15 févr. 2013

بصيصُ أملٍ في فضاء عَتَمَة


 جريدة «الجزيرة» ـ فيفري 2013

أن تسافر على الطرق الطويلة وأنت تسوق سيّارتك ليس كأن تستقلّ لذلك وسيلة نقل عموميّ: قطارا أو حافلة!وأن تتجوّل في جربة بسيّارة ليس كأن تمشي على الأقدام!قد يبدو التأكيدان أعلاه تكرارا لجمل فارغة أو إعادة مسلّمات. ولكنّني لم أستخدمهما إلاّ لأنّني عشتُ في الأيّام الأخيرة ما جعلاهما يملآن وجداني ويدفعانني إلى أن أقرّر الاعتماد منذ الآن على المشي والوسائل العموميّة للنّقل.في أقلّ من أسبوعيْن سافرت من تونس إلى جربة والعكس ـ وبين جربة والجم ذهابا وإيابا ـ وبين جربة وقابس في الاتّجاهيْن، وتجوّلت على الأقدام في أنحاء عدّة من جربة فاكتشفتُ أنّني في الحافلة أرى ما لا أراه في السيّارة ـ لأنّك تكون أعلى وغير مركّز على السياقة ـ وصحبة أناس عديدين وليسوا ـ ضرورة ـ ممّن أنت متعوّد على صحبتهم. واكتشفتُ أنّني وأنا أمشي أرى ما لا أراه راكبا. لأنّك وأنت تمشي لا تركّز على الطريق إلاّ قليلا بل يسرح نظرك في جميع الاتّجاهات ويمكنك أن تتوقّف لتركّز على مشهد ما أو تغيّر زاوية النّظر وفي وسعك أن تتأمّل...وفي الحافلة كما في حالة المشي يمكن لذاكرتك أن تتفتّق بأكثر يسرـ فتسترجع من خباياها صورا ومشاهدا وأحداثا ـ فتمكن المقارنة ويتيسّر البناء على البناء ـ ويرتبط الأمس باليوم وينفتحان على الغد.في الحافلة عاينتُ ما لم أعاينه من قبل رغم كثرة تنقّلاتي: ما بين البطّاح وقابس أوّلا رأيت بوضوح تصحّر واحاتنا الجميلة ـ تصحّرها من نخلها ونخلها ورمّانها وطوابقها الزراعيّة الثلاثة ونخلها ـ وسطو الرّمل ـ عذرا الاسمنت ـ عليها... رأيت هذا من عرّام حتّى قابس... ولم يخفّف ما أحدثه ذلك في نفسي إلاّ ما رأيته من انبساط الزيتون على تلك المساحات الشاسعة التي كانت من قبل جرداء في «الدّخله» ما بين الجرف وعرّام... كتّانة لم تعد كتّانة... ومارث لم تعد مارث... وطلبلبو لم تعد طبلبو.. ومدخلا قابس من الجنوب ومن الشمال أصبحا ينطقان بالدّمار.زرعوا فأكلنا. ونحن لا نزرع بل ندمّر. ندمّر ونصحّر. بل نحن نفعل أكثر من أن نصحّر. فالتصحّر يُعالج ويُداوى ويمكن أن يُغلب. أمّا الاقتلاع ـ اقتلاع سنين بل عشريات وحتّى قرون من النّماء البطيء لكن المستمرّ ـ وإثقال الأرض ، كاهلها وباطنها، بالإسمنت المسلّح فيعسُر، إن لم يستحل، التدارك معهما.ونقول إنّنا بلد له استراتيجيّة لتهيئة ترابه. ونقول إنّنا بلد له مثال تهيئة عمرانيّة لحوالي 250 بلديّة. ونقول: إنّنا بلد لنا مخطّطات للسياحة وللفلاحة وللصّناعة وللتّعمير وللمناطق الهشّة وللمناطق الحسّاسة و... و... و!!!!ونزعم أنّ ما عملناه لحدّ الآن من فصول الثورة قد حقّق خيرا عميما وأنّنا بدأنا نبني ديمقراطيّة.أديمقراطيّة هذه؟!!! أَ مِنَ الديمقراطييّة أن نبدّد مواردنا الطبيعيّة وتراثنا الذي قدّه أسلافنا الخيّرون من جهدهم وعرقهم وسهرهم وإبداعهم؟! أَ مِنَ الديمقراطيّة ومن علامات الانتقال نحو الافضل أن تعمّ الفوضى والعشوائيّة مدننا وقرانا وأريافنا وأن يغدو معنى الحريّة الأوّل حريّة التبديد والإفساد والتعنّت والفردانيّة وتجاهل الآخر ـ الآخرين وسحق مقدّرات أجيالنا القادمة؟!وما شاهدته في النّواحي التي ذكرتُها آنفا شاهدتُ مثله في محيط صفاقس وبالجمّ... ورأيت أيضا كيف أنّ طرقاتنا تتهرّأ ولا من يهتمّ، وكيف تعمّ الأنقاض والأوساخ والزّبالة والبلاستيك كلّ مشاهدنا!ورأيتُ كيف تهرّأت تلك الواحة التي كانت فاصلا أخضر بين شنتش... النّجاة ـ التي بُنيت في الستّينات على ربوة جرداء بعد أن فاضت قابس المدينة ـ وبين قابس التاريخيّة وأصبحت تحتلّها هي وسبختها ـ بما كانت تعجّ به من حياة ـ مبان لا جماليّة فيها ولا أنغام ولا ميزة ولا خصوصيات، ومنها مبنًى كريه الواجهة يزاحم حتّى الطّوار ضيّق المدخل يشتدّ فيه الزّحام ويُسأل النّاس فيه: «شدّوك سكران؟ وعندك سلاح أبيض؟ علاش سيّبت نعاجك تسرح في غابة النّاس؟ .. إلخ، .. إلخ، .. إلخ.» ثمّ يُسأل فيه شباب تونس التوّاق إلى الشّمس والمتوثّب إلى الأمل الحقّ: «كتبتم على الحيطان؟». ويستوي بذلك ـ بل يُراد أن يستوي ـ من أذنب أو جَنح أو اعتدى أو أجرم ومن عبّر، عبّر، ولم يفعل سوى أن يعبّر!يستوي أو يُراد أن يستويَ، من لعلعه السّكر هربا من هموم الدّنيا فترنّح، ومن أطمعه برسيم أخضر في عام جدب، وشباب الثّورة الذين أطلقوا شعبا كاملا من قمقمه وتصدّوا للطّغيان وما زالوا ولن يزالوا يتصدّون!وأنا أنزل من حافلة ركبتُها فجرا وتعطّلت بعد البطّاح بقليل فذكّرتني بأيّام زمان ـ أيّام الدراسة بقابس وتنقّلاتنا كلّ ثلاثيّ التي كانت مغامرات أو كالمغامرات ـ شعرتُ بفخر إذ رأيت شبابا ـ فتيانا وفتيات ـ يتحدّون المنع والكبت والتسلّط والاستبداد المهين إثر ثورة، ويصدحون بحبّهم لبلادهم وعشقهم لناسهم ويعرّضون ذواتهم ـ ذواتهنّ ليكونوا هم ـ هنّ أيضا «زواوله» كالـ «زواوله» يُسألون أمام محاكم كان من الأجدى والأجدر أن تُسخّر لتبني حرّيتنا ـ كرامتنا ـ عدلنا فتُسائل وتحاسب وتحاكم من ينتظر غالبيّة النّاس أن يُساءلوا ويُحاسبوا ويُحاكموا!أمّا عن المشي فلا تسأل!بدت لي جربة هذه المرّة أكبر من كلّ غزاتها الجدد.زرت شاطئ حومة السّوق وطلب صديق أن يرى مسلّة «برج الرّوس».وكان لنا ذلك... المسلّة ما تزال هنالك وإن أزال حاكم خانع «برج الرّوس» ذاته بإلحاح من غاصب يتوثّب... ولكنّ الرّمز لم يُطمَر والأثر لم يُمحَ والتّاريخ لم يُنسَ...وكما الحال مع «برج الرّوس» الذي كان تعبيرا عن الإرادة والتحدّي والعزم والحزم، والذي دلّل على أنّ الشعب وإن شحّت قدراته قادر على تسخير القدر وتطويعه وصنع المستحيل، تظلّ جربة قادرة اليوم على الحفاظ على الكثير من ثرائها وميزاتها وخصوصياتها وحلاوتها...صحيح أنّ جربة تعاني وتئنّ وتبكي.وأنا أمشي: رأيت أجداث نخل اِقتُلع أو حُرق... في كلّ مكان... ورأيت زيتونا دهريا كم شاهد من غزاة يعبرون يجتثّ عند مداخل ميدون... ورأيت بنايات في وسعها أن تفوز بجوائز «البشاعة» أيّا كانت المعايير... ورأيت أناسا لا يهمّهم إلاّ بطونهم وما يحسبونه رفاههم... ورأيت تكثيفا عمرانيا بالطول والعرض وعموديا سدّ الآفاق وتطاول على التّاريخ وسرق الزّرقة الصّافية...ولكنّني رأيت أناسا ما زالوا يعشقون البساطة والصّفاء والجمال.ورأيت زياتين تصمد بحَبّها الخيّر وحُبّها المضيء وسخائها الأزليّ... ورأيت النّخل يعود من توحّشه الذي صيّره إليه الإهمال فيعطي ويغري...رأيت أناسا يجاهدون ـ يجمعون الزيتون ـ يرعون أراضيهم ـ يحيون منازلهم ـ يعودون إلى عشق شواطئهم المنعزلة و«غاباتهم» التي كانت مهجورة وينظرون بعيون الشفقة إلى كلّ أولئك يتهالكون على الرّبح السّريع أسمنتا و«مناشر» و«نصبات» غزت حتّى ما لا يُغزى...أن تسافر في الحافلة يعني أيضا أن توهب فرصة بل فرصا لتقابل أناسا من كلّ الأعمار وكلّ الجهات وكلّ الخلفيات وكلّ الأفكار والرؤيات والآراء...غير أنّني لن أفصّل في هذا إذ يكفي ما أطلت... فقط أريد أن أقول للثوريين والسّاسة: «سافروا على وسائل النّقل العمومي... وستكتشفون مظاهر وعناصر ومعطيات وناسا لم تكونوا تتوقّعون سبلا إليها وإليهم.»
27 جانفي 2013

يد عون الى ان نمضي قدما

قبل أشهر كنبت أنّ الثّورة تتواصل بين مدّ وجزر وجزر .ولمّا ابتغت الجريدة حذف"جزر" الثّانية تمسّكت بها .وها أنّتي الآن أقول "إنّ الثّورة تستمرّ بين جزر ومدّ ومدّ..."بل وها أنّني أضيف "بل الثّورة أصبحت في مدّ عظيم ، هائل هادر و...ممتدّ."
لاحظوا :قليل هم  أولئك الذين يتسائلون "من القاتل؟"واستمعوا إلى الحناجر الهادرة : حناجر النّساء والبنات  والشّبّان والعجائز والأطفال  والكهول جميعا تعلن من هو القاتل  ، بل من هم القتلة ، وتتحدّى ...
تأمّلوا الصّور والفيديوهات : لا أحد كان يقود ...لا أحد كانت تصدر عنه الشّعارات لوحده ...التّاس جميعا كانوا يبادرون - يعبّرون – يصدحون – يفضحون- يتصدّون- يتعالون على الألم والغضب – ويدعون إلى أن نمضي قدما .
وتأمّلوا صور وفيديوهات وكلمات الطّرف الآخر: هجومات على الجنازة خارج المقبرة وداخلها (وأنا أعتذر هنا لفتى خطفوا هاتفه وحاول التّصدّي وكان شجاعا لكنّهم كانوا كثرا ورموه بالحجارة وهدّدوه بموسى ولم يكن في وسعي أن أنصره ...وعذري أنّني لم أعد في عنفواني وأنّني كنت حينها أحمي آخرين ...حدث ذلك في الطّريق إلى مربّع الشّهداء ) وغازات "تخطئ" طريقها فتتهاطل على الموكب وعلى المستشفى بدل أن تستهدف السّرّاق والمخرّبين ،وسيّارات – كميونات تهرّب المفسدين تسرع فتهدّد المعزّين والمارّة:وأناس "يخشون الله" يسبّون الشّهيد ويلعنون ذكراه ويتبجّحون علنا على الشّاشات وفي الشّوارع أنّهم لا يأسفون لاغتياله ، ووزراء يمتنعون عن الإقرار بشهادة الشّهيد وهو لم ينتظره منهم يوما – وسارقو الدّين  - وآسرو الله – يدّعون أن لا أحد يعرف تعاليمه سواهم – وينسبون له نصرته لهم وليسوا لا رسلا ولا أنبياء ولا حتّى أولياء صالحين ينفثون حقدهم وبغيهم ووعيدهم في كلّ مكان .
لا حاجة لنا أن نعرف من القاتل – القتلة فلقد عرفتهم الحناجر المتعالية على ألمها .
لا حاجة لنا أن نعرف من القاتل – القتلة فهو- هم  قد فضحوا أنفسهم هذا بصمته ،وذاك بصلفه والأخرى بادّعاءاتها وتبجّحها .
لا حاجة لنا أن نعرف من القاتل –القتلة فهو – هم قد أبانوا عن هويّاتهم بصلفهم- ووعيدهم-تهديداتهم  وبعبيدهم الذين سخّروهم – حرّكوهم على الشّبكة يفبركون وقائع مزيّفة ويركّبون الشّهادات المضلّة .
لا حاجة لنا أن نعرف من القاتل – القتلة ، فنحن وهم نعرف من القاتل القتلة وإن لم نعلم من ضغط على الزّرّ.
ولنتأمّل ما حدث وما يحدث ولنستعدّ لما سيحدث .
ارتقوا إلى السّلطة بالانتخابات ... لكنّه كان للانتخابات غاياتها  وكان للمرحلة استحقاقاتها وكان للسّلطات الوقتية إطار محدّد ... وتجاوزت السّلطات الوقتية إطارها المضبوط صلوحيات وأهدافا ، وتعدّت الظّرف الزّمنيّ المقرّر لها . ولم تهتمّ إلّا بغزو أجهزة الدّولة تركّز فيها تابعيها . ولم" تناضل" إلّا من أجل تأبيد بقائها على رأس حكم وإن وهن وتشتّت وغدا عاجزا عن الاستجابة لأبسط أحلام النّاس ولتأمين أدنى حقوقهم في البقاء ...أي أنّ السّلطات المؤقّتة تنكّرت عمليّا وعلى أرض الواقع لأحلام كلّ الذين تمرّدوا – تمرّدن وثاروا – ثرن ، وانقلبت حتّى على من انتخبوها ، وفشلت فشلا ذريعا – وهذا من طبعها وطبيعتها – في أن تصغي لنبض الشّارع ، ولم تتجنّد إلّا للتّرحيب بكلّ من هبّ ودبّ ممّن أنقدونا من مالهم  وكلامهم من المتعجرفين  والمتخلّفين والجهلوت  واللّاهثين شبقا يتستّر بالدّعوة ...
هم لم يخونوا الثّورة وأهداف الثّورة والشّهداء والجرحى . لا ، كلّا ، وألف كلّا . فهم لم يكونوا يوما مع الثّورة  ولا مع أهداف الثّورة وإن ادّعوا ذلك مخاتلة وتغريرا و خداعا .
هم هواة سلطة ... سلطة مطلقة ولم تستهويهم يوما المبادئ  التي توافقت عليها الإنسانية جمعاء وإن هم استمتعوا بغلّاتها .
هم غرباء عن هذا البلد تاريخا وفكرا وحسّا وجغرافية : انظروهم يدرّسون أبناءهم وبناتهم بالغرب الذي يشتمونه ...وانظروهم يؤسّسون الشّركات ويستملكون العقارات هناك ، وتذكّروا: كلّ الفاسدين والطّغاة يسارعون باستملاك عقارات خارج بلدانهم بل ذلك هو أوّل ما يفعلون ... وهؤلاء فعلوا حتّى قبل أن يتربّعوا على العرش...
هم سلاطين وخلفاء و أمراء ونحن في عرفهم رعايا – مسخّرون – أتباع –جواري  سريّات – منقادون – بل متاع .
الصّورة واضحة وجلية : هم قد أدركوا أنّ ما ادّعوه عن تمثيل الشّارع ووقوف النّاس وراءهم ليس إلّا سرابا ...هم تبيّنوا أنّ كلّ الأموال التي يستلفونها على حساب مستقبل أبنائنا لا تكفيهم لحلّ مشاكل النّاس هم فهموا أخيرا أنّ صلفهم وطمعهم ووعيدهم وتباكيهم وادّعاءاتهم هي كلّها تكتيكات غدت فاشلة وعاجزة ...هم قد أدركوا أنّهم لم يعد أمامهم للبقاء على عرش السّلطة إلّا طريق العنف والقمع والقهر والتّقتيل ...
لكنّهم سيكتشفون – وإن بعد أن يكونوا قد أحدثوا دمارا هائلا وجراحا مثخنة – أنّ هذا الشّعب قد تعلّم كيف يتغلّب على خوفه وكيف يغالب وجعه وكيف يروّض القدر ويمضي .
النّاس اختاروا مسارهم ...الجماهير هدرت بأهدافها ...نساؤنا زغردن للشّهيد وزغردن للمستقبل الوضّاء .فهل ستجد الطبقة السّياسية هذه المرّة سبيلها إلى ملاقاة النّاس ومستقبلهم؟               


مقال بجريدة ضد السلطة بتاريخ 16 فيفري 2013

3 févr. 2013

ثور يا صادق ثور

أيّام الدّراسة بالمعهد الثّانوي بقابس – وكنت بيّاتا بالمعهد الفنّي – كنت من أولئك الذين يسهرون طويلا ويعسر عليهم أن ينهضوا باكرا . وكان رفيقي بالمعهد ، ساكن السّرير العلويّ ،على عكسي، ولذلك كان يسعى كلّ صباح لإيقاظي بأن يهزّني هزّا ويناديني : "ثور يا صادق ، ثور ."
وبعد ذلك بسنوات طويلة التقيت رفيقي  - إيّاه- وأنا خارج للتّوّ من جامعة برج الرّومي... عانقني بحرارة وهمس في أذني : " أعتقد أنّ سوء تفاهم قد حصل بيننا ... حين كنت أناديك لأن تثور. لم يكن في خاطري فعل الثّورة بل أن تنهض ... من نومك "
قفزت إلى ذاكرتي هذه "الطّرفة"( ولم تكن طرفة بل واقعة) وأنا في طريقي إلى محاكمة "زواولة"بقابس .
ومعها قفزت كلّ التّساؤلات التي غدوت أسمعها كلّ يوم حتّى أرهقتني بل أنهكتني :" هل أنجزنا ثورة ؟ ألم تكن مجرّد انتفاضة ؟ بل ألم تكن تضافر أفعال أهمّها مؤامرة أو انقلاب ؟ وألم يكن العامل الخارجي هو المحدّد ؟ وألم نكن على حال أحسن من قبل ؟...إلخ"
لن أجيب على هذه التّساؤلات هنا ، بل إنّني سألامس بعضها وأجدّد دعوة رفيقي في الثّانوي: "ألا انهضوا يا شباب تونس واستمرّوا ، استمرّوا فالقمر في متناول أياديكم ." ألا انهضوا  من النّهوض وضدّه القعود ، وليس من نهضة همّها أن تخضعنا للأجداث و"العبابث" والكتب  البالية .ألا ثوروا- ثوروا – ثمّ ثوروا ، واستمرّوا : بدأتم وأفلحتم ، وائتمنتمونا فخذلناكم – لكن الغد - بل اليوم – في أيديكم ،حناجركم ،لوحات حواسيبكم ، تظاهركم،اعتصاماتكم ،أشعاركم ، رسومكم ، مسلسلاتكم المصوّرة ، فديوهاتكم ، قرافيتيكم ، مسرحيّاتكم ، إبداعاتكم وإن حسبها الخاسئون كفرا .ألا تجاوزونا ولا تقدّمونا بل سخّرونا : أنتم النّخبة والحقّ والصّدق والتّطلّع والفلاح ، وأفضل من فينا لا يصلح إلّا أن يكون جنديّا في خدمتكم ... فلتبدعوا ، ولتنتفضوا ولتفاجئونا مرّة أخرى بل مرّات ومرّات ، ولترفضوا نزوعنا إلى الإحباط والتّفلسف المرضيّ  والتشاؤم أو حتّى التّـشاؤل ".
القضية لم تعد قضيّة " شغل  وحرية وكرامة وطنية " فحسب . القضية غدت مسألة بقاء  .والسّؤال المطروح صار ك:هل نحن حقّا جديرون بأن نكون  إنسا كالإنسانية  جمعاء      و مواطنين كاملي المواطنة كما حلمنا ؟
القضية يا بناتي وأخواتي ويا أبنائي وإخوتي يا أيها السّاعون إلى الشّمس والسّاعيات إلى الجنّة الحقّة ، القضية غدت الآن تمسّ كياننا وبقاءنا وجدارتنا بأن ننتمي فعلا إلى الجنس البشريّ ، وأن لا نداس بالنّعال ، وأن لا نهان كلّ يوم ولحظة في بلدنا وأطفالنا وتاريخنا وإرثنا وحقوقنا ، وأن لا نتحوّل جواري– غلمانا – تابعين – عبيدا- سريّات ، وأن لا تكمّم أفواهنا وتقطّع أصابعنا ويقيّدنا هؤلاء القادمون إلينا من قصور أوروبا وبول بعير  الأعراب من خلاف ، وتكسّر أقلامنا وألسنتنا ... القضية أضحت يا أعزّائي  - عزيزاتي أن نحفظ قليلا من ماء وجهنا وأن ننفض عن وطننا هؤلاء الجهلوت – المرضى الخارجين من ظلمات الدّهور المتمترسين وراء الدّولار ...
من قبل كنت ألعن الزّمن والظّروف وقلّة وعيي وخور عزيمتي لأنّني لم أكافح كفاية حتّى تواصل أخواتي كلّهنّ دراستهنّ ... من قبل كنت ألوم نفسي على تقصير إزاء الأخوات – الصّديقات – الرّفيقات - الحبيبات -  زوجتي ، لأنّي لم أعاملهنّ أحيانا ككاملات لا كمكمّلات ...
واليوم ها أنّني أرى كلّما تحقّق يراد هدمه ودحره وطمره ... وأرى صغيرات في عمر الورد المتفتّح يوأدن بالحياة ، في جلابيب حالكة ، يتصيّدهنّ شيوخ الشّبق في سنّ التّاسعة ، ويراد لهنّ أن يكنّ مجرّد خديمات – متع -  خنوعات ... وأرى عسفا وقهرا وقيودا وخسفا وإيذاء ...
أرى أمّي - خالتك - عمّتك – بناتنا  - أخواتكم – زوجاتنا – رفيقات دربكم يرمين في غياهب الجهل والتّحقير ... أرانا نساق جميعا رعايا بلا إرادة ولا قدر ، أرانا نعصر ونؤكل أحياء ...
أفهل هذا قدرنا نحن من هبّ بناتن
ا وأبناؤنا يسخّرون القدر لإرادتهم ؟
ألا ثوروا وتمرّدن والفظوهم وعاندن الزّمن الماكر ... واستمرّوا .

مقال في ضد الشلطة بتاريخ ٢ فيفري 2013