15 juil. 2012

إلى نساء النهضة في "التأسيسي"

جريدة المغرب 15 جويلية 2012


ونحن نقترب من العيد الوطني للمرأة خامرت ذهني وطرقت جوارحي بعض أفكار أردت أن أتوجّه بها إليكن، علّكن تجدن فيها شيئا من شأنه أن يعطي للعيد بعض ألق ومضاء أعتقد أن بلادنا أضحت تحتاجه أكيدا.
*أوّلا : أنا ممّن يعتقدون راسخا أن أصل البلاء-بلاء بلادنا وشعبنا تخلّفا وتمزّقا وشدّا إلى الوراء وعزوفا عن الانتقال إلى غد أفضل- يكمن في وضع المرأة في مجتمعنا. فمكانة المرأة عندنا ما تزال دونية بل إنّها تزداد دونية... وفي هذا حيف كبير بل الحيف كله... فالمرأة دعامة المجتمع : أسرة-وقطاعات مهنية- وقدرة على اجتراح المستحيل-وتنشئة على الانعتاق والتوثّب... المرأة عندنا أمّ ترضع من دمها وأخت تضحّي بأحلامها وشريكة درب ترعى من عمرها وصديقات تمنحن من رخائهن ورفيقات رائعات البذل والتحدّي وعاملات-ممرّضات-طبيبات- معلّمات-أستاذات-فلاحات –قاضيات-محاميات- موظّفات-باحثات- نساء أعمال تصنعن الغد ولولاهن لأضحى الحاضر واليوميّ علقما ولانعدَم البقاء... ولكنّ المرأة رغم ذلك أمّ يحكمها زوج أو ولد، وأخت يهينها أخوها ويتسلّط عليها- تخدمه فيحكمها وتمنحه فيتسلطن عليها، وشريكة درب تذوب عملا وخدمة خارج الدّار وفيها فيستأسد عليها بعلها ولا يحسبها إلا مغنما وجارية وخدوما ومفرغة أدران، وصديقات يأخذ منهن الصّديق ويقتّر عليهنّ وكثيرا ما يحسب صداقته منّة منه ومزية، ورفيقات كثيرا ما تبقين في الدّرجة الثانية أو بعدها وما تكنّ زينة وشعارا، وعاملات ممرّضات-طبيبات - معلّمات - أستاذات - فلاحات - قاضيات - محاميات - موظّفات - باحثات- نساء أعمال يفقن رجالا كثيرين في أعمالهن ولكنّهن يبقين على الدّوام رائدات-متقدّمات عند الطلب وعندما يلزم البذل، وآخر الصفّ كلّما تعلّق الأمر بالتّرتيب والتّصنيف والمجازاة...
وأنا ممن يعتقدون أنّه لولا النّساء لما بلغت بلادنا ما بلغته اقتصادا واجتماعا وتنمية، ولولا النساء لتدحرجنا أكثر إلى الكتب الصفراء وغياهب الزمن... ولولا النساء لما انفجر الناس هبّة غالبت الخوف وسخّرته...
ولأنّني أعتقد ما أعتقده في شأن النساء فإنّني أصدح مع الشاعر والمغنّي : "مستقبل الإنسان عند المرأة ! "

*ثانيا : كنت من بين الذين نادوا بالتناصف في انتخابات "التأسيسي" ... وكنت أحلم بمجلس نصفه نساء... وخاب أملي في الصّدد لاعتبارات عدّة : الطريقة التي ضبطت للانتخابات وسير الانتخابات والنتائج التي انقلبت بالمجلس من التأسيس إلى التكريس -تكريس هيمنة طرف ومن الوفاق المجتمعي الذي تفرضه المرحلة إلى إرادة الاستفراد والتطويع والتغوّل وإلى تمشّي إخضاع الدولة مؤسسات وهياكل وسلطا وإجراءات بدل الجدّ في إرساء مستلزمات الانتقال بالمجتمع من حال إلى حال عبر أعمال العدالة الانتقالية المسائلة والمقررة للحقيقة والمنفتحة على الناس والرافضة لمساومات الغرف المغلقة ناشرة الغسيل أمام كل العيون رانية بذلك إلى التجاوز تحمّل مسؤولية وجبر أضرار واستباق توقِّ...
ثمّ خاب أملي أكثر بل أصابني-لحين- الإحباط لمّا تابعت بعضا من أشغال اللجان ومقاطع من بعض من الجلسات العامّة فرأيتُ الثورة تنسى كليّة، وأهدافها تبدّل بأهداف سواها وهمومها واهتماماتها تطلّق ما صدح به الشهداء والجرحى والمتظاهرون عامّة من مطالب ومطامح ارتبطت بالعدل والمساواة والتنمية والكرامة والحريّات وتستخلفها دعاوى تتستّر بالدين وخلافة تستملك الربّ لها وحدها ووعودا تعلم مسبقا أنّها كاذبة ورغبة جامحة في التسلّط وصلفا وغرورا واستنقاصا للآخرين وعتمةً.

*ثالثا : رغم أنّني فهمت مثل كثيرين غيري أنّ تواجد نساء النّهضة في "التأسيسي" هو محض صدفة تمخّض عنها القانون الانتخابي والاضطرار إلى المداولة بين الجنسين في قائمات الترشّح والرغبة في تلميع صورة الحركة بتوشيحها بزعم الحداثة والاعتدال، رغم ذلك فرحت به وقلت في نفسي : تواجد نساء، وإن كان صدفة، لا بدّ أنّه سيصنع الحدث والمفاجأة ... فالنّساء لا يمكن لهنّ إلا أن يجترحن المستحيل وأن ينظرن إلى الغد كأمّهات وولاّدات وبصفتهنّ تمسكن بأيديهنّ مستقبل البشر... والنّساء لا بدّ أن يقدرن كما هو حالهنّ على الدوام على الإيثار والتحرّر من كلّ انتماء ضيّق وعلى البذل والعطاء بما يبهر... ولكنّني صعقت بعكس ما انتظرته : رأيت نساء هم أغلبهنّ الأوّل  أن يظهرن تمسّكهن بانتمائهنّ وتوثّبهن الدائم للدّفاع عن أخيهن خصوصا متى كان ظالما أو تائها أو يخبط خبط عشواء... وسمعت نساء يظهرن حماستهن النهضوية حتّى متى تعلّق الأمر بما يمسّ بهنّ نساء-أمّهات-مواطنات لا رعايا- أو بمصير البلد والناس... رأيت نساء لم يستوعبن بعد أن صفتهنّ كنائبات – مؤسسات تمنحهنّ حقوقا أكبر من حقّ الانتماء لحزب وتكلّفهن بواجبات أوسع من الانقياد لتعليمات حزب رأيت نساء كأنّهن قبلن بدونيتهن قدرا محتوما والحال أنّ اللحظة لحظة تسخير للقدر- لحظة تمرّد مطلق- لحظة إعادة صياغة للأشياء والعلاقات-لحظة تثبّت حتّى في الثوابت - لحظة تحليق نحو الحريّة والبهاء والإنسانية الحقّ... وبدا لي أن نساء النهضة في "التأسيسي" مازلن يتصرّفن بمثل ما تصرّفن به من قبل وبسببه وضعت أسماؤهن في القائمات : الوفاء لبعل أو أخ أو أب أو ابن والمكابدة من أجله...كما قرأت في تصرّف نائبات النهضة أنّهن لم يعين بعد أن التّاريخ بمكره والثورة بهرطقتها  وجنوحها إلى العبث والمفاجأة والمناورة والتعرجات قد منحاهنّ فرصة عزيزة : فرصة أن يخرجن من جلدهنّ وعقلهن وجوارحهن كزوجات وأمّهات وبنات، وأن يتصرّفن كإنسيات كاملات الإنسية مساويات فيها للرجال، وكمواطنات تخلّصن من صفات الرعيّة ومن موجبات الدّونية وأكسبتهنّ الثورة حقوق المواطنة وواجباتها...
*وإذ أنا عند هذا الحدّ من التفكير والتأمّل طالعتني على الحاسوب صفحة عن مؤتمر  النهضة الوشيك فوجدت فيها ما لا يستدعي الاستنتاج منه تحليلا. ومنه :
- أن لا نساء بل ولا امرأة حتّى وحيدة بين روّاد الفكر الستّة الذين تقول النهضة أنها تستلهم من مآثرهم،
- أن لا نساء بل ولا امرأة حتّى وحيدة بين من تسمّيهم النهضة أعلامها،
- وأن نسبة تواجد النساء في المؤتمر "تبلغ 15% تقريبا"،
- وأن لا تواجد لنائبات النهضة في التأسيسي في المكتب التنفيذي للحركة ...
وحضرت –على حين غفلة- جلسة لإحدى لجان التأسيسي وهنّ يناقشن ويسألن ويستفهمن ويبلغن... فراعني منهنّ :
-         أنّ مشاركتهن على مدى ستّة أشهر في التأسيس" وتسارع التاريخ في بلادنا منذ أن الخلع رأس الحكم لم ينعكسا لا على تصرّفهن ولا على كيفية وعيهن بذواتهنّ فهنّ ما يزلن في مواقع ذكر الماضي (كما هو حينا ومزيّنا مبرقشا أغلب الأحيان) ومواقع" انصر أخاك ظالما أو مظلوما ! " و"انضبط للأوامر والتعليمات !" ولا داعي لأنّ تفكّر بعقلك فالقيادة تفكّر بدلك ! و"لا خروج عن الصف ولو شوية" حتّى في التأسيسي !".
-         أنّهن لم يدركن أنّهن تحقّقت فيهن بعد شروط البلوغ والمسؤولية وأدركن عمر النبوة (حتّى لمن لم تبلغن بعد سنّ الأربعين إن وجدن !)
-         وأن مقاعدهن في التأسيسي تستوجب منهن تحرير عقولهن وإرادتهن وتفتيق  الإبداع فيهنّ وتطليق الاصطفاف والرضوخ للتعليمات والببغائية وتلزمهم بالنهم إلى المعرفة والتوق إلى الأوسع والأشمل...
وبطبيعة الحال راودني اليأس وأحاط بي الإحباط لوهلة عسيرة...لكنّني سرعان ما عدتُ إلى وعيي الأصلي وتفائلي "المتأصّل وتقديري للنساء جميعا فقلت " : ستحصل مفاجأة بل مفاجآت ! وكتبت هذا لأناديكن- يا نساء النهضة في التأسيسي- : "هذه فرصة أعطاكن إياها مكر التاريخ أو سخاؤه وهذا شعبنا ينتظر منكنّ أن تكنّ عند انتظاراته وطموحاته، وأنتن الآن في وضع فاعلات لا تابعات وفي موقف ولاّدات لا مرضعات، ولكنّ صفة المواطنة الكاملة بل أنتنّ في طليعة الشعب جميعا بجنسيه وبأنشطته وأعماره وجهاته المختلفة وبأهوائه أيّا كانت ألوانها... فلتكنّ عند مسؤوليتكنّ !"
يا نائبات النهضة في "التأسيسي" لتكنّ على عهدكنّ –ولكن للوطن كلّه وللتونسيات والتونسيين جميعا هذه المرّة- وفيّات-مساندات-داعمات لآبائكن وأمّهاتكن وإخوتكن وأخواتكنّ وبعولكنّ جميعا وخصوصا لأبنائكن وبناتكنّ وأحفادكن وحفيداتكنّ جميعا... لتتعالين ولتكنّ أكبر من حجمكنّ وأفضل من واقعكنّ وأشدّ بأسا وإرادة ولتحلّقن في فضاءات الحريّة... لتكنّ إنسيات كاملات الإنسانية بحق ومواطنات تفخرن بما وهبكنّ التاريخ وتسعين لتكنّ عند سخائه."

14 juil. 2012

هذه هي المسألة.. كلّ المسألة


      
 موقع جوهرة أف أم جوان 2012

من المغالطات الفظيعة التي يحرص البعض على إشاعتها أنّ شعبنا ينقسم بين مؤمنين متمسّكين بدينهم ولهم أخلاق رفيعة وقيم سامية من جهة، وبين كفار ـ علمانيين ـ ملحدين ـ حداثيين من جهة ثانية.
وتتلوّن هذه المغالطات وتراوغ حتّى ترسخ أكثر وتشيع أزيد، فيتمّ الحديث عن حماة للدّين والمقدّسات ومنادين بالشريعة (بالألف واللام كما لو أنّ الشريعة واحدة وحيدة وما هي كذلك) يقابلهم تابعون للغرب ـ فاقدون للهوية ـ مستهترون... وأحيانا أخرى يتمّ الحديث عن نزهاء ـ مناضلين ـ مؤمنين ـ متمسّكين بالثورة (رغم أنّه من الواضح أنهم لم يصنعوها، على الأقل في تمظهرها الإنفجاري بين 17ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، وقبل ذلك في الحوض المنجمي وفي بنقردان... ولا دليل لديهم يثبت عكس ذلك) يقابلهم أزلام النظام السابق وأيتام فرنسا والغرب ـ اللائكيون...
ويُرمى من هذه المغالطات ـ إضافة الى تحقيق مكاسب انتخابية بالمداورة والمناورة والتظليل والخداع ـ إلى إخفاء حقيقة التناقض الأكبر والجوهري الذي يشقّ شعبنا فعليا وعمليا.
هذا التناقض يواجه بين من يطمحون الى الاستفراد بالسلطة واستبدال ناس بناس واستدامة نظام الحزب الواحد أو الغالب أو المهيمن المالك لوحده للحقيقة والحق المطلقيْن من جهة، وبين المتمسّكين بحقّ كلّ التونسييين في مواطنتهم وفي إنسانيتهم.
فمن الجهة الأولى ينتصب هؤلاء الذين أتتهم السلطة من حيث لا يدرون وبفعل من يعرفون، ولأنهم يعلمون أنهم أبعد ما يكونوا اقتدارا على تحقيق ما نادى به المتمرّدون الثائرون المنفجرون من أهداف اقتصادية واجتماعية وأبعد ما يكونوا فكرا وخيارات عن القبول بأهداف الشباب الثائر ـ المتمرّد ـ الشجاع في الحرّيات واسعة وكاملة: فردية وجماعية فإنهم لا يملكون سوى الشدّ بالنّواجذ على السلطة بتكبيلها واستملاكها واستبعاد الآخرين من مراكزها ومفاصل القرار فيها، وبتسليط الرعب والترهيب والعنف والقمع على من لا يصطفّ معهم... ومعهم يقف في نفس الجهة هؤلاء الذين لا يبحثون إلاّ عن التموقع حيث يتاح لهم أن يخدموا مصالحهم الفئوية والطبقية والشخصية فيناورون ويعارضون ويعاضدون، لكنّهم في حقيقة الأمر وفي خاتمة المطاف ينضمّون الى من في يده السّلطة حتّى وإن بدا في آن ما أنهم لا يشاركونه لا فكره ولا رأيه ولا أعماله...
أمّا في الجهة الثانية فيتموقع جميع من تغويهم الحرية ويرون أنفسهم بشرا كالبشر وأناسا جديرين بكلّ المقوّمات والحقوق والحرّيات والواجبات التي يفرضها عليهم ويؤهّلهم لها انتماؤهم للجنس البشري...
في الصفّ الأول يتدافع كلّ من يرون السلطة سلطانا مطلقا يحكم رعية ليس لها إلاّ أن تواليه وتخضع له وتخدمه... وفي الصفّ الثاني يحتشد جميع من يرغبون في الانتقال من وضعية الرعية الى وضعية المواطنة الحقّة...
في الصف الأول يتعاضد يتدافع ـ يتفاوض ـ يتعامل ـ يتكاتف من يستغفلون الشّعب يتكلّمون باسم الدّين ـ ينصّبون أنفسهم حماة مطلقين وحيدين مستخلفين لرسول الله وللشريعة كما يفهمها دعاتهم وإن رآى دعاة آخرون قراءات سواها... وفي الصف الثاني يقف، لكن في ارتباك واختلاف يفسّرهما قدم القمع والاستعباد والاستبعاد، جميع من حلموا ـ  إبتغوا ـ يحنّون ـ يطمحون  ـ يعزمون على أن يكون مجتمعنا مجتمعا يحكم نفسه حقّا وإن إلى الحدّ المحدود الذي تيسّره آليات الديمقراطية، وإلى أن تكون فئاته ـ طبقاته ـ جهاته ـ جميع ألوان أطيافه وأن يكون كلّ أفراده معنيين بحكم أنفسهم ـ ينعمون بالمواطنة الحقّة، واجبات واستفادة، وتفصل بينهم حين يلزم الفصل وتجمع بينهم حين تلزم الوحدة المبادئ التي     اجترحتها البشرية على امتداد تاريخ مختلف حضاراتها وترجمتها في مواثيق وعهود لم يعد من اللائق والمعقول رفضها تحت أية مسميات وإن تسربلت بالشّرع.
في الجهة الأولى فئات وأحزاب وحركات وأفراد يسعون أو ينزلقون أو يندفعون الى رفض الأخر وإنكار حقّ مخالفهم حتّى في مجرّد الوجود ولا تهمّهم طبيعة الوسائل المستخدمة طالما أنّها تمكّنهم من السلطة ثم تمكّنهم فيها... وفي الجهة الثانية ناس همّهم الأول إنسانيتهم ـ وطنيتهم ـ مواطنتهم ـ توقهم للإبداع والشمس والإنعتاق  من أيّ غلّ وإيمانهم بالانتقال السلس والكيّس إلى قدر جديد بدؤوا برسم عناوينه وعليهم جميعا ومع الآخرين كلّهم أن يضبطوا تفاصيله ومناهجه ودربه وسيرورته المتصاعدة...
في الجهة الأولى يصطفّ أناس همّهم الأول مصالحهم المادية وتمظهرهم ويقبلون بكلّ المخاتلات والتحالفات والتآزرات حتّى أغربها وأقلّها توقّعا ولا يخجلهم أن يكرعوا  من قواميس العهد البائد سبابه وعصيّه ومراوغاته... وقبالتهم في الجهة  الثانية عزّل إلا من أفئدتهم وأحلامهم وصدق إحساسهم يتألمون ويكافحون من أجل أن تكون تونس كجغرافيتها وطبيعتها وتاريخها ثريّة فيها ألوان كثيرة خلاّقة وبديعة.
ولأنّ الحال هي الحال فإنّنا حتّى الساعة لم نصنع شيئا يحقّق الأهداف التي صدحت بها الحناجر ـ أهداف الشغل والمساواة والحرية والكرامة، ولم نحسّ أنّنا بدأنا ننتقل فعلا باتّجاه الديمقراطية: فلا عدالة انتقالية ولا مساءلة ولا محاسبة للفاسدين وممارسي القمع ومكبّلي التنمية وحارمي الجهات والفئات، ولا شفافية في الحكم والقرار والتصرف، ولا سيطرة على الخارجين على القانون عنفا أو جشعا وتكالبا بالسلع الفاسدة والمهرّبة والبناء الفوضوي والتعدّي على حقوق الناس وهيبة الدولة وأملاكها.
ليس صحيحا أنّنا نسير سوية وجميعا باتّجاه تحقيق أهداف الثورة وبناء مجتمع ديمقراطي: بعضنا ما يزال يتمسّك بطموحاته وأحلامه وينشدّ إليها وينشدها وإن بوسائل غير مفيدة أحيانا، وبعضنا الآخر يعدّ العدّة لينقلب على الثورة إن لم يكن قد انقلب بعدّ وليحلّ بدل النظام الجائر نظاما جائرا وبدل الفاسدين فاسدين وبدل القمع قمعا....
ولكن في الجهتين أفرادا قد ينتقلون من جهة إلى الجهة الأخرى....
كما أن المواجهة لم تُحسم بعدُ وإن بدا أنّ السلطان قد اشتدّ عوده وتكاثرت أخطبوطاته... فالثورة قد اندلعت من حيث لم يتوقّع أحد وفي وقت لم ينتظرها فيها أحد أو يكاد.
وفي النّهاية، المسألة، كلّ المسألة: أن نكون مجتمعا مدنيا ومتمدّنا و بشرا ومواطنين كاملي الحقوق والواجبات أو أن لا نكون إلا رعايا يحكمها سلطان  جائر كسابقيه!
الصّادق بن مهنّي
29 جوان 2012

جربة انتهت






جريدة الجزيرة جويلية 2012

ما يلي من كلام ليس تأبينا بل هو إقرار بواقع، واقع أليم لكنّّه واقعُ حالٍ، إقرار مكّنتني منه إقامة دامت حواليْ الأسبوعيْن من شهر جوان  وتخلّلتها جولاتٌ شملت أغلب مناطق الجزيرة الداخليّة منها والساحليّة على السّواء...
أوّل انطباع حصل لي وأنا أصل إلى جربة هو أنّ تحوّلها ـ تغيّرها ـ تبدّلها يتمّ بسرعة صاروخيّة، وأنّ السّيل بلغ الزّبى بل تعدّاها وأنّه لم يعد ثمّة أمل في التّدارك أو قلب السّيرورة أو حتّى مجرّد إيقافها.
الطّرقات ـ أيّا كان مستوى تعبيدها وتهيئتها وأيّا كان ترتيبها ـ في حالة تدهور بيّنة، والطريقان اللذان تُنجز أشغال إعادة تهيئتهما حاليّا ـ بعد توقّف طلبته البلديات وضغط من أجله المجتمع المدني ـ يبدوان عيانا غير قابليْن للاستدامة اعتبارا لطبيعة المواد التي استُعملت ـ مخاتلة وعن غير وجه حقّ ـ في إنشائهما تهيئة وتوسيعا (رمل الطّوابي المزاحة وطين «ظهرة عدلون» المدمّرة)...
النّخيل يتناقص بل تناقص حتّى اختفى كليّة في أنحاء وهو في طريقه إلى الاندثار في أنحاء أخرى، فهو يُقلع أو يُحرق أو يُجتثّ أو يُكسر...
البناء العشوائي يمتدّ في مواقع عدّة على طريق حومة السّوق ـ جرجيس وعلى طريق المطار، وبين المطار وآجيم وفي داخل الحوم... وهو متنوّع ففيه ما يخالف تراتيب التعمير ويحترم تراتيب التهيئة، وفيه ما لا يحترم لا هذه ولا تلك ولكن في النوعيْن رغم ذلك حدّ أدنى قد يدعو إلى غضّ النّظر عنهما، وفيه ما لا يُقبل لا من حيث التهيئة ولا من حيث التّعمير وتراتيبهما ولا من حيث الانعكاسات الوخيمة على البيئة ولا من حيث الذّوق البليد  ولا من حيث إساءته إلى معالم تراثيّة متميّزة جاورها عنتا وغصبا ... ومن هذا البناء العشوائي ما هو بصدد تشكيل مجموعات مساكن متكدّسة على بعضها البعض أغلب الظنّ أنّه ستتحوّل إلى بؤر شبيهة بالأحياء المحرومة المتناثرة بل المتلاصقة حول العاصمة... ولمن يريد التأكّد والمعاينة أشير بزيارة ظهرة سعيد بن صالح بصدغيان (نوعيّة المساكن ـ الانتصاب غير القانوني ـ اغتصاب حرم جامع الوطى وتدمير الجزء السطحيّ منه) وغابة مزراية (في عمومها وحول جامع سيدي زايد اللّوغ) وأطراف قلالة من جميع الجهات وكذلك ما كان يفصل بين ربّانة وسدويكش وأطراف ميدون من جميع الأنحاء...
أمّا ما كان يشكّل عقدا فريدا من الدّرر المتميّزة: جوامع جربة ومساجدها والمعاصر العتيقة تحت الأرضيّة منها وتلك التي خدمت حتّى ستّينات القرن الماضي فهي لم تعد إلاّ أثرا يعسر تبيّن خصوصياته بل أغلب الجوامع قد هيمنت عليها إحداثات جديدة وأغلب المعاصر لم يعد يظهر منها حتّى الأثر... أمّا الأحواش والمنازل فسريعا ما ستغدو آخر وحداتها مجرّد ذكرى في أذهان مهووسين مثلي...
المعالم الأثريّة آيلة إلى الاندثار... ومثلها المشاهد الطبيعيّة المتميّزة (الغابات والحوم التي كان يغلب عليها النّخيل وتلك التي كانت تختلط فيها الأشجار نخيلا وزيتونا وعودا رقيقا وعنبا...
والماء أصبح معضلة: تريد أن تتطهّر فلا تجده وتشرع في الاستحمام فينقطع... والأوساخ في كلّ مكان رغم جهد واضح تبذله النيابات الخصوصيّة للبلديات...
أمّا الاعتداءات على العقارات والأملاك فلقد غدت قاعدة وتعوّد عليها النّاس حتّى قبلوها... وهي قد شملت حتّى ما هو مرسّم ومسجّل فأغلب عمليات المسح والتسجيل فيها نقائص وهنات منها ما هو الخطير... وأنت تلحظها في تلك الطوابي والحدود التي تُقام هنا وهنالك فتجعل عقّارات تجاورها تضحى مكتنفة لا نفاذ إليها بل وتسمع حتّى عن مقابر ومساحات عامّة وأراض عموميّة تمّ الاستيلاء عليها... وتذهب إلى تربللّه فترى الأراضي قد امتدّت حواجزها حتّى الماء واستبطنت حتّى الطرقات والسّباخ ولم تراعِ لا ملكا عموميّا ولا ملكا خاصا... وترى مساكن للطيور المهاجرة قد دمّرت ونباتات نادرة قد حُرقت أو اقتُلعت... ثمّ تذهب إلى الشواطئ فتعلم أنّ بعض المستكرشين والمتنفّذين قد احتلّوا ما تبقّى من فسحات عموميّة لا تصحّ عليها تسميتها ولا تصحّ عليها صبغتها وتقرأ في الجرائد أنّ شاطئا بجربة قد رُتّب مرتبة الرديء جدّا ومنعت السباحة فيه... أمّا المواقع الأثريّة والتاريخيّة فهي تُحفر وتُنهب وتُستملك ويقتلع ما تحت تربتها وتُزرع وتُغرس وتُبنى..
وأمّا النّاس فهم إمّا غافلون أو متغاضون أو مشاركون في الفعل أو لا يهمّهم كلّ ذلك أو ساهون أو غارقون في همومهم وذواتهم وألعاب المقاهي والإساءة إلى بعضهم بعضا...
وأمّا الجمعيات فبعضها معطّل وبعضها قليل الفعل بل وحتّى قليل الكلام أو الكتابة إن لم نقل منعدمهما... وكبراها أصبحت هرمة تعيش على ماضيها لا تراجع نفسها فلا تقوى على التجاوز والتقدّم بل ترفع الشّعارات ذاتها وتحبّر اللّوائح ذاتها وتنادي بالأجندا ذاتها وتعمل بالمناهج ذاتها وتغالط نفسها فتدّعي أنّه ما يزال من الممكن أن ترتّب جربة ضمن التراث العالمي، وبدل أن تقترح ما يمكن تحقيقه كترتيب القلّة القليلة من المعالم التراثيّة والطبيعيّة التي لم يكتسحها الإفساد بعد، ما تزال ترهق مواردها في تشخيصات تقف عند الوصف وتكرّر مداخلاتها وتدور في نفس الحلقة من النّاس مسيّرين وجمهورا...
جربة لم تعد جزيرة الأحلام والسّحر... جربة لم تعد جزيرة الجمال والبهاء... جربة مُسخت...
جربة انتهت!