيثار
والتحرّر من كلّ انتماء ضيّق وعلى البذل والعطاء بما يبهر... ولكنّني صعقت
بعكس ما انتظرته : رأيت نساء هم أغلبهنّ الأوّل أن يظهرن تمسّكهن
بانتمائهنّ وتوثّبهن الدائم للدّفاع عن أخيهن خصوصا متى كان ظالما أو
تائها أو يخبط خبط عشواء... وسمعت نساء يظهرن حماستهن النهضوية حتّى متى
تعلّق الأمر بما يمسّ بهنّ نساء-أمّهات-مواطنات لا رعايا- أو بمصير البلد
والناس... رأيت نساء لم يستوعبن بعد أن صفتهنّ كنائبات – مؤسسات تمنحهنّ
حقوقا أكبر من حقّ الانتماء لحزب وتكلّفهن بواجبات أوسع من الانقياد
لتعليمات حزب رأيت نساء كأنّهن قبلن بدونيتهن قدرا محتوما والحال أنّ
اللحظة لحظة تسخير للقدر- لحظة تمرّد مطلق- لحظة إعادة صياغة للأشياء
والعلاقات-لحظة تثبّت حتّى في الثوابت - لحظة تحليق نحو الحريّة والبهاء
والإنسانية الحقّ... وبدا لي أن نساء النهضة في "التأسيسي" مازلن يتصرّفن
بمثل ما تصرّفن به من قبل وبسببه وضعت أسماؤهن في القائمات : الوفاء لبعل
أو أخ أو أب أو ابن والمكابدة من أجله...كما قرأت في تصرّف نائبات النهضة
أنّهن لم يعين بعد أن التّاريخ بمكره والثورة بهرطقتها وجنوحها إلى العبث
والمفاجأة والمناورة والتعرجات قد منحاهنّ فرصة عزيزة : فرصة أن يخرجن من
جلدهنّ وعقلهن وجوارحهن كزوجات وأمّهات وبنات، وأن يتصرّفن كإنسيات كاملات
الإنسية مساويات فيها للرجال، وكمواطنات تخلّصن من صفات الرعيّة ومن
موجبات الدّونية وأكسبتهنّ الثورة حقوق المواطنة وواجباتها...
*وإذ
أنا عند هذا الحدّ من التفكير والتأمّل طالعتني على الحاسوب صفحة عن مؤتمر
النهضة الوشيك فوجدت فيها ما لا يستدعي الاستنتاج منه تحليلا. ومنه :
- أن لا نساء بل ولا امرأة حتّى وحيدة بين روّاد الفكر الستّة الذين تقول النهضة أنها تستلهم من مآثرهم،
- أن لا نساء بل ولا امرأة حتّى وحيدة بين من تسمّيهم النهضة أعلامها،
- وأن نسبة تواجد النساء في المؤتمر "تبلغ 15% تقريبا"،
- وأن لا تواجد لنائبات النهضة في التأسيسي في المكتب التنفيذي للحركة ...
وحضرت –على حين غفلة- جلسة لإحدى لجان التأسيسي وهنّ يناقشن ويسألن ويستفهمن ويبلغن... فراعني منهنّ :
-
أنّ مشاركتهن على مدى ستّة أشهر في التأسيس" وتسارع التاريخ في بلادنا منذ
أن الخلع رأس الحكم لم ينعكسا لا على تصرّفهن ولا على كيفية وعيهن
بذواتهنّ فهنّ ما يزلن في مواقع ذكر الماضي (كما هو حينا ومزيّنا مبرقشا
أغلب الأحيان) ومواقع" انصر أخاك ظالما أو مظلوما ! " و"انضبط للأوامر
والتعليمات !" ولا داعي لأنّ تفكّر بعقلك فالقيادة تفكّر بدلك ! و"لا خروج
عن الصف ولو شوية" حتّى في التأسيسي !".
- أنّهن لم يدركن
أنّهن تحقّقت فيهن بعد شروط البلوغ والمسؤولية وأدركن عمر النبوة (حتّى
لمن لم تبلغن بعد سنّ الأربعين إن وجدن !)
- وأن مقاعدهن في
التأسيسي تستوجب منهن تحرير عقولهن وإرادتهن وتفتيق الإبداع فيهنّ وتطليق
الاصطفاف والرضوخ للتعليمات والببغائية وتلزمهم بالنهم إلى المعرفة والتوق
إلى الأوسع والأشمل...
وبطبيعة الحال راودني اليأس وأحاط بي الإحباط
لوهلة عسيرة...لكنّني سرعان ما عدتُ إلى وعيي الأصلي وتفائلي "المتأصّل
وتقديري للنساء جميعا فقلت " : ستحصل مفاجأة بل مفاجآت ! وكتبت هذا
لأناديكن- يا نساء النهضة في التأسيسي- : "هذه فرصة أعطاكن إياها مكر
التاريخ أو سخاؤه وهذا شعبنا ينتظر منكنّ أن تكنّ عند انتظاراته وطموحاته،
وأنتن الآن في وضع فاعلات لا تابعات وفي موقف ولاّدات لا مرضعات، ولكنّ
صفة المواطنة الكاملة بل أنتنّ في طليعة الشعب جميعا بجنسيه وبأنشطته
وأعماره وجهاته المختلفة وبأهوائه أيّا كانت ألوانها... فلتكنّ عند
مسؤوليتكنّ !"
يا نائبات النهضة في "التأسيسي" لتكنّ على عهدكنّ
–ولكن للوطن كلّه وللتونسيات والتونسيين جميعا هذه المرّة-
وفيّات-مساندات-داعمات لآبائكن وأمّهاتكن وإخوتكن وأخواتكنّ وبعولكنّ
جميعا وخصوصا لأبنائكن وبناتكنّ وأحفادكن وحفيداتكنّ جميعا... لتتعالين
ولتكنّ أكبر من حجمكنّ وأفضل من واقعكنّ وأشدّ بأسا وإرادة ولتحلّقن في
فضاءات الحريّة... لتكنّ إنسيات كاملات الإنسانية بحق ومواطنات تفخرن بما
وهبكنّ التاريخ وتسعين لتكنّ عند سخائه."