5 juin 2010

رغم أنفك


وهذه رواية أخرى تونسية موضوعها القمع والتعذيب وغياهب السّجون.
قصّة الرواية –التي كتبت صيف 1994 وصدرت عن "دار صامد" في جانفي 2010- بسيطة جدّا : ذات ليلة يهرب النّعاس عن جفني جابر العامل اليومي فيخرج ليستنشق نسمات ما قبل الفجر... يصادفه مناضلان يكتبان شعارات على الجدران ويوزّعان مناشير... يغلبه فضوله –هو الأمّي- فَيُقْبَضُ عليه متلبّسا بدهن تشرّب إلى قميصه من حائط اِتّكأ عليه وبمنشور اِلتقطه من تحت باب...

وتتسارع الأحداث : أعوانُ تحقيق يهمّهم جدّا أن يبيّنوا لرؤسائهم حزمهم وقدرتهم وتفانيهم وبريءٌ لا يفقه من الأمر شيئا... تكالب على افتكاك اِعترافات توسّع دائرة الصّيد وتكثر من الطّرائد، وغرٌّ لا يملك إلاّ أن يحكي عن صباه كراعي غنم هدّه الفقر وعزلته الجبال... وتنطلق ماكينة الاستجواب عبثية، لا زمام لها، لا يثنيها عن الفتك حدّ أو أحد... تعذيب يليه تعذيب... وبين التعذيب والتعذيب تعذيب... ويصمُتُ جابر... بل هو يردّ الفعل ويضربُ واحدا من المعتدين...

وينتهي الحال بجابر في السجن بتهمة "الانتماء" : سجين رأي في عنبر يغلب عليه مساجين الحقّ العامّ ويديره قوّاد والإدارة...
بعد ذلك تراوح الرّواية بين جابر يتعلّم –في كنف رفيق– السجن والقراءة ويكتشف عالم المكابدة من أجل شبر أكثر والنّضال من أجل الكرامة، وبين مجتمع مدنيّ غالبه شباب يقاوم كيفما استطاع إلى ذلك سبيلا...

وفي الأثناء ينتقل بنا الرّاوي من مراكز الشرطة والاستنطاق و"بيت عزرائيل" حيث تتفتّق عنجهية الجلاّدين عن ضروب من اللاإنسانية يبعث مجرّد وصفها على الغثيان، إلى الصراعات العمياء التي يخوضها المحبوسون يدفعهم إليها وَهَمُ السعي إلى البقاء، فإلى خارج السّجن حيث يستميت شباب عزّل يكاد الجوع يهدّهم في الدفاع عن مبادئ العدل والمساواة، وحيث تبذل زوجة كلّ شيء من أجل زوجها "سجين الانتماء" وحيث يجهد محام ذو مبادئ ليحافظ على عذرية ردائه ونصرة الحقّ.

وإذا كان جابر قد بدأ رحلته إلى أعماق الرّعب صدفة وبلا إرادة منه فإنّه سينهيها عنوة وبسابق تخطيط وإصرار فهو سيفرّ من قاعة المحكمة ليغرق في المدينة بحثا عن أمل : أمل إنقاذ أمّه التي أرّقها غيابه فغادرت جبلها إلى المدينة تضيع فيها بحثا عنه...
القصة بسيطة جدّا...وكتابتها عاديّة... لكنّ ذلك لم يمنع الرّواية من أن تكون نفّاذة ومؤثّرة... فهي تفتح نوافذ على دهاليز التعذيب والقمع تفضح حقاراتها المتستّرة بلبوس أمن الدّولة... وهي تأخذ القارئ إلى بطون السّجون تظهر زيف ادّعاءات القائمين عليها، وتبيّن أنّها ليس سوى مقابر يُدفن فيها أحياءً الضّعاف والمتمرّدون وأصحاب الأحوال وعاثرو الحظّ فينهش بعضهم بعضا ويتقاتلون... وإن هم تحابّوا وناصر بعضهم بعضا من حين لآخر.
وهي تبدي لنا، كما لو من خلف ستائر، شبابا ينبض ألما وبذلا ويشقى لا لشيء إلاّ لتكريس أفكار ومبادئ وأحلام...
ومقابل معاناة ومقاومة ومغالبة قد لا تكون وراءها إلاّ صدفة الوجود في مكان ما ذات زمن ما، تتكشّف "خلقةُ" السّلطة سادية، متعنّتة، هوجاء، مدرّبة  ككلاب الدّم، منظّمة كجحافل بني صهيون.

من مفاتيح هذه الرواية نصيحة عمل بها جابر  منذ صغره تقول : " إذا هاجمتك الكلاب إيّاك أن تهرب !"
ومن نقاط قوّة تأثيرها إطنابها في التّفاصيل...
أما استخدامهـا لكلمات وعبــارات وجمـل من الدّارجة التّونسيـة وحتّى تسلّل أخطاء لغويــة  -تركيبية ونحوية-  إليها فهما ممّا أكسبها  عفوية ونوعا من الطبيعية وبساطة محبّبة أذهب عنها زيف الادّعاء وشطط المبالغة.

أخيرا أجدني مدفوعا لأن أصرّح أنّني قرأت رواية "... رغم أنفك" رغم أنفي، فأنا لم أسع إليها بل وجدتها، صدفة، بين يديّ... وأنا، بدءا، لم أستغرق في قراءتها بل رغبت في تركها، لكنّها ألحّت عليّ فقرأتها على دفعتين... ولم أندم... رغم أنّها أرهقتني لم أندم... ورغم أنّ ما وصفته من عذاب قد آلمني لم أندم...

وإذ أي أيقظت هذه الرواية زوايا كثيرة في ذاكرتي فإنّها قد أعادت إلى رؤياي، على الخصوص، رواية أخرى -أو لعلّها كانت مسرحية- قرأت بعضا من أوراقها خلال سبعينات القرن الماضي وأنا ببرج الرّومي : رواية كتبها سجين حقّ عام وصف فيها بعفوية طفولية لكن قاتلة تفاصيل حياته اليومية في الحبس وبدأ كلّ فصل منها وأنهاه بالجملة ذاتها : جملة قصيرة مدوّرة حادّة تحاكي دوران طابور المساجين في الساحة عند خروجهم من عنابرهم وقبل عودتهم إليها...

                                                                                             
                                                                                     الصادق بن مهني
                                                                                      17 ماي 2010




... رغم أنفك
رواية عبد الجبّار المدّوري
صامد للتّوزيع والنّشر
طبعة أولى : جانفي 2010
251 صفحة

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire