11 juin 2010

حال و أحوال ؟


يحدث من حين لآخر أن تفاجئني ذاكرتي، المرهقة والكسلانة في آن، بأن تضع أمام عينيّ، بالألوان وفي حجم كبير، صورة أو واقعة أو قولة أوردّة فعل قد لا أكون أوليتها –في حينها- ما يناسبها من أهميّة لكنّها رسخت، رغم ذلك، في الوجدان...

يحدث ذلك خصوصا، كلّما صُعِقْتُ أو فوجئت أو فجعت بحدث أو خبر لم أكن أتوقّعه من مأتاه أو نسيت أنّه عليّ أن أتوقّع من مأتاه كلّ غريب وكلّ مستهجن وكلّ موجع.

هذا ما جدّ، مثلا، منذ حوالي أسبوعين عندما فوجئت بالخبر التالي : جمعية صيانة جزيرة جربة تردّ الفعل على حديث أدلى به  السيد مسعود يامون وأخرجه السيد سليمان بن يوسف الأمين في كتاب وسمه بعنوان : "جمعياتنا البيئية = الحال والآمال" ، وتصدر بيانا تعلن فيه أنّها «تحتفظ لنفسها بحقّ مقاضاة المؤلّف والمستجوب لما تضمَنهُ [...] من تضليل وافتراء وثلب».

 صعقت وأصابني ذهول أو قد تكون غمرتني لوثة من غباء.

ولم أفهم ما يحدث : جمعية أهلية وتطوّعية رائدة وطموحة ويشهد لها بالسّبق والرّيادة وبالإنجازات، وتفلح عند الحاجة أو الرّغبة، في تجميع طاقات خيّرة حتّى ممّن لا يشاطرون مسيّريها، أو بعضهم، مناهج عملهم وطرق تصرّفهم، لا تتورّع عن أن تردّ بمثل هذا العنف وهذه العنهجية وهذا التسرّع وبعبارات من هذا القبيل الذي مجَته آذاننا ولفظته عقولنا ونكدّ علينا عيشنا وكلّت منه أفئدتنا... بل ويهزّها طرب الحنق فتنساب –في انبساط وخيلاء- نحو المحاكم جارّة إليها "المؤلف والمستجوب" معا آملة أن تصيبهما من ذلك بضربة قاضية تكمّم فاهيهما إلى الأبد وتكسبها هي صفاء لبنيا وعذرية الوليد.

 لم أفهم ما يحدث ولا كيف يمكن أن يحدث ما يحدث : فما أعلمه أنّ الجمعيات المدنية هي رحب تلتقي فيه القدرات والكفاءات والعزائم من كلّ الاتجاهات، وبكلّ الأحلام و أطياف التّوق، وأيّا كانت فروقات أو اختلافات طبائعها وبنياتها الفكرية والمزاجية... وما أعلمه أنّ متطوّعي الجمعيات يحرصون على النظر بعيدا صوب الأهداف والأغراض التي التقوا بسببها ويجهدون ليتجنّبوا أن يقف نظرهم عند حدّ أنوفهم، وليتلافوا الانجرار وراء ذاتيتهم  وليكبحوا غرورهم ويكمتوا ويكبتوا غريزة التباهي كلّ بسرّته والتفاخر كلّ بصرّته.

تجاوزني البيان وعسر عليّ فكّ طلاسمه واغبرّت أمام ناظريّ موارد فلسفته : فما ضرّ الجمعية أن يقول أحد أبرز أعضائها ريادة، واستمرارية، وعطاء فكريا ووثائقيّا وماديا- ما يعنّ له أن يقوله حتّى وإن بدا للبعض أنّ قوله قد تخلّله شيء من اللخبطة وانعدام الدقّة وربّما حتّى شيء من التجنّي...

هذا رفيق درب ثابت، صادق، طائيّ، ويعرف الجميع اندفاعه وحماسته وشدّة عشقه للجزيرة الذي يجعله أحيانا كثيرة يسوق دون كابح... هذا رفيق درب عبّر ليتنفّس، وليثير جدلا خصبا، وليحدث رجّة لا شكّ أنّه أرادها حبلى بالمراجعات المفيدة والتقييمات المعمّقة واستقراء البدائل الأنجع...

هذا رفيق درب قال ما قال وهو يخال أنّه بين أصحابه وأسرته وفي محيطه الطبيعيّ، وهو، لذلك، تكلّم بعفوية واندفاع فأدلى بقراءات لم يدقّقها- لكنّها قابلة للتدقيق بل وقد تكون قابلة حتّى للتصديق- وذكر بعض تفاصيل قد تكون جانبت الصّواب، لكنّها، على أيّ حال، غير مؤذية ولا شديدة الأهمية (فمتى كانت الخطط ضمن هيئات الجمعيات، مثلا، أمرا ذا بال في حدّ ذاته يمكن أن يتباهى به متباه كمنّة منه أو كعلوّ شأن مقارنة بخطط أخرى أو حتّى بانعدام الخطط؟ أو ليس العمل ضمن الجمعيات عملا جماعيا بحق ؟...)
أصبت بذهول وغشيت دماغي عتمة ظلماء... فجعت.

وإذا بذاكرتي تضع أمام عينيّ وبصيرتي صوتا رقيقا وعذبا وواثقا، صوت أستاذة علم الاجتماع فتحية بن سدرين الباروني تقول لي ذات مرّة مرّت عليها أكثر من عشرية : "يا الصادق، كفانا تجميلا للجزيرة ولناسها. ففي جربة –كما في غيرها- آفات، وشنائع، وخور...

أنظر مثلا إلى الأهالي كيف يتخاصمون ويتباغضون ويبذّرون وقتهم وجهدهم ومالهم في التّقاضي : هذا بسبب شبّاك فتحه أخوه، وذاك بسبب شبر من أرض استولى عليه ابن عمّه، والآخر لأنّه لم يرض بقسمة إرث في حجم جلد ثور لم تقطّعه عليسة  سيورا طويلة، وغيرهم لأنّه يبتغي أن يثبت لزوجه أنّه أعتى وأشرس من خاله...
وفيما هم يتخاصمون ويتباغضون ويبذّرون، انظر إلى جزيرتهم ومحيطهم كيف يتغيّر سبهللا وتدهورا : معالم تشوّه وحتّى تطمس، وعقارات منها مقابر تنهب، وفوضى عارمة..."

أختي العزيزة فتحية الباروني ! لعلك لم تقولي لي حينها كلّ هذا أو هذا بالضّبط ! ولعلّ ذاكرتي قد حسّنت أو أبدلت أو شذبت.
غير أنّني لا أعتقد أن ذلك يهمّ كثيرا ولا أخالك تعاتبينني عليه.
ولكنّني أردت أن تعلمي أن حديثا دار بيننا قبل أكثر من عشر سنوات قد انطبع فيّ، وأنقذني من العتمة. فأنا قد تعلّمت من دراستي ومن الحياة أنّ أوّل الخلاص الإدراك.

وإذ أعود إلى موضوع حديثي اليوم فإنّني أوجز بالقول : "شرنقة الدّودة وسط التّفاحة".

وإنّني لأدعو الجميع إلى التّريّث والحكمة والتعالي على الذّات... فلو انفتح باب من الأبواب التي في البيان فإنّ الأمور قد تتعدّى قدرة الكثيرين على التحمّل وتحفز شهية الحسّاد والغيورين والمتربّصين وتفكّ مكابح حتّى بعض ممّن في أنفسهم إحساس بضيم...

يا هيئة جمعية صيانة جزيرة جربة ويا أعضاءها : أناشدكم أن تصبّوا جهدكم على قضاياكم الحقيقية، وأن تتعاضدوا من أجل أغراضكم الأصلية، وأن تتآزروا لتصدّوا الاعتداءات التي تطال محيطكم وبعضا منكم، وأن تفسحوا المجال لتينع ألف ألف زهرة حتّى متى كان بعضها لا يوافق هواكم.
وعلينا جميعا أن لا يفوتنا أنّ الجمعية بتاريخها وتراثها وإنجازاتها وإخفاقاتها ملك مشاع يحق لأيّ من أعضائها ومناصريها –ولا ضيْر في ذلك البتّة !- استقراؤه واستنطاقه وتفسيره وفقا لما يراه واعتمادا على ما رسب في ذاكرته ورشح في وجدانه هو ذاته، وليس وفقا لخطّ مقَيِّدٍ يضعه أو يرضى به غيره.

رجاء : أغلقوا باب الصّقيع ! رجاء : لا تفتحوا باب الهاجرة !


                                                                                              24 مارس 2010

8 juin 2010

إلى فتحي بلحاج يحيى بمناسبة صدور كتابه : "الحبس كذّاب والحيّ يروّح"

إلى فتحي بلحاج يحيى بمناسبة صدور كتابه : "الحبس كذّاب والحيّ يروّح" ورقات من دفاتر اليسار في الزمــن البورقيبــي
اِشتهيت أن لا يكون كتابك الأوّل عن السّجن : فأنا على قناعة قديمة بأنّك كاتب. كاتب كاتب، لا مجرّد شاهد كتب. كاتب تلازمه الكلمة و تشدّه الفكرة وينقاد إلى الإبداع رغم عنائه. كاتب يمكن أن يكتب عن نفسه وذاته وعن الآخرين وعن أيّ شيء أو حدث، عن الأفراح وعن الأتراح، وحتّى… عن لا شيء.
لقد سبق أن قرأت لك عام 1980 ونحن بجناح "ه" من المغفور له حبس 9 أفريل قصيدة نثريّة كتبتها للمنشّط الثقافي والإعلامي فرج شوشان بعد أن شاهدنا له حوارا تلفزيا مع نزار قبّاني… ونهارها، أو ليلتها- أنت تعلم أنّ النّهار والليل في الزمن السّجنيّ كثيرا ما يستويان- يومها أدركت أنّك كاتب كاتب.
وخلال السنوات الأخيرة قرأت لك مقالات نشرت بعضها هنا وهنالك أو خصصتني، مع بعض آخرين، بأن أطلعتني عليها وإن لم تنشر، فازددت اقتناعا بأنّك كاتب-كاتب، بل ومبدع يقدر على الجمع بين طرافة الفكرة وشذى العبارة ورشاقة الهيكل.
وددت لو نشرت أوّلا عن مواضيع كشمس الغروب التي اقتحمتها بسيّارتك ونحن جذلون بعمل أنجزناه وبحر أنعم علينا. أو كالشرطيّ الذي جادلنا ذات فجر عن عبثية الوجود وعن الموت والنّضال وأشياء كثيرة لمجرّد أنّه اِقتنع أنّنا أناس من طينة أخرى وصحّ عنده أنّك إنّما اخترقت حواجزه لا تجاهلا ولا تحدّيا ولا هروبا بل لأنّ سعيك وراء فكرة أفقدك رؤية الأشياء أمامك. أو عن بعض حبيباتك، الكثر. أو عن اللحظة التي التقيت فيها بـ"داداك ديجة" وثبت لديك أنّ "المنزل الجربيّ" الذي ندخله بعد طول طواف في "الجوادّي" (المسالك الترابية) هو فعلا منزل أجدادك ومسقط رأس أبيك.. أو عن الشمس التي اكتوينا بها في أطراف مدنين والبئر الأحمر وسيدي مخلوف ذات صائفة اِستثنائية القيظ ونحن نعاين فقر أســر الأرياف وننسج من خيوط العنكبوت برامج تنمية لها. أو عن الجليل عبد الحفيظ الشابيّ الذي شغّلني وقبل أن تنضمّوا إليّ، أنت ولفيف من الرفاق الخارجين لتوّهم من الديجور، هم أيضا، في زمن عزّ فيه من يشغّلنا. أو عن الضّحك : ضحك نور الدّين بن خضر، في نومه وفي يقظته، ونوادر أبيك. أو عن باريس ما قبل… وما بعد… ولكنّ للكتابة مكرها. وللإبداع، ولا شكّ، حكمته.
قرأت كتابك ليلة توقيعك لنسخه الأولى… وبشغف. رغم أنّني كنت قرأت أغلبه مخطوطا.
ورغم أن كتابك يفوح حبسا، ومعاناة، وعذابا، فإنّني وجدت فيه كثيرا ممّا كنت أشتهي أن تكتب فيه … وجدت عاطفة. ووجدت هندا. وإنصاف الوالدين ؛ والوفاء الذي أعرفه فيك ؛ وحبّا خالصا وعنيفا ومستمرّا عشته بين ما عشته وتعيشه من قصص حبّ وعلاقات عشق لا تنتهي ؛ وتقديسك التعدَّدَ والتنوّع.. في كلّ شيء. ووجدت شيئا من المرح الذي يغلب على روحك والهزل الذي تتقنه. كما وجدتُك تنحو، من حين لآخر، نحو الجدل والحجاج والتفلسف…
كتابك، يا فتحي، أكّد لي أنّك كاتب-كاتب. وأنّك على أيّ حال كاتب ولو بلا ورقات يسار، ودون أن تكون مررت على سراط النّضال والعناد.
لكنّني، يا فتحي، وجدتك-في بعض ثنايا كتابك- تكبح جماحك وتحدّ من اندفاعك وتغالب حياءك فيغلبك… ومن ذلك أنّني رأيتك تكاد تبرّر ما لا يمكن ولا يجب تبريره، وتجد الأعذار لمن لا تعوزهم الأعذار ولا يحتاجون أعذارك بل ولا يستأهلونها.
كما أنّني أحسست أحيانا أنّك، لحيائك، حبّرت بعض الأمور على نحو قد ينقاد معه بعض القراء إلى متاهة تخيّل لهم أنّ ما عشته- ما عشناه كان نزهة أو "خرجة سافاري" مخطّطة مسبقا ومحسوبة العواقب… صحيح أنّ عنادك عِنادَنا وشاعريتنا الصّرفة قد سهّلا لنا عبور الدّيجور بأقلّ الخسائر… لكنّ الدّيجور كان وما يزال بآثاره التي لا تندمل ديجورا، كما كانت الجراح جراحا غائرة وبعضها لم ولن يندمل، وكانت العذابات عذابات ليس لنا نحن فحسب، أو حتّى أوّلا، بل لأهلنا وللأحبّة جميعا ولجيل كامل.
أمّا الظلم فكان جورا كثيف الطبقات متراصّها، جورا لا يبرّر ولا يفسّر ولا يغتفر.. جورا تعدّى أثره ضحاياه المباشرين وشلّ بعسفه وظلمائه أفئدة وأحلام أجيال كاملة ومقدّرات البلد.
فتحي ! يعجبني سموّ روحك، وجلدُكَ، وأخلاقك السّمحة، وتبرّعك بصكّ الغفران لمن لم يطلبوه، وإمالتك بصرك نحو المُشرِق والوضّاءِ والورديّ… لكن ألا ترى معي أنّ الدّم يحتاج هو أيضا لونَه ؟ وأنّ ما مَرَّ من العمر عصفًا وعسفا وما انطبع في الصّميم مُكَبِّلا للآتي يستأهل هو أيضا أن نصفه بدقّة ونذكره بتفصيل أمين، وأن يُعلن فاعلوه، أو ورثة فاعليه، أنّه كان أوعى من هفوة، وأقسى من محْنة عابرة، وأوسع من خيار فاعل أوحد، وأظلم من حقــد لا إراديّ، وأغلظ من ضربات عصا خزعبلات خريف عمر ؟
رفيقي، أخي، صديقي !
وجدتَ كثيرا منك في ما كتبتَ… ولكنّي حرتُ أحيانا أمام ما لن أسّميه – كما فعلت أنت- ضعفَ ذاكرة بل توقَا إلى النّسيان والتّجاوز. كما غضبت أحيانا وكلّما خُيّلَ إليّ أنّك تتعمّد ما قد يبدو جَلْدًا للذّات أو تقزيما لمعاناتها ولتَوْقِها وأنّك بقدر ما تتسامح معهم وتتساهل بقدر ما تتناسى شيئا من تفاصيل بعض من تَحَدِّينَا واندفاعنا ولو كان متهوّرا وبعضٍ من أفعالنا التي هي بطولات حقيقية وإن كانت بلا مستقبل… كما أحزنني أن تدفعك شدّة تواضعك حتّى لأن "تصغّر" الأحرف التي خطّ بها عنوان الكتاب واسمك على الغلاف.
رفيقي، أخي، صديقي : فتحي !
أكتفي، بهذا تحيّة على طريقتنا، مع تأكيدي أنّني لو كَتَبْتُ عمّا كَتَبْتَ عنه سألوم نفسي، دون شكّ، عن مثل ما لمتك عنه. وأنا آمل أن لا أعاتبك ذات يوم (قريب) لأنّك لم تعاود. بل إنّني على يقين أنّك ستعاود. فأنت كاتب-كاتب. ولست مجرّد مدوّن شهادة.
الصّادق بن مهنّي 27 أفريل  2009

 


  

7 juin 2010

حضرت حفلك في... الزهراء!



و رأيتك قبله تستعدّين له...رأيت اضطرابك و تركيزك وتردّدك و معاناتك و لحظات الضحك العالي تتلوها لحظات الانعزال و الانغلاق ...رأيتك تراوحين بين الانشراح المشطّ(وأنت تتبرّدين لا تحت الدشّ بل تحت إبزيم الحديقة) و بين القلق الموجع (وأنت تختلقين خصومات مع لينا و نرجس أختك و مع صديقيك)...
و في الحفلة رأيتك تبدئين الغناء... و العزف في شيء من الخشية و الرّهبة أمام هذا الحشد من المغرمين الذين جاؤوا من كلّ حدب و صوب و من مدن و قرى نائية, هذا الحشد الذي فاجأ المنظّمين و فاض المقهى الثقافيّ إلى ما جاوره.
أحسستك فخورة-فرحة, و أحسستك ترتعشين !
و مع تقدّم االسهرة رأيتك تزدادين ثقة و تركيزا, وتتماهين مع كلماتك و ألحانك...
و فجأة و أنت تغنّين هديّة السهرة- أغنية الشيح العفريت- انتبهت إلى أنّك لم تعودي تلك الطفلة المراهقة أو الخارجة من توّها من المراهقة التي رأيتها لأوّل مرّة تغنّي لذكرى نورالدّين بن خضر.
انتبهت إلى أنّك غدوت امرأة شابّة تنضج و تكبر ...
و سمعت صديقي فتحي بلحاج يخيى يقول لي بعد حفل المرسى : " عليها أن تنتبه لجسمها و أن تحافظ على التناغم ببينه و بين صوتها الذي فيه نبرة من الطفولة و البراءة و بينه و بين قسمات وجهها ... عليها أن تمارس الرياضة و تنتبه لما تلبس و أن تحسن انتقاء ما تغنّيه حتّى من حيث ألفاظه و حروف ألفاظه و حركاتها."
و رأيتك كما لو أنّك استمعت أليه بعد,و اقتنعت بعد, وحرصت بعد...
و انتبهت أنّك انتقلت من "لوك" الدجين و القميص إلى "لوك" الفساتين الخفيفة و الزاهية ...
وكم هزّني الطرب بعدها و أنا أعلم أنّ من انتقت لك كساءك و أعدّتك للظهور بذلك المظهر الرائق الذي جمع بين رقّة الأنوثة النتدّفقة و بين عذوبة البراءة البادية ليست إلاّ ... ابنتي صديقتي و صديقتك لينا.
و كم وجدت رائعة تلك الصور التي جادت بها قريحة الفنّان زهير بن عمر و حلّت لأيّم جريدته الحائطية بواجهة مخلّه بالزهراء و التي ركّزت على قدميك الحافيتين ...
في جمعك بين الأغاني الملتزمة و بين الطرب الأصيل الذي تخجل خفّته و حريّته أجيال هذا اليوم المتشّحة بالسواد, جمع بين حبّ الحياة و بين الحرص على أن تستمرّ الحياة و تزهر.
فلتستمرّي , و لتواصلي ...
و احرصي على أن لا تكوني وحدك !
30سبتمبر 2009 



 

5 juin 2010

عمّي الجيلاني : أنت، وإن غادرتنا، لم ولن ترحل !

أنت فينا... أنت مشرّش في وجداننا، أنت زيتونة ألفية ضربت بجذورها في كلّ أنحاء بلدنا... لا أحد لم يقرأ لك... بكلّ تأكيد : لا أحد لم يقرأ لك حتّى وإن شحّت القراءة : من لم يقرأ لك طفلا قصصك الممتعة قرأ لك تلميذا في الثانوي مأثرتك أنت وصديقك محمد المرزوقي عن حوادث الجلاّز، أو قرأ لك شابّا ما حقّقته من كتب، أو قرأ لك كهلا تلك الطّرف التي جمّعتها فأتحفتنا،... أمّا الشيوخ فقد عرفوك مناضلا وطنيا بقلمك، تجترح المستحيل فتخرج عليهم بمجلاّت لا تني ترفع رأسها رغم الهراوات... أنت فينا... في وعينا وفي لاوعينا : أنت قامة لا ولن تتمدّد... أنت فارس لا ولن يترجّل.
أنت فينا... في عقولنا وفي قلوبنا وفي كلّ أنحاء هذا الوطن.
لقد حميت لغتنا إذ قرّبتها إلينا أكثر بقواميسك، وكشفت لنا تحفا من تاريخنا أريد لها أن يطمرها النّسيان...
أنت فينا لأنّك كنت على الدّوام فاعلا وبناء بل مشيّد صروح :
المطالعة الوطنية، نادي القصّة، نوادي المدينة العتيقة، نوادي الثّقافة في كلّ مكان ، مسؤولياتك في وزارة الثّقافة وفي الألكسو... كفاحك ضمن جمعية صيانة جزيرة جربة... مكتبتك التي أهديتها لمسقط رأسك، دارك التي كانت مقصد كلّ باحث عن استفادة أو متعة فكرية أو توجيه... أنت فينا... فنحن أولادك... أنت في كلّ التونسيين ، لأن كل تونسيّ مدين لك بفكرة، بمعرفة، بكلمة، بإضاءة، ولأنّ أحبتك هم بكلّ ألوان الطيف !
أنت فينا لأنّك من القلائل الذين جمعوا فأوعوا... من القلائل الذين أحبّوا الناس جميعا ولم يبخلوا على أحد... أنت المثقّف العضوي الحقّ : كنت في كلّ مكان، ووقفت مع كلّ من استحقّ أن تقف معه
عمّي الجيلاني : أنت فينا جميعا ولكنّك في قدماء اليسار أكثر وأكثر :
لكم حميتنا، ودافعت عن براءتنا، لكم دفعت عنّا الطّوى، وتحمّلت المشاق من أجلنا. لم نحسّ أبدا أنّك والد رفيقنا فتحي وحده بل أحسسناك دائما أبانا جميعا وأحسسنا رفيقة دربك، خالتي حبيبة، أمّا لنا كلّنا
عمّي الجيلاني : آخر مرّة استمتعت خلالها ببسمتك الوضّاءة كانت حفل تقديم كتاب محمد الصالح فليس، وآخر مرّة سمعت فيها صوتك العذب الأبويّ كانت مهاتفتك لي قبل أيّام تعزّيني عن اغتصاب مسكني ونهبه
أذكر أنّك قلت لي : "عجبا لماذا تتهاطل المصائب دائما على الطيبين ؟ "
عمّي الجيلاني : أنا فخور لأنّك أشعرتني دائما أنّني واحد من أبنائك.
وأنا معتزّ لأنّك أحللتني في واحدة من إهداءاتك مقام ولدك
عمّي الجيلاني : كثيرا ما لمتني لأنّني لم أكتب كتابا وكثيرا ما هاتفتني فأحرجتني بإطرائك لهذا المقال أو ذاك ممّا كتبته بجريدة "الجزيرة" وكثيرا ما أشعرتني أنّك تنتظر أن تقرأ لي ولقد حدث أكثر من مرّة أن وعدتك : وقسما سأكون عند وعدي.
عمّي الجيلاني : انعم بمآثرك، التي لن يطويها الزّمن، وانعم بخصالك التي لا تنسى، وانعم بما زرعته وبثثته فينا : تقديس الجهد، وحبّ البذل، واحترام الآخر، والصبر الجميل، والتوق إلى الأجمل.
عمّي الجيلاني : أنت، وإن غادرتنا، لم ولن ترحل.
الصادق بن مهني

إلى الأستاذ الجليل الجيلاني بن الحاج يحيى بمناسبة صدور نشرة جديدة من كتاب :معركة الزلاّج 1911

إلى الأستاذ الجليل الجيلاني بن الحاج يحيى بمناسبة صدور نشرة جديدة من كتاب :"معركة الزلاّج (1911)"
أستاذي ، أخي ، أو كما تعوّدنا أن نناديك : "عمّي الجيلاني".
كثيرا ما عنّ لي أن أكتب إليك . و لكنّي لم أجرؤ على الكتابة و لو مرّة . و كثيرا ما تحدثت عنك في مجالس خاصّة من عمق نفسي و مع اشتعال جوارحي ، و لكنّي لم أتحدّث عنك بحضورك و في مناسبة عامّة إلاّ مرّة وحيدة : بمناسبة الاحتفال بحصولنا على الترخيص للفرع التونسي لمنظمة العفو الدولية .
و ها أنّي أجدني هذه المرة مدفوعا من داخلي لأن أكتب إليك ، و لأن أرغب منك في أن تسمح لي بأن أنشر على الملإ ما أكتبه إليك . أمّا ما حرّك سواكني و استفزّ قلمي فهو صدور النشرة الجديدة من كتاب :"معركة الزلاّج (1911)" الذي وضعته منذ مطلع ستينيات القرن الماضي مع الكبير الكبير محمّد المرزوقي .
عمّي الجيلاني ،
و أنا أقرأ الكتاب مجدّدا أدركت أنّني كنت قرأته عشرات المرّات . و لمّا أدركت ذلك أدركت أنّه كان لكتابك شأن هامّ في تكويني و أثر كبير على كياني .
فأنا قرأت الكتاب يافعا ، و قرأته طفلا ، و قرأته و أنا أهرول إلى شبابي ثمّ قرأته شابّا في حياته شيء من تجربة و معاناة .
و يخيل إليّ الآن أنّني لن أجانب الصّواب إن أنا صرّحت بأنّه كان لكتابك فعل في مسار حياتي بل و إن أنا اتّهمتك : "إنّك بكتابك قد نحتّ شيئا في فؤادي و قددت شيئا من عقلي . و دفعتني -برفق- نحو مساري " لقد كان لكتابك عن "معركة الزلاّج" أوّل أثر فتح عينيّ على النضال ، و أوّل أثر بيّن لي -و إن دون تصريح- أنّ النّضال واجب ، و أنّ أوّل المعنيين به و المقبلين عليه هم ساكنو الهوامش ، و أنّ التاريخ لا ينسى و إن بدا لفاعليه أنّه ينسى ، و أن النّضال عطاء دون انتظار ، و معاناة صرفة و سعادة حيث لا تنتظر السعادة . و من كتابك أيضا تسلّل إلى عقلي برهان بأنّ التحدّي ممكن و واجب و أنّ الديّجور -وإن اشتدّ- لا بدّ زائل .
بعد ذلك ، جاء زمن كنّا نبحث فيه عن كتب نتعلّم منها كيف نقاوم و كيف نصمد و كيف نصبر ... و من هذه الكتب كان كتاب "بابيّون" (فراشة) لهنري شاريار الذي تحدّث عن "كايان". و لأنّني كنت قد قرأت كتابك عن "معركة الزلاّج" فلقد عرفت أين تقع "كايان" ، و ما هي ، ... و من الكتاب الثّاني عدت إلى الأوّل ... و رأيت فيه كيف تواصلت الحياة بعد أن طال صاحبها ما هو أعسر من الموت و أفظع .
عمّي الجيلاني ،
بعد ذلك قرأت لك في مواضيع و مآرب أخرى . لكنّني ظللت أقرنك ، على الدّوام ، بكتابك عن "معركة الزلاّج" . وعرفت نضال شعبنا مذ أصابه الاحتلال ، و أبعد من ذلك قبلا و بعدا ، لكنّني لم أنس أبدا ما قرأته عن "معركة الزلاّج" . و ظلّت هذه المعركة أصل النّضال في و جداني .
و عرفتك بعد ذلك بضحكتك ، و طرافاتك ، و تلك الشكائر الضّخمة ملأى خضرا و غلالا ، و القفاف ملأى كتبا وحُبّا ، و ذلك البذل المتحضّر -المتواضع- الذي لا يسمّي نفسه بل يتخفّى استحياء - الذي يفيض منك ، و من خالتي حبيبة ، رفيقة أيّامك ، على عشرات لا أشكّ في أنّه يسعدهم أن أقول أنّنا أحسسناكما ، كلّنا ، أبا و أماّ لنا جميعا و ليس لفتحي و حده .
عمّي الجيلاني ،
بعد ذاك كان النّور . و استقبلتنا جميعا في بيتك في يوم -ليلة لن يقدر الزّمان و جوره على أن يمحياهما من ذاكرتي ، بل و من و جداني : لقد كنت أنت الشمس -المركز- المحور ، و من حولك كنّا - بعضنا خارج من الوحشة للتوّ ، و بعضنا سبق بالخروج و لكنّه كان ما يزال يستذكر بعناء كيف يخطو المرء خارج الوحشة ... وحولك -حولنا كان أحبّة و أصدقاء و متعاطفون ، و أيضا ... جماعة من السّلط .
و هنا أتّهمك بتهمة أخرى :"لقد علّمتني- علّمتنا أنّ في البشر ، جميع البشر ، خير و إن هم ظلموا ، أو استكانوا للظلّم و سكتوا عنه" .
بل و أتّهمك أيضا بأنّك جمعت بين التناقضات و أوحيت لنا بأنّ الصّفح شيمة الضّحايا ، و ناديتنا إلى عوالم أرحب ، و علّمتنا أن الحياة تنّوع و تعدّد .
عمّي الجيلاني
لقد كنت على الدّوام معنا ، و ببسمتك و طرفتك و إشارتك شبه الخفية أو المستحيية علّمتنا أنّنا ، قبلا و بعدا ، من وطن واحد ، و أنّ على من كابد و ضحّى و صمد واجب أن يقاوم على أكثر من صعيد و صعيد ، وواجب أن يشهد ، و واجب أن يستمّر .
عمّي الجيلاني
اعتمدت في توجيه التهمة إليك على جوارحي و وجداني . ولم أسند تهمي لا لفصول قانون و لا لتعلاّت تحقيق ... و بالمنهج ذاته أحكم عليك بأنّك واحد منّا ، بل و من معلّمينا ... و أقول لك : إنّني سعيد بأنّك ابتسمت لي ذات يوم عندما قلت لك أنّني أريدك أبا ثانيا لي ، و لم ترفض . و أرجو أن تقبل أن أمضي هذا بإضافة "فاء" في مطلع إسمي: فصادق .
24 مارس 2009
ملحق : هل تعلم عمّي-أبي- صديقي أنّ النّص المكتوب على نصب الزلاّج بباب عليوه هو من خطّ صاحبك الشادلي بن غربال ؟

أرادوها ظلاما دامسا وأردناها نورا ودفءا

الى رفيقي صديقي أخي جلبار النّقاش الذي صدر له آخر شهر فيفري كتاب عنوانه : ماذا فعلت بشبابك؟ .
*-*-*-*-*-*-*-*


رفيقي صديقي أخي !
لقد كان للقائي بك في برج الرّومي وقع في نفسي وأثر في حياتي يرافقانني حتّى اليوم.
ولقد كان لمعايشتي إيّاك في برج الرّومي، أنت ورفاق ذكرتهم في كتابك، فعل في فكري وفي قلبي بل وفي كلّ كياني...
ولقد تعلّمت منكم الكثير، الكثير : ارتيادَ دروب شتّى في المعرفة، والتّغاضي عن العسف، واجتراحَ مضاربَ رحبة للفرح، والإغراق في التّسآل لكن دون التّيه فيه، وإبصار السّماء الزّرقاء جميعها من مجرّد مربّع صغير، ورفض الانحناء وإن انعدم السّند ووهن البدن، والإيمان الطّفولي بأنّ غدا مشرقا لا بدّ أن يأتي وإن طال الزّمن، والتحفّز للعطاء وكأنّه الكسبُ، ومطاولة الاِنشراح وإن اشتدّ وطأ الكابوس...
ومعكم تعلّمت كيف يتحوّل الصّبر ملكةً، وكيف يغدو التّجاوز غريزةَ، وكيف يكون الثّبات دينا.
وإلى جانبكم عشتُ انصهار الرّفاقة بالصّداقة بالأخوّة فغدونا إنسا بشرا ليس إلاّ...
وبفضل إزركم تحوّل الكابوس حلما لذيذا، والضّيق سعةَ، والسّرابُ حقٌّا، والوحدة تعدّدا...
كم سهرنا حول فكرة، وتعبنا خلف رأي، وتحلّقنا حول أغنية، هرّة، أو خطاب
وكم نهلنا من حلم، قصيد، ينبوع نتخيّله، أو أفق ابتغيناه رغم البعد رفيقا...
كم مررنا من ثقب إبرة، وجرينا على حدّ قاطع و"حرقنا"الحدود والعذابَ والآخرون نيام...
كم قرأنا، وكتبنا، وابتدعنا وتداعينا إلى أمل شمس قمر وحضور في الغياب...
كم قهرنا السّأم، والهمّ، وعواء الذّئب، وإغواء عروس البحر، وسياط الضّيم، والشوق إلى الآخر واللامحدود، والتّيه، والجور، وجذب الغريق...
معك ومع رفاق آخرين ذكرت بعضهم في كتابك، ومنهم ناشرك ذو القلب الواسع كضحكته الهدّارة، تعلّمنا كيف نصنع من الظّلماء نورا، وكيف نزيح الأبواب المقفلة من خارج الجدران السميكة الأسوار المكهربة الأضواء الكاشفة العيون الفاضحة النوايا الخبيثة مخطّطات الهدم والعسف، وكيف يظلّ داخلُنا دَاخلنا، ويرسخ العزم، وينمو الزّهر فينا، ويمتدّ بنا البصر حتّى الأقاصي، ونغلب ونحن هناك لا نهرب ولانرهب...
معك ومع رفاق أصدقاء إخوة منهم من رحل ومنّا من رحل شيء منه مع من رحل تصدّينا، تحدّينا، دمنا وداومنا...
وكم ضحكنا، وضحكنا، وضحكنا، وفرحنا...
معك ومع رفاق أصدقاء إخوة آخرين، وعلى مدى سنين أرادوها ظلاما دامسا وأردناها نورا ودفءا، فغلبنا، اعتدنا التآخي، وقطعنا مع الملل والنّحل والقبائل، وارتدنا مرابع طفولاتنا فألفيناها مرابع طفولتنا، ونظرنا صوب الآفاق فرأيناها أفقا واحدا في كلّ عين من عيوننا...
أخي صديقي رفيقي :
قرأت كتابك فكتبتُ هذا...
وقبل أن أكتب خطّطت لأكثر من مقال وتقديم وتحليل...
غير أنّ وجداني ناور وحاور وداور، وانبثق عنه في لحظة واحدة وحيدة وبدفق ما انبثق...
فلتقبله كما هو، أو فلتحاوره وتحلّلهُ على عادتك في تلك اللّيالي، ولتسِمُه بما تشاءُ من نعوت أنت تحسن إبداعها...
ولكن دعني، قبل ذلك، أضيف : صديقي ما زالت في عينيك غمامةُ حزن أريدكَ أن تطردها، وما زال في نفسك شيء من نكد أريدك أن تذرُوَه، ويا حبّذا لو أطلقت العنان لروحك لتنهل وتنهل وتظلّ تنهل من الفرح الذي كرعت منه معك، ومعهم، هناك...
صديقي رفيقي أخي :
شكرا لك لأنّك كتبت... فلأنّك كتبت اِلتأم شمل بعد طول انقطاع، ولأنّك كتبت غالبتني الكلمات وانتَصر قلمي عليّ.



رسائل الى اربع سيدات و الى طائفة من الرجال و النساء


الى زوجتي

هي مجرد صدفة أن يتزامن الاحتفاء الدولي بالمرأة بإحياء يوم عالمي للكلى؟
وهل هي مجرد صدفة أيضا أن تهبي إحدى كليتيك ذات 14 من شهر فيفري, أي يوم عيد الحب؟
هل هي مجرد صدفة أيضا أن أحرم ,بحكم جنسي , من سحر الحمل و الوضع ثم أحرم من أن أهب عضوا مني لمن حملتها وولدتها لي لأعطيها استمرار الحياة؟و أن تحظي أنت بسحر الحمل و الوضع فبسحر العطاء و التحمل؟
عزيزتي : أنا لا أغبطك ذلك وأن كنت في قرارة نفسي أحس بالغبن غبنين.
عزيزتي: أنا لا أشفق عليك و لا أحسدك و إن كنت أقرأ في عينيك المعاناة و السعادة.
عزيزتي: أحسك أعظم وأكبرو أنبل و أحسن حظا و أرحب قلبا مني و من كل الرجال.
عزيزتي: أحسك المرأة التي حبتها الطبيعة بالأنوثة و العطاء و النسل و النيل.
أحك في هذا اليوم المرأة الحياة , السماء, الغد, الاشراق.
أحسك: سيدتي.
و أريدك أن تهنئى بعيد المرأة عيدك, بيوم الكلى يومك.
إلى ابنتي
نادرا ما يولد المرء مرتين , و أندر من ذلك أن يولد المرء مرتين من نفس الرحم .
هذا ما أعطتك أمك سيدتي...
فلتنسي مرضك النادر, ومعاناتك القياسية, وحرمانك من أشياء كثيرة و لتذكري دوما أن أمك عرضت جسمها لمبضع الجراح مرتين
لتلدك, ثم لتهب عضوا منها, لم نكن لنعلم من قبل أنه أساسي ونبيل و حيوي, و معطاء و خطير, و مختال و مفاجئ. يعمل في صمت و يختل في صمت.؟
عزيزتي ها أنت وقد انفتح باب الحياة أمامك مجددا فلتندفعي في الحياة بشره و اقبال و لكن برصانة وروية..و لتحفظي لامك فيك ولادتيه...
ولتظلي لأطبائك و ممرضاتك,نساءا و رجالا شاهدا صامدا على أن بذلهم لا يذهب هباء.
و لتنعمي بهدية أمك لك في عيد الحب. و لتعتزي دوما انك امرأة بنت امرأة...
ولا تضيعي فرصة تسنح لتكوني خير شاهد على طب الكلى تحت شمسنا الرائقة.
عزيزتي: أحبك... لكن أمك, سيدتي ,و لا شك تحبك أكثر.

إلى أمي
مع تقدم العمر بدأت افهم بعضا مما كنت تسعين لغرسه في من قيم و أحاسيس.
و مع تقلب الأيام بين معاناة و إشراق و معاناة بدأت افهم شيئا من معاناتك و معاناتك و معاناتك...أو هكذا يخيل الي.
عزيزتي: كما رعيت طفولتي في صبر , وكما رعيت دراستي و أـنت " لا تفكين الحرف" رعيت في أشياء كثيرة لم أجدها لا في
الشعر و لا في الفلسفة , ولم أفقه كنهها الذي أجهدت نفسك لكي أدركه إلا بتقلبي في الحياة.
أمي : لأنك أمي أحب المرأة, أحب ابنتي , و أحب زوجتي, أحب رفيقات دربي كلهن , أحب كل نساء الكون , و أؤمن بان الخلاص في المرأة
إلى الأستاذة فاطمة الكوكي بن موسى
أرهقناك كثيرا و دللتنا كثيرا.
و كم من مرة أخجلتنا بعطائك و بعطفك و مداومتك.
أنا أعرف أن الطب في تونس أصبح أنثى... و أنا أعلم أننا ماضون نحو غلبة النساء في مختلف اختصاصاته و مهنه.
ولكنني كلما رايتك, رأيت زمنا و إن كان غير بعيد فان حظ المرأة فيه لم يكن كبيرا, رأيتك طفلة تسعى إلى العلم في حزم و مكابدة و إصرار...
كلما رأيتك رأيت الإيمان التلقائي و الراسخ بالعطاء و البذل و نكران الذات ؟
سيدتي العزيزة : هل هي مجرد صدفة أنك تخصصت في طب الكلى؟ و هل هي الصدفة وحدها التي جعلتك تصبحين أما أخرى لابنتي؟
سيدتي العزيزة الفاضلة: أنا أعزك كثيرا وأخجل منك كثيرا.
إلى الأسرة الطبية في مستشفى شارل نيكول جميعها:
لن أسمي فجميعكم جدير بأن اسميه و أقدسه : الأطباء و الممرضون و الاطار الوسيط و العملة و كل من يعمل في الصحة العمومية و في مستشفى شارل نيكول بالذات...
ولكنه يحلو لي أن أنوه بهؤلاء الأساتذة المبرزين و الأطباء و الأطباء المعاونين و المقيمين و المتمرنين و الفنيين و الاداريين و الممرضين الذين عاينت صدفة, و لكن لفترة طويلة, بذلهم و عطاءهم بل جودهم...
أنتم جميعا تعملون في ظروف صعبة, بل صعبة جدا... نحن نرهقكم جدا... و كفاءتكم لا تغفر لنا شحنا بل جحودنا...
أنتم الحياة تهبونها للمرضى و لعائلات المرضى.
انتم طيب, و شمس , وكرم, حلم,و زيت زيتون, وشفاء, وهدى, وحب,و نذر جميل,و حمد, وعدل, ورياض, ونبل, ورمز, وتصوف صادق...
أنتم الصمت المعلم, أنتم الصبر البهي , أنتم التحدي الخلاق...
نحن في عيد المرأة , و الرجل في يصر على أن يذكر الجمع... فهل هذا لأننا اعتدنا على أن المرأة تعمل في صمت و تعطي في صمت؟ تماما : كالكلى؟
الى القارئ:
وأنت:هل أنت متأكد من سلامة كليتيك؟

رأي على هامش اليوم العالمي للكلى تجارب و ملاحظات

و أنا يافع رأيت أبي، كم من مرة يتألم و يئن- و الأنين كان لديه كالصراخ لدى غيره... ووقتها بدأت أعلم شيئا ما عن الكلى و دورها، و خبرت معنى أن تنزل من الكلى حصاة، بل حصوات
ولأن أحد أقاربنا قد اضطر إلى الاستغناء عن أحدى كليتيه- لمرض ما -وفي زمن كانت فيه الجراحة ما تزال شبه بدعة و أمرا عجيبا، فلقد عرفت -و أنا ما أزال طفلا أن كلية وحيدة تكفي الإنسان ليعيش ومازال قريبنا -لحد الساعة- يعيش و صحته عال العال و أرجو له العمر المديد و الصحة الدائمة.
...
وفي طور الشباب عايشت آلام الكلى تجتاح وداعة رفيقي محمد الصالح و تعصف بصبره فتجعله ينتفض و يرتعد ويغرق في عرقه و هو يغالب صراخا يريد أن ينطلق فتصده خشية المطارد المتخفي.

...

ثم و أنا كهل عشت سنوات و سنوات ملأها الهلع، و توقع موجع، و خشية مشلة، و أمل صعب، و شعور بالعجز، ورجاء كثيرا ما يخالطه الإحساس بعبثية الوجود و كفر به، و قليلا ما كنت أحسه نورا يبزغ قدامي عند الأفق,

...

وفي الأثناء كان ما كان، و أصاب الداء العضال- رغم حذر الأطباء و فعل الأدوية.و جزعنا كليتي ابنتي لينا... و كان قصورهما أو... فشلهما... و في الأثناء أيضا عرض صديقي كمال ابن الحومة بدنه لمشرط الجراح يخفف عن كليتيه عبء حصوات راكمتها المواجل و عذابات الظلام.

...

وخلال عام ونيف تتالت الأيام تصفية دم، و آلات تشفط و تنفث، و أطفال بل حتى رضع، و شباب، و كهول، و شيوخ يغتال المرض حميميتهم، و لا يعود يربطهم بالحياة إلا خيط عنكبوت هو الوريد البلاستيكي الذي يربط أوردتهم بالآلة...

و تعلمت عيناي كيف تصبران أمام أعين تتردد بين الوجع و الجزع و بين الصبر و الرجاء.

و علمت كيف استمد من خوفي بل من هلعي، ومن غيظي صبرا و أملا أبثهما في الأطباء و الممرضين و الفنيين و المرافقين فيعودان علي صبرا و أملا أكثر.

و لأسابيع طويلة رأيت ابنتي –كم من مرة؟-تثقب من كوعها و عند العانة و تنظر ساعات طوال لدمها ينبثق إلى آلة الغسل بجوارها ( هل أحب هذه الآلة أم أكرهها؟) و يعود إلى شرايينها في دورة موجعة... ثم لأشهر رأيت ابنتي سجينة آلة الغسيل الصفا قي تظل- لساعات و ساعات- مربوطة إليها، ثم لساعات وساعات تحمل عبء سائل يملؤها (ليحميها نعم ...و لكن؟..).

...

ثم ...منذ عام كانت عملية الزرع ...

أم لينا ولدتها ولادة ثانية ...

أم لينا أمدت عمر ابنتها بان قاسمتها كليتيها.

ورأيت أطباء و أعوان صحة يجتهدون لإخفاء خشيتهم و يستمدون من أعماقهم قوة ينفثونها فينا.

وكان الإعداد، و التهيؤ، ثم الموعد المؤجل فالموعد فاليوم-اليوم,

و تزامن اليوم مع يوم الحب...

ومضى كل شيء على ما يرام ...لولا فيروس خبيث مشاكس تسلل إلى غرفة العمليات و عذب رفيقة دربي و معاناتي و عذب معها الأطباء و معاونيهم,

وفي الأثناء رأيت بعضا مما يقاسيه الأطباء و العاملون في الصحة العمومية: عمليات تتالى، و قاعة جراحة تنوء بأحمالها، و أروقة يسلكونها و يحمل فيها المرضى و المتبرعون بعد الجراحة، أبوابها مشرعة على الهواء البارد الرطب...و أقارب لا يطيقون صبرا يتسرعون لسماع خبر يطمئن قلوبهم .

كم هم ملائكة أهل الصحة من كبيرهم إلى صغيرهم ...

...

خلال تلك الأيام التي ظلت خلالها أم لينا تغالب أوجاعها بفرحتها للينا ، و ظلت خلالها لينا تصابر من غرفة العناية المركزة لتنتصر و تفرح جميع من فرح لها بعد أن جزع،و لتكافئ أهل المستشفى على تعبهم و جهدهم بفرح رؤيتها تعود للحياة ...بل و تعود إليها أقوى، خلال تلك الأيام تثاقل الزمن و لكنه كان أبهى..

كم أحبكما يا أيها الجراحان شبيل و درويش أنتما و كل من في قسمكما.. و كم أحبكم أيها الأطباء الطيب و المنذر و شمس و فاطمة و كل جمعكم، و كم أنت رائع يا قمري ، يا رسول الخير..

و يا الشاذلي و حليمة، و دوسن، و ليلى، و أكرم ،و عبد الرحيم.

و المحمدون و رمزي و كلكم أنتم الذين خبرتكم، كم أنا مدين لكم،بل كم هو مدين لكم مجتمعنا..

...

وبعد عملية الزرع هاهي لينا تعود إلى الحياة قوية , و ها هي تمارس رياضات بعد أن كانت محرومة من أي رياضة... بل هاهي تعود من تايلاندا ومن ليبيا –مع آخرين و أخريات من المستفيدين من زرع أعضاء- بميداليات ذهبية و فضية و برونزية لا شك أن شعور الفخر بانتزاعها يتعدى من حصلوا عليها و أطبائهم و أهاليهم ليغمر كل أحباء الوطن و بناته.

أيها القارئ هل فكرت في أن تتأكد من سلامة كليتيك؟

و هلا سارعت لتبدل بطاقتك الشخصية بما يفيد بأنك –بعد عمر طويل- متبرع؟

إلى النّجمة الشابّة آمال المثلوثي تأتّرا بحفلها بالمرسى23/06/2009

عمّا كنت أبحث وأنا أقبِل على حفلك الشبابيّ وأنا المقبل مندفعا على خريف العمر؟
وما الذي اجتذبني إليك أكثر من غيره ؟ : شَخصُكِ الأخّاذ ؟ أم صوتكِ المنغّم ؟ أم موسيقاك المشرّشة في نغمات كلّ الأمكنة والأصقاع وجميع عهود عمري ؟ أم إدماني السّفَرَ إلى الأقاصي القصيّة والأغوار السّحيقة والقمم المنيعة وسابعة السّموات وأنا في الهنا والآن ؟
وراء ماذا كنت أجري وإلى ماذا كنت أمضي وأنا أتبعك إلى المرسى ؟
هل السرّ في صوتك المنغّمّ الزّجل الطّرب و ذبذباته وترنيماته المتأصّلة في الأطلس البربريّ كما في سباسب القيروان والوسط التونسيّ، والمتعانقة مع برد الجبال الكردية، والتي تتفتّح زهرا فيه رقّة وحزن رقيق وحنين حنون، وتنطلق إنطلاقة مهر عربيّ فتيّ يمرح في خضرة الشّمال الإسكندنافيّ، تم تتمرّد مدنَ صفيح جذلي فيها عبق وخيال وتوثبَ قارّة نيرودا والتشي التي ما نزال ننشّد إليها وتحيّرنا وتغرينا، ثمّ تشدّنا إليها من أيدينا وتسحبنا إلى صدرها أهازيج تصدح بها "جوان بايز" وتتحدّى بها المطرَ وهيليكوبتارات البوليس حشودٌ تنادت إلى "وودستوك"، فتجعلنا نحبّ وجها من أمريكا ونحن في عزّ سخطنا على همجيتها ؟
أم أنّ السرّ يكمن في عذوبتك طفلة تأبى أن تخرُجَ من طفولتها ويتخفّى حياؤها خلف بسمة ملائكية القسمات والسّحر، ويعاند محيّاها الصَّبُوح. ونطقها الخجولُ وإشعاع الضّحكة في عينيها ثورة الجسد -الأنثى المنطلق ؟
أم أنّني أهرع إليك شوقا إلى لينا أضمّكما بنتين أختين حنّ عليّ بكلتيكما القدر وفيكما ما فيكما من حيرة وتسال وفيكما من شذى الياسمين ونداء الغد وإغراء التمرّد ؟
هرعت إلى حفلك فإستمتعت وطربت عاد بي الزمن إلى مرابع الصبى وأحلام الشباب.
موسيقاك عذبة، وفيها تنوّع وتعدد يسعدان العطشى إلى التعدد والتنوع...
موسيقاك عمق وانتشار وسعة وغطاء رفيق وعسل...
لكنّ موسيقاك هي أوّلا وقبلا صوتك...
عزفك جميل كالقرنفل، وفيه رقة النرجس ودفق الشباب الغر المتوثب، وفيه لقاء القارات والأنواع والحقب، وفيه تناسق الجذور المتأصلة مع الأغصان المنطلقة نحو الآخر والمختلف والبعيد جغرافية وزمنا-القريب تماثلا وتشابها وتوقا إلى الأرقى والأبهى...
غير أن سرّك الأول ودرتك المكنونة الأشد جاذبية والأنفذ سحرا صوتك أوّلا وقبلا...
في صوتك تموّجات النسمات العليلة، وارتعاشة الأحاسيس الوليدة، وحفيف جريد النخل العالي، وشيء من ضحكات جدتي، ونغم الكلمات الأولى لطفل لم يزل يحبو، وفيروز بحرنا، وزلال هادر قادم من الأعماق يملأ "وادي بياش" فيضانا خيرا، وسكينة صبيّة ترقب الأفق من على هضبة سيدي بوسعيد أو مرتفعات قربص أو برج قليبية...
في صوتك نور يملؤك كاهنة وجازية وولادة وفيروزا وصليحة وجوان بايز...
في صوتك نغمات كنائسية من القدس وترتيل آذان من عكا وترنيمات مد وجزر قابسية ودفء حضن أو خليج...
صوتك يهدهد، يهز، يفيض، يحزن، يؤلم، يسعد، يسكر، يضني ويريح.
وقفتك على الرّكح فيها رقّة سنابل القمح تهدهدها ريح طيّبة، وفيها تواضع العنفوان والصلابة، وفيها جلدٌ يتخفّى في ظلّ بسمة، وفيها هدوء الصّابر ينفجر عطاء وتجاوزا وانطلاقا، وفيها ثبات الطالب يرقص ولا يترنح، وفيها شيء من سكون الرذاذ ورقة معزوفته.
أغانيك التي ألّفتها فيها طهر وسخاء وشجن وألم السؤال وتغريد المؤمن بالفوز القادم وحزن المتشائل وحلم الأمس المسترسل وتوق المدمن على الانعتاق...
غير أنه لا داعي بتاتا لأن تكبّل كلمتك الحرة حرّية صوتك وانطلاقة صرختك وحدّة آهتك ورقصات نشيد ترنيماتك الصافية ولو لطرفة عين... فصوتك هو السرّ، وهو الوردة الأزكى، وهو مهرة لها أن تندفع كالرّيح المنعشة، وهي نورس له أن يحلّق ناصعًا مغرورا،وصيّاد لآلئ له أن يجدّف جذلا في بحره الجميل.
طريقك بيّن مفروش معزوفات وأغان وتواصلا... ولك أن لا تخافي خوفك بل أن تبني عليه مجدك وأن تنعمي بحضن جمهور تماهى معك وسعد بك... وعليك أن تكبري وتكبري وترتفعي نجمة لألاءة في سماء لا تنتهي

S'il vous plait, rendez a Zoubeir Turki son rouge ocre !

Cet autre mur intriguait, dérangeait peut être, choquait même probablement. Mais il a fini par s’imposer et par faire partie du paysage environnant qui n’a jamais, lui, fini de changer.
Avec le temps ce mur rouge ocre s’est enraciné dans son cadre urbain et y est devenu un repère, une marque, un signe distinctif … un monument à part.
Je crois bien que c’était au début des années 1980, que ce mur rouge ocre a accroché mon regard pour la première fois.
Marrakech à Chouchet Rades ?!Ferme ancienne sortie du rêve d’un colon ayant du mal à faire la part des choses et de réaliser qu’il est à Tunis et non pas dans un conte des Mille et Une Nuits ?! Résidence beylicale qu’on voulait différente et originale ? Non, c’est surement le pied-à –terre d’un original, d’un artiste, d’un rêveur, d’un peintre ?!
Chaque fois où je pouvais montrer ce mur d’enceinte rouge ocre avec, en deuxième plan, des figuiers de Barbarie qui se mesuraient à lui tout en faisant semblant de vouloir le couronner, je le faisais de gaieté de cœur et tout en disant à quel point il m’attirait, me paraissait à la fois bizarre et bienvenu …
Mais je n’ai jamais osé me laisser emporter par ma curiosité et essayer de lever le voile sur ce mystère délicieux…
Jusqu’au jour où…
C’était au milieu des années 1990. Mon ami suédois Lasse, Abderrahmane pour les intimes, suite à un couscous bien arrosé que nous avons pris chez moi à Ezzahra se met à me raconter ses années de belle folie en Tunisie, particulièrement celles qu’il a passées à Ezzahra et Sidi Bou Saïd, me raconte ses soirées créatives avec les grands peintres de Tunisie et comment il s’est joint à eux pour créer leur association ou union, et me dit l’amitié profonde qui les avait réunis… puis subitement me demande, m’ordonne presque, de le conduire chez l’un d’entre eux qui n’habite pas loin et dont la maison est facilement reconnaissable.
Lasse avait oublié l’endroit exact ou la maison était. Il était toutefois sur" qu’elle était du côté de Ben Arous et qu’elle se distinguait par son originalité qui était due, peut être, à sa couleur."
Je l’avais donc conduit à Chouchet Rades. On s’était arrêté devant l’entrée latérale, et quoiqu’il était convaincu qu’il était bien devant la maison de son ami « qui surement ne dormait pas encore ». J’ai fini par freiner son élan en lui promettant de revenir ensemble.
Malheureusement, il ne m’a pas été donné d’honorer ma promesse.
Mais pas tout- à -fait. Puisque j’ai eu quand même l’occasion d’accompagner Lasse à la rencontre de Zoubeir Turki à l’occasion d’une exposition de Dhahak, mais à la Galerie Gorgi.
Et ce n’est que quelques années plus tard que j’ai osé franchir le portail (ouvert) et aller à la rencontre de Zoubeir Turki chez lui pour… tristement… lui faire part du grand depart de son vieil ami …
Depuis ce jour là, j’ai tenu, chaque fois ou j'ai eu l’occasion d’être avec des suédois, de leur parler de Zoubeir Turki, auteur de la statue d’Ibn Khaldoun, de leur raconter l’amitié qu’avait pour lui Lasse le suédois non moins tunisien puisqu’il s’est installé en Tunisie à partir de 1954 jusqu’ à la fin des années 1970 pour participer activement à la construction de notre jeune pays qu’il a appris à connaitre et à aimer suite à l’assasinat de Farhat Hached.
La dernière fois ou j’ai montré le mur d’enceinte rouge ocre à un suedois c’était en Octobre dernier, quelques jours seulement avant le grand départ de Zoubeir Turki. Mais il parait que cette fois était… la dernière.
Puisque le mur rouge ocre n’existe plus !
Si, le mur est toujours là à sa place. Mais, Zoubeir Turki parti, on a estimé opportun d’ôter son rouge ocre, de blanchir son mur et de peindre son portail latéral en bleu …
Personnellement, cela m’a attristé, plus même = cela m’a révolté… J’y ai vu une atteinte à deux monuments à la fois= au grand peintre et à son œuvre.
Ecoutons Zoubier Turki parler de son « rouge ocre » :
« C’est la couleur de la terre cuite, des kanouns (braseros), des tajine. Le blanc, c’est la couleur des tombes chez nous. La lumière, c’est la chaleur et la chaleur c’est la vie. » (in : Tunisiens d’exception : rencontres réalisées par Soufiene Ben Farhat et publiées par Cérès Editions. Tunis 2006)
Est-il encore possible d’espérer qu ‘on rende à Zoubeir Turki, mais par là à nous tous aussi, le rouge ocre de sa demeure-musée, ce rouge ocre si original, si distingué et si attachant ?!

أينك يا مسعودة الخرّوبيّة؟!

أواسط خمسينات القرن الماضي، وأنا غرّ لم أبلغ بعدُ سنّ المدرسة، جدّت في أيّامي الواقعة التّالية: بمناسبة أحد العيديْن، وبالذّات يوم «العرفه» كما نسمّيه في جربة، يوم عيد الصّغار السّابق ليوم العيد، أهداني واحد من أهلي ساعة يدويّة زائفة (منقالة بلاستيك) زرقاء.

ورغم أنّ السّاعة كانت زائفة، وبلاستيكيّة، ولا صلة لها بالوقت بتاتا، ورخيصة، فإنّها كانت في عينيّ كجوهرة أو حليّ، ومتاعا ذا شأن زاد من شأني بين أترابي، ووهبني فرصة للتّباهي والمفاخرة...

ذلك أنّ ذاك الزّمن كان زمن بساطة، وندرة، وشحّ... وكان الفرح والزّهو فيه يولدان من لا شيء...

بعد العيد عدتُ إلى الجامع أحفظ القرآن على يديْ صاحب الوقار والسّماحة، حسن الذّكر الحاج محمّد بن الحاج دحمان... وهنالك أسالت ساعتي لعاب ولد شقيّ أكبر منّي، فراوح بين استمالتي وتخويفي أوّلا حتّى أتنازل له عنها، ثمّ راوغني حتّى اختلسها منّي...

رجعت إلى المنزل خائبا، مغتاظا، مريضا، مضاما... وأعلمتُ أهلي بما جرى... ولم أستطع للتّغاضي والنّسيان سبيلا... حتّى أصبح أهلي كلّهم يحسّون القهر مثلي.

زمنها كان مجتمعنا لا يعرف سلطة السّلطة، ولم يكن في منطقتنا كلّها لا حرس ولا شرطة ولا عَسَس... بل كان المجتمع يسوس ذاته من داخله: قواعد معلومة للجميع تُحتَرم، وكبارات يفصلون كلّ خلاف، ويعاقبون كلّ زلّة...

وحتّى أتجاوز انكساري وتعود لي فرحتي، رافقتني جدّتي للأب، طيّبة الذّكر مسعودة الخرّوبيّة ـ وكانت من كبارات كبارات الحومة ـ إلى حيث يسكن الولد الشقيّ مع أهله خصّا من أعواد قصب الدرع (القصوال) والجريد.

وصلنا الخصّ، قفز الولد إذ لمحنا نقدم... واستنكرت أمّه أن نشكّ في أنّه اختلس السّاعة، وأقسمتْ بأغلظ الأيمان أنّه لم يجلب إلى المسكن أيّ لعبة... حاورتها جدّتي بجدّ، وذكاء، ودهاء، وسماحة، وهدوء، وصبر جميل، حتّى رأيناها تندفع داخل الخصّ لتفتح صندوق ثيابها وتخرج منه السّاعة الزّرقاء وتمدّها لي مهمهمة وكأنّها تعتذر...

حضرتني هذه الواقعة هذه الأيّام وأنا أعيش وكامل عائلتي وقع واقعة حزينة شهدها منزلنا بالزّهراء:

يوم الاربعاء 41 أفريل، بين السّاعة التّاسعة والسّاعة الحادية عشرة صباحا، داهم منزلنا أشقياء، قفزوا من فوق أسواره، وخلعوا بابه بالحديد والدقّ والقوّة، واستباحوا حوزته، وعاثوا فيه تفتيشا، ونهبوا منه الكثير الكثير...

نهبوا ذاكرة ابنتي وأعمالها الجامعيّة ونصوصها وصورها، وحرمونا جميعا ـ حتّى نتجاوز ـ لذّة الإبحار، إذ نهبوا حواسيبنا المحمولة وما معها من أقراص تسجيل ونسخ...

نهبوا هواية ابنتي وزوجتي إذ نهبوا آلات التصوير وكاميرا الفيديو... ومنها هديّة ثمينة لم نشغّلها بعدُ، ووزنها المعنويّ والعاطفيّ لا يُقدّر...

نهبوا ذاكرة رفيقة دربي إذ أخذو حليّها.. ونهبوها شيئا من حميميّتها إذ نهبوا عطرها وموادّ تجميلها..

نهبوا الشّيء الوحيد الذي كانت لي متعة امتلاكه، أنا الذي لا أرغب في ملكيّة أيّ شيء: نهبوا ما جمّعته على امتداد ثلاثين سنة أو جمّعته لي زوجتي أو أهدانيه أحبّة، من أحجار شبه كريمة منظومة وغير منظومة ومن حليّ ومصوغ من فضّة صُنعت في أصقاع مختلفة من هذا العالم.

نهبوا إحساسنا بالأمن والأمان والطمأنينة، وإن هو قد غدا بعدُ منذ زمن نسبيّا ومشوبا بالتوجّس...

نهبوا نومنا وراحتنا وارتخاءنا... نهبوا طقوس حياتنا اليوميّة... نهبوا سلامنا... نهبوا أحلامنا... نهبوا براءتنا وبساطتنا... نهبوا ما خطّطنا له من أعمال وأسفار... نهبوا هناءنا داخل مسكننا... نهبوا انقطاعنا إلى أعمالنا في تركيز... نهبوا براءة نظرتنا إلى الآخرين من حولنا... نهبوا قدرتنا على أن ننعم بالحديقة وبالهواء وأبواب المسكن ونوافذه مشرعة... نهبوا هدوء آذاننا التي غدت دائمة التوثّب لكلّ صوت أو حركة ... نهبوا ثقتنا في مجتمعنا... نهبوا اطمئناننا إلى حماة حمانا... نهبوا خصوصيّتنا وحميميّتنا بل اغتصبوا دارنا، وغرفها، وأثاثها، والزّمن الذي تحمله، وعبقها.. اغتصبوا ذاكرتنا وأحلامنا...

والآن، وقد مرّ على الواقعة أكثر من عشرة أيّام كاملة ولا أحد ولا شيء قد خفّف من جزعنا وهمّنا وحزننا سوى مؤازرة الأحبّة والأهل والأصدقاء وبعض من الزّملاء ونزر من أهل المهنة، أجدني أقول في نفسي، بل وأصرخ: أينك يا أمّي مسعودة الخرّوبيّة؟!

Lost science

الأسبوعَ الأخير حصُل لي شرفُ حضور مناقشة أعمال الدكتور الطاهر اللبّاسي ـ إبن الجزيرة ـ الذي رامَ قطفَ ثمار جُهده لسنين طويلة بتتويج شهائده ومراتبه الجامعية العديدة بالتأهيل الذي سيساعده على الإنتقال إلى مرحلة جديدة أرقى في حياته المتميّزة بالبحث وتأطير البحوث.

ولأنّ الدكتور الطاهر اللبّاسي مختصٌّ في الإنقليزية وفي الألسنية الإنقليزية بالذات، ولأنّ عُلوّ همّته جعله لا يروم أقلّ من الإشعاع على المستوى الدّولي ولا يرنو إلاّ الى اجتراح دروب جديدة، فإنّ عرضَه الموجز لمجمل أعماله المنجزة والجارية ومناقشة لجنة التحكيم له ارتقيا الى قمم عَسُر عليّ ارتيادُها ولو سماعا ومتابعةً من بعيد.

ذلك أنّني وإن كنت ما فتئت أعمل على أن أمسك من اللغة الإنقليزية ولو ببعض من تلابيبها، قَصُرْتُ عن الفهم والمتابعة رغم كلّ الجهد الذي بذلته.

فالطّاهر تحدّث عن دروب بحث متشعّبة، وخاطر بارتياد مسالك وعرة أُقامر بذكر بعضها ـ مستعملا في ذلك عبارات وتعريفات قد ينكرها الطاهر عليّ ـ : هل اللّغة الإنقليزية وهي قد هيمنت على العالم، نقمة أم نعمة؟ هل اللّغة الأجنبية المهيمنة بالنسبة للشعوب الناطقين أصلا بلغات أخرى لعنة أم «غنيمة حرب» وفقا لعبارة كاتب ياسين؟ هل يمكننا أن نُسهم في صناعة المعرفة والعلوم على المستوى العالمي ونحن لا نتقن الإنقليزية؟ لماذا لا نتقن الإنقليزية؟ وهل توجد لدى بلادنا خطّة ناجعة لتدارك الوضع؟ وهل يمكن لعلمائنا وباحثينا وطلبتنا وفنّانينا ومثقّفينا أن يؤثّروا في محيطهم العالمي، بل وحتّى أن يسايروه فحسب، وهم لا يحسنون كتابة الإنقليزية بل وحتّى مجرّد قراءتها؟...إلخ

الصّديق الحميم الطّاهر بنى أبحاثه على قواعد التجربة الملموسة حيث درّس اللغة الإنقليزية لتلامذة الثانوي وللطلبة المتخصّصين فيها، وخصوصا للطلبة والبحّاثة غير المتخصّصين فيها من أقسام العلوم المختلفة...

ومن أهمّ ما لفت نظري ورسخ في ذهني من استنتاجات الطّاهر ما لاحظه من تبديد للعلوم أو المعارف. فهو قد كتب ـ انطلاقا من معاينات ميدانية ـ بحثا في المعرفة المبدّدة التي لا يفلح أصحابها في إبلاغها أو في إبلاغها كلّها وكما يجب بسبب قصورهم اللغوي...وهذه فكرة سبق أن سمعتُها من صديقة راسخة التجربة في علم الآثار ـ الأستاذة الباحثة عائشة بلعابد بن خضر ـ إذ أكّدت لي أنّ غالبية زملائها التونسيين ذوو خبرة وعلم واسعيْن لكنّ إشعاعهم الدّولي محدود بمحدودية علمهم باللغة الإنقليزية.

طبعا لم يقف الطّاهر عند هذا الموضوع أو هذه المسألة، فهو قد توسّع أيضا في تعريفه، بل وفي تشكيله، لمجالات اللّغة التي يمكن، بل يجب، تناولها من قبل أهل الألسنية... ومن ذلك أنّه ارتاد مجالات بحث جديدة كلغة الدبلوماسية، ولغة الإرساليات القصيرة، ولغة الإيجازات (briefings)، ولغة «فرق التفكير» (Think tanks)...كما أنّه طمح الى تدقيق تفاصيل الوجه الآخر من نتائج هيمنة اللّغة الإنقليزية على العالم: وجه تأثُّرِ هذه اللّغة ـ على مختلف المستويات ـ باللّغات والثقافات الأخرى التي أصبح أهلها يستعملون الإنقليزية ويثرونها...

الطّاهر إرتاد وعرا وركب محيطات، وأنا أحسّني أتوه وأنا ألهث لأمسك ببعض من حبال مراكبه.

فلْأعُد إلى حيث أردتُ أن أمضي ومن حيث بدأت، أو من حيث خيّل إلي أنّني بدأت: المعرفة المبدّدة Lost science. وبما أنّني أكتب هذه الخاطرة لجريدة «الجزيرة» فإنّني أودّ أن أعمّم، أن أوسّع وأن أنوّع فأطرح هذا السؤال: كم من معرفة تراكمت على مدى الأيام لدى سكّان جربة ثم تمّ تبديدها لعلل كثيرة منها اللغوي (إهمال«الجربي» أو الشلحة) وعدم إجادة الكتابة عموما، والقصور عن إتقان لغات أخرى ومنها الثقافي (الجهل بقيمة الموروث وأهمية المميّزات كما هو الحال في مجال التعمير والبناء والمعمار والتقاليد)، ومنها اللهث وراء«الجديد» دون تمحّص أو تمييز أو رغبة في الإبداع.

وأنهي باقتراح: لماذا لا تنظّم جمعيات الجزيرة وجريدتُها ملتقى علميا يُهيّأ له مسبقا وفي ما يكفيه من الزّمن، يكون موضوعه: المعارف الجربيّة «المبدّدة». ولا أخال أساتذة كحسين الطبجي والصادق بن عمران ورضا الأمين وفرحات الجعبيري وغيرهم إلاّ موافقين على تجسيد هذا الإقتراح، والأستاذ الطّاهر اللباسي إلا متحمّسا للإشراف على الإعداد...

(25 ماي 2010)

خواطر

خواطر ولّدتها في ذهني قراءة كتاب فتحي ليسير : من "الصعلكة الشّريفة" إلى البطولة الوطنية -دراسة في سير بعض "المستبعدين" من تاريخ تونس المعاصر
(نشر ميدياكوم وكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس-تونس 1999)

*-*-*-*

هذا كتاب وقع بين يديّ صدفة : لفت نظري عنوانُه وأنا أتجوّل بين رفوف مخزن الكتب بدار "سيراس"... وما إن تصفّحته لأكوّن فكرة عن محتواه حتّى غلبني نهمي، وغرقت في القراءة... واِنبهرت...واِستمتعت... واِستفدت...
ذلك أنّ موضوعي الصّعلكة والاستبعاد من التاريخ هما من المواضيع التي شدّتني منذ الصّغر، وخصوصا منذ خوضي للمرحلة الثانية من تعليمي الثانوي : الشعراء الصّعاليك، روبن هود، ثمّ ظاهرة الصّعاليك المثقّفين التي انتشرت في فرنسا خلال الشطر الثاني من السّتينات، وبعد ذلك : علي لا بوانت...
وفي حفلات الأعراس لم أكن أطلب من الطّبالة إلاّ أغنية "خمسة اللي لحقوا بالجرّة..." بعدها، وأنا أنخرط في النضال الثقافي والسياسي، ثمّ وأنا أنهل المعرفة بأنواعها في سجون بلدي طوال سبعينات القرن الماضي لمست في بعض من رفاقي صعلكة أو تمرّدا كالصعلكة يتخفّى في ثياب الثورة ويكسبهم ألقا وجاذبية، على الأقل في ناظريّ... وعايشت صعاليك حقيقيين شهيرين حدث أكثر من مرّة أن أحسست لديهم انجذابا إلى الثورة واستعدادا للتحوّل من "الصعلكة" المجرّدة إلى "الصعلكة الشّريفة"... ولّد إحساسي ذاك ما وجدناه، ونحن في الاعتقال، من تعاطف ومساعدة من بعضهم، أو ما عبّر لي عنه بعضهم في لحظات تجلّ لديهم أحلّها شعور قويّ بالضّيم، أو إعجاب مثير بتصدّينا المتواصل نحن العزّل لكلّ أشكال الضّيم والحيف...
بعد ذلك سمعت عن صعاليك قاوموا وعن "مُعَبَّدِين" ثاروا، وقرأت عن "المهمّشين" في بغداد العبّاسية وفي الثقافة العربية عموما، وحضرت تقديم الأستاذ عبد السّتار السحباني لأطروحته الجامعية عن الموضوع... وعلمتُ أنّ عمّي رمضان –الذي أذكر عنه انعزاله في منسجه وحدّة طبعه التي كثيرا ما كنّا نشعر أنها ليست سوى ستر لقلب بالغ الطيبة-
وكذلك ابن حومتي وقريبي البشير الوغلاني كانا هما أيضا، زمن الاحتلال، من "الصّعاليك الشّرفاء".
وفي الأثناء، قبل انخراطي في النضال السياسي، وبعد استعادتي لحرّيتي، كثيرا ما رُمتُ التحوّل إلى "صعلوك" و"هامشيّ" ورافض لكلّ نظام أو قاعدة أو واجبات وقيم اجتماعية غير حبّ البشريّة والامتناع عن الإساءة... لكنّ جبني ثمّ حبّي حرماني من ذلك.
وفي السّجون أيضا تعرّفت على مستبعدين من التاريخ -رجالٌ أغلبهم رجالٌ- حوّلتهم دولة الاستقلال من مقاومين بالسّلاح إلى عسس أحباس...
كما مكنتني قراءاتي والحكايات التي سمعتها من رفاق ومن سجناء ومن حرّاس أنّ أتأكّد أنّ تاريخ بلدي وجغرافيتها أوسع فعلا، وبكثير ممّا أشاع عنهما النّظام الحاكم ورأسه... وهو ما أدركته أيضا بالنسبة لتاريخ وجغرافية العالم الأرحب.
تلك هي الخلفية التي تفسّر إقبالي على كتاب "فتحي ليسير" بنهم وشغف وبكلّ جوارحي. ولذلك ابتغيت التعريف بالكتاب.
منذ المقدّمة يؤكّد المؤلّف أنّه "في بلادنا أيضا ظهر مقاومون على عهد الحماية أهملتهم ذاكرة التّاريخ ولكنّ ذكراهم وأسماءهم ظلّت قائمة في الضّمير الشعبيّ مستقرّة في وجدانه"، ثمّ يلاحظ –بعد أنّ يذكر أن اهتمامه قد تركّز على "مقاومي الأرياف من فلاّحي الجنوب الشرقي الذين شكّلوا العصب الرئيسي للانتفاضات وأعمال المقاومة بتلويناتها المختلفة" –أنّ "من حسن حظّنا أن عددا من "أبطالنا" عالجوا الشّعر بل نبغوا في قوله".
ولقد قسّم المؤلف كتابه –عدا المقدّمة والخاتمة- إلى 4 أبواب عنونها كالتالي :
- "الباب الأوّل : السّمات العامّة "للصعلكة الشريفة"،
- الباب الثاني : منصور الهوش (1834 ؟ - 1891 ؟)،
- الباب الثالث : محمّد بن مذكور (1861 ؟ - 1916)
- الباب الرابع : بلقاسم بن ساسي (1895 ؟ -1928).
وإذا كانت الأبواب الثلاثة الأخيرة قد عرّفت بالصّعاليك الشرفاء أبطال الكتاب من حيث نشأتهم ومساراتهم وأعمالهم ونهاياتهم، فإنّ الباب الأول قد سلّط الأضواء على "الصعلكة الشريفة" عموما من حيث تعريفها كصعلكة وكشرف ومن حيث التمرّد الذي يكتنهها أو تجُرّ إليه ومن حيث هي "طريق إلى البطولة الوطنية" و"حركة محافظة".
وبمجرّد النّظر في تواريخ ولادة ووفاة أبطال الكتاب يفهم القارئ أنّ الأمر يتعلّق بصعاليك جنوبيين صدّوا أو حاولوا صدّ جيوش الاحتلال الفرنسيّ لتونس، وأنّهم أصبحوا " من رموز العصيان والثورة على المستعمر ارتقت السّيرة الشعبية بالبعض منهم إلى مرتبة البطولة الملحميّة وليس محض صدفة أن يجيء ترتيب هذا الرّهط من الثوّار في الأعمّ الأغلب مباشرة بعد الأولياء الصالحين".
وممّا يظهر من الباب الأوّل من الكتاب ثمّ من استعراض سير الأبطال الثّلاثة أنّهم "وغيرهم ممّن نشطوا على الأطراف الجنوبية النّائية للإيالة قد التجأوا إلى القطر المجاور (ولا سيما القسم الغربيّ منه المسمّى إقليم طرابلس)، إمّا غداة إعلان ثورتهم، أو خلالها، أو بعد انكسار حركتهم المسلّحة".
وهذه معلومة لا شكّ أنّها لا تفرح المؤرّخين وأشباه المؤرّخين الرسميين الذين دأبوا على القول بأنّ ليبيا لم تبذل جهدا يذكر لفائدة استقلال تونس، وركّزوا –بالعكس من ذلك- على تضخيم مساعدتها للحركة اليوسفية، وعلى الدّعم الذي وجده سكّان طرابلس وقت غزو الطليان لبلادهم.
كما يكشف الكتاب وجوها من السياسة الاستعمارية في الجنوب الشرقي واعتمادها على مقولة "فرّق تسد" واستمالتها لبعض السّكان –مع اعتمادها في ذلك على ما أدركته من تناقضات داخلية كانت سائدة في الجهة وأهمّها التناقض بين قبائل الودارنة وبين الجبالية- بغاية حملهم على مهادنتها وحتّى على خدمتها.
كما يكشف عدم إفلاح السياسة المومإ إليها في عديد الحالات.
وبالمقابل يظهر من الكتاب "أنّ متمرّدي الحقبة الواقعة بين 1881 و 1915 كانوا ينطلقون في تنفيذ عملياتهم الخاطفة، التي استهدفت الحاميات الفرنسية، وقوافل التموين، وجانبا من القبائل الخاضعة، من الشريط الحدودي الشّرقي، أي أنّهم غادروا مجالاتهم وفضّلوا التحرّش بفرق جيش الاحتلال انطلاقا من "الخارج".
وممّا عرفته وأنا أقرأ هذا الكتاب –وهذه معلومة لا أذكر أنّني اطّلعت عليها في غير هذا الموضع رغم معاشرتي لكتب كثيرة تناولت تاريخ تونس انطلاقا من عهد الحماية- أن مقاومي الاحتلال الفرنسي "قد قرّ رأيهم [خصوصا بعد استسلام مدينة القيروان في أكتوبر 1881] على الانكفاء نحو الثّغور الجنوبية للإيالة رفقة أسرهم وأنعامهم..."
ونتيجة لذلك "شهدت المنطقة الواقعة بين وادي الزّاس وجهة زوارة الليبية تقاطر أعداد هامّة من القبائل التّونسية" حتّى أنه "خُمِّنَ عدد المهاجرين بحوالي عشر سكّان الإيالة آنذاك"...
كتاب فتحي ليسير أثرى ممّا ذكرته وأشرت إليه... وهو يتميّز بجمعه بين التأريخ وبين البحث الاجتماعي والأنتروبولوجي ولا يستقرأ الأحداث والوقائع وحدها بل يستنطق الشّعر والحكايات ويستعين بذاكرات الأجيال... وهذه ميزات استثارت شهوتي إلى قراءة أبحاث أخرى ذات صلة بموضوع الكتاب كمسألة استخدام السلطة، في بدايات الاستقلال، لصعاليك (غير شرفاء ؟) وتحويلها إيّاهم إلى وجاهات لمزيد توسيع قاعدتها ولمواجهة مناوئيها- ولعلّ لبعض كبار الحومة في الماي وغيرها شهادات في المعنى-، وكمسألة الانتقال المضادّ من البطولة الوطنية إلى الصعلكة (الشريفة أو غير الشّريفة).

26 ماي 2010

رغم أنفك


وهذه رواية أخرى تونسية موضوعها القمع والتعذيب وغياهب السّجون.
قصّة الرواية –التي كتبت صيف 1994 وصدرت عن "دار صامد" في جانفي 2010- بسيطة جدّا : ذات ليلة يهرب النّعاس عن جفني جابر العامل اليومي فيخرج ليستنشق نسمات ما قبل الفجر... يصادفه مناضلان يكتبان شعارات على الجدران ويوزّعان مناشير... يغلبه فضوله –هو الأمّي- فَيُقْبَضُ عليه متلبّسا بدهن تشرّب إلى قميصه من حائط اِتّكأ عليه وبمنشور اِلتقطه من تحت باب...

وتتسارع الأحداث : أعوانُ تحقيق يهمّهم جدّا أن يبيّنوا لرؤسائهم حزمهم وقدرتهم وتفانيهم وبريءٌ لا يفقه من الأمر شيئا... تكالب على افتكاك اِعترافات توسّع دائرة الصّيد وتكثر من الطّرائد، وغرٌّ لا يملك إلاّ أن يحكي عن صباه كراعي غنم هدّه الفقر وعزلته الجبال... وتنطلق ماكينة الاستجواب عبثية، لا زمام لها، لا يثنيها عن الفتك حدّ أو أحد... تعذيب يليه تعذيب... وبين التعذيب والتعذيب تعذيب... ويصمُتُ جابر... بل هو يردّ الفعل ويضربُ واحدا من المعتدين...

وينتهي الحال بجابر في السجن بتهمة "الانتماء" : سجين رأي في عنبر يغلب عليه مساجين الحقّ العامّ ويديره قوّاد والإدارة...
بعد ذلك تراوح الرّواية بين جابر يتعلّم –في كنف رفيق– السجن والقراءة ويكتشف عالم المكابدة من أجل شبر أكثر والنّضال من أجل الكرامة، وبين مجتمع مدنيّ غالبه شباب يقاوم كيفما استطاع إلى ذلك سبيلا...

وفي الأثناء ينتقل بنا الرّاوي من مراكز الشرطة والاستنطاق و"بيت عزرائيل" حيث تتفتّق عنجهية الجلاّدين عن ضروب من اللاإنسانية يبعث مجرّد وصفها على الغثيان، إلى الصراعات العمياء التي يخوضها المحبوسون يدفعهم إليها وَهَمُ السعي إلى البقاء، فإلى خارج السّجن حيث يستميت شباب عزّل يكاد الجوع يهدّهم في الدفاع عن مبادئ العدل والمساواة، وحيث تبذل زوجة كلّ شيء من أجل زوجها "سجين الانتماء" وحيث يجهد محام ذو مبادئ ليحافظ على عذرية ردائه ونصرة الحقّ.

وإذا كان جابر قد بدأ رحلته إلى أعماق الرّعب صدفة وبلا إرادة منه فإنّه سينهيها عنوة وبسابق تخطيط وإصرار فهو سيفرّ من قاعة المحكمة ليغرق في المدينة بحثا عن أمل : أمل إنقاذ أمّه التي أرّقها غيابه فغادرت جبلها إلى المدينة تضيع فيها بحثا عنه...
القصة بسيطة جدّا...وكتابتها عاديّة... لكنّ ذلك لم يمنع الرّواية من أن تكون نفّاذة ومؤثّرة... فهي تفتح نوافذ على دهاليز التعذيب والقمع تفضح حقاراتها المتستّرة بلبوس أمن الدّولة... وهي تأخذ القارئ إلى بطون السّجون تظهر زيف ادّعاءات القائمين عليها، وتبيّن أنّها ليس سوى مقابر يُدفن فيها أحياءً الضّعاف والمتمرّدون وأصحاب الأحوال وعاثرو الحظّ فينهش بعضهم بعضا ويتقاتلون... وإن هم تحابّوا وناصر بعضهم بعضا من حين لآخر.
وهي تبدي لنا، كما لو من خلف ستائر، شبابا ينبض ألما وبذلا ويشقى لا لشيء إلاّ لتكريس أفكار ومبادئ وأحلام...
ومقابل معاناة ومقاومة ومغالبة قد لا تكون وراءها إلاّ صدفة الوجود في مكان ما ذات زمن ما، تتكشّف "خلقةُ" السّلطة سادية، متعنّتة، هوجاء، مدرّبة  ككلاب الدّم، منظّمة كجحافل بني صهيون.

من مفاتيح هذه الرواية نصيحة عمل بها جابر  منذ صغره تقول : " إذا هاجمتك الكلاب إيّاك أن تهرب !"
ومن نقاط قوّة تأثيرها إطنابها في التّفاصيل...
أما استخدامهـا لكلمات وعبــارات وجمـل من الدّارجة التّونسيـة وحتّى تسلّل أخطاء لغويــة  -تركيبية ونحوية-  إليها فهما ممّا أكسبها  عفوية ونوعا من الطبيعية وبساطة محبّبة أذهب عنها زيف الادّعاء وشطط المبالغة.

أخيرا أجدني مدفوعا لأن أصرّح أنّني قرأت رواية "... رغم أنفك" رغم أنفي، فأنا لم أسع إليها بل وجدتها، صدفة، بين يديّ... وأنا، بدءا، لم أستغرق في قراءتها بل رغبت في تركها، لكنّها ألحّت عليّ فقرأتها على دفعتين... ولم أندم... رغم أنّها أرهقتني لم أندم... ورغم أنّ ما وصفته من عذاب قد آلمني لم أندم...

وإذ أي أيقظت هذه الرواية زوايا كثيرة في ذاكرتي فإنّها قد أعادت إلى رؤياي، على الخصوص، رواية أخرى -أو لعلّها كانت مسرحية- قرأت بعضا من أوراقها خلال سبعينات القرن الماضي وأنا ببرج الرّومي : رواية كتبها سجين حقّ عام وصف فيها بعفوية طفولية لكن قاتلة تفاصيل حياته اليومية في الحبس وبدأ كلّ فصل منها وأنهاه بالجملة ذاتها : جملة قصيرة مدوّرة حادّة تحاكي دوران طابور المساجين في الساحة عند خروجهم من عنابرهم وقبل عودتهم إليها...

                                                                                             
                                                                                     الصادق بن مهني
                                                                                      17 ماي 2010




... رغم أنفك
رواية عبد الجبّار المدّوري
صامد للتّوزيع والنّشر
طبعة أولى : جانفي 2010
251 صفحة