22 janv. 2012

الزهراء

نشر بجريدة الصباح بتاريخ 6 جانفي 2011الزهراء مدينة أو قرية اشتهرت طويلا بجمالها و طيب العيش فيها فسكنها فنّانون ومسرحيّون ومصوّرون،وألهمت رسّامين عالميين وتغنّى بها شعراء كثر .
وإلى حدّ نهاية تسعينات القرن الماضي أفلحت الزّهراء في أن تحافظ على كثير من رونقها الذي كان يصنعه لها خصوصا رحابة شوارعها ونظافتها ، وكثرة الأشجار والحدائق العامّة والخاصّة ، وتناسق المباني ، والشّاطئ الجميل .
    بعد ذلك استشرى الفساد في الزهراء كما في عامّة البلاد, وأصبحت المجالس البلدية مجرّد شاهد زور على ذبح المدينة وإهدار إمكانياتها وتشويه عمرانها ... بل بلغت الأمور خلال العشرية المنقضية حدّا جعل الزهراء تنعت بالإصبع والقلم بأنها أحد معاقل الفساد المنظّم متعدّد الأوجه والانعكاسات ، فظهرت أحياء فوضوية كاملة ولم تعد التّراتيب العمرانية والمعمارية سوى أدوات للمقايضة . ومع اندلاع الثّورة هبّ متساكنون كثر ونادوا بالإطاحة بالفاسدين في المجلس البلدي وتطوّعوا لخدمة الصّالح العام .
غيرأن السلطات الجهوية والحكومة لم تستفيدا من هذه الهبّة وتراختا فواصل الفاسدون أنشطتهم وإن من خلف سُترإذ أن أبرزهم تخفّى خوفا من المحاسبة لكن استمرّ يحرّك صنائعه فرخّصوا في إحداث عشرات الأكشاك وانطلق هو يبني حيثما وكيفما يشاء .
وأمام إصرار النّاس على التّصدّي ومطالبتهم بالمعالجة اضطرّت السّلط العمومية إلى تعيين نيابة خصوصية لكنها لم تحسن تشكيل تركيبتها ، فجاءت هشّة أغلب أعضائها تنعدم الخبرة لديهم وغير متجانسة لأن المعايير السّياسية طغت على اختيار منتسبيها ...
ولم تتأخّر النّتيجة كثيرا فها هي الفوضى تعمّ كلّ مكان وها هي الحرمات تنتهك وها هي قوانين التّعمير وتراتيبه تداس ... ومن بين ما يحدث ويبنى بمخالفة مبان لا تسيء للجمالية وحقوق الأجوار فحسب بل حتى ما يخلّ بسيولة الجولان وبحسن استخدام الطّرقات .
ولعلّ من أبرز المباني العشوائية التي هي بصدد الإنشاء وسيعسر تدارك حالها لاحقا بل سيستحيل ، المباني التي تقام على جانب الطّريق الوطنية رقم 1 وخصوصا منها ورشة صيانة السيّارات التي احتلّت ركنا من مفترق مدخل المدينة وأصبحت تشكّل خطرا داهما ودائما على العابرين وتوسّعت حتى على الملك العمومي . والمباني التي تنجز داخل منطقة التدخّل العقّاري للوكالة العقّارية للسّكنى وعلى جانبي الطّريق الفرعية الرّابطة بين حمّام الأنف ورادس التي سيغدو من العسير تطويرها مستقبلا.
أماّ في داخل المدينة فالمساكن الفردية تتحول إلى عمارات والحدائق يغطّيها الإسمنت . ويكفي للتّأكّد من ذلك مثلا المرور من شارع فرنسا حيث تبنى عمارات غير قانونية أبرزها تلك الواقعة في مدخله من ناحية النّزل  التي بلغت طبقتها الخامسة ، إو التّفسّح على الشّاطئ حيث يتواصل البناء دون احترام لتراتيب مجاورة الملك العمومي البحري كما هو الحال عند مفترق نهج نهرو وعند آخر الكرنيش. والأمثلة عديدة وكثيرة ومتناثرة ومن أبرزها احتلال إحدى المصحّات للطريق العام ذي الحركية الكثيفة الرّابط بين حي الحبيب وبلدية بو مهلّ.
فأين النّيابة الخصوصية ؟  وإلى متى ستسكت هي ومعها المصالح المكلّفة بالتّعمير والطّرقات والملك العمومي والشّواطئ والعمران ؟ وإلى متى ستظلّ السلط الجهوية والسلط المشرفة عليها في سبات ؟
   الحالة لم تعد تتحمّل الانتظار ...والمعالجة ما تزال ممكنة في مواقع كثيرة . وللبلدية من الموارد البشرية ما يسمح لها بالمواجهة (خصوصا وأن الأعوان انتدبوا  ورسّموا بالعشرات )، والمتساكنون قد أظهروا مؤازرتهم للإصلاح وعلى أهبة ليسندوا المجلس البلدي لو صحت مساعيه ، ولم تعد ثمّة إمكانية للتّعلّل بالعجز أو الخوف من ردّ فعل الشّارع .
والنّاس جميعا يتساءلون : أين إدارة التّجهيز والإسكان وأين الوالي ؟ وهل من المعقول أن يسكتا على ما يحدث وأن لا يؤازرا  نيابة دورها محوري إمّا بتحريكها أو بتبديلها ؟ ولماذا لا يتدخّلون مباشرة على الأقلّ في الحالات التي تنتج عنها انعكاسات يتجاوز أثرها البعد المحلّي ؟

لابِد للبُومة مِن غادِي"

"لابِد للبُومة مِن غادِي"


نشر بجريدة الأولى بتاريخ 18 جانفي
بقلم الصادق بن مهني
وأنا أسمع صراخ وهياج وصياح وسباب سلفيين بالشارع الكبير وأشهد اعتداءاتهم المكتوبة والملفوظة على من يخالفهم الفكر والرأي وموقفهم من الحياة وتهجمهم على نساء في عمر أمهاتهم ونهيهم لرجال في عمر آبائهم وسعيهم إلى تعليم ناس هم أكثر منهم علما ودراية وفقهًا، انبثقت من ذاكرتي فجأة هذه الجملة !
السنة ١٩٧٥ - المكان جناح العقاب والسجن المضيّق بحبس ٩ أفريل بتونس...
كنا خمسة : أبو السعود الحميدي وعبد الله الحسني وابراهيم الميداسي وحمة الهمامي وأنا... وكنا محشورين في زنزانة واحدة تم تخصيصها لنا اثر إضرابات جوع عديدة كان تجميعنا أحد أبرز مطالبها... ورغم تواجدنا معا كانت حركة الزمن بطيئة متثاقلة...  ولم يكن بيننا من يحذق الغناء ليروّح عنّا...  أو لنقل كنّا نغنّي شيئا هو ليس غناء ولا كالغناء فعبد الله أعذبنا صوتا كان يغنينا في اليوم الواحد عشرة مرّات "طالعة من بيت أبوها رايحة لبيت الجيران" ولكنه لم يكن يتجاوز أبدا البيت الثاني... وابراهيم –المدرّس-  كان ينشدنا القصيدة أو الأغنية الوحيدة التي حفظها ليعلّمها لتلاميذه  «c'est triste un train qui   siffle» ... وأما حمة فكان يقرأ علينا أطول قصائد السياب... وأما أنا فلمّا تجرّأت ليلة على أن أغني نزولا تحت إلحاح رفاقي فلقد قاطعني الحارس الليلي ناهرا قبل حتى أن أنهي السطر الأول من البيت الأول من أغنية للشيخ العنقة.
ولكن دعنا من الاستطرادات... ولنعد إلى "اللاّبد للبومة من غادي"... كان عبد الله ظريفا ويحفظ طرفا كثيرة وحتى يصنعها... ذات ليلة روى لنا طرفة عن عامل مناجم من المتلوي كان تلميذا حريصا في أقسام محو الأمية...  وذات يوم حضر المتفقد الدرس...  وكتب المعلم على السبورة التي كان بها خدوش كثيرة وبقع هرب عنها السواد "لا بدّ لليوم من غد" ولم يفلح أي كان في القراءة ... واجتهد التلميذ الحريص حتى ينقذ قسمه ومعلمه وهتف  "لابد للبومة من غادي"... ذلك أنه كان في صغره يطارد البومة ليقتنصها دواء للسعال.
استحضرت هذه الطرفة وأنا أخوض غمار تلك الجماهير التي نزلت إلى شارعها الكبير وسط العاصمة تستحضر أحداث العام الماضي، فوجدت الجماهير جمهورين : جمهور نساء وبنات وأطفال وشباب وكهول وحتى شيوخ مثلي أذكر أنني رأيت العديد منهم العام الماضي يهتفون بالحرية والديمقراطية والعدل والعدالة والمساواة، وجدتهم هذا العام يهتفون بالهتافات ذاتها وعلى سماتهم علامات فجيعة وفي عيونهم إصرار وتحدّ... بدوا لي أكثرية لكن ممزّقة... وجمهورثانٍ أغلبه ذكور، منظم، وله أدوات الصراخ، يغلب عليه السواد يتهكم على الجمهور الأول ويسبه ويريد أن يفجعه أكثر... جمهور ببغاوي مطبّل ودعيّ.. رُبِّيَ ليستجيب أيا كان النداء وأيا كان المنادي.
استحضرت هذه الطرفة وأنا أقف غير بعيد عن زاوية الشارعين التي كنت أقف عندها قبل عام بالضبط يحيط بي شباب وشابات يتحدّون قناصين يحتلون سقف البناية الكريهة وصفوف هراوات ما انفكّت تتراجع تحت ضغط نداءاتهم البديعة...
"لابد للبومة من غادي"
"لا بدّ لليوم من غد"
"فلا بدّ أن يستجيب القدر"
واستجاب القدر وانخلع رأس الفساد والاضطهاد...  لكنهم كانوا "لابدين للبومة من غادي"، عفوا كانوا لابدين لغدكم /غدنا هناك في منافيهم الفاخرة غربا وشرقا وفي حسينيات الشام وخلف الصفوف "لابدين" خاتلين، متربصين، متهيئين...
وحالما قبضتم على "البومة".. عفوا على غدكم، انقضوا عليه وعليكم... انقضوا عليه وعليكم بعرقكم وحناجركم ودمائكنّ وعزمكنّ وطفولتكم ووداعتكنّ وديمقراطيتكم وهدوئكنّ وابداعاتكم... وهاهم الآن يصفونكم أنتم يا من ملأتم الساحات والشوارع والبطاح بأنكم جماعة ٠.٠ وينعتون أنفسهم بأنهم الغالبية الغالبة ويرفضون أن يستمرّ الشعب في الكلام لأنهم نوّابه ولهم وحدهم أن يتكلموا عنه وباسمه... هاهم يستعملون ألفاظكم وعباراتكم ونداءاتكم كلما خدمهم استعمالها.
ويردونها عليكم كلما لم تحل لهم ويخادعون بظاهرها دون المعنى كلما اضطروا .
لقد "لبدوا للبومة"، ولليوم، وللغد، غدكم - غدنا - غد هذا الوطن...
لقد مكروا...
هم غالبية في التأسيسي... لكن همّهم ليس  في التأسيس بل...
وأنتم غالبية في الشوارع والبطاح، تُشتمون وتُكفرون وتُخوّنون، همّكم التأسيس لكن...
هم نظام وانتظام ودربة وظهر مسندٌ ونهم إلى النفوذ، وسلطة وتسلّط وكلام سهل ومسهل ظاهره خلاف باطنه، يستعدون الناس عليكم بكل لفظ وكل حبر وكل صورة وكل فقه، يضربون ويسبقون بالتشكي... هم قوة وهيمنة وتجبّر وأنتم تشتت، وعنفوان عفوي، أنتم تشرذم وغواية، وتسامح صبياني... غير أن...
ضعفهم في قوتهم، ووهنهم في جبروتهم، وهشاشتهم في حماة ظهورهم... فلتستمرّوا...
لتستمروا وراء حلمكم ولتنتبهوا لكل "اللابدين من غادي وغادي وهنا

قد يكون في فرز الصفوف... الخلاص!"

صدر بجريدة الطريق الجديد بتاريخ 21 جانفي
                                                                                   الصادق بن مهني

يوم 14 جانفي 2012 وأنا أغالب أوجاع ظهري وأتناسى تعب ساقيّ وأريد أن أستمرّ في تظاهري وفي تنقّلي بين هذا الجمع وذاك سعيا إلى الفهم، لفت سمعي حوار بين شابّين سينيمائيين اِنتهى إلى جزم أحدهما بالتّالي :
-         "أهمّ ما استخلصه هذا اليوم أن الشعب التونسيّ انشطر إلى قسمين، وهذه كارثة !"
لم أتدخّل في النّقاش، لكنّ رفيقة دربي فعلت. قالت :
-         -"ومتى كان الشعب التونسي أو أيّ شعب آخر فصيلا وحيدا ؟"
وانطلقت في وجداني "ماكينة" التذكّر والتّفكير :
نشأنا في زمن هيمن عليه بورقيبة... وكان الشعب فيه –حسبَهُ وحسب خدّامه والموالين له والساكتين عنه- شعبا واحدا لا فكر له ولا صوت له ولا بصر له إلاّ ما فكّر ونطق به ورآه بورقيبة... الزّعيم كان واحدا أحدا والشعب كان ظلّهُ والمصفّق له وتابعه حتّى في ضلاله، أو وهو يخطئ أو وهو يجدّف في خَرَفِه... أمّا من تجرّأ فَنَاقش أو عبّر أو تهيّأ ليختلف فهو شرذمة وخارج عن الشعبَ وضالّ وفاشل وخائن و"يصطاد في الماء العكر"...
والحالَ أنّ الشعب كان شعبين بل أكثر... فيه السعيد وفيه التّعس، فيه المحظوظ وفيه البائس، فيه فاحش الثراء وفيه الرث، فيه الجلاد وفيه الضحيّة، فيه المتمتّع وفيه المحاصر...
وسخر منّا القدر زمن المنخلع فكان الشعب واحدا أحدا، بنفسجيا كلّه، ضاحكا كلّه، مصفّقا كلَه... واِصطفّ كلّه... ولم يعد فيه كلّه إلاّ صانع واحد، ومخطّط واحد، وديبلوماسيّ واحد، ومترشّح وحيد... ومُنِعَ عن الشعب حتّى مجرّد الصّمت والسكوت... وأصبحنا جمعا واحد متجمّعا رحيما ببعضه بعضا... وسادت عتمتة بنفسجية جعلتنا قطيعا واحدا مرتعه واحد ومقصده واحد ومضربه واحد... حتّى اكتشفنا ذات شتاء أنّنا لسنا واحدا !
ولأنّ الناس، أو كثيرون منهم، قُتِّر عليهم في قوتهم، وملّوا انتظار شغل لا يأتي، ورأوا مواطنهم يغشاها الظلّ والإذلال، وشاهدوا نعيما يغتصبه وينفرد به أوغاد، وضاقوا ذرعا  بأنفاسهم تعدُّ عليهم فاِنفلقوا-وانفجروا-وهبّوا-وانتفضُوا- ونشدوا الاستشهاد- وابتدعوا أصواتهم- وابتكروا علاقات جديدة في ما بينهم ومع ساحاتهم- ولأنّهم انتصروا، بل بدؤوا ينتصرون، أو كادوا ينتصرون، فلقد خيّلَ إليهم وقد تهاوى رأس الفساد أننا شعب واحدٌ وحيدٌ، وأنّه يكفي أن ينزاح السرطان وبعض من أصابع السّرطان لنعرف الرفاه والسعادة وننتقل إلى الدّيمقراطية... اليد في اليد، معًا جميعا، وفي وئام بل في وفاق...
ولكنّنا ما إن توحّدنا واتّحدنا وتواءمنا وتوافقنا حتّى اندلع الشدّ والجذب والدّفع والتدافع والركض والقنص والقصف والوعيد والتهديد والضرب الخفيّ في مقتل ومحاكم التفتيش والدفاع عن الأخ ظالما ومعاداة منافس الأخ مظلوما والهيستيريا والانفصام وازدواجية المقال وتلميع ظاهر المبطن والاتكال على الله باطلا والغرور والادّعاء والقهر والسعي إلى سلطة بلا قيم والوعُود الكاذبة والنّفاق وإنكار ما لا ينكَرُ... وتبيّنّا أنّنا لسنا شعبا موحّدا واحدا أحدًا... وظهر تنافرنا وتزاحمنا وحتّى عداواتنا المتخفية في ذاكرات جيناتنا... واندفقت من مواضينا : الباشية /الحسينية، واليوسفية/البورقيبية، وسكّان الحواضر سكّان الأعماق، والسلفيون/الحداثيون، والأحزاب المائة ونيّف، وآلاف الجمعيات، والعاملون/البطّالون، وقدماء التجمّع/لحيُّه الجديدة، والخاطفة لطفلة والخاطفون للملك العام والذائدون عنه الذين لا يذودون عن شيء حتّى جلدهم...
وبعد أن تنادينا إلى تأسيس جديد عادته فشاكسته ثمّ طوّعته قوى الأمس-قوى الردّة – قوى الظلّ أو الظلام... وبعد أن صوتنا فرحين ونحن نخال أننا هذه المرّة نُصَوِّتُ ولا نُصوِّتُ ظهرت لنا غالبية مطلقة وغالبة قد يحلو لها أن تتنازل فتقبل تآلفا وتوافقا ممّن يقبلون الذوبان في مطلقها وقد تتعملق وتنتفخ مثل ضفدعة الحكاية قبل أن تنفلق فلا تتنازل أبدا أو لا تتنازل إلاّ عن فتات الفتات... بل ظهر أنّ الماضي الذي خلنا اِنهياره حاضرٌ لم يبدّل إلاّ لونه وشيئا من ألفاظ خطابه وأنّه اِستدعى ليدعمه شيوخ النفط والغاز وفقهاء العهود الغابرة...
وتبيّنا أنّنا شعبٌ كالشعوب : فينا انشطار وصفوف وتدافع وتنافر وتنافس وعراك... وارتسم بيننا خطّ فاصل : من جهة ناس طلاّب سلطة يتحالفون مع كلّ من يعينهم على ذلك أيّا كان لونه ولفظه وماضيه فيركبونه حتّى يفلقوه ويزيحوه (ولقد بدؤوا يفعلون بل بعدُ بالبعض فعلوا) ؛ ومن جهة ناس كثر، وإن وصفوا بجماعة صفر فاصل صفر وبالأقلية فيهم من همّه السياسة أو الفكر أو حرّياته، وفيهم من ديدنه لقمة عيشه، وفيهم من لم يعد يقوى على القبول بقدره اللعين، وفيهم من علّمه الشتاء الماضي أن يقهر هلعه...
وليس عيبا أن يفرز المجتمع صفوفه وأن تظهر فيه الكتل والتكتلات والتبانياتُ...
بل إنّما العيب في أن يدهس صفٌ صفّا، وأن يغمط صفّ حقّ صفّ، وأن يسرق صفّ رزق صفّ، وأن يطمس صفّ أحلام صفّ، وأن يدّعي صفّ على صفّ...
والعيبُ أيضا أن يخضع صفٌّ ويهادنَ وينكفئ وينخذل...


                                                               17 جانفي 2012

غضبَة شعبنا هذه المرّة لن تنتهي إلى... الانتهاء !


كلّما ائتمن شعبنا أحدا أو طرفا على مصائره وأطلق له العنان في ذلك إلاّ وانتهى به الأمر إلى الخسران.
ولطالما فعل شعبنا ذلك. فَفُعِلَ به ما فُعِلَ. وساءَت أحواله.
وكلّما انتهى الأمر بشعبنا إلى الخسران وسوء الحال إلاّ وانفجر غاضبا يولول ويهدر وحتّى يدمّر.
إلاّ أن غضب شعبنا كان كثيرا ما ينتهي بالتلاشي. بل وكثيرا ما كان شعبنا سرعان ما ينقاد إلى وعود جديدة، ويرضى بإعتذارات فضفاضة ويسلّم أمره لغيره من جديد وبما يشبه الغباء أو التغابي أو براءة الصبيان بل بلههم.
وككلّ مرّة سعى ساعون من مشارب شتّى إلى أن يسيطروا على غضبة شعبنا بل هبّته بل ثورته، وناوروا وداوروا وتقرّبوا وتودّدوا وأحيانا هدّدوا أو توعّدوا وأطلقوا الفزّاعات ولا يزالون، واستلفوا عباراتهم بل كلامهم بل خطبهم من قواميس الماضي- قريبه وسحيقه- وتجرّؤوا حتّى على الاتّكال على الهراوات – الماديّة والأخلاقية منها- وعلى القمع –بوجوهه الشتّى- ولم يتردّدوا لا أمام مغالطة أيّا كان فُحشُها ولا أمام البهتان والكذب والادّعاء !
لكنّ بين مناورات المرّات السابقة ومناورات كبح جماح هذه الثورة فرق هامّ : كلّ الغضبات السابقة كانت تنتهي بعودة مقاليد السلطة إلى القابضين عليها من قبلُ وإن بتلوين طفيف. أمّا هذه المرّة فلم تفلح جميع جهود فلول السلطة القديمة بعد أن فقدت رأسها في استعادة جميع قدراتها ومواصلة استحواذها على مقاليد الأمور.
تضافرت لذلك عوامل عديدة منها ما هو ظاهر ومعلوم أو يمكن استشفافه، ومنها ما هو خاف ولا يتحرّك إلاّ من خلف ستائر بل حجب بل ظلال، ومنها ما هو من هنا، ومنها ما قدم من هنالك أو دُبِّرَ له بعيدا بعيدا. ولكن سيّد العوامل المتضافرة هو أنّ غضب شعبنا هذه المرّة كان أعمق وأحكم وأبهى وأكثر إبداعا.
فشعبنا هذه المرّة قد طلب المعالي جميعا وهنا –في كلّ أنحاء هذا الوطن وبواطنه –والآن- الآن وليس غدا-
وشعبنا هذه المرّة لم يعد يقبل بالوعود –وإن خدعت بعضه الوعود بالجنّة هناك في السماء الباقية وبالرحمة هنا في المعبر القصير إلى الباقية-... شعبنا لم يعد يستسهل ائتمان الآخر- الآخرين على مقاديره، ولم يعد يقبل بيسر أن ينقاد إلى ترك زمام أمره في يد غيره...
لذلك لم يهرع أغلب ناخبيه إلى مكاتب الاقتراع رغم الحملات ورغم إغراء الإحساس بحلاوة الانعتاق من الإملاءات القديمة والقدرة على الاختيار...
ولذلك وزَع أصواته في كلّ وادي وإن سبهللا...
ولذلك لفظ كلّ من شمّ عليه رائحة السلطة الآيلة إلى الانهيار...
ولذلك لم ينسق وراء من بذلوا قصارى جهدهم لتلميع السلطة القديمة وهي تسعى إلى التجدّد بصورة وألفاظ وحركات زعيمها المتسلّط المؤسس...
ولذلك يسّر المتهافتين جدد هرولتهم إلى الكراسي...
لكنّ شعبنا، وإن هو نوّب من نوّب وأوكل الأمر لمن أوكل له الأمر، فإنّه ما يزال يصرّ على أن لا يعود لصمته واصطفافه وانتظاره و يوضح كلّ يوم أنّه لا يفهم كيف يجرؤ النّائب على أن يتعملق على المنوّب يعمل على أن يفرض عليه خياره، ويلوّح هنا وهنالك أنّ غضبته لم تخفت، وأنّ هبته لم يَخبُ اندفاعها. وأن ثورته.... مستمرّة...
شعبنا هذه المرّة اِئتمن دون أن يكفّ عن المراقبة ودون أن ينقطع عن المطالبة... ورفض أن يعود إلى الحضيرة والصمت... وشمت في الداعين إلى "هدنة" يلزمون بها غيرهم ويغتنمونها لزرع العيون والتابعين في كلّ مكان...
شعبنا هذه المرّة قال لمن اِئتمنهم : "أعطيتكم فرصة لتخدموني ولن أدعكم إن زغتم عن خدمتي، تستعبدوني... وأنا مستعجل فلتستجيبوا... وأنا أعرف طريقي ودللتكم عليه فإمّا أن تسلكوه وإمّا فتحت ما تحسبونه رمادا جمر وسعير..."
شعبنا، هذه المرّة، رفض أن تترجم أحلامه بغير ألوانها الحقّة، ورفض أن تسفّر مطامحه إلى الغد الأفضل وبلدان الجوار وبني العمومة الأقصى والأقسى...
شعبنا، هذه المرّة، سلّمكم زمام أمره وهو يقول لكم : "أمرنا ليس لغد، وليس صلاة من أجل بعد غد، أمرنا، يا سادتي-خدمي، كرامة وعدل ومساواة وتنمية هنا والآن ولنا جميعا..."
شعبنا، هذه المرّة، لن تنطلي عليه الحيل والألاعيب والرنّانة، والمتستّرة ومدّعية النبوءة، والمتكلّمة باسم الله وهو لم يفوّضها ناطقة رسمية باسمه، وشعبنا، هذه المرّة، لن تفزعه الهراوات ولن يرهبه تنفيذ قوانين مستوردة من العشريات المنقضية، ولن ترعبه فتاوي من لقيات القرون الخوالي، ولن ينساق وراء سرابات وخيالات...
شعبنا لم يعد يخاف دون أن يقوى على أن يقهر خوفه...
شعبنا لم يعد يسالم ويهادن ويطيع إلاّ وهو يثق، ولم يعد يثق إلاّ وهو يثق ويعلم ويدري ويتثبّت... شعبنا لم يعد يقبل أن يُصْنَعَ له غدُه بل هو يحرص على أن يسهم في نحت غده صورة ومبتغى ودربا ومنتهى...
فلتتأمّلوا... حتّى لا نتألّم منكم كثيرا... وحتّى لا تنساقوا إلى فعل إن أنتم انسقتم إليه فلن تلبثوا إلاّ قليلا قليلا قبل أن تنخلعوا، ووقتها : بئس المصير !


 نشر بجريدة الموقف بتاريخ 7 جانفي
                                                                                                          الصادق بن مهني
                                                                         4 جانفي  

6 janv. 2012

أفكار وملاحظات حول تفاعلات المشهد الإعلامي

صدرت بجريدة الأولى يوم 4 جانفي 2012

نجح النّظام الآيل إلى الانهيار في تكميم الأفواه وتقييد الأقلام وهيمن على المعلومة وتحكّم في مصادرها وطوّع أو سخّر وسائل الإعلام المحلّية وعـدد لا يستهان به من وسائل الإعلام الخارجية لتلميع صورته وإبلاغ الرّسائل التي كانت تطبخ في مكاتبه المعلومة منها والسرية. غير أنّ إيغاله في ذلك وشططه في ملاحقته كلّ الأنفاس الحرّة وتعنّته في قطع الطّريق على أيّ مختلف، قد أدّى إلى عكس ما كان يبتغيه، حيث دفع النّاس إلى البحث عن المعلومة وتبادلها بأوراق سريّة أو بهجران وسائل الإعلام التّونسية إلى أخرى أجنبيّة سواء كانت صحفا أو قنوات تلفزيّة أو محطات إذاعيّة أو كذلك قناة "الحوار" التي التزمت النضال، وحيث أبدع الشباب في استخدامهم للتكنولوجيات الحديثة، وبفضلها تبادلوا المعلومة حينيا وبالصور وتحوّلوا إلى مواطنين/إعلاميين وانتظموا في شبكات محلية ووطنية وعالمية غير شكلية وغير مقيّدة ولا هرمية في مبادراتها، وشيئا فشيئا انقادت الأطياف المبادرة بتجميع المعلومات ونشرها إلى نوع من النّضالية تفاعلت مع هبّة جماهير العاطلين عن العمل والمحرومين من مقوّمات العيش المحرّم والممنوعين من ممارسة مواطنتهم... فكان الانفجار العظيم إذ بدأ النّظام الذي كان الجميع يحسبه قويا ومستديما بالارتباك، ثمّ سرعان ما اشتدت تناقضاته وأصاب الهلع رأسه فانخلع وفرّ...
ومن أولى المكتسبات التي حقّقها الانفجار العظيم تحرّر الكلمة وفنيات التعبير جميعها، فقد أحسّ التونسي فجأة أنه "كائن يمكنه أن يفكّر لوحده، ولا أحد من حقّه أن يمنعه من التعبير عن خفايا نفسه وخبايا فؤاده واعتمالات فكره والتماعات طموحه أيّا كان طريقه إلى التعبير نصّا مكتوبا، أو صورة، أو فلما، أو أغنيّة، أو مسرحا، أو موسيقى أو تدخلا  في إذاعة أو قناة...". وسارت لدى الجميع  قناعة  بأنّ تحرّر التعبير غدا أمرا لا رجوع فيه، وأنه الضّامن لاستمرارية الانتقال باتجاه الديمقراطية والسور الوحيد المانع دون انطفاء  الانفجار العظيم ودون العود إلى دياجير الاستبداد حتى وإن كان ذا لون جديد. وهبّ الإعلاميّون وأهل الصحافة والاتصال يقيّمون ويناقشون ويقوّمون ويبنون... وتعالت من جديد أصوات ناضلت وتحدّت، وانبثقت حناجر جديدة... وفرحنا... وفرحنا لأنّنا أحسسنا بأنّنا قادرون على الإبداع والفعل بالفكرة، وجديرون بأن نكون مواطنين حقيقيين وفعّالين...
ثم كان ما كان... وجاءت إلى السلطة قوى أحرزت أغلبية نسبية في التأسيسي! قوى تدرك أنّها لا تمثل لا غالبية الشّعب ولا غالبية من يحقّ لهم الانتخاب ولا حتى غالبيّة من صوّتوا، وتعلم خيرا من الجميع كيف ولماذا حصلت على ما مكّنها من أن تكون القوّة الأولى في التأسيسي... أي داخل المجلس وليس خارجه، وربّما لأنّها تدرك كلّ ذلك، أو لأنّ طبعها هو طبعها، تهافتت على السلطة بل انقضّت عليها انقضاضا... وآزرها  في ذلك متخاذلون وطامعون وماشون إلى سراب، وقلّة لم نعد نعرف أهُمْ أهلُ يسار أم أهل يمين بل أهل يمين اليمين، يحرصون على لبس فيهم أصبح ملتصقا بهاماتهم ومشوّشا في وجدانهم، عناوينهم قديمة وتحالفاتهم عتيقة، فقد أمدّهم بالنصح والعتاد دعاة "الشرق الأوسط الكبير" وخدّامهم في هذا الشرق ممن أعمى بصائرهم الغاز والبترول والفراغ...
ومنذ الساعات الأولى بدأنا نرى وسائل التعبير، أو بعضا من العاملين فيها ينحاز للسلطة وبعضها يعود إلى غيّه، ونرى بعضا قليلا يتمسّك بانعتاقه، ولا يرتضي اغتيال الحلم الذي شرع يتحقق...
ولأنّ التكالب على السلطة مدعاة للغلط وللخور والانقلاب حتّى على الذّات ذاتها فإنّنا سرعان ما رأينا الشبكات الاجتماعية تتحول إلى أبواق للدعاية والدّعوة والإدّعاء والنهيق والتباكي والقذف والوشاية... وسرعان ما انقضت علينا هجمة كطوفان كاسح تريد أن تعود بفكرنا ورأينا وكلامنا وفنّنا إلى ما كان عليه قبلا...
وعدنا نسمع تهجّمات على كلّ من خالف أو اختلف أو نقد أو انتقد... وعدنا نسمع ما يخلط بين عمومية الإعلام وبين "حكوميته". وتجرّأ مالكو الحقيقة المطلقة الآيل إلى الانهيار، بدأنا نُعْلَمُ ونُعَلَّمُ أن من لم يكن مع القابضين على السلطة هو -ضرورة وقسرا وذاك طبعه وقدره- غير وطني وبائع بضميره، وغير متجذّر في بيئته...
وقريبا نسمع أنّ كل من خالف "الغالبين" وعارض الحكومة وطالب بدستور ديمقراطي وعبّر عن مكنونات نفسه هو كافر وعاهر ويستحقّ التكميم بل النّفي بل التهجير بل دياجير الحبس بل الهلاك وبئس المصير.
وبعد أن كنّا نعيش كلّ يوم عيدا بل أعيادا فيها تحرّر الجمع والفرد والذّكر والأنثى والكبير والصّغير، ها أنّنا عدنا إلى التشكيك في ثوابت صنعتها الإنسانية وتعاهدت عليها، وها أنّ من ركبوا كراسي النّفوذ قد انطلقوا يعزفون، عفوا "ينعقون" أغنية رتيبة واحدة: نحن الأغلبية، نحن ممثلو الشّعب لذلك يحقّ لنا أن نقرّر ما نشاء وأن نبرمج ما نشاء وأن نضع الدّستور الذي نشاء وأن نكون الآمرين بما نشاء... وتناسوا أنّهم ليسوا إلاّ ممثلي الشعب عبر تمثيلهم لجزء منه... وبوصفهم ممثلين ووكلاء، لا يحقّ لهم أن يتغوّلوا على الشّعب كلّه أو أجزائه (من يمثلونهم لأنّهم صوّتوا لهم، ومن يمثلونهم رغم أنّهم لم يصوتوا لهم بل منحوا أصواتهم لمن سواهم في التأسيسي أو من ذهبت أصواتهم الكثيرة هباء منثورا برياح النظام الانتخابي، ومن يمثلونهم رغم أنهم لم يذهبوا إلى مكاتب الاقتراع بتاتا وعن عمد أو لتردد)... فإنّ كان نائب المرء كهو فهو في كلّ حال مجرّد نائب لا يحق  له أن يتحكم في منوبه بل للمنوب أن يسحب منه توكيله... ثمّ إن لكلّ تمثيل عهدا وميثاقا... وهؤلاء الذين اعتلوا العرش -لمكر في التاريخ، ولدفع من دافعين، ولطفولية استبدت بنا- إنّما يقعدون حيث هم متكؤون لا ليكتبوا لنا ما يريدون أن يكتبوا ولا ليملوا علينا صحائفهم العتيقة ولا ليتحكموا كما يشاؤون في رقابنا ومصائر أبنائنا وبناتنا بل ليصنعوا لنا الصّبح الذّي صرخت به الحناجر والتنمية التي قتل لأجلها الأبرار والمساواة التي نادى بها النّاس كبارا وصغارا والحريّات كاملة وكّلها كما ذكرت وتذكر في الشوارع والساحات وعلى المنابر...
أنتم في التأسيسي وعلى سدّة الحكم لا لتتسلّطوا وتسودوا أباطرة لا أحد يناقشكم، ولاحق لكم -ولا حقّ لكم بتاتا- في أن تدّعوا أن لا حقّ لنا في أن نخالفكم زعمكم وأن نختلف معكم في رؤيتكم ورؤياكم، ولا يصحّ بتاتا أن تدّعوا أنّكم الفاعل الواحد الأحد وأن لا خيار أمامنا إلاّ أن نصابر ونصمت وننظر ما أنتم فاعلون... فأنتم فعلتم وتفعلون وتقولون وتمدّون أصابعكم وتتحالفون وتنفضون، وتدّعون، وتسرّبون وتتسربون، ومن حقنا أن ننقدكم ونختلف معكم ونصدّكم ونردّكم وننبّهكم ونصرخ كلّما مشيتم على أقدامنا ونهبّ كلّما دستم على أقدارنا...
المعركة بدأت بعد، وهي آخذة بالاشتعال للتوّ، وقدرنا أن نقبل بها ونخوض لهبها الآن وهنا... نحن لم نختر المعركة ولم نردها ولم نسع إليها... لكنّها، والحال أنّكم فرضتموها، لا تخيفنا ولا نرهبها... وسنربحها... حتما سنربحها، فقدرنا أن تستمرّ الثورة وأن ينحني القدر لمشيئتنا..
ونحن لكم خير سند، دعّمناكم مظلومين، ونقف لكم ظالمين فإن شئتم فهمتم وتآلفتم كما التآلف، وتحالفتم حلفا صدوقا لا تحالف الخنوع والخضوع والضلال من جهة والغرض والإملاء منكم...
نحن مثلكم تونسيون... نحن مثلكم بشر... نحن مثلكم ذوو عقل ودراية ولا يزيد منكم إلاّ أن نسير معا، جنبا إلى جنب، لكلّ لونه وصوته، يجمعنا سيرنا في أفق واحد: الأفق الذي من أجله سالت دماء الشهداء والجرحى ومن أجله هبّت مدننا وقرانا ومناطقنا... نحن مثلكم لا نختلف عنكم إلاّ بإصرارنا على الآتي وعلى حقّنا في أن نختلف عنكم في تفاصيل الحلم الجامع... وإلاّ  فإننا سنخالفكم ونختلف عنكم ونقول ونصرح أنّنا نخالفكم ونختلف معكم ولا ضير  في أن تصيبنا حممكم... فنقاوم ونقاوم ونقاوم.
سنقاوم... ولن نخافكم أو نهلع أو نثني !
سنتكلّم، ونعبّر، وننشد، ولن تلجمونا حتّى وأنتم تلجموننا...

3 janv. 2012

بل تغيّرت أشياء وأشياء !

نشر بجريدة الجزيرة ديسمبر2011

-         "ما تغيّر شيء !". يحدث هذه الأيام كثيرا أن نسمع هذا التأكيد أو مثله. وأنا ممّن يقلقهم ويزعجهم ويثير ثورتهم مثل هذا الإقرار. فأنا أرى وألمس وأعتقد وأتصوّر وأؤمن بأن أشياء كثيرة قد تغيرت في بلادنا وفينا في أقلّ من عام.
صحيح أنّه توجد أشياء كثيرة كنّا نودّ ونريد، ومازلنا، أن تتغيّر بنسق أسرع وفي تتابع منطقي أفضل... ولكنّها لم تتغيّر، أولم تتغيّر كفاية !
غير أنّ ما تغيّر جوهريّ وهامّ ولا يصحّ أن نغبطه حقّه ! وفيه ما تغيّر نهائيا... وفيه ما تغيّر ظاهريا فقط، وفيه ما يتظاهر بأنّه تغيّر، وفيه ما تغيّر في انتظار أن يعود كما كان، وفيه ما تغيّر لكنّه يتحيّن الفرصة ليتغيّر مرّة أخرى أو لينعرج بتغيّره نحو وجهة ليست وجهة عامّة الناس، وفيه ما تغيّر ليترصّد وينصب شراكه، وفيه ما تغيّر لأنّه لم يكن أمامه من حلّ إلاّ أن يتغيّر في انتظار أن ينقلب أو يقتنص أو يصطفّ أو يخذل أو يصيب... ولكن بكلّ تأكيد في واقعنا ما تغيّر... ما تغيّر حقّا، وما تغيّر إلى الأبد أو لحين ممتدّ، وما تغيّر دون رجعة...
وأهمّ ما تغيّر هو نحن : أنتَ وأنتِ وهم وهنّ وهو وهيّ وأنتنّ وأنتم ونحن وهما بجنسينا وأنا وأنتما ذكورا وإناثا.
لقد تغيّرنا في عمقنا.
أدركنا أنّ الأقدار قد تظلم وقد تبغي وقد ترمي كلاكلها وقد تسحق ولكنّها دائما تتراجع وتخفّ وتتنازل وتنقشع وتنخلع وتفرّ وتستجيب إذا ما نحن تحدّيناها وواجهناها وتصدّينا لجلاديها...
أدركنا أن خوفنا وهلعنا ورضانا بالدّون وقبولنا بالهوان والتزامنا السير لصق الحائط وإظهارنا لغير ما هو وجداننا هي كلّها هيئات وتصرّفات وخيارات لا تؤدّي إلا إلى زيادة خوفنا وهلعنا وانحدارنا إلى دون أسفل وهوان أظلم وذلّ أفظع...
أدركنا أنّه من الممكن والحتميّ والأسلم والأبلغ والأنجع والأسلم أن نتحدّى خوفنا ونقهره وإن بمواجهة خوف أكبر وأخطَر...
أدركنا أن لا أحد منّا أفضل وأنبل وأكبر من غيره.
أدركنا أنّ الحناجر والأناشيد والكلمات الصّادقة قادرة على العناد وأنّ عنادها أقوى من الهراوات والغازات السامّة و... الرصاص...
أدركنا أن بضعة شبّان هدّهم الأمل الكاذب إذ يتحرّكون نحو قدرهم الذي طال انتظارهم إيّاه ليقدرون على تغيير الأشياء والواقع وعلى فتح باب بل أبواب نحو الشمس... لهم ولمن سواهم : هنا وهنالك وأبعدَ !
أدركنا أن فتيات وفتيانا تعلّقت همّتهم بالحبّ ينشرونه وبالبسمة يبثّونها وبإنسانيتهم يفخرون بها وبوجدانهم يثبتون حقّهم في أن يكون كما يكون لقادرون على خلط الأوراق وصنع الممكن من المستحيل واختراق الحُجُبِ والحَجْبِ والنّفاذ من مسامّ الرقيب والإصداع بالواقع والحقّ والحقيقة، وإسماع جميع من أصابهم الصّمم حتّى السماء!..
وتغيّرت أيضا علاقاتنا وتشابك الأفكار والأحلام والمطامح بيننا.
عرفت المدينة أنّ لها أرباضا وأنّ اليأس يعشّش في مركزها ويحاصرها من كلّ جانب.. وعلمت الأرياف أنّها ليست وحدها من يعاني ويرزح ويُخَاتَل...
انهارت أكاذيب الإحصاءات والمعطيات... ظهر العليَةُ عراةً إلاّ من سرقاتهم ونهبهم وذلّهم وهوانهم وإصرارهم على الطغيان على الأضعف هم من وهبوا قفاهم لسادتهم دون مقاومة  بل في فرح...
تجلّت حقائق بلادنا : ما تنتجهُ، وقيمة ما تنتجه، وإنّها غنية وقادرة وكفأة ويمكنها أن تحلوَّ أكثر... ونقائصها ونقاط ضعفها وكيف يمكن أن نتداركها...
وأن قوّتها في عمقها جغرافية وتاريخا وتنوّعا وانفتاحا وتعدّدا وحرّيات...
وتغيّرت روابط الأجيال بعضها ببعض فتآخى الشيوخ مع الصبيان ورافقت الأمهات بناتهنّ إلى الميدان وخرجنا من كلّ حدب وصوب ومن كلّ الفئات وبكلّ خيارات الفكر والملبس والأحلام... وتظاهر جميعنا حتّى من كانت خدمتهم منع التظاهر... وبعد أن كنّا نرى بعضنا البعض عبر نظّارات لا تظهر الحقيقة، أولا نرى بعضنا البعض، اِلتقينا بمودّة واكتشفنا حزننا الجامع وتوقنا الدّافع لنا جميعا في الشوارع والساحات وعلى المنابر...
تغيّرت أشياء كثيرة... في العمق وبديمومة...
وسيظهر أثر التغيّر يوما بعد يوم أكثر...
استعدنا فخرنا وعزّتنا، حبّنا المتبادل، إحساسنا بأنّنا تونسيون ونعتزّ... لم يعد الواحد منّا يتوجّس خيفة من الآخر... لما يعد أيّ منا يوهم نفسه أنّ له فضلا على الآخرين...
نظرنا إلى ضعفنا بعيون الحقّ وبرغبة في التجاوز... أدركنا أن لا مناص لنا ولا مخرج إلاّ بالتآزر والتكافل والكفاح وعدم الكفّ عن النضال.
عدونا شعبا واحدا... وهبّتُنا غدت هبّة واحدة.
تحرّرت ألسنتنا وتصالحت مع الهواء النقيّ حناجرنا وحرّرنا الإعلام ووهبناه فرصة التدارك... ولم يعد يضيرنا أن ننقد أو حتّى أن نجرحَ الملك وحاشية الملك... وغدا الملك والخلفاء ووزراؤهم وولاتهم وأولو الأمر خدّاما لنا نفرح بهم ولكن أيضا نغضب عليهم وندينهم ونفضحهم ونشهر بفسادهم أو فشلهم، وحتّى إن هم غضبوا ليس في وسعهم أن يسكتونا... تغيّرت علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة المحكوم بالحاكم...
وفي هذه الأمور التي تغيّرت ما سيعسّر على الباغين وهوّاة السلطة وعبدة النّفوذ والمتهالكين على الخلافة بطبقاتها أن يمنعوا مضيّ التغيّر نحو الرسوخ والثبات...
صحيح أن قوى الردّة كثيرة وأنّها قد تسلّلت إلى الصفوف...
وصحيح أن العروش والكراسي قد تبدّل راكبيها تبديلا... وصحيح أنّ علامات لا تخدع بدأت تتكاثر فتكشف هجمة شرسة على توقّينا وفرحنا واستمرار سيرنا نحو الأفق الحلو : فهذه قاعات عمليات أمنية تدعو العاملين تحت لوائها إلى التنسيق الميداني مع أعضاء حزب مهيمن وتتناسى أنّنا حرّرناها من ولائها للواحد رئيسا أو حزبا أو حكما أو متنفّذين وأرجعناها إلى الشعب تخدمه والجمهورية تحميها والوطن لا تعبد سواه... وهؤلاء طلبة وأشباه طلبة ومن ورائهم قوى متستّرة يستحثّون بعضهم بعضا إلى جامعاتنا يرمون عليها شباكهم وخيامهم الحالكة... وهؤلاء جماعة ينسبون ذواتهم إلى النهوض والنهضة والاستنهاض يعتدون على الكلمة التي تحرّرت ويتجرّؤون على صاحبة الجلالة يبغون أن لا تلهج إلاّ بما يملونه...
وهذا رئيس يبدأ عهده بأن ينادينا إلى هدنة، ويبتغي بذلك أن يُمْسِك بين يديه بل بين يدي الخليفة الذي عيّنه قبل أن يعيّنه بأحلامنا وآمالنا ومطامحنا وشعاراتنا... كأنّه ما يزال من الممكن والمستساغ والمعقول أن نفرّط في حاضرنا وفي مستقبل بناتنا وأبنائنا لخليفة أو رئيس أو حزب أو تآلف نسلّمه رقابنا ودمنا ودموعنا وبسمات أطفالنا وننتظر... لا يا أيّها المناضل الشعبيّ لن نؤكل مرّة أخرى من حيث أكل الثور الأبيض... لن نهدأ أو نسكت ونسكن ونهادن لنعطيكم فرصة ترسيخ نفوذ أهوج جديد... هذا ما فعل سابقاكم... ولهذا عطّلت انطلاقة شعبنا نحو الأرحب والأبهى...
لقد تغيّرت أمور كثيرة وعليكم أن تعطوا ما تغيّر حقّه وأكثر...
لن تحكموا وحدكم... ولن تضعوا الدّستور وحدكم... ولن تقرّروا لنا وحدكم... ولن تسطّروا البرامج وحدكم... ولن تبنوا علاقاتكم داخلا وخارجا كما شئتم... ولن تستطيعوا إلى  تكميم عقولنا ولجم ألسنتنا ومنع أحلامنا سبيلا...
-         "ما تغيّر شيء !"
قد يكون هذا الإقرار صحيحا إذا ما نحن تحدّثنا عن المتهافتين على السلطة وهواة الاستبداد أيّا كان لونه وخطابه والمرتدّين عن الثورة والفاسدين قدامى وجدد، والمتسلّلين من ثنايا النظام المنهار إلى دروب النظام الناشئ !
لكنّ أشياء كثيرة قد تغيّرت فينا، في شعبنا كله، في جهاته كلّها، في مدنه وأريافه، في فتيانه وفتياته، في كلّ أجياله...
خرجنا من الاستبداد... ولن نعود إلى استبداد بديل أيّا كان مسمّاه وادّعاءاته ! تعلّمنا كيف نصرخ وكيف نقاوم.
وسنصرخ كلّما لزم الأمر.
ولن نكفّ عن النّضال وعن أن نقاوم.


                                                       الصـادق بن مهني
                                               15 ديسمبر 2011