30 déc. 2012

يكفينا محاكمات رأي أوقفوا محاكمة أيّوب المسعوي !




بإرادته ,أومحض صدفة,وجد نفسه في "قلب الرحى",في تلك النقطةـالحفرةـ الهوّة التي ينتهي إليها كلّ شيئ,هناك حيث تتلاطم الارادات و النوايا و الرغبات ,هنالك حيث تتشابك المتاعب و المصاعب و المناورات , هنالك  حيث كلّ شيء يهوي الى حلكة ـ يطحن  ـ ينساب منطاعا و حتّى ذليلا ,أو سصهر, أو يلفظ  ـ يطرد يعاقب ـ يلسع ـ يطعن ـ  يدشدش ـ تدقّ عظامه ...باختيار واع أو منقادا لعاطفته الجيّاشة و منصاعا لما حسبه نداء الواجب ,وجد نفسه في حزب أهلكه التسلّل الى العرش منذ خطوته الاولى فتعرّى  ـانكشف  ـ انفضح ـ  تهالك ـ  انشطر  ـ تشظّى  ـ  انقلب على ذاته و خياراته ... انظباطا أو جريا وراء سراب وجد نفسه في القصر مستشارا ـ أو هكذا  قيل له ـ أو خيّل إليه  و هو يحسب نفسه مستش ار  ثورة جدّت  هو يريد دفعها...لم يجد  نفسه  هنالك  عن طمع , أو ليتشعبط  , أو ليعطي  لشخصه  صورة , أو عن هوى للقصور  و " السرايا"  و مصاحبة السلطان ...و لم يربح ماديا من انتقاله من حيث كان يعيش و يعمل الى القصر ... و كان الى ذلك , يعي أنّ القصر  مؤقّت ـ موقّت ... و خسر راحة ـ خسر حضنا دافئا ـ خسر مكاسب  و محيطا  ـ خسر أحلى ما في عمر  رجل :احتضان ولديه  و هدهة الرضيع منهما  رضيعا و بثّ الثقة و الحبّ  و الطماتنينة  في قلب كبيرهما ـ  و هو يرى نفسه لم يعد  محور العالم ـ عالم أهله ...وجد نفسه هنالك و هو يحسب أنّه يغتنم فرصة ليدفع الى أمام و ينصح بما فيه خير لجهات محرومة و لفئات مظلومة قاسمها همومها و خبر أو ضاعها منذ صغره ـ هو ابن عمق الكاف و ابن المدرّس خيّل اليه أنّ باب العرش السماوي انفتح له  فوضعه  جنب عرش السلطة  يسخّر لها معارفه و علومه و حسّه الوطني و عزمه على التوق الى الاجمل  و الابهى و الاعدل ...خيّل إليه أنّه سيسمع و يسال و يدعى كلّ يوم و كلّ ليلة ـ كلّ وهلة  و كلّ لحظة  الى اعمال  فكره  و ابتداع حلول  و اقتراح  بدائل ...و لكنّه سرعان  ما فجع و احبط و خاب و صدم ...غير أنّ شبابه و اندفاعه  و عزمه على أن يكون  " الفتى" كلّما القوم قالوا :: من فتى  جعله لا ينكسر  و لا يهن  و لا يلين ... لذلك  استقال   لمّا بان  بان له أنّ رأيه  لا يبلغ  أو لا يسمع  أو يبلغ  و يسمع و يقنع  و لكنّه لا يراد ...و لذلك لم ينسحب هجرة أو عودة الى حيث  عمله و دراسته  و ذووه  بل قرّر : " أستقيل  و أظلّ هنا ...أظلّ هنا  أخدم شعبي و بلدي  في مواقع أخرى  و بطرق أخرى و بعيدا عن العرش و السلطة بل في موادهتهما ."... لذلك  لم يناور و لم يرتجف  و لم يختر سبيل التقية و التخفّي , بل عبّر  على رؤوس الملإ:  قال ما فكّر  فيه أغلب الناس ,  و صرّح  جهارا و بصوت  مرتفع بما همس به كثيرون , و أبان  و فصّل  و شرح حيث تعمّد  اخرون  الاشارة  و التلميح و الايعاز... و أجلّ  الامر محلّه : تسليم " المحمودي" ليس شـنا  بسيطا , بل هو " زلزال" هزّ البلد كلّه , و كان  من المحتمل  جدّا  أن يعرّض  الشعب  بل شعوب  المنطقة كلّها الى التطاحمن ...تسليم " المجمزدي" لم يحترم فيه الشعب لا في مصالحة الانية  و لا في مقدّرات غده  و لا في إرادته  حتى المحدودة  جدّا  و كما عبّر عنها  " الدستور الصغير" ...و رأى  أنّ  المكلّفين  بالتنفيذ تعملقوا  و قفزوا  على المكلّف  باتخاذ القرار ... بل هم راوغوه و ضلّلوه  و استهانوا به  من حيث  هو المشرف عليه  و اليه يعود  العقد و الحلّ في مثل هذا من الامور ... و  و قال عن بعض المنّفذين أنّهم لم يرعوا  الامانة  و لم يتقيّدوا  بالواجب... و اذ قال ما قال  فانّه لم يرم اثارة  أو تهريجا أو تجييشا ... و لم يتامر ...هو سعى الى ان يكون  جديرا  بمواطنته ,و رغب في  النصح و التنبيه ...ولم يظلم أحدا, و لم يجرّح مؤسسة , و لم يطعن  لا في الظهر و لا وجها لوجه , و لم يهدّد ,ز مارس أجمال ما منحتنا اياه انطلاقة الثورة : حرية التعبير  و مغالبة الخوف , و التعريف بخفايا   أنفسنا , و الاعلان الصريح عن ارائنا , و تصرّفنا من حيث أنّنا شركاء  في البلد و المصير  لا رعايا و قصّر  و تابعون .... و لولا تعنّت  و صلف و عنهجية  و ارادة بيّنة في التسلّط  و الاستبداد  و تكميم الافواه و تلجيم الادمغة  و التعتيم على الافئدة  لاختارت  السلطة  و كتنّفذوها أن تسكت عمّا قاله  أو أن تردّ عليه  ببيان أو توضيح ... و لو كان هدف الذين خرجوا الى الشوارع  و البطاح و الطرقات  وواجهوا الاستبداد  و تجليّات الاستبداد  في قضاء مستقلّ  و شعبيّ قد تحقّق  فعلا أو بدأ ينبني لكان القضاءء قد فتح تحقيقا  و أنصف الشعب  أوّلا  ثمّ كلّ  من من حقّه  أن ينصف : سواء كتان هو , أو من حاكموه ... و لو كنّا فعلا نعيش انتقالا و نبني ديمقراطية و نرسّخ حقوق الانسان  و المواطن  لما كانت  وجدت قصية عدلية  و لما اجتمع  قضاة العسكر  ليتّهموا  " أيوب المسعودي " و يقاصوه و يدينوه ... و لو كان المتربّع على العرش (و لو و هو خاو )لم يفقد بوصلته  و ظلّ يتمسّك  بشيء  من ابجديلت  التعامل  الحسن مع رفاقه و مساعديه  و أصحابه  و المقرّبين منه  حتّى  و هم ينصرفون  عنه لكان  أقنع بعدم  اجراء التتبعات  أو بايقافها... و لكان تضامن مع أيّوب  فحال على الاقلّ دونه  و دون أن يحرم من ملاقاة زوجته و طفليه , فاقنع  بأنّ  الحرمان من حقّ التجوّل  و السفر أمر بالغ الخطورة , و فيه حيف و تشفّ  خصوصا و أنّ لا شيء  في تصرّف أيّوب  يشي بأنّه  ينوي أو حتى يقبل  بالهروب... لو كان  من في القص جدير بالصورة التي يريد أن يسوّقها  عن نفسه  لكان على الأقلّ بادر بجمع  أيّوب باسرته  تضامنا و مازرة  و تميّزا  عن غيره  ممّن يقاسمونه  العرش... و لكان بادر أيضا  بتكليف محامين للدفاع عن أيّوب  على نفقته الخاصّة  و باذن صريح منه ... و لو كان رافعا الشكوى  يرغبان حقّا  في أن يكونا  في مستوى اللحظة  التي يعيشها بلدنا لركانا رفضا  رفع الشكوى , و تجاوزا , و خيّرا  التسامي , و لم يحوّلا  " حالة تعبير عن رأي و موقف " الى قضية  شأن عام  بكلّ الابعاد التي أخذتها ... و لو كان العقل الراجح  هو الذي يحكمنا  و ارادة  البناء  البناء الجماغعي هي التي تقودنا  لما عرفنا قضية  عنوانها : حرمان " أيّوب المسعودي " من حقّه في السفر  و التضييق  عليه كي ينتهي الى السكوت  و الامتناع  تلقائيا  عن التفكير خارج سرب العرش ...أمّا و الحال  أنّنا ما زلنا في بلده تحكمه الرغبة في الهيمنة و الاستبداد  و الاتكاء  على " مقدّسات" أقلّ ما يمكن أن توصف بها أنّها قابلة  للنقاش و اعتماد قوانين هي من صنع الدكتاتورية , و تناسي اللحظة التي نعيشها  و التي تشرّع  للجميع أن ينشد ما يريد  و أن ينادي بما يشاء , و أن يفكّر كما يحلو له , و أن يرى ما يراه , و أن يصرّح  بما يودّ التصريح  به , فانّه ليس من المستغرب  أن يواجه أيّوب  ما يواجهه  و أن يكون من ضحايا  قمع الرأي  و اضطهاد  حرية التعبير , و علامة سيّئة  و مسينة  على هذا الزمن و حكّامه ...هم لم يغفروا له استقالته : فالسابقان أرسيا تقاليد  تحريم الاستقالة.... و هو تكلّم مبينا حيث صمت الاخرون  أو راوغوا ... و هو أظهر لهم  أنّ ولاءه لهم  هو من ولائه لتونس ... و أنّه قبلا  و بعدا , ابن تونس و مواطنها ... و من ثمّة وقف  معهم ... و من حقّه , بالتالي , أن  يتجاوزهم  و ينقدهم  و يختلف معهم و لا يصطفّ معهم ..كفاكم عنتا ... و كفانا ضيما ... لقد سئمنا  المحاكمات الاستثنائية و محاكمة التعبير و الراي .    

الصادق بن مهني


22 déc. 2012

أنشودة حبّ لمسرح الحمراء

 
حلّقت الفراشات, حلّقت العصافير... أشعّت الفراشات أنوارا وألوانا, العصافير غرّدت ـزقزقت ـأنشدت ـ تلراقصت ـ غنّت...
رقصت الأجساد  ـ رقصت الخشبات ـ رقص الديكور ـ رقصت الكراسي...
تفلسف القهر ـ تفلسف الطمع ـ الجشع ـ الطوى  ـ انعدام الشبع ...
كنتُ هنالك ـ كنتَ هنالك ـ كنتِ هنالك ـ كانوا هنالك ـ كنّ هنالك ـ كنّا جميعا نتفلسف ـ نكذب ـ نداهن ـ نراهن ـ نهادن ـ نطمع ـ  ننصاع ـ نتداعى ـ نتداعى ـ ننباع ـ "نطحّن"ـ نتطاحن ـ نهوى ـ نهوي ـ ننقضّ ـ نتناقض ـ يهدّنا الاإحباط ـ نعاود...
نعم رأيتُ الكراسي ترقص ... لكن لم تكن على الرّكح لا فراشات و لا عصافير ! هكضا قالت لي رفيقة زمني .أجبتُ ـ هل أجبتها أم أجبتُني ؟!:ـ رأيت فراشات و عصافير...تألّقت الفراشات و تلألأت...وغنّت العصافير لدرويش و نيرودا و ناظم حكمت  و إليوار ...و أنشدت ديوان الشابي كلّه ...و تذكّرت من نسيناه : المختار اللغماني... و أقسمت معه على انتصار الشمس!
غدا الركح حلبة ,و تجوّلت الحلبة شارعا ـ الشارع الكبير بوسط المدينة ,الشوارع الكبرى بالمدن جميعها...
و انساب ـ انسكب صوتها ـ صوتكَ ـصوتكٍ ـ صوتهم ـ صوتنا من السماء ـ من الأفق ـ من فوق ـ من السماء يدفع الى الخشوع ـمهتمّا ـ مهموما ـ مؤمّلا ـ يترجّى ـ يقرّ ـ يقرّر ـ يأسف ـ يتوعّد ـ يأمل ـ حزينا ـ بهيجاـ مثلَها ـمثلُك ـ مثلكٍ ـ مثلهنّ مثلنا ...لا لم تكن ليلى غائبة:كانت حاضرة  بذلك الصوت ـصوتها...كانت حاضرة بتشاؤمها ـ تشاؤلها ـ تفاؤلها...كانت حاضرة و رأيتها في "قنّون"يراقص ـ يلاعب يهدهد كلامها و ترجّيها...لماذا كان مبدعونا ـ و كسرحيّونا خصوصا ـأقلّ من هادن وداهن و تمطّط و تبنفسج و باع عمره و هواه و قدره؟
وأليس لذلك بالذات كان  مبدعونا و مسرحيونا الضحايا الأوائل للعلم الأسود؟
الشارع الكبير تحوّل الى الرّكح...رأيناه ينبض ـ ينبذـ يتحرّك ـ يتحرّر...رأيناها عيونا ضاحكةوجمالا متوّثبا و حناجرصدّاحة و قبضات رفيقة وألقا متوّثبا وعزما عازما  و انبهارا يبهر...
الشارع الكبير أيّام 14و 15و 16و 17و 18 جانفي بانعتاقه و بغازه و رصاصه و تآمره و انقضاضه و بتحدّيه و تصدّيه و اندفاعه وطفولته...
و القصبةُ...و القادمون سيرا على الأقدام من منزل بوزيّان...النّائمون عند عتبات الحكّام ... المتمرّسون بأحلامهم البسيطة ـ الجميلة - البهيّة...
شارع الجزيرة إستعاد شيئا من بهجته  ـ من ثورته ك تجنّبته مظاهرات جانفي 2011, فانتفض متذكّرا فيفري 1972, وبلطف و تأنّ و تؤدة جذب إليه الشارع ـ كلّ الشوارع و البطاح و استضافها بال"حمراء"لدى طوبال و عز الدين...
يا ليلى صوتكٍ ـ صوتنا ـ خشيتك خشيتنا ـ رجفتك رجفتنا ـ همومك همومنا ـ صبرك صبرنا ـ و انطلاقتك أملنا ...كم أنت حلوة : صوتا يملؤنا...وكم أنت حلوة تلتحفين العلم و تنيرين الشموع و تفتحين المجال لمارسيل في مسرح بوقرنين...و كم أنتـ نحن و أنت تقاومين القدر : تظاهرا و غضبا صدّحا و ابداعا يبدع رفضا  و يفتح الأفق أمامنا واسعا و مغالبة للخبيث يرهقك ولا يهدّك...
أيّها المبدعون و يا مبدعات : رقصنا معكم و بكينا معكم و أشفقنا معكم و تنادينا معكم و ـقسماـ!سننتصر معكم...
شعبنا شعب المستحيل:لا يستحيل عليه الانتصار العصيّ...و لا يستحيل عليه الانكسار ساعة الانتصار ...نعم شعبنا ينكسر  حين يسهل عليه أن لا ينكسر : انظروا حنبعل  يراوح مكانه  تغريه روما  و هو ينتظر !انظروا حنبعل يزرع البلد زيتونا و أخضر ثمّ يصرف أو ينصرف ...انظروا خير الدين يفتح الباب للعصر ثمّ ينباع ـ يبيع و ينصرف...انظروا بن غذاهم انظروا فرحات ...انظروا انكساراتنا بعد جانفي 1978و جانفي 1984, و انظروا من حكمنا بعد انخلاع المنخلع أوّلا و ثانيا و ثالثا, و رابعهم هو الذي لا همّ له إلاّ أن يسدّ الأفق أمام أحلامنا! لكنّ شعبنا  اعتاد الكرّ ـ تربّى على المعاودة ـ كبحره يهدأ لكنّه سرعان ما يعود يثور ـ صبور  لكنّه حين ـ يجدّ الجدّ و يقول القوم  "من فتى"؟ لا يناور بل يستجيب...
غيلانكم غيلان يغلبها " غيلان"...غيلانكم منّا و فينا وسننزعها منّا و فينا...غيلانكم بهجة الأفق ما يزال يسدّه شيء من حلكة و دم سرعان ما سينقشعان...

ملحق: سؤال الى المستبدّ:أسألك .هل تعرف معنى هذا الشعر ـ الكلام ـ الأغنية : "يطير الحمام...يحطّ الحمام"؟
قطعا لا ...و لذلك سيطير الحمام و يحطّ ثمّ يطير و يحطّ و يطير ...و لذلك ستظلّ مستبدّا جهولا حتى...تنخلع
 
 
 
 .    

15 juil. 2012

إلى نساء النهضة في "التأسيسي"

جريدة المغرب 15 جويلية 2012


ونحن نقترب من العيد الوطني للمرأة خامرت ذهني وطرقت جوارحي بعض أفكار أردت أن أتوجّه بها إليكن، علّكن تجدن فيها شيئا من شأنه أن يعطي للعيد بعض ألق ومضاء أعتقد أن بلادنا أضحت تحتاجه أكيدا.
*أوّلا : أنا ممّن يعتقدون راسخا أن أصل البلاء-بلاء بلادنا وشعبنا تخلّفا وتمزّقا وشدّا إلى الوراء وعزوفا عن الانتقال إلى غد أفضل- يكمن في وضع المرأة في مجتمعنا. فمكانة المرأة عندنا ما تزال دونية بل إنّها تزداد دونية... وفي هذا حيف كبير بل الحيف كله... فالمرأة دعامة المجتمع : أسرة-وقطاعات مهنية- وقدرة على اجتراح المستحيل-وتنشئة على الانعتاق والتوثّب... المرأة عندنا أمّ ترضع من دمها وأخت تضحّي بأحلامها وشريكة درب ترعى من عمرها وصديقات تمنحن من رخائهن ورفيقات رائعات البذل والتحدّي وعاملات-ممرّضات-طبيبات- معلّمات-أستاذات-فلاحات –قاضيات-محاميات- موظّفات-باحثات- نساء أعمال تصنعن الغد ولولاهن لأضحى الحاضر واليوميّ علقما ولانعدَم البقاء... ولكنّ المرأة رغم ذلك أمّ يحكمها زوج أو ولد، وأخت يهينها أخوها ويتسلّط عليها- تخدمه فيحكمها وتمنحه فيتسلطن عليها، وشريكة درب تذوب عملا وخدمة خارج الدّار وفيها فيستأسد عليها بعلها ولا يحسبها إلا مغنما وجارية وخدوما ومفرغة أدران، وصديقات يأخذ منهن الصّديق ويقتّر عليهنّ وكثيرا ما يحسب صداقته منّة منه ومزية، ورفيقات كثيرا ما تبقين في الدّرجة الثانية أو بعدها وما تكنّ زينة وشعارا، وعاملات ممرّضات-طبيبات - معلّمات - أستاذات - فلاحات - قاضيات - محاميات - موظّفات - باحثات- نساء أعمال يفقن رجالا كثيرين في أعمالهن ولكنّهن يبقين على الدّوام رائدات-متقدّمات عند الطلب وعندما يلزم البذل، وآخر الصفّ كلّما تعلّق الأمر بالتّرتيب والتّصنيف والمجازاة...
وأنا ممن يعتقدون أنّه لولا النّساء لما بلغت بلادنا ما بلغته اقتصادا واجتماعا وتنمية، ولولا النساء لتدحرجنا أكثر إلى الكتب الصفراء وغياهب الزمن... ولولا النساء لما انفجر الناس هبّة غالبت الخوف وسخّرته...
ولأنّني أعتقد ما أعتقده في شأن النساء فإنّني أصدح مع الشاعر والمغنّي : "مستقبل الإنسان عند المرأة ! "

*ثانيا : كنت من بين الذين نادوا بالتناصف في انتخابات "التأسيسي" ... وكنت أحلم بمجلس نصفه نساء... وخاب أملي في الصّدد لاعتبارات عدّة : الطريقة التي ضبطت للانتخابات وسير الانتخابات والنتائج التي انقلبت بالمجلس من التأسيس إلى التكريس -تكريس هيمنة طرف ومن الوفاق المجتمعي الذي تفرضه المرحلة إلى إرادة الاستفراد والتطويع والتغوّل وإلى تمشّي إخضاع الدولة مؤسسات وهياكل وسلطا وإجراءات بدل الجدّ في إرساء مستلزمات الانتقال بالمجتمع من حال إلى حال عبر أعمال العدالة الانتقالية المسائلة والمقررة للحقيقة والمنفتحة على الناس والرافضة لمساومات الغرف المغلقة ناشرة الغسيل أمام كل العيون رانية بذلك إلى التجاوز تحمّل مسؤولية وجبر أضرار واستباق توقِّ...
ثمّ خاب أملي أكثر بل أصابني-لحين- الإحباط لمّا تابعت بعضا من أشغال اللجان ومقاطع من بعض من الجلسات العامّة فرأيتُ الثورة تنسى كليّة، وأهدافها تبدّل بأهداف سواها وهمومها واهتماماتها تطلّق ما صدح به الشهداء والجرحى والمتظاهرون عامّة من مطالب ومطامح ارتبطت بالعدل والمساواة والتنمية والكرامة والحريّات وتستخلفها دعاوى تتستّر بالدين وخلافة تستملك الربّ لها وحدها ووعودا تعلم مسبقا أنّها كاذبة ورغبة جامحة في التسلّط وصلفا وغرورا واستنقاصا للآخرين وعتمةً.

*ثالثا : رغم أنّني فهمت مثل كثيرين غيري أنّ تواجد نساء النّهضة في "التأسيسي" هو محض صدفة تمخّض عنها القانون الانتخابي والاضطرار إلى المداولة بين الجنسين في قائمات الترشّح والرغبة في تلميع صورة الحركة بتوشيحها بزعم الحداثة والاعتدال، رغم ذلك فرحت به وقلت في نفسي : تواجد نساء، وإن كان صدفة، لا بدّ أنّه سيصنع الحدث والمفاجأة ... فالنّساء لا يمكن لهنّ إلا أن يجترحن المستحيل وأن ينظرن إلى الغد كأمّهات وولاّدات وبصفتهنّ تمسكن بأيديهنّ مستقبل البشر... والنّساء لا بدّ أن يقدرن كما هو حالهنّ على الدوام على الإيثار والتحرّر من كلّ انتماء ضيّق وعلى البذل والعطاء بما يبهر... ولكنّني صعقت بعكس ما انتظرته : رأيت نساء هم أغلبهنّ الأوّل  أن يظهرن تمسّكهن بانتمائهنّ وتوثّبهن الدائم للدّفاع عن أخيهن خصوصا متى كان ظالما أو تائها أو يخبط خبط عشواء... وسمعت نساء يظهرن حماستهن النهضوية حتّى متى تعلّق الأمر بما يمسّ بهنّ نساء-أمّهات-مواطنات لا رعايا- أو بمصير البلد والناس... رأيت نساء لم يستوعبن بعد أن صفتهنّ كنائبات – مؤسسات تمنحهنّ حقوقا أكبر من حقّ الانتماء لحزب وتكلّفهن بواجبات أوسع من الانقياد لتعليمات حزب رأيت نساء كأنّهن قبلن بدونيتهن قدرا محتوما والحال أنّ اللحظة لحظة تسخير للقدر- لحظة تمرّد مطلق- لحظة إعادة صياغة للأشياء والعلاقات-لحظة تثبّت حتّى في الثوابت - لحظة تحليق نحو الحريّة والبهاء والإنسانية الحقّ... وبدا لي أن نساء النهضة في "التأسيسي" مازلن يتصرّفن بمثل ما تصرّفن به من قبل وبسببه وضعت أسماؤهن في القائمات : الوفاء لبعل أو أخ أو أب أو ابن والمكابدة من أجله...كما قرأت في تصرّف نائبات النهضة أنّهن لم يعين بعد أن التّاريخ بمكره والثورة بهرطقتها  وجنوحها إلى العبث والمفاجأة والمناورة والتعرجات قد منحاهنّ فرصة عزيزة : فرصة أن يخرجن من جلدهنّ وعقلهن وجوارحهن كزوجات وأمّهات وبنات، وأن يتصرّفن كإنسيات كاملات الإنسية مساويات فيها للرجال، وكمواطنات تخلّصن من صفات الرعيّة ومن موجبات الدّونية وأكسبتهنّ الثورة حقوق المواطنة وواجباتها...
*وإذ أنا عند هذا الحدّ من التفكير والتأمّل طالعتني على الحاسوب صفحة عن مؤتمر  النهضة الوشيك فوجدت فيها ما لا يستدعي الاستنتاج منه تحليلا. ومنه :
- أن لا نساء بل ولا امرأة حتّى وحيدة بين روّاد الفكر الستّة الذين تقول النهضة أنها تستلهم من مآثرهم،
- أن لا نساء بل ولا امرأة حتّى وحيدة بين من تسمّيهم النهضة أعلامها،
- وأن نسبة تواجد النساء في المؤتمر "تبلغ 15% تقريبا"،
- وأن لا تواجد لنائبات النهضة في التأسيسي في المكتب التنفيذي للحركة ...
وحضرت –على حين غفلة- جلسة لإحدى لجان التأسيسي وهنّ يناقشن ويسألن ويستفهمن ويبلغن... فراعني منهنّ :
-         أنّ مشاركتهن على مدى ستّة أشهر في التأسيس" وتسارع التاريخ في بلادنا منذ أن الخلع رأس الحكم لم ينعكسا لا على تصرّفهن ولا على كيفية وعيهن بذواتهنّ فهنّ ما يزلن في مواقع ذكر الماضي (كما هو حينا ومزيّنا مبرقشا أغلب الأحيان) ومواقع" انصر أخاك ظالما أو مظلوما ! " و"انضبط للأوامر والتعليمات !" ولا داعي لأنّ تفكّر بعقلك فالقيادة تفكّر بدلك ! و"لا خروج عن الصف ولو شوية" حتّى في التأسيسي !".
-         أنّهن لم يدركن أنّهن تحقّقت فيهن بعد شروط البلوغ والمسؤولية وأدركن عمر النبوة (حتّى لمن لم تبلغن بعد سنّ الأربعين إن وجدن !)
-         وأن مقاعدهن في التأسيسي تستوجب منهن تحرير عقولهن وإرادتهن وتفتيق  الإبداع فيهنّ وتطليق الاصطفاف والرضوخ للتعليمات والببغائية وتلزمهم بالنهم إلى المعرفة والتوق إلى الأوسع والأشمل...
وبطبيعة الحال راودني اليأس وأحاط بي الإحباط لوهلة عسيرة...لكنّني سرعان ما عدتُ إلى وعيي الأصلي وتفائلي "المتأصّل وتقديري للنساء جميعا فقلت " : ستحصل مفاجأة بل مفاجآت ! وكتبت هذا لأناديكن- يا نساء النهضة في التأسيسي- : "هذه فرصة أعطاكن إياها مكر التاريخ أو سخاؤه وهذا شعبنا ينتظر منكنّ أن تكنّ عند انتظاراته وطموحاته، وأنتن الآن في وضع فاعلات لا تابعات وفي موقف ولاّدات لا مرضعات، ولكنّ صفة المواطنة الكاملة بل أنتنّ في طليعة الشعب جميعا بجنسيه وبأنشطته وأعماره وجهاته المختلفة وبأهوائه أيّا كانت ألوانها... فلتكنّ عند مسؤوليتكنّ !"
يا نائبات النهضة في "التأسيسي" لتكنّ على عهدكنّ –ولكن للوطن كلّه وللتونسيات والتونسيين جميعا هذه المرّة- وفيّات-مساندات-داعمات لآبائكن وأمّهاتكن وإخوتكن وأخواتكنّ وبعولكنّ جميعا وخصوصا لأبنائكن وبناتكنّ وأحفادكن وحفيداتكنّ جميعا... لتتعالين ولتكنّ أكبر من حجمكنّ وأفضل من واقعكنّ وأشدّ بأسا وإرادة ولتحلّقن في فضاءات الحريّة... لتكنّ إنسيات كاملات الإنسانية بحق ومواطنات تفخرن بما وهبكنّ التاريخ وتسعين لتكنّ عند سخائه."

14 juil. 2012

هذه هي المسألة.. كلّ المسألة


      
 موقع جوهرة أف أم جوان 2012

من المغالطات الفظيعة التي يحرص البعض على إشاعتها أنّ شعبنا ينقسم بين مؤمنين متمسّكين بدينهم ولهم أخلاق رفيعة وقيم سامية من جهة، وبين كفار ـ علمانيين ـ ملحدين ـ حداثيين من جهة ثانية.
وتتلوّن هذه المغالطات وتراوغ حتّى ترسخ أكثر وتشيع أزيد، فيتمّ الحديث عن حماة للدّين والمقدّسات ومنادين بالشريعة (بالألف واللام كما لو أنّ الشريعة واحدة وحيدة وما هي كذلك) يقابلهم تابعون للغرب ـ فاقدون للهوية ـ مستهترون... وأحيانا أخرى يتمّ الحديث عن نزهاء ـ مناضلين ـ مؤمنين ـ متمسّكين بالثورة (رغم أنّه من الواضح أنهم لم يصنعوها، على الأقل في تمظهرها الإنفجاري بين 17ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، وقبل ذلك في الحوض المنجمي وفي بنقردان... ولا دليل لديهم يثبت عكس ذلك) يقابلهم أزلام النظام السابق وأيتام فرنسا والغرب ـ اللائكيون...
ويُرمى من هذه المغالطات ـ إضافة الى تحقيق مكاسب انتخابية بالمداورة والمناورة والتظليل والخداع ـ إلى إخفاء حقيقة التناقض الأكبر والجوهري الذي يشقّ شعبنا فعليا وعمليا.
هذا التناقض يواجه بين من يطمحون الى الاستفراد بالسلطة واستبدال ناس بناس واستدامة نظام الحزب الواحد أو الغالب أو المهيمن المالك لوحده للحقيقة والحق المطلقيْن من جهة، وبين المتمسّكين بحقّ كلّ التونسييين في مواطنتهم وفي إنسانيتهم.
فمن الجهة الأولى ينتصب هؤلاء الذين أتتهم السلطة من حيث لا يدرون وبفعل من يعرفون، ولأنهم يعلمون أنهم أبعد ما يكونوا اقتدارا على تحقيق ما نادى به المتمرّدون الثائرون المنفجرون من أهداف اقتصادية واجتماعية وأبعد ما يكونوا فكرا وخيارات عن القبول بأهداف الشباب الثائر ـ المتمرّد ـ الشجاع في الحرّيات واسعة وكاملة: فردية وجماعية فإنهم لا يملكون سوى الشدّ بالنّواجذ على السلطة بتكبيلها واستملاكها واستبعاد الآخرين من مراكزها ومفاصل القرار فيها، وبتسليط الرعب والترهيب والعنف والقمع على من لا يصطفّ معهم... ومعهم يقف في نفس الجهة هؤلاء الذين لا يبحثون إلاّ عن التموقع حيث يتاح لهم أن يخدموا مصالحهم الفئوية والطبقية والشخصية فيناورون ويعارضون ويعاضدون، لكنّهم في حقيقة الأمر وفي خاتمة المطاف ينضمّون الى من في يده السّلطة حتّى وإن بدا في آن ما أنهم لا يشاركونه لا فكره ولا رأيه ولا أعماله...
أمّا في الجهة الثانية فيتموقع جميع من تغويهم الحرية ويرون أنفسهم بشرا كالبشر وأناسا جديرين بكلّ المقوّمات والحقوق والحرّيات والواجبات التي يفرضها عليهم ويؤهّلهم لها انتماؤهم للجنس البشري...
في الصفّ الأول يتدافع كلّ من يرون السلطة سلطانا مطلقا يحكم رعية ليس لها إلاّ أن تواليه وتخضع له وتخدمه... وفي الصفّ الثاني يحتشد جميع من يرغبون في الانتقال من وضعية الرعية الى وضعية المواطنة الحقّة...
في الصف الأول يتعاضد يتدافع ـ يتفاوض ـ يتعامل ـ يتكاتف من يستغفلون الشّعب يتكلّمون باسم الدّين ـ ينصّبون أنفسهم حماة مطلقين وحيدين مستخلفين لرسول الله وللشريعة كما يفهمها دعاتهم وإن رآى دعاة آخرون قراءات سواها... وفي الصف الثاني يقف، لكن في ارتباك واختلاف يفسّرهما قدم القمع والاستعباد والاستبعاد، جميع من حلموا ـ  إبتغوا ـ يحنّون ـ يطمحون  ـ يعزمون على أن يكون مجتمعنا مجتمعا يحكم نفسه حقّا وإن إلى الحدّ المحدود الذي تيسّره آليات الديمقراطية، وإلى أن تكون فئاته ـ طبقاته ـ جهاته ـ جميع ألوان أطيافه وأن يكون كلّ أفراده معنيين بحكم أنفسهم ـ ينعمون بالمواطنة الحقّة، واجبات واستفادة، وتفصل بينهم حين يلزم الفصل وتجمع بينهم حين تلزم الوحدة المبادئ التي     اجترحتها البشرية على امتداد تاريخ مختلف حضاراتها وترجمتها في مواثيق وعهود لم يعد من اللائق والمعقول رفضها تحت أية مسميات وإن تسربلت بالشّرع.
في الجهة الأولى فئات وأحزاب وحركات وأفراد يسعون أو ينزلقون أو يندفعون الى رفض الأخر وإنكار حقّ مخالفهم حتّى في مجرّد الوجود ولا تهمّهم طبيعة الوسائل المستخدمة طالما أنّها تمكّنهم من السلطة ثم تمكّنهم فيها... وفي الجهة الثانية ناس همّهم الأول إنسانيتهم ـ وطنيتهم ـ مواطنتهم ـ توقهم للإبداع والشمس والإنعتاق  من أيّ غلّ وإيمانهم بالانتقال السلس والكيّس إلى قدر جديد بدؤوا برسم عناوينه وعليهم جميعا ومع الآخرين كلّهم أن يضبطوا تفاصيله ومناهجه ودربه وسيرورته المتصاعدة...
في الجهة الأولى يصطفّ أناس همّهم الأول مصالحهم المادية وتمظهرهم ويقبلون بكلّ المخاتلات والتحالفات والتآزرات حتّى أغربها وأقلّها توقّعا ولا يخجلهم أن يكرعوا  من قواميس العهد البائد سبابه وعصيّه ومراوغاته... وقبالتهم في الجهة  الثانية عزّل إلا من أفئدتهم وأحلامهم وصدق إحساسهم يتألمون ويكافحون من أجل أن تكون تونس كجغرافيتها وطبيعتها وتاريخها ثريّة فيها ألوان كثيرة خلاّقة وبديعة.
ولأنّ الحال هي الحال فإنّنا حتّى الساعة لم نصنع شيئا يحقّق الأهداف التي صدحت بها الحناجر ـ أهداف الشغل والمساواة والحرية والكرامة، ولم نحسّ أنّنا بدأنا ننتقل فعلا باتّجاه الديمقراطية: فلا عدالة انتقالية ولا مساءلة ولا محاسبة للفاسدين وممارسي القمع ومكبّلي التنمية وحارمي الجهات والفئات، ولا شفافية في الحكم والقرار والتصرف، ولا سيطرة على الخارجين على القانون عنفا أو جشعا وتكالبا بالسلع الفاسدة والمهرّبة والبناء الفوضوي والتعدّي على حقوق الناس وهيبة الدولة وأملاكها.
ليس صحيحا أنّنا نسير سوية وجميعا باتّجاه تحقيق أهداف الثورة وبناء مجتمع ديمقراطي: بعضنا ما يزال يتمسّك بطموحاته وأحلامه وينشدّ إليها وينشدها وإن بوسائل غير مفيدة أحيانا، وبعضنا الآخر يعدّ العدّة لينقلب على الثورة إن لم يكن قد انقلب بعدّ وليحلّ بدل النظام الجائر نظاما جائرا وبدل الفاسدين فاسدين وبدل القمع قمعا....
ولكن في الجهتين أفرادا قد ينتقلون من جهة إلى الجهة الأخرى....
كما أن المواجهة لم تُحسم بعدُ وإن بدا أنّ السلطان قد اشتدّ عوده وتكاثرت أخطبوطاته... فالثورة قد اندلعت من حيث لم يتوقّع أحد وفي وقت لم ينتظرها فيها أحد أو يكاد.
وفي النّهاية، المسألة، كلّ المسألة: أن نكون مجتمعا مدنيا ومتمدّنا و بشرا ومواطنين كاملي الحقوق والواجبات أو أن لا نكون إلا رعايا يحكمها سلطان  جائر كسابقيه!
الصّادق بن مهنّي
29 جوان 2012

جربة انتهت






جريدة الجزيرة جويلية 2012

ما يلي من كلام ليس تأبينا بل هو إقرار بواقع، واقع أليم لكنّّه واقعُ حالٍ، إقرار مكّنتني منه إقامة دامت حواليْ الأسبوعيْن من شهر جوان  وتخلّلتها جولاتٌ شملت أغلب مناطق الجزيرة الداخليّة منها والساحليّة على السّواء...
أوّل انطباع حصل لي وأنا أصل إلى جربة هو أنّ تحوّلها ـ تغيّرها ـ تبدّلها يتمّ بسرعة صاروخيّة، وأنّ السّيل بلغ الزّبى بل تعدّاها وأنّه لم يعد ثمّة أمل في التّدارك أو قلب السّيرورة أو حتّى مجرّد إيقافها.
الطّرقات ـ أيّا كان مستوى تعبيدها وتهيئتها وأيّا كان ترتيبها ـ في حالة تدهور بيّنة، والطريقان اللذان تُنجز أشغال إعادة تهيئتهما حاليّا ـ بعد توقّف طلبته البلديات وضغط من أجله المجتمع المدني ـ يبدوان عيانا غير قابليْن للاستدامة اعتبارا لطبيعة المواد التي استُعملت ـ مخاتلة وعن غير وجه حقّ ـ في إنشائهما تهيئة وتوسيعا (رمل الطّوابي المزاحة وطين «ظهرة عدلون» المدمّرة)...
النّخيل يتناقص بل تناقص حتّى اختفى كليّة في أنحاء وهو في طريقه إلى الاندثار في أنحاء أخرى، فهو يُقلع أو يُحرق أو يُجتثّ أو يُكسر...
البناء العشوائي يمتدّ في مواقع عدّة على طريق حومة السّوق ـ جرجيس وعلى طريق المطار، وبين المطار وآجيم وفي داخل الحوم... وهو متنوّع ففيه ما يخالف تراتيب التعمير ويحترم تراتيب التهيئة، وفيه ما لا يحترم لا هذه ولا تلك ولكن في النوعيْن رغم ذلك حدّ أدنى قد يدعو إلى غضّ النّظر عنهما، وفيه ما لا يُقبل لا من حيث التهيئة ولا من حيث التّعمير وتراتيبهما ولا من حيث الانعكاسات الوخيمة على البيئة ولا من حيث الذّوق البليد  ولا من حيث إساءته إلى معالم تراثيّة متميّزة جاورها عنتا وغصبا ... ومن هذا البناء العشوائي ما هو بصدد تشكيل مجموعات مساكن متكدّسة على بعضها البعض أغلب الظنّ أنّه ستتحوّل إلى بؤر شبيهة بالأحياء المحرومة المتناثرة بل المتلاصقة حول العاصمة... ولمن يريد التأكّد والمعاينة أشير بزيارة ظهرة سعيد بن صالح بصدغيان (نوعيّة المساكن ـ الانتصاب غير القانوني ـ اغتصاب حرم جامع الوطى وتدمير الجزء السطحيّ منه) وغابة مزراية (في عمومها وحول جامع سيدي زايد اللّوغ) وأطراف قلالة من جميع الجهات وكذلك ما كان يفصل بين ربّانة وسدويكش وأطراف ميدون من جميع الأنحاء...
أمّا ما كان يشكّل عقدا فريدا من الدّرر المتميّزة: جوامع جربة ومساجدها والمعاصر العتيقة تحت الأرضيّة منها وتلك التي خدمت حتّى ستّينات القرن الماضي فهي لم تعد إلاّ أثرا يعسر تبيّن خصوصياته بل أغلب الجوامع قد هيمنت عليها إحداثات جديدة وأغلب المعاصر لم يعد يظهر منها حتّى الأثر... أمّا الأحواش والمنازل فسريعا ما ستغدو آخر وحداتها مجرّد ذكرى في أذهان مهووسين مثلي...
المعالم الأثريّة آيلة إلى الاندثار... ومثلها المشاهد الطبيعيّة المتميّزة (الغابات والحوم التي كان يغلب عليها النّخيل وتلك التي كانت تختلط فيها الأشجار نخيلا وزيتونا وعودا رقيقا وعنبا...
والماء أصبح معضلة: تريد أن تتطهّر فلا تجده وتشرع في الاستحمام فينقطع... والأوساخ في كلّ مكان رغم جهد واضح تبذله النيابات الخصوصيّة للبلديات...
أمّا الاعتداءات على العقارات والأملاك فلقد غدت قاعدة وتعوّد عليها النّاس حتّى قبلوها... وهي قد شملت حتّى ما هو مرسّم ومسجّل فأغلب عمليات المسح والتسجيل فيها نقائص وهنات منها ما هو الخطير... وأنت تلحظها في تلك الطوابي والحدود التي تُقام هنا وهنالك فتجعل عقّارات تجاورها تضحى مكتنفة لا نفاذ إليها بل وتسمع حتّى عن مقابر ومساحات عامّة وأراض عموميّة تمّ الاستيلاء عليها... وتذهب إلى تربللّه فترى الأراضي قد امتدّت حواجزها حتّى الماء واستبطنت حتّى الطرقات والسّباخ ولم تراعِ لا ملكا عموميّا ولا ملكا خاصا... وترى مساكن للطيور المهاجرة قد دمّرت ونباتات نادرة قد حُرقت أو اقتُلعت... ثمّ تذهب إلى الشواطئ فتعلم أنّ بعض المستكرشين والمتنفّذين قد احتلّوا ما تبقّى من فسحات عموميّة لا تصحّ عليها تسميتها ولا تصحّ عليها صبغتها وتقرأ في الجرائد أنّ شاطئا بجربة قد رُتّب مرتبة الرديء جدّا ومنعت السباحة فيه... أمّا المواقع الأثريّة والتاريخيّة فهي تُحفر وتُنهب وتُستملك ويقتلع ما تحت تربتها وتُزرع وتُغرس وتُبنى..
وأمّا النّاس فهم إمّا غافلون أو متغاضون أو مشاركون في الفعل أو لا يهمّهم كلّ ذلك أو ساهون أو غارقون في همومهم وذواتهم وألعاب المقاهي والإساءة إلى بعضهم بعضا...
وأمّا الجمعيات فبعضها معطّل وبعضها قليل الفعل بل وحتّى قليل الكلام أو الكتابة إن لم نقل منعدمهما... وكبراها أصبحت هرمة تعيش على ماضيها لا تراجع نفسها فلا تقوى على التجاوز والتقدّم بل ترفع الشّعارات ذاتها وتحبّر اللّوائح ذاتها وتنادي بالأجندا ذاتها وتعمل بالمناهج ذاتها وتغالط نفسها فتدّعي أنّه ما يزال من الممكن أن ترتّب جربة ضمن التراث العالمي، وبدل أن تقترح ما يمكن تحقيقه كترتيب القلّة القليلة من المعالم التراثيّة والطبيعيّة التي لم يكتسحها الإفساد بعد، ما تزال ترهق مواردها في تشخيصات تقف عند الوصف وتكرّر مداخلاتها وتدور في نفس الحلقة من النّاس مسيّرين وجمهورا...
جربة لم تعد جزيرة الأحلام والسّحر... جربة لم تعد جزيرة الجمال والبهاء... جربة مُسخت...
جربة انتهت!

24 mai 2012

إنهم يستديمون المقام...إنّهم ينقلبون على مجتمعنا يبدّلون نمط عيشه !

هادنّا، وخنعنا، وبلعنا ألسنتنا أو كدنا، وغدا النصف منّا محسوبا ضمن من أصابهم اختلال نفسيّ أو حتى مسّ من الجنون، وعاشرنا الإحباط حتى خلنا ذلّنا وهواننا قدرا محتوما وفقدنا العزم والأمل...
لكن فتية منّا فاجؤونا إذ هبّوا من حيث لم نكن ندري وفي وقت لم تدركه حساباتنا فانفجروا غضبا هادرا ويأسا تحوّل رغبة في الأمل واستكانة انقلبت إصرارا على الفوز"الآن وهنا"، وصنعوا لنا انطلاقة ثورة صفقّ لها العالم بعضه احتراما ورغبة في الاستفادة، وبعضه مخاتلة وعزما على الاستحواذ...
ولوهلة استعدنا طعم الشّعر وتصالحنا مع الشّابي والحدّاد، وغنّينا لقمر عدنا نغازله، وتعلّقت هممنا بما وراء العرش نسعى إليه، وضحكنا طربا إذ خلنا أنّنا حقيقة طوّعنا القدر فغدا يأتمر بمطامحنا ورأينا الوطن واحدا والشّعب متراصّا وحلم "المساواة والتّنمية والحرّيات" قد استقرّ فعلا لا يتزحزح ولا ينثني...
ثمّ جاءت الأشهر الأخيرة وتبدّل كلّ شيء، تبدّل بعضه بعد بعض، خطوة بعد خطوة، ولكنّه تبدّل بثبات وصفاقة وصلف، وفي شبه غفلة منّا...
غدا الفعل الثّوري ممنوعا ومستهجنا ومقموعا...
وتبدّت السلطة الجديدة لا شيء يميّزها عن سلطة تجرّعنا سمومها لأكثر من نصف قرن وأغلبنا يصفّق أو يستكين حتى انفجرت القدر وخضع القدر...
ورأينا سلطة مؤقّتة ارتقت من أوجاعنا وفعلنا وجراحاتنا، وأردناها سعيا إلى اجتراح جمهورية جديدة ، جمهورية بديلة أساسها العدل والمواطنة والاتّفاق، وهمّها الأول تجاوز إعاقات الماضي وأن نرفع رؤوسنا بين الأمم إلى الأبد، تتحوّل سلطة غرّة مغترّة، متعالية، ينفخ أوداجها الصّلف وتستخرج مفرداتها من الخطب القديمة...رأينا سلطة مؤقتة تستند على القول صباحا مساء بأنها تستمدّ شرعيّتها من الشّعب ومن الانتخاب ومن التّوافق وتعمد صباحا مساء وبين الصباح والمساء وقبل الصباح وبعد المساء إلى الاستخفاف بالشّعب فتحول مجرى الثّورة إلى غير مسار صانعيها، وفي حين يزداد وجع الجرحى والثّكالى، تطعمنا كلّ يوم هويّة،وفتاوى، ودعوات، وكتبا صفراء، وخطبا هوجاء، ولحيّ،      وهدم أضرحة ومقامات، وضرب فنّانين، وقمع فكر... رأينا سلطة اتفقنا على أنّ همّها الأوّل أن تخطّ دستورا ينقلنا من غياهب الماضي المباشر إلى شمس الانعتاق تتغوّل عددا وفعلا، ومثلها في ذلك مثل السّلطة التّي خلناها انخلعت والحال أنّها باقية لم ينخلع منها إلا رأسها بل بعض رأسها، تنادينا إلى الاصطفاف وتمنعنا من شارع حرّره أبناؤنا وبناتنا، وتصفعنا بالكلم السيئ، وتضربنا بهراوات هي وحدها تعلم من يمسكها، وتعجز عن علاج الجرحى لكنها تفلح في تنويع الغازات التّي ترشّنا بها،...رأينا سلطة بزت سابقتها إذ فاقتها سرعة وفلاحا وتهافتا وشدّة في سعيها إلى تدجين الإعلام وتخوين غير المصطفّين وراء عباءاتها وبرانسها وغير المقتنعين بأنهم إنما خرجوا إلى الثّورة والنسائم الطيّبة من إبط راعيها الأكبر، وإذ وزّعت أبواقها بين مغنّ للغرب يطنب في مديح الحرّيات والانتقال وينفتح، وبين لجوج غليظ يتوعّد ويرغي ويزبد، وبين ممسوس بالغفلة والسّهو، وبين من همّه تلميع الصورة ومحو السبورة وتكذيب ما لا يكذّب، وبين من يوزّع البركات ويكفّر ويدعو لهذا بأن" يرضى الله عليه ويرضيه" ولذاك بالثبور والخسران...
 وفي ما توزعنا فئات مختلفة، ومناهج متضاربة، وعروشا متناحرة، وأحزابا لم تفلح في نزع الغشاوة عن بصرها، وإرادات لم تجد الطريق إلى الاتحاد، واتّحادا لا يحثّ الخطو، وفيما غلبنا الإحباط مرّة أخرى وصعقنا بواقع لم نكن نتبيّن تفاصيله، وأصابتنا البهتة ونحن نرى من حميناهم بالأمس وعاضدناهم حين عزّ النصير يكشّرون عن أنيابهم القديمة والجديدة ويعضّوننا نحن، في ما نحن على هذه الحال التي لا نستبين حلّا لاستبدالها، خاتلونا وخدعونا واستباحونا، فهذه أسس الدّولة ينقضّون عليها هدما وتقويضا: التعليم الذّي هو واحد من أسس الجمهورية يخرجونه من كنف الدّولة ويهدونه لعباءات القرون الغابرة، النّظام الصّحّي الذي أضحى مفخرة لنا بجهد وعطاء أبنائنا وبناتنا من كلّ جيل ومن كلّ حدب وصوب يريدون إدخال الفصل بين الجنسين فيه، والقرارات التي لا تدخل ضمن صلوحياتهم الأكيدة تغدو همّهم الأوّل ويتّخذون في شأنها القرار وإن لم يحل  ذلك إلّا للمغالين منهم، والساحات والقرى والمساجد والمعالم تستباح من أرهاط منهم فتفتعل لهم التبريرات ، وفعل الزّجر الذي هو في الجمهورية فعل تستفرد به الدّولة يغدو فعلا مشاعا بين ميليشيات يقصر نظرهم عن تمييزها، وأولويات الناس ذات الصّلة بالشّغل والتّنمية تؤجّل ، والشّفافية التي خلناها مطلبا مشاعا تغدو ترفا فالصفقات تعقد خارج الإجراءات، ومشاريع كبرى تؤكّد رغم أنها في مطبخ المخلوع أعدّت و توهب دون طلبات عطاء، والقروض والهبات يمضى عليها لتصرف على قروض سبقتها ، والشّعب يقسم فئتين: "هؤلاء يذكّروننا بشبابنا فلينتشروا، وأولئك كفرة فليخسؤوا !"، والفاسدون من كلّ لون نهادنهم ونلاطفهم ونريدهم محرّكين للاقتصاد وننسى أنهم من عطّل فعل التنمية ، وفعل الإقصاء نصرّفه وفق ما نشاء للتّهديد مرّة وللتّرغيب مرّة ومرّات لأمر في نفس غير يعقوب، ومؤسّسات الدّولة وإدارتها التي أثبتت الأحداث صلابتها وعطاءها ونجاعتها رغم كلّ ما طالها من تخريب وهوان  نستلّها ونحتلّها ونسلّط عليها الأدعياء والجاهلين وتثبّت في مفاصلها عيوننا والمصطفّين دون عقل ولا شرط، والاقتصاد نتّخذه تعلّة ولا نحرّك ساكنا في شأنه: ليزدد الانتهازيون ثراء، ولتعمّ الفوضى الشّوارع والأرصفة وليغنم المهرّبون من كلّ شيء ولتخسر خزائن الدّولة عوائد التّوريد والتّصدير، وليبن الناس حيثما أرادوا وكيفما شاؤوا، ولتفقد التقاليد والإجراءات هيبتها و مضاءها ، ولتغمرنا القاذورات والفواضل ...
في ما نحن نتجادل وننصاع ونلهث وتتحوّل أنظارنا كيفما شاؤوا، يفكّرون ويخطّطون وينفّذون...ويفلحون فيجثمون على صدر البلاد كلّ يوم بل كلّ ساعة أكثر...
نحن ننتظر الاقتراع الآتي وهم يصنعون المجلس الآتي...المجلس الآتي سينتخب في الأجل والسّاعة التّي يقرّرونها (والسّاعة التّي سيقرّرونها ليست ضرورة السّاعة التّي أعلنوها)، المجلس الآتي سيتشكّل وفقا لمشيئتهم هم وحدهم وسيعمّ لونهم(الأزرق كلون الجنّ أو الأسود كالعتمة التّي يلفّون بها بناتنا)، المجلس الآتي سيكون آخر الأجهزة والمؤسسات التّي سيقبضون عليها، بعد أن استحوذوا على أجهزة الدّولة الواحد تلو الآخر، وبعد أن استمالوا فئات الشّعب الواحدة بعد الأخرى هذه طمعا والأخرى رهبة وثالثة  لقصور ذهني أو خطإ في الحساب والرابعة كسلا...
إنهم لا يستفردون بالسّلطة فحسب، ولا يصنعون لنا استبدادا جديدا فحسب....
بل هم يبدّلون مجتمعنا تبديلا: في نمط تنميته، وفي ثقافته وتقاليده المشاعة، وفي خصوصياته التي راكمتها الأزمنة والحضارات، وفي ألوان أطيافه وتنوّع أحلامه وهواياته، وفي قدرته على التعايش وسعة صدره وتناغمه رغم الاختلاف...
إنهم يبسطون علينا رداء أسود خشنا ثقيلا كذلك الذي يسجنون فيه فلذات أكبادنا، ونداءاتهم ستتكشف الواحد تلو الآخر عن عود إلى المقولات العتيقة وعن طرح لكلّ ما كسبناه من معاني الانتماء إلى البلد مواطنين ذوي حقّ وواجبات وإلى الدنيا بشرا يحقّ لهم أن ينعموا بحقوق الإنسان كما هو هنا على الأرض أيّا كان المقام، والآن في هذا الزّمن بالذات و للجميع لا فرق بين رجل وامرأة وبين جنس وآخر وبين صاحب معتقد ومنتم إلى معتقد سواه...
                                                                             الصادق بن مهني  
                                                                                  21 ماي 2012

29 avr. 2012

في الشارع والشرعية وقنص الثورة

من انتفض فانتهت هبّته بهرب رأس السلطة وتفكك أوصالها ؟
هناك من يتحدّث عن أطراف خارجية وداخلية أوحت بالثورة أو حرّضت عليها أو ساعدتها.  وهناك من يروي قصصا وأساطير عن انقلاب هيئ له وانقلاب انقلب على الانقلاب أو تقاطع معه أو أفسده عن سبق إصرار أو صدفة.
وهناك من يخيّل إليه أن لا شيء حدث بالمرّة... وبعضهم يريد أن يخيّل إلينا أن الفعل فعله حتى وهو لم يشارك فيه، بل وربما عارضه أو لم يعتقد فيه ولم ينضمّ إليه حتى آخر لحظة بل وحتى بعد ذلك ببرهة أو حين أو متّسع وقت...لكن لا احد يستطيع أن ينكر أنّ من انتفض وانتهت هبّته إلى تقطع أوصال السّلطة وتفككك مختلف أحزمتها الرّابطة والواقية والنّاسفة هم الشّبان والشّابات الذين انتهى صبرهم وضاقت عليهم فسحة الأمل الكاذب وانسدّ الأفق أمام أعينهم فلم يعودوا يرون إلا عتمة فيها فقر وجوع و"حقرة" وبهتان وامتهان...لا أحد يستطيع أن لا يعترف أن شابّات تونس وشبّانها الذين وهبوا صدورهم وحناجرهم وأيّامهم للأمل الحقّ فتصدّوا عارين إلاّ من حبالهم الصوتية لجحافل القمع وأبواق العسف ولقنّاصي الأرواح البريئة من المأجورين والطمّاعين والمخدوعين والمصنوعين صنعا للغرض، هم الذين حرّكوا السواكن ونفضوا رماد الذّعر والاستكانة عن نفوس الشّعب عامّة فانضموا إليهم : شباب وشابّات الشّبكة العنكبوتيّة يصنعون صدى ومدّا لهبّتهم وينادون النّاس لنصرتهم، فأصحاب الثّوب الأسود، وكثير من أهل النقابة، ثمّ –شيئا فشيئا- أهل المسرح والفنّ، فطوائف كثيرة من مختلف أصناف المجتمع رأيناهم في القيروان وصفاقس والعاصمة ومدن أخرى عديدة يستعيدون ملكية الشارع ويتوافدون إليه صغارا وكبارا، نساء ورجالا يوحّدهم نبذهم للرّكون وترويضهم للخوف وعزمهم على صنع غد يرضيهم. فالشارع إذا هو الذي كان الفاعل بدءا، وأثناء، وانتهاء-انتهاء فصل وليس نهاية.
الشّارع هو الذي قلب الأوضاع، ولا يهمّ كثيرا إن كانت فواعل أخرى قد يسّرت له ذلك أو سرّعت تعرية السّلطة وانخلاع رأسها وتقطّع أوصالها.>
الشّارع هو الذي صنع يومنا الجديد...وهو أب الشّرعية الجديدة... وهو الذي نحّى السلطة القديمة، أو ما نحّي بعد من السّلطة القديمة: مؤسسات ودستورا انتهك وامتهن، وأجهزة، وأشخاصا فاسدين ومتواطئين ومتورّطين...
الشّارع هو الذي هيّأ للانتخابات، وهو الذي أخلى السجون، وهو الذي قلب الموازين، وأطلق الأقلام والحناجر والتصوير والتعبير... الشارع هو الذي هيّأ الكراسي  والأرائك والنفوذ وفتح أبواب المستقبل واسعة فسيحة أمام انتقالنا إلى فصل ثان من الثّورة نصنع به لبنة أخرى في غدنا الذي سنغدو فيه بشرا مواطنين لا أحد يحكمهم بالعسف ولا أحد يرميهم بهتانا بالعجز ولا أحد يغتال آمالهم وينسف أحلامهم ويغطّي شمسهم لا بحلكة ولا بغربال...
***
فالشارع إذا هو الأصل، وله القول الفصل... والشّارع له الفضل وهو الحقّ، وإليه العود، ومنه العون والمدّ والمدد...
 
انتخبنا، بل انتخب بعضنا : نصف من يحقّ لهم التصويت أو أقلّ...
وامتحنّا بنظام اقتراع مخادع ابتدعه لنا أساطين قانون بوؤوا ذواتهم حماة لثورة لم تعرف أغلبهم من قبل وما كانوا حماة بل متهافتين، وبحملة انتخاب غلب عليها المال والنفاق والوعود الخادعة وممارسات لم يكن الشّارع الذي انتفض لينتظرها: بعضها اعتمد فيها على مخلّف السّلطة المتهالكة وبعضها ابتدعته لنا مفوّضيات العمّ سام وخدّامه من أصحاب الجلابيب والعمامات والكروش... وأصبحت لنا هيئات شرعيّة وإن وقتية... رئيس جمهورية ورئيس مجلس تأسيسي ورئيس حكومة...ومن الثّابت الآن أن قلب الترتيب أفضل تصويرا للقيمة وحقيقة الفعل والوزن في اتخاذ القرار...
وفور انتصاب السلطة الجديدة، بل وحتى قبل انتصابها، شرعت هي ومن وراءها من قابضين على مسالك وأسلاك القرار والفعل والمخاتلة، وعلى رأسهم حبرهم الأعظم والعظيم جدّا، في الإيهام و الإيحاء والتصريح على كل المنابر-منابر الجوامع التي انصبّوا عليها ومنابر الإعلام التي دجّنتهم والتي دجّنوها أو أحيوها أو صنعوها-بأن دور الشارع قد انتهى، وأن شرعيتهم هم قد غدت الشّرعية الوحيدة والمطلقة التي لا تحتمل منازعة أو نقاشا أو اعتراضا أو حتى محاورة أو نقدا أو ملاحظة بل وحتى رفض اصطفاف...
 وعلى عكس مؤسسات الدولة وحكوماتها في الدول عريقة الديمقراطية أو المتحوّلة حقّا إلى الديمقراطية التي لا تنازع الشّارع ومختلف فئات الشعب في حقه المطلق والدائم وغير المشروط في أن يردّها ويصدّها ويصرخ في وجهها ويقوّمها و في أن يسعى إلى استبدالها حتى وهو قد انتخبها وأيّا كانت الأصوات التي وهبها إيّاها، انصبّ جهد مؤسساتنا الجديدة على نزع الشرعيّة عن الشارع وعلى القول بأنّه على النّاس جميعا أن ينصرفوا في حال سبيلهم وأن يدعوا ممثّليهم المنتخبين- بل بعض ممثّليهم المنتخبين دون سواهم ممّن يصطفون في صفّ من أسموا أنفسهم غالبين- يصنعون لنا الدستور الذي يبتغونه هم ويعيدون كتابة أهداف الثّورة على هواهم وليس كما هتف بها الشّارع من 17 ديسمبر 2010 حتّى إنهاء العمل بالدّستور بل حتّى الساعة- ثمّ قالوا أن على النّاس أن يفرنقعوا وأن يبتلعوا ألسنتهم ويكتموا طوعا أنفاسهم ويشدّوا أكثر على بطونهم وأن ينتظروا ما ستفعله حكومتهم حكومة الخلافة الربّانية القادرة على كل  شيء بإذن شرعيّتهم التي قسّمت المواطنين إلى مصطفين معها فهم رعاياها الصّالحون المسلمون وإلى عباد لا يصطفون معها وإن لم يصطفّوا مع سواها فهم الكفرة الذين يحق قطع أطرافهم من خلاف..
وإذ ناقش الشارع شرعية الحكومة والهيئات المؤقّتة لا من حيث توفّرها بفعل الانتخاب بل من حيث تحوّلها إلى ولاية أو كفالة لا قبل له حتى بمجرد التّذكير بمستنداتها وأغراضها، فإن الحكومة والمؤسّسات التّابعة للحكومة قد أقرّت قفل الشّارع في وجه الشّارع ...طالما أنه ليس من مواليها ومن هراواتها...
وهكذا تحولت السلطة الجديدة من سلطة وقتية عليها أن تهيئ لانتقال يبني- لبنة بعد لبنة وطورا بعد طور-تونس الجديدة المرتكزة على المواطنة من حيث هي احترام متبادل وعدالة اجتماعية وتوازن جهوي، وتكريس لإنسانية الإنسان، تحوّلت إلى سلطة تبني ذاتها وتستديم البقاء بأي ثمن وبأي منهج وليس لها من هدف سوى ذاتها... ومن سلطة ثورة تحوّلت السلطة الجديدة إلى سلطة تسعى إلى إخضاع المجتمع وتركيعه فتشري من يشترى، وتركّع من لا قبل له برفض التّركيع، وتقصي كل من سواهم... واستبدّت وهي تواصل استبدادها...بشتّى الطّرق...
ومن بلد تضامن كل بناته وكل أولاده وتآزروا ووقفوا صفّا واحدا ضدّ الطّغيان تحولنا بفضل السلطة وحزب السّلطة وأصدقاء السّلطة إلى بلد انشطر: قسم هو الحقّ وإن بالعنف بل بالعنف وقسم هو الشّر كلّه لا يحق له إلا أن يسكت أو يهاجر أو ينحني أو يضرب كلّ يوم ولا يصرخ...
ولأن الشّارع لم يعد شارعا يصرفه الخوف والقمع والظّلم والغاز من الشّارع، قرّ قرار السلطة على تفريق الشارع بكلّ ما يتيسّر لها من أدوات وخطط... ومضت السّلطة تستبدّ ...وهي لن تفعل إلا المضي قدما في استبدادها وهمجيّة أفعالها... ذلك أنها أعجز من أن تناقش الشّارع بله أن تقنعه، وأنها فقيرة لا تملك استجابة اقتصادية واجتماعية لمطالب النّاس الذين أهلكهم التّرقّب، ولأن غرامها بالتّشبث بما استقرّ بين أيديها في مصادفة تاريخية لم تكن لتنتظرها يدفعها إلى مزيد الابتعاد عن الشّارع و اللّجوء حتّى لأبشع الوسائل وحدها لترويضه...
                                                    ***
 
ولأن السّلطة تدرك أن الشّارع هو الأصل وموقع الفصل ومكمن الفعل الحقّ، وتعلم أن الشّارع الذي انتفض على خوفه واستبطن توقه إلى غده مشرقا وضّاء لن يستكين أيّا كانت ألاعيبها وأيّا كان بطشها، فهي قد عمدت، أيضا في ما عمدت إليه، إلى ضرب رموز الشّارع-رموز الثورة-رموز الشّعب وقنصها الواحد تلو الآخر.
وفي هذا لايوجد فرق بين ما فعلته سلطة ما قبل الانتخاب وسلطة ما بعد الانتخاب: فالسّلطتان حالتا بين الشّارع وبين الاحتفاء بثورته، الأولى فسخت كل ما رسم أو كتب والثانية سمحت حتى بضرب المحتفين بالمسرح والشّمس... والسّلطتان لم تيسّرا للنّاس أن يملؤوا الساحات والأنهج شعرا وألوانا وغناء صدّاحا وسيركا وانفجار إبداع... والسّلطتان استهانتا بشهداء الثّورة وجرحاها وأهاليهم وبدل تكريمهم قتلتهم كلّ يوم وكلّ أسبوع وكلّ شهر ولأكثر من عام وربع عام عدّا وتثبّتا ووعودا، ثم أهانتهم وجرّحتهم وحتى ضربتهم وعاملتهم لا كأصحاب فضل علينا بل كما يعامل المتكبّر المتجبّر سائلا  ملحاحا... والسّلطتان تجاهلتا توق الناس إلى الكلام تقبّلا وبثّا فلم تستمعا ولم تحسنا التّواصل ... بل هدّدتا وتوعّدتا وأعدّتا للإعلام الحرّ أو السّاعي إلى حرّيته أكثر من لجام وقيد... والسّلطتان تعامتا على رموز آخرين للثّورة جادوا بجهدهم في سبيلها وحملوا أرواحهم على أكفهم وهبّوا يتنادون وينادون لنصرة المنتفضين... كرّمهم الآخرون عبر العالم وتغاضتا عنهم... بل إن السّلطة الجديدة مضت حتى إلى تسليط كثيرين لنهشهم وثلبهم والتّحريض عليهم... والسّلطتان هادنتا الفاسدين والمارقين وسارقي أموال الشّعب... والسّلطتان قنصتا القنّاصة بأيد خفيفة وخفية سحبتهم من الواقع الدّامي إلى الخيال المجافي للحقيقة... والسّلطتان تآزرتا على العدالة الانتقالية تؤجلانها وتفرغانها من معانيها وتحودان بها عن مسارها الحقّ... والسّلطتان حوّلتا أنظارنا عن غد زاه أردنا اجتراحه إلى معاناة يوم اشتد ضيقه علينا : أسعارا صاروخية التصاعد، وبطالة تتفاقم، وجهلا ينصّب علينا يريد أن يردم بالسّواد بناتنا المتوثّبات للحياة والعطاء، وكفرا بكل ما يسّر ثورتنا وما ميّزنا عن الجهلوت وعبدة الدّرهم والدّولار واستفرادا بالشّريعة يروّضونها لأهدافهم ويستولون على أحكامها عن غير وجه حقّ.
                                                *** 


استملاك للشرعية وتحجير للشّارع وقنص للرّموز وسلطة ترمي بكلكلها على مجتمع هدّه التّعب واستبدّ به الأمل حتّى كاد يهلكه، وشارع قرّ قراره على أن يمضي نحو الشّمس والأبهى وإن هو أثخن جراحا من نصال طالته كثيفة لا تنقطع حتى تراكم بعضها على بعض.
هذه هي المعادلة ... سلطة مستبدّة وشارع بحلمه وتوقه يتشبّث .
فهل تطول وحتّام تطول العتمة؟ !
 






                                                                                   20 أفريل 2012

إلى السيد وزير العدل : دعوتكم كرمٌ منكم ولكنّني... أصدّها !

دعاني أحد مستشاريك، نيابة عنك، لأزور هذا الأحد 29 أفريل، معتقل برج الرّومي الذي كنت دُفنت فيه رفقة آخرين لسنوات...
وكان نائبك دقيقا : وزارة العدل تدعوني باعتباري أحد الذين خبروا هذا المعتقل لانتمائهم لحركة آفاق-العامل التونسي... وستشمل الزيارة مساجين سياسيين سابقين من انتماءات مختلفة...
ثمّ أضاف : هكذا ستتمكنون من تذكّر ما عشتموه في هذا السجن... ومن أن تشاهدوا أمكنة قضيتم فيها ردحا من عمركم... وفي برج الرومي كما في الحافلة أثناء الطريق ستتمكنون من التلاقي... ستلتقون أنتم المنتمون إلى نفس المجموعة، وستلقون الجماعات الأخرى فتتعارفون وتتحاورون..
ورغم أنّني ممّن يحنّون إلى كلّ الأماكن التي ضمّتهم، ولو لوهلة، حتّى وإن كانت سجنا أو غرفة تعذيب... ورغم أنّني أشتهي حقّا أن أزور برج الرومي وسجن القصرين و خربة الرابطة ومكاتب وزارة الداخلية وسجن بنزرت-المدينة... وأشهد أنّني قصدت كل هذه الأماكن خلال السنوات الماضية عشرات المرّات حتّى غدا أولادي وزوجتي وأقارب كثر يعرفونها... بل إنّ آخر مرّة مررت فيها على تخوم برج الرومي كانت –مصادفة- يوم زاره رئيسكم المؤقت... رغم كل ذلك فإنني أصدّ اقتراحك، ولا يغريني كرمكم، وتعاف نفسي أن أمتطي  حافلتكم وأن أكون معك أو مع من يمثلك ومع بعض كثر من مساجين سابقين من انتماءات أخرى...
ذلك أنّني أصبحت أرى فيك بل فيكم، أنتم وحكومتكم ومن وراء حكومتكم، وكل من يحرّكه حكومتكم وسادة حكومتكم باب سجن كبير تبنونه حول شعبنا الذي كان شعبكم أيضا فاغتلتموه طعنا في أهدافه، واستفرادا بمصيره، وتحريضا على حراته وأحراره...
أرى فيك وفيكم –ولا أخالني مخطئا بل أتمنى لو كان يمكن أن أكون مخطئا-طغاة جددا، متكبّرين- متجبّرين، أطلقوا علينا جحافل شرط مهيجيين، وهمّجا لا يغلم أصلهم ودافع أجرهم إلاكم... أرى فيكم عصيّا وهراوات وقنابل غاز سام استوردتموه بثمرات عرقنا... أرى فيك وفيكم من كسر ذراع أستاذ القانون والعازف والشابة المتوثبة إلى الشمس والصدق وضرب الشيخ الوقور وأدمع عيون الأطفال... أرى فيك وفيكم مكمّمي لسان يوسف وملجمي الإعلاميين والمستفردين بدين الله يوظّفونه كيفما شاؤوا ولما شاؤوا ويسلطونه تدافعا يقطع أو صال شعبنا- يجيّش بعضه ضد بعضه... أرى فيك-فيكم من نحر الفصل الأوّل من ثورتنا، وحاد بها عن مسار خلناكم حقّا تبتغونه معنا...صدقا وبكل صراحة، ومع تحمّل أعباء موقفي : "لا يمكن لي إلاّ أن أرفض كرمكم وإلاّ أن أصدّ دعوتكم... وأنا لا أراني راكبا الحافلة ذاتها التي تقلّ من يدعو إلى بتر أعضاء بني بلدي أيا كان دافعه للاحتراب... ولا أراني أستذكر عسف عهد باد مع صناع عسف جديد يهدمون توق ابنتي إلى أن تكون أخت أخيها لها ما له وعليها ما عليه...
لا أراني أصحبكم وأنتم تعاملون شعبنا : "هذا معنا فليفعل ما يشاء ! وذاك ليس من صفّنا. فحقّت عليه اللعنة وإن لم يعادنا"...
لا أراني أصحبكم وأنتم تصدّون جرحى الثورة وأسر الشهداء وتضحكون للفاسدين وترمون بالبلد في غياهب التاريخ...
لا أراني في ضيافتكم لا إلى برج الرومي ولا حتّى إلى الجنة طالما أنّكم تصرون على اختطاف البسمة من عيون شبابنا، ووأد الفكرة قبل أن حتى أن تينع في رؤوس حكمائنا ، وقصف النغم حتّى قبل أن تنطق به القيثارات، واغتيال الجمال من بناتنا، وتسويتنا قطيع أنعام بُلْهٍ لا يصحّ له إلاّ أن يقبل يد مستبيحيه...
سيدي وزير العدل !
دعوتك كرم منك... لكنّه كرم في طعم الحنظل بل السمّ بل اِغتيال المغتال بعد...
دعوتك كرم منكم... لكنّا بدأنا نتعلّم منكم أن للكلمة أكثر من معنى وللدعوة أكثر من خلفية وللكرم سمّه...
ولهذا أصدّها.   

21 avr. 2012

l'avenue ta9ra

Ce soir je suis un homme heureux,un tunisien fier de l'être,un citoyen qui croit dans la possibilité de l'impossible.Ce soir je pense à mon camarade NOUREDDINE BEN KHADER et le vois rigolant à pleine gorge.Ce soir je me remémore nos débats de BORJ ERROUMI et comment certains parmi nous en sont arrivés à croire que susciter une révolution véritable et durable ne peut nécessairement se faire que si on arrive à faire évoluer les mentalités par le biais de l'éducation et de la culture.Une fois libres quelques uns parmi nous se sont donnés au livre,à l'édition ou à l'écriture,d'autres ont fait du cinéma,de la recherche ou sont devenus enseignants,d'autres sont devenus journalistes(comme le poète AMMAR MANSOUR qui vient de nous faire une mauvaise farce) et beaucoup se sont investis dans le théâtre...Ce soir je pense à tous ces enfants de mon village,EL MAY,qui ont offert à ma génération une bibliothèque et la joie de lire.Ce soir je revois ce grand festival du livre de MOUANS-SARTOUX.Ce soir je me sens bien dans ma peau.Ce soir je me sens LIVRE,et heureux de VIVRE.Ce soir je me mets à croire de nouveau qu'on va vraiment vers notre bonheur à tous.C'est que tout à l'heure,j'ai été parmi ceux qui ont répondu à l'appel et ai accouru à l'avenue avec dans la main un livre.Oui plein de monde ont été là.Surtout des jeunes.Mais aussi des moins jeunes.C'était la fête.C'était la joie.C'était l'espoir.C'étaitle défi.Les flics n'y ont rien trouvé à dire et se sont limités à assurer.Les connards ont tout fait pour perturber ,mais les véritables "GENS DU LIVRE" étaient imperturbables et volaient très haut et très loin...vers leur avenir radieux.Merci à tous ceux qui étaient derrière cette initiative.Merci à tous ceux qui y ont participé.Merci à "EL KITAB".Ce soir je me vois carthaginois voguant vers un horizon sans fin,kairouanais débattant tard le soir dans une maison de la médina une question philosophique dans un panel de savants musulmans, juifs et chrétiens.Ce soir je vois Ibn Khaldoun,Magon;Saint-Augustin,Messaadi,Echabbi,Ibn al Baitar, et bien d'autres réconciliés avec leurs héritiers.Merci à tous.

كلاّ ! إنّهم لم ينقلبوا على أنفسهم : تلك هي أنفسهم !

 
يوم 9 أفريل 2012 يوم دخل التّاريخ إلى الأبد. ولا شكّ أنّ وقعه خلال الأشهر والسنوات القادمة سيكون كوقع 9 أفريل 1938 في الأشهر والسنوات التي تلته. يوم 9 أفريل 2012 هو يوم علّمتنا وقائعه أنّه علينا أن نعتبر من الأحداث الماضية والجارية، وأن لا ننساق وراء سرابات الأوهام والحسابات الخاطئة، والتكتيكات قصيرة النّظر، وزيف أحلامنا الوردية التي ترفض أن نرى الواقع على حاله وتجعلنا نحلّق في سماوات رومنطيقية فيها الوفاق وفيها الإخاء وفيها الانتقال السلس إلى تونس بديلة ديمقراطية وعادلة ونامية فعلا.
يوم 9 أفريل 2012، أفصح لنا عن واقع ما ينفكّ يتشكّل لبنة بعد لبنة، واقع قوامه الغطرسة والغلظة والكذب والتعسّف والعداء العاري لمقوّمات الإنسانية الحقّ... يوم 9 أفريل 2012 هو خطوة أخرى، محسوبة وبُيّت لها بليل بهيم، خطوة أخرى نحو خنق المجتمع وتعبيرات المجتمع، والرمي بكلكل حزب-حركة-جماعة- عصابة غايتها السلطة والسلطة وحدها، وإن بلا أفق، على مفاصل هذا البلد بفئاته المختلفة وبنياته الاقتصادية والاجتماعية ومقدّراته وثرواته وآفاق أبنائه وبناته ؛ خطوة أخرى نحو محو التنوّع الفكريّ والإبداعيّ والشّعري والسياسي والعقائدي وحتّى  التنوّع في الملبس والهيئة والكلام ؛ خطوة أخرى نحو فرض الاحتماء بطغاة جدد وبسادة الطغاة الجدد ؛ خطوة أخرى نحو محق كلّ ما أنجزته بلادنا عبر تاريخها العريق من تحضر وتقدّم ووحدة صفّ وهدم المستقبل الواعد الذي بدأ شبابنا يضع أساساته منذ أن هبّ ضدّ الطاغي الهارب وضدّ نظام الطاغي الهارب الذي ما يزال يراوح مع الطغاة الجدد بين المهادنة وبين الابتزاز وبين العمالة...
سمعت ناسا يقولون : "إنّهم أخطؤوا والحساب ولم يقدّروا الأوضاع خير تقدير فخسروا" ؛ وسمعت من يقول : "كيف يتحوّلون من مضروبين-مقموعين-محرومين من حقوقهم إلى ضاربين-قامعين-حارمين للناس من حقوقهم، وكيف تتملّكهم هذه الشراسة الهوجاء ؟" ولفت نظري أن بعضهم يرى في تصرّفاتهم وأعمالهم الخرقاء انقلابا من قبلهم على قيمهم-مبادئهم-منهاجهم-أنفسهم...
فهل أنّ أحداث وممارسات 9 أفريل 2012 استثنائية ومفاجئة من قبلهم حتّى يخيّل إلينا أنّهم اِنقلبوا على أنفسهم ؟
لنعد إلى ممارساتهم منذ أن أنهالوا على البلد أيّاما بعد 14 جانفي.
كلّ ممارساتهم كانت لها غاية واحدة وحيدة : الانقضاض على السلطة بأيّة وسيلة، واحتكار أجهزة الدّولة أيّا كانت التحالفات الميسّرة لذلك، والاتّكاء على المجدّفين والهمّج والمشعوذين والسّفلة والطامعين دون تردّد، واعتماد لغة لاذغة فيها إلاّ كذب وادّعاء وترهيب...
اِدّعوا وضع أيديهم في أيدي كلّ من له مصلحة في الانتقال نحو الدّيمقراطية لكنّهم قبلوا كلّ ما رأوا فيه مصلحة لهم، وفرضوا طرح كل ما لم يكن يواتيهم : مرّة بالمقاطعة، ومرّة بالتباكي، ومرّة بافتعال الأزمات، ومرّة بالتهديد بالشارع، ومرّة بتواطئ متواطئين...
اِنقادوا إلى رعاة لهم جاؤوا من وراء البحر شرقا وغربا، وظهرت عليهم الثروة –هم من يدّعون أنّهم حرموا عشريتين أو أكثر من أيّ مورد رزق- ظهرت عليهم الثروة بل الثروات في هيئتهم وفي تلك المقرّات العديدة والفخمة، وفي هذه السيّارات والدراجات النارية غالية الأثمان، وفي هذه الحملات الإعلامية والاتّصالية التي جنّدوا لها العشرات، بل المئات، وفي تنقّلاتهم وبذخ حياتهم، وفي ما يبذلونه لشراء الذّمم...
وتعمّدوا النفاق والخداع والإغراء الكريه في حملاتهم الانتخابية ولاستقطاب الأتباع والخدّام...
واستولوا على بيوت الله –حضارة وتاريخا وملكا لغيرهم- وفضاء للجميع- وقدسية- وحوّلوها أوكارا لهم ولدعاتهم الذين انشقّت الأرض عنهم فجأة كما تنشقّ عن الفقّاع (الفطر) بعد هطول المطر... وتلوّنوا وهم واحد... ونوّعوا من تحرّكاتهم وهيئاتهم وخطبهم وهم في الأصل وفي الفعل واحد : هؤلاء "شباب" هؤلاء، وهؤلاء "إخوة" أولائك، وهؤلاء عمق الآخرين وحماة ظهورهم .
وسريعا ما تغاضوا عن السلطة القديمة وعن محاربة السلطة التي خلع رأسها ولكنّها ظلّت تحكم وتخطّط، وتآلفوا معها كلّما وجدوا لذلك سبيلا، وأخافوها كلّما كان لهم في ذلك مصلحة، وسلّطوا سهامهم وكلامهم وقبضات تابعيهم على منافسيهم ومعارضيهم... كفّروهم وخوّنوهم وخوّفوهم وحرّكوا جحافلهم ليعرقلوهم...
وما إن بدت السلطة في طريقها إليهم حتّى انتفشوا وانتفخوا وتهافتوا وتوعّدوا..... ثم وما إن أخذوا بزمام السلطة بل بحلوقنا ودروب مستقبلنا الذي كان واعدا حتّى ظهر تهافتهم على المناصب والألقاب،وغدت لغتهم سوقية بليدة، وتجرّؤوا على أعراض الناس يهتكونها، ولم يعودوا يقبلون بأن يتكلّم أحد، أيّا كان، عن أهداف الثورة التي هبّوا إليها يقبرونها :  " الثورة نحن... الغالبية نحن... الدّين نحن... الأفق الوحيد نحن... فلتصمتوا... دعونا نعمل... لا تسألونا... لا تسائلونا... لا تناقشونا... أنتم خونة دعاة، قلّة قليلة عملاء، جهلة، أزلام النظام السابق وعملاء الغرب"... ومضوا حتّى إلى دين الله يستفردون به، يتملّكونه ويدّعون أنهم وحدهم العالمون بحكمته وسدنة تعاليمه... وفي الأثناء ضربوا، وقمعوا وهدّدوا بالويل والثبور... وبعد أن قمعوا أفرادا أو جماعات صغيرة، تجرؤوا على الحرّيات وعلى أبرزها : حريّة التعبير والإعلام... ثمّ طفقوا يبرّرون عجزهم وانسداد الأفق الاجتماعي والاقتصادي بمؤامرات نسجوها لا من خيالهم بل من جشعهم للسلطة والنفوذ... واتّهموا الناس والتنظيمات وهم يعلمون أن اِتّهامهم باطل... وراوحوا في خطابهم بين الكذب والمغالطة والاعتذار والتبرير والتطاول والتهجّم والتناقض... ومع ذلك فقد كان دفاعهم الأساسي عن فعلهم الحكومي- وقد ظهر جليا أنّهم غفل ولا خبرة ولا كفاءة لهم في ما يصلح منه- أنّهم يتحلّون بالنزاهة ونظافة اليد... واعتدّوا بأنفسهم وكأنّ النزاهة ونظافة اليد أمران يصحّ أن يشهد بهما المرء لخاصّة نفسه... وكأنّهم لم يمتنعوا عن اعتماد الشفافية في تصرّفهم الحكومي (وهنا أسألهم : على أي أسس وقواعد تتصرّفون في المشاريع الكبرى لتقرّروا إسنادها أو مواصلة إنجازها أو لتؤكّدوا التفريط فيها... وأذكر أمثلة : مشاريع المخلوع في تونس العاصمة ومنها المشاريع العقارية على ضفتي البحيرة والمرفأ المالي بقلعة الأندلس، وسبخة بن غياضه بالمهدية، وغيرها كثير، ومشروع مصفاة النفط بالصخيرة، ومشروع محطة الأرتال سوسة : هل شخّصتم حالتها وتبيّنتم صحة أو فساد تركيباتها المالية والمؤسساتية وحفظتم حقوق الدولة فيها، وعدّلتموها على الوجه الذي يجب أن تعدّل به،.. وكيف ولماذا أقررتم استمرارها أو تعديلها أو تحويلها إلى الغير ؟ ... ومسألة الطاقة هل تبيّنتم فعلا أنحن بلد مصدّر ومكتف أو مورّد وقليل الإنتاج ومن ينتج ومن يورّد وما تحصل عليه الدولة وما تخسره سبهللا وما ينهب ؟...)
وبعد أن كانوا يتحدّثون عن المساءلة والمحاسبة ويستعجلونهما، هاهم قد أصبحوا شديدي الحرص على أن يقفزوا مباشرة إلى المصالحة، ويجدون لذلك تعلاّت يسمّونها مصلحة عامّة وحرصا على الاستثمار والتشغيل.
وإلى ما سلف، وما يمكن أن يضاف إلى ما سلف كثير، هاهم يدقّون عظام الناس  بهمجية خلنا أنّها أصبحت من الماضي... وها هم يسلطون قمعا بالزيّ وقمعا بلا زيّ وجحافل لا تعلم إلى أيّ جحور تنكفئ ولا إلى من تنقاد وتخضع، ولا من يهيّجها ويشنّجها ويسخّرها.
فهل انقلب هؤلاء فعلا على أنفسهم –مبادئهم –مطامحهم وهل ارتقاؤهم إلى السلطة هو الذي حوّلهم إلى ضدّهم ؟
لم أجد في فعلهم منذ انهالوا علينا بعد أن تأكّدوا من حصول الثورة، وبعد أن انقضّوا على السلطة ما يجعلني أعتقد أنّ أفعالهم يوم 9 أفريل 2012 مجرّد خطإ أو اِستثناء أو غلطة لن يعيدوها... بل لم أجد فيه إلاّ تواصلا وتصعيدا أو إصرارا على هجماتهم الصغرى والكبرى وإنكارا منهم لحقّ من لا يواليهم أو لا يداهنهم في أن يعيش في هذا البلد وتكالبهم على رموز الثورة جرحى وعائلات شهداء، ومواقع، وحقائق... وما تبريراتهم وتكذيباتهم وتعليلاتهم التي ليس فيها أدنى أدنى مراجعة أو اعتراف أو تصحيح- ولا أقول أيّ اعتذار- إلاّ خير دليل على أن ما بالنفس لم يتغيّر،وساكن في أعماق أعماقها، قديم مثلها...
وهنا أسأل : كيف كانوا إذن قبل زلزال 14 جانفي 2012 ؟
وتنهمر عليّ الإجابات حتى أنّني لا أقدر على تحبيرها كلّها : ألم يكونوا يسعون إلى السلطة أيّا كانت السبل إليها ؟ ألم يتحاوروا ويتعاضدوا مع أطراف من السلطة القديمة ؟ ألم يتحاوروا مع المخلوع وصهر المخلوع ؟ ثمّ ألم يسعوا قبل ذلك إلى الاستيلاء على السلطة بالانقلاب وبالعنف وبماء النار وبالتفجيرات ؟ ومن أدخل العنف إلى الجامعة بل وسلّطه فيها على منافسيه حتّى وهم شركاؤه في التعرض لقمع السلطة ؟
وهل يصحّ أن نتغاضى عن هذا الماضي وتجلّياته بالقول أنّه ماض وأن تجاوزا قد حصل في حين أنّنا لم نسمع ولم نقرأ اعترافا أو مراجعة أو تخلّيا... وألا تؤكّد الممارسات الحالية صلابة المنهج القديم واستدامة الممارسات إيّاها ؟
وبما أنّنا التفتنا إلى الماضي فلنر كيف اكتسب هؤلاء حلّة توهم بتبنّيهم للديمقراطية وللتمشّي غير العنيف للارتقاء إلى السلطة ؟ ألم يهيّء لهم ذلك هؤلاء السياسيون والحقوقيون ونشطاء المجتمع المدني الذين حموهم ودافعوا عنهم وفتحوا لهم أبواب الرحمة، وعلّموهم كيف يطرقون أبواب الهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان، وكانوا صوتهم عندما لم يعد لهم صوت، ثمّ نادوهم لينضمّوا إليهم في كفاحهم وطهّروهم من دنس عنفهم، وجعلوا الناس-هنا وخارج الوطن- يقبلون بهم طرفا ومحاورا.
فهل رأيتموهم اليوم يعلنون تمسّكهم بما كانوا تظاهروا بالاقتناع به و بأنّ عزمهم قد صحّ على الأخذ بمبادئ الديمقراطية والحداثة ومقوّمات التعايش ؟ لم أسمعهم-ولو مرّة-يدافعون عن توافق 18 أكتوبر أو يتمسّكون جهارا ودون مراغة بما قطعوا العهد عليه ؟... ثمّ إن أفعالهم البربرية قد انصبّت على كلّ من يتشبّثون بالحداثة والحرّيات وحقّ الاختلاف، ومنهم أولئك الذين حموهم ودافعوا عنهم ولمّعوا صورتهم...
يوم 9 أفريل 2012 هو يوم كشف لكلّ غافل أنّنا وقعنا بعد تحت جزمة سلطة غاشمة أخرى لا يعنيها إلاّ الاحتفاظ بالسلطة والنفوذ، ولا يهمّها أن تبني مع الناس بلدا جديدا وجميلا ومعطاء لكل الناس، سلطة لم تتورّع عن لجم كلّ الأفواه التي لا تسبّح بحمدها، وعن قطع كلّ الأيدي والأعضاء التي لا يواليها أصحابها، وستجد طريقها –إن لم تكن قد وجدته بعد- للتسلّح بكلّ ما ييسّر لها الهيمنة والسيطرة مثلما وجدت طريقها سريعا إلى التزوّد بكلّ تلك الغازات السامّة الأمريكية والبرازيلية التي سلطتها علينا- ونحن مسالمون- بلا تقتير ولا حساب. (عجزنا عن الإسراع في إغاثة المنكوبين بالفيضانات والثلوج، ولم نعالج بما يجب من حزم وإتقان وسرعة جرحانا، وأفلحنا في إعداد العدّة لتفريق المتظاهرين شرّ تفريق، ونحن في ثورة مستمرّة وتحت حكومة تصف نفسها بأنّها حكومة الثورة !)
كلاّ ! إنّهم لم ينقلبوا على أنفسهم. ذلك هو ما بأنفسهم. تلك هي أنفسهم !
إن ما فعلوه لا يمكن أن يعدّ عرضيا. وهم سيمضون في ما مضوا فيه. وحتى إن هم اعتذروا- وإن كنت أرجح أنهم لن يعتذروا إذ ليس من طبعهم أن يعتذروا- فعلينا أن لا نصدقهم وأن لا نثق بهم. فلو كانوا ممن يقرون بالخطإ وبارتكاب الكبائر في حق الوطن والإنسان لاستقال بعضهم واعتذر بعضهم وانتفض بعضهم قبل انتهاء اليوم إياه 9 أفريل 2012.
 فلنتوقّع الأسوأ والأظلم و الأحلك والأقتم...
ولنعدّ أنفسنا لنظلم أكثر ونتعب أكثر ونقمع أكثر، ولتضحيات لا حدّ لها...ولنستمرّ في عنادنا وفي تصدّينا بصدورنا العارية وقبضاتنا الخالية من أي سلاح وحناجرنا المدويّة وتضامننا الرائع : شبابا وشيبا، نساء ورجالا، من كلّ الأطياف وبكلّ الأحلام والتّوق إلى الأبهى...
فيوم 9 أفريل 2012 قد بيّن أيضا أنّنا حقيقة شعب لا يهان، ودفق بذل وتضحيات لا ينضب، وأن شاباتنا وأمهاتنا وبناتنا كما إخوتهنّ ورفاقهنّ وآباؤهن وأزيد قد تعلّقت هممهم جميعا بأغلى ما في الوجود : الكرامة والحريّة والحقّ في حياة أفضل !
 
       11 أفريل 2012