14 juil. 2012

جربة انتهت






جريدة الجزيرة جويلية 2012

ما يلي من كلام ليس تأبينا بل هو إقرار بواقع، واقع أليم لكنّّه واقعُ حالٍ، إقرار مكّنتني منه إقامة دامت حواليْ الأسبوعيْن من شهر جوان  وتخلّلتها جولاتٌ شملت أغلب مناطق الجزيرة الداخليّة منها والساحليّة على السّواء...
أوّل انطباع حصل لي وأنا أصل إلى جربة هو أنّ تحوّلها ـ تغيّرها ـ تبدّلها يتمّ بسرعة صاروخيّة، وأنّ السّيل بلغ الزّبى بل تعدّاها وأنّه لم يعد ثمّة أمل في التّدارك أو قلب السّيرورة أو حتّى مجرّد إيقافها.
الطّرقات ـ أيّا كان مستوى تعبيدها وتهيئتها وأيّا كان ترتيبها ـ في حالة تدهور بيّنة، والطريقان اللذان تُنجز أشغال إعادة تهيئتهما حاليّا ـ بعد توقّف طلبته البلديات وضغط من أجله المجتمع المدني ـ يبدوان عيانا غير قابليْن للاستدامة اعتبارا لطبيعة المواد التي استُعملت ـ مخاتلة وعن غير وجه حقّ ـ في إنشائهما تهيئة وتوسيعا (رمل الطّوابي المزاحة وطين «ظهرة عدلون» المدمّرة)...
النّخيل يتناقص بل تناقص حتّى اختفى كليّة في أنحاء وهو في طريقه إلى الاندثار في أنحاء أخرى، فهو يُقلع أو يُحرق أو يُجتثّ أو يُكسر...
البناء العشوائي يمتدّ في مواقع عدّة على طريق حومة السّوق ـ جرجيس وعلى طريق المطار، وبين المطار وآجيم وفي داخل الحوم... وهو متنوّع ففيه ما يخالف تراتيب التعمير ويحترم تراتيب التهيئة، وفيه ما لا يحترم لا هذه ولا تلك ولكن في النوعيْن رغم ذلك حدّ أدنى قد يدعو إلى غضّ النّظر عنهما، وفيه ما لا يُقبل لا من حيث التهيئة ولا من حيث التّعمير وتراتيبهما ولا من حيث الانعكاسات الوخيمة على البيئة ولا من حيث الذّوق البليد  ولا من حيث إساءته إلى معالم تراثيّة متميّزة جاورها عنتا وغصبا ... ومن هذا البناء العشوائي ما هو بصدد تشكيل مجموعات مساكن متكدّسة على بعضها البعض أغلب الظنّ أنّه ستتحوّل إلى بؤر شبيهة بالأحياء المحرومة المتناثرة بل المتلاصقة حول العاصمة... ولمن يريد التأكّد والمعاينة أشير بزيارة ظهرة سعيد بن صالح بصدغيان (نوعيّة المساكن ـ الانتصاب غير القانوني ـ اغتصاب حرم جامع الوطى وتدمير الجزء السطحيّ منه) وغابة مزراية (في عمومها وحول جامع سيدي زايد اللّوغ) وأطراف قلالة من جميع الجهات وكذلك ما كان يفصل بين ربّانة وسدويكش وأطراف ميدون من جميع الأنحاء...
أمّا ما كان يشكّل عقدا فريدا من الدّرر المتميّزة: جوامع جربة ومساجدها والمعاصر العتيقة تحت الأرضيّة منها وتلك التي خدمت حتّى ستّينات القرن الماضي فهي لم تعد إلاّ أثرا يعسر تبيّن خصوصياته بل أغلب الجوامع قد هيمنت عليها إحداثات جديدة وأغلب المعاصر لم يعد يظهر منها حتّى الأثر... أمّا الأحواش والمنازل فسريعا ما ستغدو آخر وحداتها مجرّد ذكرى في أذهان مهووسين مثلي...
المعالم الأثريّة آيلة إلى الاندثار... ومثلها المشاهد الطبيعيّة المتميّزة (الغابات والحوم التي كان يغلب عليها النّخيل وتلك التي كانت تختلط فيها الأشجار نخيلا وزيتونا وعودا رقيقا وعنبا...
والماء أصبح معضلة: تريد أن تتطهّر فلا تجده وتشرع في الاستحمام فينقطع... والأوساخ في كلّ مكان رغم جهد واضح تبذله النيابات الخصوصيّة للبلديات...
أمّا الاعتداءات على العقارات والأملاك فلقد غدت قاعدة وتعوّد عليها النّاس حتّى قبلوها... وهي قد شملت حتّى ما هو مرسّم ومسجّل فأغلب عمليات المسح والتسجيل فيها نقائص وهنات منها ما هو الخطير... وأنت تلحظها في تلك الطوابي والحدود التي تُقام هنا وهنالك فتجعل عقّارات تجاورها تضحى مكتنفة لا نفاذ إليها بل وتسمع حتّى عن مقابر ومساحات عامّة وأراض عموميّة تمّ الاستيلاء عليها... وتذهب إلى تربللّه فترى الأراضي قد امتدّت حواجزها حتّى الماء واستبطنت حتّى الطرقات والسّباخ ولم تراعِ لا ملكا عموميّا ولا ملكا خاصا... وترى مساكن للطيور المهاجرة قد دمّرت ونباتات نادرة قد حُرقت أو اقتُلعت... ثمّ تذهب إلى الشواطئ فتعلم أنّ بعض المستكرشين والمتنفّذين قد احتلّوا ما تبقّى من فسحات عموميّة لا تصحّ عليها تسميتها ولا تصحّ عليها صبغتها وتقرأ في الجرائد أنّ شاطئا بجربة قد رُتّب مرتبة الرديء جدّا ومنعت السباحة فيه... أمّا المواقع الأثريّة والتاريخيّة فهي تُحفر وتُنهب وتُستملك ويقتلع ما تحت تربتها وتُزرع وتُغرس وتُبنى..
وأمّا النّاس فهم إمّا غافلون أو متغاضون أو مشاركون في الفعل أو لا يهمّهم كلّ ذلك أو ساهون أو غارقون في همومهم وذواتهم وألعاب المقاهي والإساءة إلى بعضهم بعضا...
وأمّا الجمعيات فبعضها معطّل وبعضها قليل الفعل بل وحتّى قليل الكلام أو الكتابة إن لم نقل منعدمهما... وكبراها أصبحت هرمة تعيش على ماضيها لا تراجع نفسها فلا تقوى على التجاوز والتقدّم بل ترفع الشّعارات ذاتها وتحبّر اللّوائح ذاتها وتنادي بالأجندا ذاتها وتعمل بالمناهج ذاتها وتغالط نفسها فتدّعي أنّه ما يزال من الممكن أن ترتّب جربة ضمن التراث العالمي، وبدل أن تقترح ما يمكن تحقيقه كترتيب القلّة القليلة من المعالم التراثيّة والطبيعيّة التي لم يكتسحها الإفساد بعد، ما تزال ترهق مواردها في تشخيصات تقف عند الوصف وتكرّر مداخلاتها وتدور في نفس الحلقة من النّاس مسيّرين وجمهورا...
جربة لم تعد جزيرة الأحلام والسّحر... جربة لم تعد جزيرة الجمال والبهاء... جربة مُسخت...
جربة انتهت!

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire