21 nov. 2010

ملاحظات ومقترحات بخصوص بطولة المغرب العربي الثانية وبطولة  الشرق الأوسط الثالثة. وللمتبرعين والمستفيدين بزرع الأعضاء

احتضنت بلادنا، بين 21 و 25 أكتوبر الماضي، بطولة  المغرب العربي الثانية وبطولة الشرق الأوسط الثالثة لرياضة المتبرعين والمستفيدين بزرع الأعضاء.
وكمتابع للأنشطة الرياضية للمستفيدين بزرع الأعضاء التونسيين، وبعد أن سنحت لي الفرصة للإسهام في التعريف ببعض ممّا حقّقوه في بطولات عالمية وجهوية آخرها الدورتان العالميتان اللتان احتضنتهما تايلاندا (2007) ثم أستراليا (2009) والدورتان الجهويتان اللتان احتضنتهما الكويت وليبيا، وجدتُني أرغب في أن أبدي –على الملإ- الملاحظات والمقترحات التالية بشأن هذه الدورة الجهوية وما يستلوها :
·       يمثّل تنظيم الدّورة في حدّ ذاته حدثا إيجابيا يبرهن على عطاء من بادروا بتنظيمها وسهروا على فعالياتها. غير أنّه قد يحقّ للمتابع أن يتساءل : لماذا اقتصرت المشاركات على تونس والكويت والعربية السعودية وإيران دون سواها من بلدان المنطقة المعنية بالدّورتين ؟ ولماذا غاب الإعلام –أو كاد- عن الدّورة : صحيح أن القناة الدّولية وللإذاعة الوطنية وجريدة الصباح قد أعلمتا عن الدّورة مسبقا، وصحيح أيضا أن التلفزة التونسية قد أخبرت عن افتتاح الدّورة من قبل وزير الشباب والرياضة والتربية البدنية كما تكلّمت الإذاعتان الجهويتان بكلّ من تطاوين وصفاقس وجريدة "الجزيرة" الصادرة بجربة عن الحدث... لكن : هل كان ذلك كافيا ؟ ولماذا لم تتمّ متابعة الأنشطة يوميا ؟ ولماذا لم يعلن عن النتائج، ولم يتمّ محاورة المنظمين والمشتركين محليين وضيوفا ؟...
·       مثل هذا الحدث، وإن كان يبدو ولغالبية الناس صغيرا، يمكن أن يصبح حدثا كبيرا لو تمّت العناية به كما ينبغي : فهو يمثّل فرصة للتحسيس بزرع الأعضاء كهمّ وطنيّ وإنسانيّ له وزنه، وهو يتيح التعريف بإنجازات هيكلنا الصحيّ في الصّدد، وهو كفيل بأن يسهم في رفع الراية الوطنية إلى الأعلى وفي مزيد التعريف ببلادنا كقطب سياحي حضاريّ وطبّي... وممّا قد يبرهن على ذلك الأهمية التي أولاها الإيرانيون لهذا الحدث وإسهامهم فيه بوفد قوامه حوالي 40 رياضيا منهم نساء عديدات، يؤطّرهم مدرّبون ومعدّون وأطبّاء ومسؤولون عملوا ما في وسعهم للظهور في مظهر جذّاب، وبذلوا قصارى الجهد للفوز بأكبر عدد من الميداليات.
·       مشاركة التونسيين في الدّورة كانت متميّزة : فهي قد تميّزت بالعدد الهامّ من المستفيدين والمتبرّعين الذين أقبلوا عليها... وهي قد تميّزت بالرّوح التطوّعية الرفيعة التي أظهرها الفريق الطبي والصحي الذي أشرف على الحدث... وهي قد تميّزت بحرص المتسابقين على افتكاك أكثر ما يمكن من الميداليات رغم أنّهم لم يتدربوا مسبقا ورغم تقدّم سنّ الكثيرين منهم ورغم ضعف إمكانياتهم (فمنهم من جرى حافيا !) ورغم  تفاوت الإعداد بينهم وبين أعضاء الوفد الإيراني خاصّة ... ومن المشاهد المؤثرة التي وسمت الدّورة نضال لينا بن مهني من أجل الميدالية الذهبية للمشي لمسافة 2000 متر لجميع الأصناف النسائية، ثمّ إصرارها على المشاركة في مسابقة الجري لمسافة 200 متر رغم انهيارها البدني واعتراض الأطبّاء والمؤطّرين...
·       المشاركات والمشاركون التونسيون في الدّورة جلّهم لا يمارسون الرياضية بانتظام بل أغلبهم لا يمارسون رياضة أبدا، ورغم ذلك رأيت نساء كهلات ومن جميع الأعمار تتحمّسن للعلم، وتصررن على التعبير للمنظمين من الإطار الصحيّ عن تعلّقهن بالحياة والعطاء وعلى امتنانهنّ لبذلهم ومبادراتهم بأن جرين ولهثن تصببن عرقا ومعاناة... وبأن أفلحن...
·       منظّمو الدّورة الذين ظهرت أسماؤهم على لافتاتها لم يتجاوز إسهام أغلبها حضور حفل الافتتاح... وهو  ما جعل العبء، -كل العبء – يقع على كواهل المبادر الأوّل بالتنظيم- رئيس الجمعية التونسية لطبّ الكلى،  الأستاذ الطيّب بن عبد الله- وثلّة من زملائه وزميلاته الأطباء والأعوان الصحيين ثم على بعض من المشاركين (على رأسهم نجيب شبّوح) وأسرهم.
·       الدّورة كانت إذن حدثا هامّا، ولكنّه كان من الممكن لها أن تتطوّر إلى حدث أهمّ لو تمّ إسناد المبادرين بها بشريا وماديا وتنظيميا...
·       هذه الدّورة الأولى التي تحتضنها بلادنا من الهامّ أن يتلوها تنظيم دورات أخرى محلية وإقليمية وجهوية وحتى دورة دولية  (لم لا ؟!) وتأمين مشاركة تونسيات وتونسيين في الدورات الدولية بمختلف أصنافها مع حسن إعدادهم للغاية. غير أنّ ذلك لن يتيسّر إلاّ إذا توفّر إطار تنظيميّ ثابت ترصد له الإمكانات اللازمة (جمعية مدنية أو مكتب قارّ تابع لإحدى الجامعات الرياضية أو لوزارة الصحة أو وزارة الشباب والرياضة والتربية البدنية ؟)... بل لعلّ أنجع الحلول يتمثّل في تبنّ رسميّ واضح ونهائي لهذه اللألعاب مع ما يعنيه ذلك من رصد ميزانية قد تتأتى من مصدر عمومي (قطاع السياحة مثلا...) أو من راع خاصّ  متطوّع أو مستشهر،  وما يتطلّبه الأمر من انتماء للجامعة الدّولية لرياضة المستفيدين بزرع الأعضاء....
·       وأمّا إعلاميا فيا حبّذا لو تخصّص وسائل الإعلام الرسمية والخاصّة مساحات أكبر لمثل هذه التظاهرات، وأن ينتهز المعنيون فرصتها لتنويع حملاتهم التحسيسية والتوعوية وإكسابها بعدا عمليا واجتماعيا أنجع، وليثروا أعمالهم الحالية المرتكزة أساسا على المطبوعات والمحاضرات بأعمال ميدانية كهذه التظاهرة. وفي هذا الصّدد أذكر أنّه كان لتدخّل الجرّاح الأستاذ محمد شبيل خلال إحدى سهرات المقهى الثقافي بالزهراء ذات صيف أفضل الأثر، كما حقّقت المنشطة الإذاعية المتميّزة فايزة الماجري نجاحا ملحوظا خلال الحصتين اللتين خصصتهما لزرع الأعضاء في أقل من عام.

وسعيا للإعلام والإفادة وكذلك بغية مزيد إثارة الاهتمام أقدّم في ما يلي توزيع الميداليات التي أسفرت عنه الدورة :






ذهبية
فضية
برونزية

تونس
30
35
30
ايران
26
12
05
الكويت
02
04
05
العربية السعودية
-
-
01
المجموع
58
51
41


ولمن يريد أن يطّلع على تاريخ زرع الأعضاء ومنجزاته والظروف الحافة به أشير إلى العدد الرابع (جانفي 2009) من نشرية Don et vie التي يصدرها المركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء.



                                                                                الصـادق بن مهنـي
                                                                   19 نوفمبر 2010

27 août 2010

قراءة شخصية جدّا في كتاب محمد الصّالح فليس "عمّ حمده العتّال" الصّادر عن دار "نقوش عربية"-2010

قراءة شخصية جدّا في كتاب محمد الصّالح فليس
"عمّ حمده العتّال" الصّادر عن دار "نقوش عربية"-2010


عندما صدرت أولى ورقات محمّد الصّالح فليس التي اقتطفها من "سجلّ الاعتقال السياسي في تونس السّبعينات" لم أفاجأ بتاتا بأنّه قد خصّصها –بالأساس- لوالده "عمّ حمده"، ثمّ لمجمل عائلته، و-إلى حدّ كبير- لمدينته : بنزرت.
ورغم أنّني أتطلّع لقراءة مذكّرات محمّد الصّالح السجنية وخواطره حول الاعتقال السياسي، التي أبى إلاّ أن يعلن ضمن غلاف كتابه هذا على أنّه منكبّ على كتابتها، فإنّني أحسّ في قرارة نفسي أنّه قد حقّق بعد أهمّ ما كان يرومه وأهدانا –نحن الذين تقاسمنا معه الاعتقال- ما كنّا ننتظره منه وما كنّا ندرك أنّه الأكثر أهلية للوفاء به : إيفاء عائلاتنا جزءا من حقّها في أن نذكر عطاءها وأن نصف همّها ومعاناتها ووصف تلك العلاقة المعقّدة –لكن الناصعة- التي ربطتنا بأهالينا : دعم لا محدود من قبلهم رغم أنّ اعتقالنا مثّل صدمة وحتّى خيبة رجاء للعديد منهم، وتوق من قبلنا إلى تأدية ولو شيء بسيط من واجبنا إزاءهم بتأمين حضور أدنى رغم غيابنا الذي اخترناه وفُرض عليهم.

أؤكّد هذا الذي أؤكّده لأنّني، إذ عايشت محمد الصالح بضعة أشهر خلال تخفّينا عن البوليس وممارستنا للنشاط السياسي السرّي ثمّ أعواما عدّة ونحن في معتقلات تونس العاصمة والقصرين ثم برج الرّومي ببنزرت، قد لمست لديه التصاقا عاطفيا شديدا بأسرته لا يضاهيه قوّة ألاّ تفرّغه الكلّي لممارسة الفعل النضالي الذي كان يملأ وجدانه.
فمحمّد الصالح كان لا يفتأ، ونحن نعدّ منشورا أو عددا من جريدة العامل التونسي -التي أصررنا على إعدادها كليا وطبعها في تونس ولو بوسائل بدائية رغم عنت الوضع وعسر الظرف –أو ونحن نناقش إستراتيجية نشاطنا وتكتيكاته، كان لا يفتأ يجد الفرصة (ليروّح عن نفسه و/أو لأنّه مسكون كليّا بذلك ؟) ليحدّثنا عن بنزرت وحرب بنزرت، وعن والديه وإخوته وأخواته حتّى أنّنا عرفنا هؤلاء عن قرب وحميمية من قبل أن نلتقي بهم، وتجوّلنا في أرجاء تلك رغم أنّ أقدام أغلبنا لم تكن قد وطأت أرضها بعد...
روى لنا محمّد الصّالح أيضا تفاصيل حرب بنزرت كما عاشها هو وأسرته وأخوه الشهيد وكما لم نسمع ولم نقرأ عنها في كلّ ما أصدره النظام الحاكم حولها... ووصف لنا "حومة القصيبة" و"بالاص الغالي" والثكنات العسكرية التي تخنق المدينة والكورنيش الذي هو روضة من الجنّة...
وخلال الاعتقال –خصوصا أيّام سجن القصرين ومعتقل برج الرومي- عنى لنا محمد الصالح –رغم أنّه لا يحسن الغناء- مرّات لا تحصى أغنياته المفضّلة : "أنا إنسان بسيط لم أضع يوما على كتفيّ مدفع"، و "لا يهمّ المناضل حين يضحّي" و "يا زهرة !". كما أنه كثيرا ما جعلنا ننتقل بمخيّلاتنا إلى شوارع بنزرت ومقاهيها وشواطئها وضواحيها. وأحيانا وصف لنا بعضا من عشيقاته (الحقيقيات أو المختلقات ؟) اللواتي كان يحبّذ أن تكنّ
"mûres et sensuelles ".
ولأنّنا في الاعتقال كنّا -أو كدنا نكون- سواسية في كلّ شيء، وتقاسمنا –تقريبا- كل شيء فلقد قرأت أغلب ما حبّره محمّد الصالح من رسائل وأغلب ما ورد إليه من مكاتيب... فعرفت عن قرب- وإن أنا لم أقابلهم أو لم أقابل إلاّ بعضهم ولدقائق معدودات- جميع أعضاء العائلة وخصوصا منهم "عمّ حمده" و"الشّرفون" (شريفة التي غادرتنا قبل أسابيع قليلة) وإدريس "الكوّارجي" الذي لم تمهله الحياة والذي لن أنسى أبدا الطرفة التالية عنه : لاحظ إدريس أننا كنّا نصرّ على أن نضمّن المكان المخصّص للمرسل من الظرف صفتنا كسجناء سياسيين وعلى أن نسمّي السّجن الذي نحن فيه معتقلا، فيما كانت هيئات الرّقابة السجنية التي كانت تودّ أن نسمّي أنفسنا "نزلاء" وتواظب على تعمية ذلك، فتضامن معنا بأن كتب عنوانه على رسائله إلى أخيه كالتالي : "إدريس فليس- 76 نهج حسن النّوري- معتقل بنزرت" !

وأذكر أنّني عشت –كما لو أن الأمر كان يتعلّق بي أنا ذاتي –معاناة محمّد الصالح خلال الأيّام الأخيرة من حياة "عمّ حمدة"، ثمّ تلك الساعات بل الدهور الحرجة التي قضّاها ينتظر الخروج لحضور مأتم دفنه، وعودته التي تمّ تسريعها، وما تلا ذلك من أيّام وليال سيطر أثناءها على محمد الصالح هاجس أنّ عائلته أصبحت بل معيل وخصوصا بلا موجّه، وسعيه –بألف شكل وصيغة- إلى الحلول محلّ أبيه.

فمحمّد الصّالح –كما العديدون من بيننا- كان يدرك أنّه كان محطّ آمال أبيه وكلّ عائلته، وكان يحسّ أنّ التزامه بالنّضال قد حوّله من حلّ لمشاكل أسرته إلى مشكل إضافي أو حتّى إلى المشكل الرئيسي لها... فالعائلة جاهدت ليدرس وكانت تأمل أن يتخرج ويفرّج كربها... وهو بتخفّيه وبأسره تحوّل عبءا إضافيا أثقلها وكبّل البعض منها وزاد إلى حرمانها حرمانا...

ومحمّد الصّالح –كما جميعنا- كان في قرارة نفسه يحسّ، لذلك، بشيء من الذّنب ويسعى – عن وعي وعن لا وعي- لأن يعوّض "خذلانه" ذاك بالنّصح والتّوجيه وتأكيد الحضـــور المعنــويّ... أدواتــه في ذلــك "خطابــه" خلال الزيارة و"خطابه" في مكاتيبــه و"تدخّلاته" الأخرى بواسطة الأنصار والأحبّة والأصدقاء والمتعاطفين.

محمّد الصالح رفض الظلمة الحالكةبأنّ عاش مدينته وعرّف بها وهو في غياهب الزنزانات... ورفض العزلة بأن فتح قلبه وخياله لأهله ولجميع الأهالي، ولنا... وصدّ الشعور بالذنب بأن استحدث لنفسه أدوارا جديدة، وبأن تواجد بين أهليه وهو في الغياب...
تجتاحني الآن فكرة : صحيح أنّنا زدنا معاناة أهالينا معاناة وحرمانهم حرمانا... لكن ألم تكن نتيجة ذلك أنّهم، وهم يندفعون كلية لحمايتنا ورعايتنا، قد زادوا التصاقا ببعضهم البعض وانفتحت أمامهم دروب وسبل وخبرات ؟!

في قراءة كتاب محمّد الصّالح ما يفصّل ويعمّق ما ذكرته أعلاه... وفي قراءة كتاب محمّد الصّالح ما يجب ويفترض ويَحْسُنَ أن يدفع بكلّ فئات مجتمعنا وبكلّ مكوّنات السّلطة فيه إلى أن تراجع قيمها وممارساتها وبأن تتساءل عن حقيقة ونوعية المعارضات التي عرفتها بلادنا وعن طبيعة التصدي الذي واجهتها السلطة بها، وعن فعل الحبس وكيف أنّه يتعدّى مجرّد حرمان شخص ما من حريته الجسدية إلى "اعتقال" كافّة ذويه وأقاربه وإلى محاولة تدميره بل سحقهم جميعا، وعن مدى حقيقة تبقّي شيء ما من القيم والمشاعر الإنسانية في أفئدة وعقول من يحرّكون الآلات القمعية (التي لا تتحرّك إلاّ بإذن عِلِّيّ) لتحرم أمّا من احتضان فلذة كبدها وهي تزوره في سجن سحيق، ولتمنع ولدا من مرافقة والده حتّى مثواه الأخير لا لشي إلاّ لأنّه معارض، ويتمسّك بكرامته وبإبائه.

في قراءة هذا الكتاب، كما في قراءة غيره ممّا كتب عن سجون بلادنا في ما بعد الاستقلال ما يجب أن يدعو كلّ مواطن أيّا كان مشربه، وأيّا كان حاضره وماضيه أن يعجّل بسؤال نفسه : ألي أنا أيضا قسط من ذنب في ما حدث ؟ وكيف لي أن أسهم بنصيب في إيقاف الدّوامة ؟



الصادق بن مهني
15 جوان 2010

13 juil. 2010

خاطرة

الخاطرة الّتي كتبتها عن تعرّض مسكني بالزهراء للخلع و النّهب أردت منها أن تكون في نفس الآن و معا صرخة هلع إجتماعيّة الأبعاد و طرحا لسؤال كبير عمّا غدونا فيه ... و لم يدر في خلدي بتاتا أن يكون لنشر هذه الخاطرة الصّدى الّذي حظيت به و ردود الفعل الّتي ولّدتها...
خاطبني كثيرون و هاتفني كثيرون و خاطب كثيرون- منهم قرّاء  "للجزيرة" لم أكن أعرفهم  - بعضا من أهلي و أصدقائي...
و رغم أن عبارات  التضامن و المؤازرة قد تخلّلت خطابات الأغلبيّة, فإنّني أحسست، بل أدركت , منها أوّلا و قبل كل شييء
 أن الرّسالة قد بلغت لمتلقّيها و أنّ السؤال الكبير لم يعد سؤالي أنا وحدي (هل كان كذلك حقيقة قبل أن أكتب ؟) و أنّ صرخة الهلع ليست صرخة فرد أو أسرة بل صرخة مجتمع.
كثيرون ممّن خاطبوني عبّروا عن أسف مضاعف = أسفهم للخسارات الحاصلة و أسفهم لأنّ الجناة  لن يكشفوا... و بدوا لي عصيّين عن قبول أي إحتمال  -مهما دقّ- بأنّ الجناة سيكشفون اليوم ...أو غدا ...أو يوما ما.
 واحد فقط عبّر لي أكثر من مرّة عن إحساسه و ثقته في أنّ الجناة سيكشفون لا محالة  ... و أمام إصراره تجرّأت على التعبيرله عن رغبتي في فهم أسباب إحساسه و رسوخ ثقته ... ففهمت منه سببا وحيدا: ثقته في الله و الأقدارو معرفته لي و أيمانه بأنّ ما اكتسب حلالا لا يضيع 
هنأته على إيمانه و شكرته على ثقته في و قلت له : الرّزق الحلال هو أيضا يضيع ، و ينهب ، و يفتّك ... و هنا مربط الفرس كما يقول القدامى
كثيرون سعوا إلى التخفيف عليّ بحثّي عل الحمد و الشكر لأنّ أحدا من عائلتي لم يتعرّض لمكروه في بدنه و "لأنهم" لم يأخذوا كلّ شيء.
البعض تحدّث عن "اختبار" و عن "ضارّة نافعة" ، و عن أوجه استفادة أسرتي من هذه المحنة . أحد الأصدقاء فال لي :"فكّر بإيجابية : لا تقل :نهبت داري بل قل : خلال ثلاثين سنة لم تنهب داري إلاّ مرّة واحدة" بعض من نذروا أنفسهم لارتياد الصّعب و التّوق إلى المستحيل و وثّقوا صلاتهم بالأمل و وهبوا ذكائهم و جهدهم و حاضرهم للغد المشرق و المزهر خيّل لهم أنّ سرّ الجناة في الشبكة العنكبوتية ... و بعض آخر ذكّرني بماض بعيد رآه يتجدّد لصيقا بي .
غالبية مخاطبيّ أبدو حسرتهم لأن "مساعيد" و "مسعودات" الزّمن الماضي ظلّوا بعد أن غادرونا بلا خلف ينحو نحوهم ... و قالوا إنّ على المجتمع أن يجد لنفسه حلولا . و منهم من أكّد أنّ الحلول أصبحت مطلبا عاجلا بعد أن تبيّن أنّ الآليات و الهياكل و السبل و المناهج الحديثة و حدها إمّا إنها قاصرة أو إنّها ، على الأقل ، لا تكفي ...
أمّا سكّان الدار فهم ما يزالون في شبه ذهول و إنّ هم أظهروا أنهم عادوا إلى حياتهم المعتادة : ما يزال الإحساس بالمرارة لما حصل من اغتصاب و انتهاك ، و ما يزال الإحساس بالذّنب لما لم يعالج في حينه من ثغرات استغلّها الغاصبون و ما يزال الإحساس بانعدام الطمأنينة و خسران القدرة على معايشة الأمن و الأمان ...
و ما يزال كلّ يتّهم نفسه بالتّقصير و ينظر إلى الآخرين مشفقا عليهم و لكن محمّلا إياهم أيضا بعض الوزر.
و بإسم جميع سكّان الدّار أقول = "شكرا ألف شكر" . لكلّ من آزر و تجنّد و أعطى من جهده ووقته . و لكلّ من نصح و أسهم في محو الآثار المادية للعدوان و في سدّ ثغرات سهّلته و وضع معوقات أمام تجدّده.
 و أقول = "شكرا، ألف شكر" لكلّ من كلّف نفسه عناء  الاتّصال ليخفّف و يتعاطف أو حتّى لمجرّد أن يهوّن على نفسه و يذهب عنها عبئا يثقلها ...
و رغم  كلّ المبرّرات و الأعذار و التعلّات التي سمعتها أتمنّى أن لا يذهب بي الرأي يوما إلى القبول بحتميّة إخفاق من ورث دور "مساعيد و مسعودات" الزّمن الماضي في هذا الزمن الّذي نحياه أو نقع تحت وطأته، أو بمجاراة بعضهم في ما يومؤون إليه حين يهمسون : " الّلهم ..؟ ".
و أختم بأن أنادي المختصّين في علم الاجتماع و السياسة و علم النفس و علوم الإجرام  و المهتمينّ بالأخلاق و المثل و القيم و أهل الصحافة و الإعلام و الزيّاتين إلى أن يولوا الظواهر التي أصبحت ترهق النّاس و تحرم عيونهم النّوم و فكرهم الدّعة ، ما يناسبها من تعمّق و كشف و تشخيص و علاج .
و لصديق مثقّف لامني على أنّني لم أعط خاطرتي حقّها عندما اكتفيت بنشرها على صفحات جريدة محلّية ، أقول : أنا أصرّ على مرافقة "الجزيرة" لأنّني تعلّمت أنّ  العالم الأرحب يبدأ من داخل الدّار-دار كلّ منّا- ولا يقف عند بابها .
                                                                        
الصادق بن مهنّي
25 جوان 2010


خواطر من وحي كتاب :   Awladna. Nos ados. Que dire ? Que faire

                                    (سراس للنشر 2009)
 
 
 

اِنتظرتُ صدور هذا الكتاب بلهفة كبيرة.

لأنّني اِنتظرت منه إنارة لعتمة جامعة وهديا  إلى سواء السّبيل !

وها أنّني أقرأه بشغف وتأنّ، وأتمعّن في الأمثلة التي يصفها، وأحاول أن أفهم، أو بالأحرى أتفهّم، بعضا من وصاياهُ.

فأنا من جيل مخضرم. طفولتي ومراهقتي سارت بهما الأيام في وضع لم يكن كوضعنا الآن...

وخلال شبابي نهلت من التوجّهات التربوية التحرّرية، وتناغمت مع تجارب ما بعد ماي 1968، وقرأت أكثر من مرّة بشغف : "Libres enfants de Summerhill".

وأبًا، سعيت إلى أن أكون  لولديّ رفيقا وصديقا : أصاحبهما، وأمازحهما، وأعمل على أن أفهمهما، ولا أخفيهما أمرا، وأرى فيهما أقرانا ومساوين لي.

وأرجع الآن إلى طفولتي ومراهقتي : فأجد أبا كان بي رفيقا ولي صديقا وصاحب قلب كالدّنيا رغم فارق السنّ بينَه وبيني ورغم تكرّر الغياب وطوله. وأجد أمّا  ولدتني وهي لم تبلغ بعد العشرين، وربّتني بحرص وصرامة وكثير من الحنوّ والحبّ، وفَهََِمَتْ وأنا أتجاوز العاشرة أنّه أصبح عليها أن تصادقني وعاملتني معاملة رجل  وبكثير من الحنوّ واللّين... وأنا الآن لا أعتقد أو أحسّ أن مراهقتي عرفت إرهاصات عسيرة أو مررت خلالها بصعوبات مهمّة.

وأراجع نفسي أبا فأجدني  قد عرفت، ومازلت أعرف، صعوبات شتّى مع ولديّ : أحيانا لا أفهمهما وأشعر بأنّهما لا يفهمانني... وحدث أن فقدت معهما صوابي... بل وبلغت حدّ البدء في التّعنيف... كثيرا ما أحسّهما أقرب إلى نفسي من نفسي، وقد أنزف داخلي لأنّني أحسّ أحدهما بعيدا بُعدَ كوكب الزّهرة... وأحيانا كثيرة يصيبني الإحباط وأشعر أنّني فاشل، وأشكّ في قناعاتي... وأرجع إلى أصدقائي  فأجدهم أضرابي... ونناقش الوضع معا فنجد أنّنا "جيل فاشل"، أو أنّنا "ضحايا تناقض مع مجتمعنا وتباين مع قيمه وممارساته"، أو "أنّنا لم نفلح لا على مستوى المجتمع ككلّ ولا على مستوى نواته الأولى"، وما إلى ذلك ... ونهدّأ من روعنا بأن نجد في أطفالنا "مثقّفين خيرا من غيرهم" و"ناجحين أكثر من غيرهم" و"سائرين على درب التمرّد مثلنا" و"متعلّقين بنا في أعماقهم"، إلى غير ذلك...

وأمضي في قراءة الكتاب فأجد وجعا من وجعي، وإحباطا من إحباطي، وعناية من عنايتي، وتطلّعا إلى الفهم والفعل كتطلّعي. ولكن... أجد أيضا مناداة إلى رفق ومرافقة هي من شيمي، وتفسيرا، بل تبريرا، لتصرّفات خبرت مثيلاتها  وابتدعت لها التفاسير والتبريرات...

ولكنّي أجد أيضا نصحا بالحزم وبالصّرامة وبأن يقرن الرّفق أحيانا بالتشدّد وبأن يجمع بين المرافقة وبين ضبط الأدوار والفصل بين المواقع...

ولا أفهم... لا أتفهّم... لا أقتنع !

بل أجدُ حتّى تبريرا لشيء من القسوة مع المراهقين، إن لم يكن لتعنيفهم... بل ويبدو لي أنّ التبرير يصل أحيانا حدّ النصيحة !

وأجدني أسعى إلى الاقتناع... ففي الاقتناع لو حصل ما يخلّصني من جلد الذّات ومن النّدم على تصرّفات اِستثنائية صدرت عنّي.

ولا أقتنع !

وأواصل المضيّ في القراءة فأجد الدكتورين المختصّين يعلّمانني أنّ المراهقة واحدة، وإرهاصاتها واحدة، ومتاعبها واحدة، وتعبيراتها واحدة سواء تعلّق الأمر بمراهقين في بلدي (الآن وهنا) أو في فرنسا...

وأُعْجَبُ ثمَّ أَعْجَبُ لأنّ في ذلك ما يؤكّد أنّ الإنسان واحد، غرائزه وطباعه واحدة، ومشاكله وتطلّعاته واحدة. وأَعْجَبُ لأنّني أجد في اختلاف الظرف والوضع بين أيّام مراهقتي وبين أيّام مراهقة طفليّ ما يفسّر لي بعضا من الاختلاف بين ردود أفعالي وتصرّفاتي حينها وبين ردود أفعالهم وتصرّفاتهم الآن، فكيف لي أن أفهم أن لا فرق بين مراهق تونسيّ ومراهق فرنسي في وضعنا هذا، رغم فروقاته، وبقطع النّظر عمّا يسود من مناخات فكرية وثقافية واجتماعية ومادية لا شكّ أنّها لا تتماثل هنالك وهنا ؟

أَعْجَبَ لأنّني لا أرى التحليل النفسيّ يستند إلى المعطيات الاجتماعية-الاقتصادية ولا إلى الخصوصيات الثقافية وواقع عنف التحوّلات التي  تعرفها المجتمعات كلّها ولكن بتمايز.

وأقرأ ثمّ أقرأ وأجدُني أسأل : إذا ما نحن فسّرنا ما تفعله المراهقة ووجدنا تبريرات لجميعه ألا نكون بذلك نحمّل  أهل المراهقين المسؤولية جميعها، والحمل كلّه، ونكبّلهم بما يزيد في عبئهم وفي حيرتهم وفي عجزهم ؟

لكن... لعلّني لم أفهم. أو لعلّني لم أقرأ في الكتاب بل في نفسي !

وعلى أيّ حال أنا، وإن كان الكتاب قد زادني حيرة على حيرة ونمّى تساؤلاتي، أرى فيه مدخلا مناسبا إلى عالم يحتاج إلى عديد المداخل، وأرى في صدوره استجابة لحاجة عمّت واستعصت.

وهو ، وإن لم يشف غليلي، قد ساعدني ولا شكّ.

ولعلّ في ما ختمت به الحكمة التي سعى مؤلّفاه وناشره إليها بوضعه.
 

                                                            الصادق بن مهنــي

                                                            25 مارس 2009

5 juil. 2010

رغم أنفك

وهذه رواية أخرى تونسية موضوعها القمع والتعذيب وغياهب السّجون.

قصّة الرواية –التي كتبت صيف 1994 وصدرت عن "دار صامد" في جانفي 2010- بسيطة جدّا : ذات ليلة يهرب النّعاس عن جفني جابر العامل اليومي فيخرج ليستنشق نسمات ما قبل الفجر... يصادفه مناضلان يكتبان شعارات على الجدران ويوزّعان مناشير... يغلبه فضوله –هو الأمّي- فَيُقْبَضُ عليه متلبّسا بدهن تشرّب إلى قميصه من حائط اِتّكأ عليه وبمنشور اِلتقطه من تحت باب...


وتتسارع الأحداث : أعوانُ تحقيق يهمّهم جدّا أن يبيّنوا لرؤسائهم حزمهم وقدرتهم وتفانيهم وبريءٌ لا يفقه من الأمر شيئا... تكالب على افتكاك اِعترافات توسّع دائرة الصّيد وتكثر من الطّرائد، وغرٌّ لا يملك إلاّ أن يحكي عن صباه كراعي غنم هدّه الفقر وعزلته الجبال... وتنطلق ماكينة الاستجواب عبثية، لا زمام لها، لا يثنيها عن الفتك حدّ أو أحد... تعذيب يليه تعذيب... وبين التعذيب والتعذيب تعذيب... ويصمُتُ جابر... بل هو يردّ الفعل ويضربُ واحدا من المعتدين...


وينتهي الحال بجابر في السجن بتهمة "الانتماء" : سجين رأي في عنبر يغلب عليه مساجين الحقّ العامّ ويديره قوّاد والإدارة...

بعد ذلك تراوح الرّواية بين جابر يتعلّم –في كنف رفيق– السجن والقراءة ويكتشف عالم المكابدة من أجل شبر أكثر والنّضال من أجل الكرامة، وبين مجتمع مدنيّ غالبه شباب يقاوم كيفما استطاع إلى ذلك سبيلا...


وفي الأثناء ينتقل بنا الرّاوي من مراكز الشرطة والاستنطاق و"بيت عزرائيل" حيث تتفتّق عنجهية الجلاّدين عن ضروب من اللاإنسانية يبعث مجرّد وصفها على الغثيان، إلى الصراعات العمياء التي يخوضها المحبوسون يدفعهم إليها وَهَمُ السعي إلى البقاء، فإلى خارج السّجن حيث يستميت شباب عزّل يكاد الجوع يهدّهم في الدفاع عن مبادئ العدل والمساواة، وحيث تبذل زوجة كلّ شيء من أجل زوجها "سجين الانتماء" وحيث يجهد محام ذو مبادئ ليحافظ على عذرية ردائه ونصرة الحقّ.


وإذا كان جابر قد بدأ رحلته إلى أعماق الرّعب صدفة وبلا إرادة منه فإنّه سينهيها عنوة وبسابق تخطيط وإصرار فهو سيفرّ من قاعة المحكمة ليغرق في المدينة بحثا عن أمل : أمل إنقاذ أمّه التي أرّقها غيابه فغادرت جبلها إلى المدينة تضيع فيها بحثا عنه...

القصة بسيطة جدّا...وكتابتها عاديّة... لكنّ ذلك لم يمنع الرّواية من أن تكون نفّاذة ومؤثّرة... فهي تفتح نوافذ على دهاليز التعذيب والقمع تفضح حقاراتها المتستّرة بلبوس أمن الدّولة... وهي تأخذ القارئ إلى بطون السّجون تظهر زيف ادّعاءات القائمين عليها، وتبيّن أنّها ليس سوى مقابر يُدفن فيها أحياءً الضّعاف والمتمرّدون وأصحاب الأحوال وعاثرو الحظّ فينهش بعضهم بعضا ويتقاتلون... وإن هم تحابّوا وناصر بعضهم بعضا من حين لآخر.

وهي تبدي لنا، كما لو من خلف ستائر، شبابا ينبض ألما وبذلا ويشقى لا لشيء إلاّ لتكريس أفكار ومبادئ وأحلام...

ومقابل معاناة ومقاومة ومغالبة قد لا تكون وراءها إلاّ صدفة الوجود في مكان ما ذات زمن ما، تتكشّف "خلقةُ" السّلطة سادية، متعنّتة، هوجاء، مدرّبة ككلاب الدّم، منظّمة كجحافل بني صهيون.


من مفاتيح هذه الرواية نصيحة عمل بها جابر منذ صغره تقول : " إذا هاجمتك الكلاب إيّاك أن تهرب !"

ومن نقاط قوّة تأثيرها إطنابها في التّفاصيل...

أما استخدامهـا لكلمات وعبــارات وجمـل من الدّارجة التّونسيـة وحتّى تسلّل أخطاء لغويــة -تركيبية ونحوية- إليها فهما ممّا أكسبها عفوية ونوعا من الطبيعية وبساطة محبّبة أذهب عنها زيف الادّعاء وشطط المبالغة.


أخيرا أجدني مدفوعا لأن أصرّح أنّني قرأت رواية "... رغم أنفك" رغم أنفي، فأنا لم أسع إليها بل وجدتها، صدفة، بين يديّ... وأنا، بدءا، لم أستغرق في قراءتها بل رغبت في تركها، لكنّها ألحّت عليّ فقرأتها على دفعتين... ولم أندم... رغم أنّها أرهقتني لم أندم... ورغم أنّ ما وصفته من عذاب قد آلمني لم أندم...


وإذ أي أيقظت هذه الرواية زوايا كثيرة في ذاكرتي فإنّها قد أعادت إلى رؤياي، على الخصوص، رواية أخرى -أو لعلّها كانت مسرحية- قرأت بعضا من أوراقها خلال سبعينات القرن الماضي وأنا ببرج الرّومي : رواية كتبها سجين حقّ عام وصف فيها بعفوية طفولية لكن قاتلة تفاصيل حياته اليومية في الحبس وبدأ كلّ فصل منها وأنهاه بالجملة ذاتها : جملة قصيرة مدوّرة حادّة تحاكي دوران طابور المساجين في الساحة عند خروجهم من عنابرهم وقبل عودتهم إليها...




الصادق بن مهني

17 ماي 2010





... رغم أنفك

رواية عبد الجبّار المدّوري

صامد للتّوزيع والنّشر

طبعة أولى : جانفي 2010

251 صفحة

11 juin 2010

حال و أحوال ؟


يحدث من حين لآخر أن تفاجئني ذاكرتي، المرهقة والكسلانة في آن، بأن تضع أمام عينيّ، بالألوان وفي حجم كبير، صورة أو واقعة أو قولة أوردّة فعل قد لا أكون أوليتها –في حينها- ما يناسبها من أهميّة لكنّها رسخت، رغم ذلك، في الوجدان...

يحدث ذلك خصوصا، كلّما صُعِقْتُ أو فوجئت أو فجعت بحدث أو خبر لم أكن أتوقّعه من مأتاه أو نسيت أنّه عليّ أن أتوقّع من مأتاه كلّ غريب وكلّ مستهجن وكلّ موجع.

هذا ما جدّ، مثلا، منذ حوالي أسبوعين عندما فوجئت بالخبر التالي : جمعية صيانة جزيرة جربة تردّ الفعل على حديث أدلى به  السيد مسعود يامون وأخرجه السيد سليمان بن يوسف الأمين في كتاب وسمه بعنوان : "جمعياتنا البيئية = الحال والآمال" ، وتصدر بيانا تعلن فيه أنّها «تحتفظ لنفسها بحقّ مقاضاة المؤلّف والمستجوب لما تضمَنهُ [...] من تضليل وافتراء وثلب».

 صعقت وأصابني ذهول أو قد تكون غمرتني لوثة من غباء.

ولم أفهم ما يحدث : جمعية أهلية وتطوّعية رائدة وطموحة ويشهد لها بالسّبق والرّيادة وبالإنجازات، وتفلح عند الحاجة أو الرّغبة، في تجميع طاقات خيّرة حتّى ممّن لا يشاطرون مسيّريها، أو بعضهم، مناهج عملهم وطرق تصرّفهم، لا تتورّع عن أن تردّ بمثل هذا العنف وهذه العنهجية وهذا التسرّع وبعبارات من هذا القبيل الذي مجَته آذاننا ولفظته عقولنا ونكدّ علينا عيشنا وكلّت منه أفئدتنا... بل ويهزّها طرب الحنق فتنساب –في انبساط وخيلاء- نحو المحاكم جارّة إليها "المؤلف والمستجوب" معا آملة أن تصيبهما من ذلك بضربة قاضية تكمّم فاهيهما إلى الأبد وتكسبها هي صفاء لبنيا وعذرية الوليد.

 لم أفهم ما يحدث ولا كيف يمكن أن يحدث ما يحدث : فما أعلمه أنّ الجمعيات المدنية هي رحب تلتقي فيه القدرات والكفاءات والعزائم من كلّ الاتجاهات، وبكلّ الأحلام و أطياف التّوق، وأيّا كانت فروقات أو اختلافات طبائعها وبنياتها الفكرية والمزاجية... وما أعلمه أنّ متطوّعي الجمعيات يحرصون على النظر بعيدا صوب الأهداف والأغراض التي التقوا بسببها ويجهدون ليتجنّبوا أن يقف نظرهم عند حدّ أنوفهم، وليتلافوا الانجرار وراء ذاتيتهم  وليكبحوا غرورهم ويكمتوا ويكبتوا غريزة التباهي كلّ بسرّته والتفاخر كلّ بصرّته.

تجاوزني البيان وعسر عليّ فكّ طلاسمه واغبرّت أمام ناظريّ موارد فلسفته : فما ضرّ الجمعية أن يقول أحد أبرز أعضائها ريادة، واستمرارية، وعطاء فكريا ووثائقيّا وماديا- ما يعنّ له أن يقوله حتّى وإن بدا للبعض أنّ قوله قد تخلّله شيء من اللخبطة وانعدام الدقّة وربّما حتّى شيء من التجنّي...

هذا رفيق درب ثابت، صادق، طائيّ، ويعرف الجميع اندفاعه وحماسته وشدّة عشقه للجزيرة الذي يجعله أحيانا كثيرة يسوق دون كابح... هذا رفيق درب عبّر ليتنفّس، وليثير جدلا خصبا، وليحدث رجّة لا شكّ أنّه أرادها حبلى بالمراجعات المفيدة والتقييمات المعمّقة واستقراء البدائل الأنجع...

هذا رفيق درب قال ما قال وهو يخال أنّه بين أصحابه وأسرته وفي محيطه الطبيعيّ، وهو، لذلك، تكلّم بعفوية واندفاع فأدلى بقراءات لم يدقّقها- لكنّها قابلة للتدقيق بل وقد تكون قابلة حتّى للتصديق- وذكر بعض تفاصيل قد تكون جانبت الصّواب، لكنّها، على أيّ حال، غير مؤذية ولا شديدة الأهمية (فمتى كانت الخطط ضمن هيئات الجمعيات، مثلا، أمرا ذا بال في حدّ ذاته يمكن أن يتباهى به متباه كمنّة منه أو كعلوّ شأن مقارنة بخطط أخرى أو حتّى بانعدام الخطط؟ أو ليس العمل ضمن الجمعيات عملا جماعيا بحق ؟...)
أصبت بذهول وغشيت دماغي عتمة ظلماء... فجعت.

وإذا بذاكرتي تضع أمام عينيّ وبصيرتي صوتا رقيقا وعذبا وواثقا، صوت أستاذة علم الاجتماع فتحية بن سدرين الباروني تقول لي ذات مرّة مرّت عليها أكثر من عشرية : "يا الصادق، كفانا تجميلا للجزيرة ولناسها. ففي جربة –كما في غيرها- آفات، وشنائع، وخور...

أنظر مثلا إلى الأهالي كيف يتخاصمون ويتباغضون ويبذّرون وقتهم وجهدهم ومالهم في التّقاضي : هذا بسبب شبّاك فتحه أخوه، وذاك بسبب شبر من أرض استولى عليه ابن عمّه، والآخر لأنّه لم يرض بقسمة إرث في حجم جلد ثور لم تقطّعه عليسة  سيورا طويلة، وغيرهم لأنّه يبتغي أن يثبت لزوجه أنّه أعتى وأشرس من خاله...
وفيما هم يتخاصمون ويتباغضون ويبذّرون، انظر إلى جزيرتهم ومحيطهم كيف يتغيّر سبهللا وتدهورا : معالم تشوّه وحتّى تطمس، وعقارات منها مقابر تنهب، وفوضى عارمة..."

أختي العزيزة فتحية الباروني ! لعلك لم تقولي لي حينها كلّ هذا أو هذا بالضّبط ! ولعلّ ذاكرتي قد حسّنت أو أبدلت أو شذبت.
غير أنّني لا أعتقد أن ذلك يهمّ كثيرا ولا أخالك تعاتبينني عليه.
ولكنّني أردت أن تعلمي أن حديثا دار بيننا قبل أكثر من عشر سنوات قد انطبع فيّ، وأنقذني من العتمة. فأنا قد تعلّمت من دراستي ومن الحياة أنّ أوّل الخلاص الإدراك.

وإذ أعود إلى موضوع حديثي اليوم فإنّني أوجز بالقول : "شرنقة الدّودة وسط التّفاحة".

وإنّني لأدعو الجميع إلى التّريّث والحكمة والتعالي على الذّات... فلو انفتح باب من الأبواب التي في البيان فإنّ الأمور قد تتعدّى قدرة الكثيرين على التحمّل وتحفز شهية الحسّاد والغيورين والمتربّصين وتفكّ مكابح حتّى بعض ممّن في أنفسهم إحساس بضيم...

يا هيئة جمعية صيانة جزيرة جربة ويا أعضاءها : أناشدكم أن تصبّوا جهدكم على قضاياكم الحقيقية، وأن تتعاضدوا من أجل أغراضكم الأصلية، وأن تتآزروا لتصدّوا الاعتداءات التي تطال محيطكم وبعضا منكم، وأن تفسحوا المجال لتينع ألف ألف زهرة حتّى متى كان بعضها لا يوافق هواكم.
وعلينا جميعا أن لا يفوتنا أنّ الجمعية بتاريخها وتراثها وإنجازاتها وإخفاقاتها ملك مشاع يحق لأيّ من أعضائها ومناصريها –ولا ضيْر في ذلك البتّة !- استقراؤه واستنطاقه وتفسيره وفقا لما يراه واعتمادا على ما رسب في ذاكرته ورشح في وجدانه هو ذاته، وليس وفقا لخطّ مقَيِّدٍ يضعه أو يرضى به غيره.

رجاء : أغلقوا باب الصّقيع ! رجاء : لا تفتحوا باب الهاجرة !


                                                                                              24 مارس 2010

8 juin 2010

إلى فتحي بلحاج يحيى بمناسبة صدور كتابه : "الحبس كذّاب والحيّ يروّح"

إلى فتحي بلحاج يحيى بمناسبة صدور كتابه : "الحبس كذّاب والحيّ يروّح" ورقات من دفاتر اليسار في الزمــن البورقيبــي
اِشتهيت أن لا يكون كتابك الأوّل عن السّجن : فأنا على قناعة قديمة بأنّك كاتب. كاتب كاتب، لا مجرّد شاهد كتب. كاتب تلازمه الكلمة و تشدّه الفكرة وينقاد إلى الإبداع رغم عنائه. كاتب يمكن أن يكتب عن نفسه وذاته وعن الآخرين وعن أيّ شيء أو حدث، عن الأفراح وعن الأتراح، وحتّى… عن لا شيء.
لقد سبق أن قرأت لك عام 1980 ونحن بجناح "ه" من المغفور له حبس 9 أفريل قصيدة نثريّة كتبتها للمنشّط الثقافي والإعلامي فرج شوشان بعد أن شاهدنا له حوارا تلفزيا مع نزار قبّاني… ونهارها، أو ليلتها- أنت تعلم أنّ النّهار والليل في الزمن السّجنيّ كثيرا ما يستويان- يومها أدركت أنّك كاتب كاتب.
وخلال السنوات الأخيرة قرأت لك مقالات نشرت بعضها هنا وهنالك أو خصصتني، مع بعض آخرين، بأن أطلعتني عليها وإن لم تنشر، فازددت اقتناعا بأنّك كاتب-كاتب، بل ومبدع يقدر على الجمع بين طرافة الفكرة وشذى العبارة ورشاقة الهيكل.
وددت لو نشرت أوّلا عن مواضيع كشمس الغروب التي اقتحمتها بسيّارتك ونحن جذلون بعمل أنجزناه وبحر أنعم علينا. أو كالشرطيّ الذي جادلنا ذات فجر عن عبثية الوجود وعن الموت والنّضال وأشياء كثيرة لمجرّد أنّه اِقتنع أنّنا أناس من طينة أخرى وصحّ عنده أنّك إنّما اخترقت حواجزه لا تجاهلا ولا تحدّيا ولا هروبا بل لأنّ سعيك وراء فكرة أفقدك رؤية الأشياء أمامك. أو عن بعض حبيباتك، الكثر. أو عن اللحظة التي التقيت فيها بـ"داداك ديجة" وثبت لديك أنّ "المنزل الجربيّ" الذي ندخله بعد طول طواف في "الجوادّي" (المسالك الترابية) هو فعلا منزل أجدادك ومسقط رأس أبيك.. أو عن الشمس التي اكتوينا بها في أطراف مدنين والبئر الأحمر وسيدي مخلوف ذات صائفة اِستثنائية القيظ ونحن نعاين فقر أســر الأرياف وننسج من خيوط العنكبوت برامج تنمية لها. أو عن الجليل عبد الحفيظ الشابيّ الذي شغّلني وقبل أن تنضمّوا إليّ، أنت ولفيف من الرفاق الخارجين لتوّهم من الديجور، هم أيضا، في زمن عزّ فيه من يشغّلنا. أو عن الضّحك : ضحك نور الدّين بن خضر، في نومه وفي يقظته، ونوادر أبيك. أو عن باريس ما قبل… وما بعد… ولكنّ للكتابة مكرها. وللإبداع، ولا شكّ، حكمته.
قرأت كتابك ليلة توقيعك لنسخه الأولى… وبشغف. رغم أنّني كنت قرأت أغلبه مخطوطا.
ورغم أن كتابك يفوح حبسا، ومعاناة، وعذابا، فإنّني وجدت فيه كثيرا ممّا كنت أشتهي أن تكتب فيه … وجدت عاطفة. ووجدت هندا. وإنصاف الوالدين ؛ والوفاء الذي أعرفه فيك ؛ وحبّا خالصا وعنيفا ومستمرّا عشته بين ما عشته وتعيشه من قصص حبّ وعلاقات عشق لا تنتهي ؛ وتقديسك التعدَّدَ والتنوّع.. في كلّ شيء. ووجدت شيئا من المرح الذي يغلب على روحك والهزل الذي تتقنه. كما وجدتُك تنحو، من حين لآخر، نحو الجدل والحجاج والتفلسف…
كتابك، يا فتحي، أكّد لي أنّك كاتب-كاتب. وأنّك على أيّ حال كاتب ولو بلا ورقات يسار، ودون أن تكون مررت على سراط النّضال والعناد.
لكنّني، يا فتحي، وجدتك-في بعض ثنايا كتابك- تكبح جماحك وتحدّ من اندفاعك وتغالب حياءك فيغلبك… ومن ذلك أنّني رأيتك تكاد تبرّر ما لا يمكن ولا يجب تبريره، وتجد الأعذار لمن لا تعوزهم الأعذار ولا يحتاجون أعذارك بل ولا يستأهلونها.
كما أنّني أحسست أحيانا أنّك، لحيائك، حبّرت بعض الأمور على نحو قد ينقاد معه بعض القراء إلى متاهة تخيّل لهم أنّ ما عشته- ما عشناه كان نزهة أو "خرجة سافاري" مخطّطة مسبقا ومحسوبة العواقب… صحيح أنّ عنادك عِنادَنا وشاعريتنا الصّرفة قد سهّلا لنا عبور الدّيجور بأقلّ الخسائر… لكنّ الدّيجور كان وما يزال بآثاره التي لا تندمل ديجورا، كما كانت الجراح جراحا غائرة وبعضها لم ولن يندمل، وكانت العذابات عذابات ليس لنا نحن فحسب، أو حتّى أوّلا، بل لأهلنا وللأحبّة جميعا ولجيل كامل.
أمّا الظلم فكان جورا كثيف الطبقات متراصّها، جورا لا يبرّر ولا يفسّر ولا يغتفر.. جورا تعدّى أثره ضحاياه المباشرين وشلّ بعسفه وظلمائه أفئدة وأحلام أجيال كاملة ومقدّرات البلد.
فتحي ! يعجبني سموّ روحك، وجلدُكَ، وأخلاقك السّمحة، وتبرّعك بصكّ الغفران لمن لم يطلبوه، وإمالتك بصرك نحو المُشرِق والوضّاءِ والورديّ… لكن ألا ترى معي أنّ الدّم يحتاج هو أيضا لونَه ؟ وأنّ ما مَرَّ من العمر عصفًا وعسفا وما انطبع في الصّميم مُكَبِّلا للآتي يستأهل هو أيضا أن نصفه بدقّة ونذكره بتفصيل أمين، وأن يُعلن فاعلوه، أو ورثة فاعليه، أنّه كان أوعى من هفوة، وأقسى من محْنة عابرة، وأوسع من خيار فاعل أوحد، وأظلم من حقــد لا إراديّ، وأغلظ من ضربات عصا خزعبلات خريف عمر ؟
رفيقي، أخي، صديقي !
وجدتَ كثيرا منك في ما كتبتَ… ولكنّي حرتُ أحيانا أمام ما لن أسّميه – كما فعلت أنت- ضعفَ ذاكرة بل توقَا إلى النّسيان والتّجاوز. كما غضبت أحيانا وكلّما خُيّلَ إليّ أنّك تتعمّد ما قد يبدو جَلْدًا للذّات أو تقزيما لمعاناتها ولتَوْقِها وأنّك بقدر ما تتسامح معهم وتتساهل بقدر ما تتناسى شيئا من تفاصيل بعض من تَحَدِّينَا واندفاعنا ولو كان متهوّرا وبعضٍ من أفعالنا التي هي بطولات حقيقية وإن كانت بلا مستقبل… كما أحزنني أن تدفعك شدّة تواضعك حتّى لأن "تصغّر" الأحرف التي خطّ بها عنوان الكتاب واسمك على الغلاف.
رفيقي، أخي، صديقي : فتحي !
أكتفي، بهذا تحيّة على طريقتنا، مع تأكيدي أنّني لو كَتَبْتُ عمّا كَتَبْتَ عنه سألوم نفسي، دون شكّ، عن مثل ما لمتك عنه. وأنا آمل أن لا أعاتبك ذات يوم (قريب) لأنّك لم تعاود. بل إنّني على يقين أنّك ستعاود. فأنت كاتب-كاتب. ولست مجرّد مدوّن شهادة.
الصّادق بن مهنّي 27 أفريل  2009

 


  

7 juin 2010

حضرت حفلك في... الزهراء!



و رأيتك قبله تستعدّين له...رأيت اضطرابك و تركيزك وتردّدك و معاناتك و لحظات الضحك العالي تتلوها لحظات الانعزال و الانغلاق ...رأيتك تراوحين بين الانشراح المشطّ(وأنت تتبرّدين لا تحت الدشّ بل تحت إبزيم الحديقة) و بين القلق الموجع (وأنت تختلقين خصومات مع لينا و نرجس أختك و مع صديقيك)...
و في الحفلة رأيتك تبدئين الغناء... و العزف في شيء من الخشية و الرّهبة أمام هذا الحشد من المغرمين الذين جاؤوا من كلّ حدب و صوب و من مدن و قرى نائية, هذا الحشد الذي فاجأ المنظّمين و فاض المقهى الثقافيّ إلى ما جاوره.
أحسستك فخورة-فرحة, و أحسستك ترتعشين !
و مع تقدّم االسهرة رأيتك تزدادين ثقة و تركيزا, وتتماهين مع كلماتك و ألحانك...
و فجأة و أنت تغنّين هديّة السهرة- أغنية الشيح العفريت- انتبهت إلى أنّك لم تعودي تلك الطفلة المراهقة أو الخارجة من توّها من المراهقة التي رأيتها لأوّل مرّة تغنّي لذكرى نورالدّين بن خضر.
انتبهت إلى أنّك غدوت امرأة شابّة تنضج و تكبر ...
و سمعت صديقي فتحي بلحاج يخيى يقول لي بعد حفل المرسى : " عليها أن تنتبه لجسمها و أن تحافظ على التناغم ببينه و بين صوتها الذي فيه نبرة من الطفولة و البراءة و بينه و بين قسمات وجهها ... عليها أن تمارس الرياضة و تنتبه لما تلبس و أن تحسن انتقاء ما تغنّيه حتّى من حيث ألفاظه و حروف ألفاظه و حركاتها."
و رأيتك كما لو أنّك استمعت أليه بعد,و اقتنعت بعد, وحرصت بعد...
و انتبهت أنّك انتقلت من "لوك" الدجين و القميص إلى "لوك" الفساتين الخفيفة و الزاهية ...
وكم هزّني الطرب بعدها و أنا أعلم أنّ من انتقت لك كساءك و أعدّتك للظهور بذلك المظهر الرائق الذي جمع بين رقّة الأنوثة النتدّفقة و بين عذوبة البراءة البادية ليست إلاّ ... ابنتي صديقتي و صديقتك لينا.
و كم وجدت رائعة تلك الصور التي جادت بها قريحة الفنّان زهير بن عمر و حلّت لأيّم جريدته الحائطية بواجهة مخلّه بالزهراء و التي ركّزت على قدميك الحافيتين ...
في جمعك بين الأغاني الملتزمة و بين الطرب الأصيل الذي تخجل خفّته و حريّته أجيال هذا اليوم المتشّحة بالسواد, جمع بين حبّ الحياة و بين الحرص على أن تستمرّ الحياة و تزهر.
فلتستمرّي , و لتواصلي ...
و احرصي على أن لا تكوني وحدك !
30سبتمبر 2009 



 

5 juin 2010

عمّي الجيلاني : أنت، وإن غادرتنا، لم ولن ترحل !

أنت فينا... أنت مشرّش في وجداننا، أنت زيتونة ألفية ضربت بجذورها في كلّ أنحاء بلدنا... لا أحد لم يقرأ لك... بكلّ تأكيد : لا أحد لم يقرأ لك حتّى وإن شحّت القراءة : من لم يقرأ لك طفلا قصصك الممتعة قرأ لك تلميذا في الثانوي مأثرتك أنت وصديقك محمد المرزوقي عن حوادث الجلاّز، أو قرأ لك شابّا ما حقّقته من كتب، أو قرأ لك كهلا تلك الطّرف التي جمّعتها فأتحفتنا،... أمّا الشيوخ فقد عرفوك مناضلا وطنيا بقلمك، تجترح المستحيل فتخرج عليهم بمجلاّت لا تني ترفع رأسها رغم الهراوات... أنت فينا... في وعينا وفي لاوعينا : أنت قامة لا ولن تتمدّد... أنت فارس لا ولن يترجّل.
أنت فينا... في عقولنا وفي قلوبنا وفي كلّ أنحاء هذا الوطن.
لقد حميت لغتنا إذ قرّبتها إلينا أكثر بقواميسك، وكشفت لنا تحفا من تاريخنا أريد لها أن يطمرها النّسيان...
أنت فينا لأنّك كنت على الدّوام فاعلا وبناء بل مشيّد صروح :
المطالعة الوطنية، نادي القصّة، نوادي المدينة العتيقة، نوادي الثّقافة في كلّ مكان ، مسؤولياتك في وزارة الثّقافة وفي الألكسو... كفاحك ضمن جمعية صيانة جزيرة جربة... مكتبتك التي أهديتها لمسقط رأسك، دارك التي كانت مقصد كلّ باحث عن استفادة أو متعة فكرية أو توجيه... أنت فينا... فنحن أولادك... أنت في كلّ التونسيين ، لأن كل تونسيّ مدين لك بفكرة، بمعرفة، بكلمة، بإضاءة، ولأنّ أحبتك هم بكلّ ألوان الطيف !
أنت فينا لأنّك من القلائل الذين جمعوا فأوعوا... من القلائل الذين أحبّوا الناس جميعا ولم يبخلوا على أحد... أنت المثقّف العضوي الحقّ : كنت في كلّ مكان، ووقفت مع كلّ من استحقّ أن تقف معه
عمّي الجيلاني : أنت فينا جميعا ولكنّك في قدماء اليسار أكثر وأكثر :
لكم حميتنا، ودافعت عن براءتنا، لكم دفعت عنّا الطّوى، وتحمّلت المشاق من أجلنا. لم نحسّ أبدا أنّك والد رفيقنا فتحي وحده بل أحسسناك دائما أبانا جميعا وأحسسنا رفيقة دربك، خالتي حبيبة، أمّا لنا كلّنا
عمّي الجيلاني : آخر مرّة استمتعت خلالها ببسمتك الوضّاءة كانت حفل تقديم كتاب محمد الصالح فليس، وآخر مرّة سمعت فيها صوتك العذب الأبويّ كانت مهاتفتك لي قبل أيّام تعزّيني عن اغتصاب مسكني ونهبه
أذكر أنّك قلت لي : "عجبا لماذا تتهاطل المصائب دائما على الطيبين ؟ "
عمّي الجيلاني : أنا فخور لأنّك أشعرتني دائما أنّني واحد من أبنائك.
وأنا معتزّ لأنّك أحللتني في واحدة من إهداءاتك مقام ولدك
عمّي الجيلاني : كثيرا ما لمتني لأنّني لم أكتب كتابا وكثيرا ما هاتفتني فأحرجتني بإطرائك لهذا المقال أو ذاك ممّا كتبته بجريدة "الجزيرة" وكثيرا ما أشعرتني أنّك تنتظر أن تقرأ لي ولقد حدث أكثر من مرّة أن وعدتك : وقسما سأكون عند وعدي.
عمّي الجيلاني : انعم بمآثرك، التي لن يطويها الزّمن، وانعم بخصالك التي لا تنسى، وانعم بما زرعته وبثثته فينا : تقديس الجهد، وحبّ البذل، واحترام الآخر، والصبر الجميل، والتوق إلى الأجمل.
عمّي الجيلاني : أنت، وإن غادرتنا، لم ولن ترحل.
الصادق بن مهني