5 juin 2010

أينك يا مسعودة الخرّوبيّة؟!

أواسط خمسينات القرن الماضي، وأنا غرّ لم أبلغ بعدُ سنّ المدرسة، جدّت في أيّامي الواقعة التّالية: بمناسبة أحد العيديْن، وبالذّات يوم «العرفه» كما نسمّيه في جربة، يوم عيد الصّغار السّابق ليوم العيد، أهداني واحد من أهلي ساعة يدويّة زائفة (منقالة بلاستيك) زرقاء.

ورغم أنّ السّاعة كانت زائفة، وبلاستيكيّة، ولا صلة لها بالوقت بتاتا، ورخيصة، فإنّها كانت في عينيّ كجوهرة أو حليّ، ومتاعا ذا شأن زاد من شأني بين أترابي، ووهبني فرصة للتّباهي والمفاخرة...

ذلك أنّ ذاك الزّمن كان زمن بساطة، وندرة، وشحّ... وكان الفرح والزّهو فيه يولدان من لا شيء...

بعد العيد عدتُ إلى الجامع أحفظ القرآن على يديْ صاحب الوقار والسّماحة، حسن الذّكر الحاج محمّد بن الحاج دحمان... وهنالك أسالت ساعتي لعاب ولد شقيّ أكبر منّي، فراوح بين استمالتي وتخويفي أوّلا حتّى أتنازل له عنها، ثمّ راوغني حتّى اختلسها منّي...

رجعت إلى المنزل خائبا، مغتاظا، مريضا، مضاما... وأعلمتُ أهلي بما جرى... ولم أستطع للتّغاضي والنّسيان سبيلا... حتّى أصبح أهلي كلّهم يحسّون القهر مثلي.

زمنها كان مجتمعنا لا يعرف سلطة السّلطة، ولم يكن في منطقتنا كلّها لا حرس ولا شرطة ولا عَسَس... بل كان المجتمع يسوس ذاته من داخله: قواعد معلومة للجميع تُحتَرم، وكبارات يفصلون كلّ خلاف، ويعاقبون كلّ زلّة...

وحتّى أتجاوز انكساري وتعود لي فرحتي، رافقتني جدّتي للأب، طيّبة الذّكر مسعودة الخرّوبيّة ـ وكانت من كبارات كبارات الحومة ـ إلى حيث يسكن الولد الشقيّ مع أهله خصّا من أعواد قصب الدرع (القصوال) والجريد.

وصلنا الخصّ، قفز الولد إذ لمحنا نقدم... واستنكرت أمّه أن نشكّ في أنّه اختلس السّاعة، وأقسمتْ بأغلظ الأيمان أنّه لم يجلب إلى المسكن أيّ لعبة... حاورتها جدّتي بجدّ، وذكاء، ودهاء، وسماحة، وهدوء، وصبر جميل، حتّى رأيناها تندفع داخل الخصّ لتفتح صندوق ثيابها وتخرج منه السّاعة الزّرقاء وتمدّها لي مهمهمة وكأنّها تعتذر...

حضرتني هذه الواقعة هذه الأيّام وأنا أعيش وكامل عائلتي وقع واقعة حزينة شهدها منزلنا بالزّهراء:

يوم الاربعاء 41 أفريل، بين السّاعة التّاسعة والسّاعة الحادية عشرة صباحا، داهم منزلنا أشقياء، قفزوا من فوق أسواره، وخلعوا بابه بالحديد والدقّ والقوّة، واستباحوا حوزته، وعاثوا فيه تفتيشا، ونهبوا منه الكثير الكثير...

نهبوا ذاكرة ابنتي وأعمالها الجامعيّة ونصوصها وصورها، وحرمونا جميعا ـ حتّى نتجاوز ـ لذّة الإبحار، إذ نهبوا حواسيبنا المحمولة وما معها من أقراص تسجيل ونسخ...

نهبوا هواية ابنتي وزوجتي إذ نهبوا آلات التصوير وكاميرا الفيديو... ومنها هديّة ثمينة لم نشغّلها بعدُ، ووزنها المعنويّ والعاطفيّ لا يُقدّر...

نهبوا ذاكرة رفيقة دربي إذ أخذو حليّها.. ونهبوها شيئا من حميميّتها إذ نهبوا عطرها وموادّ تجميلها..

نهبوا الشّيء الوحيد الذي كانت لي متعة امتلاكه، أنا الذي لا أرغب في ملكيّة أيّ شيء: نهبوا ما جمّعته على امتداد ثلاثين سنة أو جمّعته لي زوجتي أو أهدانيه أحبّة، من أحجار شبه كريمة منظومة وغير منظومة ومن حليّ ومصوغ من فضّة صُنعت في أصقاع مختلفة من هذا العالم.

نهبوا إحساسنا بالأمن والأمان والطمأنينة، وإن هو قد غدا بعدُ منذ زمن نسبيّا ومشوبا بالتوجّس...

نهبوا نومنا وراحتنا وارتخاءنا... نهبوا طقوس حياتنا اليوميّة... نهبوا سلامنا... نهبوا أحلامنا... نهبوا براءتنا وبساطتنا... نهبوا ما خطّطنا له من أعمال وأسفار... نهبوا هناءنا داخل مسكننا... نهبوا انقطاعنا إلى أعمالنا في تركيز... نهبوا براءة نظرتنا إلى الآخرين من حولنا... نهبوا قدرتنا على أن ننعم بالحديقة وبالهواء وأبواب المسكن ونوافذه مشرعة... نهبوا هدوء آذاننا التي غدت دائمة التوثّب لكلّ صوت أو حركة ... نهبوا ثقتنا في مجتمعنا... نهبوا اطمئناننا إلى حماة حمانا... نهبوا خصوصيّتنا وحميميّتنا بل اغتصبوا دارنا، وغرفها، وأثاثها، والزّمن الذي تحمله، وعبقها.. اغتصبوا ذاكرتنا وأحلامنا...

والآن، وقد مرّ على الواقعة أكثر من عشرة أيّام كاملة ولا أحد ولا شيء قد خفّف من جزعنا وهمّنا وحزننا سوى مؤازرة الأحبّة والأهل والأصدقاء وبعض من الزّملاء ونزر من أهل المهنة، أجدني أقول في نفسي، بل وأصرخ: أينك يا أمّي مسعودة الخرّوبيّة؟!

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire