3 janv. 2012

بل تغيّرت أشياء وأشياء !

نشر بجريدة الجزيرة ديسمبر2011

-         "ما تغيّر شيء !". يحدث هذه الأيام كثيرا أن نسمع هذا التأكيد أو مثله. وأنا ممّن يقلقهم ويزعجهم ويثير ثورتهم مثل هذا الإقرار. فأنا أرى وألمس وأعتقد وأتصوّر وأؤمن بأن أشياء كثيرة قد تغيرت في بلادنا وفينا في أقلّ من عام.
صحيح أنّه توجد أشياء كثيرة كنّا نودّ ونريد، ومازلنا، أن تتغيّر بنسق أسرع وفي تتابع منطقي أفضل... ولكنّها لم تتغيّر، أولم تتغيّر كفاية !
غير أنّ ما تغيّر جوهريّ وهامّ ولا يصحّ أن نغبطه حقّه ! وفيه ما تغيّر نهائيا... وفيه ما تغيّر ظاهريا فقط، وفيه ما يتظاهر بأنّه تغيّر، وفيه ما تغيّر في انتظار أن يعود كما كان، وفيه ما تغيّر لكنّه يتحيّن الفرصة ليتغيّر مرّة أخرى أو لينعرج بتغيّره نحو وجهة ليست وجهة عامّة الناس، وفيه ما تغيّر ليترصّد وينصب شراكه، وفيه ما تغيّر لأنّه لم يكن أمامه من حلّ إلاّ أن يتغيّر في انتظار أن ينقلب أو يقتنص أو يصطفّ أو يخذل أو يصيب... ولكن بكلّ تأكيد في واقعنا ما تغيّر... ما تغيّر حقّا، وما تغيّر إلى الأبد أو لحين ممتدّ، وما تغيّر دون رجعة...
وأهمّ ما تغيّر هو نحن : أنتَ وأنتِ وهم وهنّ وهو وهيّ وأنتنّ وأنتم ونحن وهما بجنسينا وأنا وأنتما ذكورا وإناثا.
لقد تغيّرنا في عمقنا.
أدركنا أنّ الأقدار قد تظلم وقد تبغي وقد ترمي كلاكلها وقد تسحق ولكنّها دائما تتراجع وتخفّ وتتنازل وتنقشع وتنخلع وتفرّ وتستجيب إذا ما نحن تحدّيناها وواجهناها وتصدّينا لجلاديها...
أدركنا أن خوفنا وهلعنا ورضانا بالدّون وقبولنا بالهوان والتزامنا السير لصق الحائط وإظهارنا لغير ما هو وجداننا هي كلّها هيئات وتصرّفات وخيارات لا تؤدّي إلا إلى زيادة خوفنا وهلعنا وانحدارنا إلى دون أسفل وهوان أظلم وذلّ أفظع...
أدركنا أنّه من الممكن والحتميّ والأسلم والأبلغ والأنجع والأسلم أن نتحدّى خوفنا ونقهره وإن بمواجهة خوف أكبر وأخطَر...
أدركنا أن لا أحد منّا أفضل وأنبل وأكبر من غيره.
أدركنا أنّ الحناجر والأناشيد والكلمات الصّادقة قادرة على العناد وأنّ عنادها أقوى من الهراوات والغازات السامّة و... الرصاص...
أدركنا أن بضعة شبّان هدّهم الأمل الكاذب إذ يتحرّكون نحو قدرهم الذي طال انتظارهم إيّاه ليقدرون على تغيير الأشياء والواقع وعلى فتح باب بل أبواب نحو الشمس... لهم ولمن سواهم : هنا وهنالك وأبعدَ !
أدركنا أن فتيات وفتيانا تعلّقت همّتهم بالحبّ ينشرونه وبالبسمة يبثّونها وبإنسانيتهم يفخرون بها وبوجدانهم يثبتون حقّهم في أن يكون كما يكون لقادرون على خلط الأوراق وصنع الممكن من المستحيل واختراق الحُجُبِ والحَجْبِ والنّفاذ من مسامّ الرقيب والإصداع بالواقع والحقّ والحقيقة، وإسماع جميع من أصابهم الصّمم حتّى السماء!..
وتغيّرت أيضا علاقاتنا وتشابك الأفكار والأحلام والمطامح بيننا.
عرفت المدينة أنّ لها أرباضا وأنّ اليأس يعشّش في مركزها ويحاصرها من كلّ جانب.. وعلمت الأرياف أنّها ليست وحدها من يعاني ويرزح ويُخَاتَل...
انهارت أكاذيب الإحصاءات والمعطيات... ظهر العليَةُ عراةً إلاّ من سرقاتهم ونهبهم وذلّهم وهوانهم وإصرارهم على الطغيان على الأضعف هم من وهبوا قفاهم لسادتهم دون مقاومة  بل في فرح...
تجلّت حقائق بلادنا : ما تنتجهُ، وقيمة ما تنتجه، وإنّها غنية وقادرة وكفأة ويمكنها أن تحلوَّ أكثر... ونقائصها ونقاط ضعفها وكيف يمكن أن نتداركها...
وأن قوّتها في عمقها جغرافية وتاريخا وتنوّعا وانفتاحا وتعدّدا وحرّيات...
وتغيّرت روابط الأجيال بعضها ببعض فتآخى الشيوخ مع الصبيان ورافقت الأمهات بناتهنّ إلى الميدان وخرجنا من كلّ حدب وصوب ومن كلّ الفئات وبكلّ خيارات الفكر والملبس والأحلام... وتظاهر جميعنا حتّى من كانت خدمتهم منع التظاهر... وبعد أن كنّا نرى بعضنا البعض عبر نظّارات لا تظهر الحقيقة، أولا نرى بعضنا البعض، اِلتقينا بمودّة واكتشفنا حزننا الجامع وتوقنا الدّافع لنا جميعا في الشوارع والساحات وعلى المنابر...
تغيّرت أشياء كثيرة... في العمق وبديمومة...
وسيظهر أثر التغيّر يوما بعد يوم أكثر...
استعدنا فخرنا وعزّتنا، حبّنا المتبادل، إحساسنا بأنّنا تونسيون ونعتزّ... لم يعد الواحد منّا يتوجّس خيفة من الآخر... لما يعد أيّ منا يوهم نفسه أنّ له فضلا على الآخرين...
نظرنا إلى ضعفنا بعيون الحقّ وبرغبة في التجاوز... أدركنا أن لا مناص لنا ولا مخرج إلاّ بالتآزر والتكافل والكفاح وعدم الكفّ عن النضال.
عدونا شعبا واحدا... وهبّتُنا غدت هبّة واحدة.
تحرّرت ألسنتنا وتصالحت مع الهواء النقيّ حناجرنا وحرّرنا الإعلام ووهبناه فرصة التدارك... ولم يعد يضيرنا أن ننقد أو حتّى أن نجرحَ الملك وحاشية الملك... وغدا الملك والخلفاء ووزراؤهم وولاتهم وأولو الأمر خدّاما لنا نفرح بهم ولكن أيضا نغضب عليهم وندينهم ونفضحهم ونشهر بفسادهم أو فشلهم، وحتّى إن هم غضبوا ليس في وسعهم أن يسكتونا... تغيّرت علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة المحكوم بالحاكم...
وفي هذه الأمور التي تغيّرت ما سيعسّر على الباغين وهوّاة السلطة وعبدة النّفوذ والمتهالكين على الخلافة بطبقاتها أن يمنعوا مضيّ التغيّر نحو الرسوخ والثبات...
صحيح أن قوى الردّة كثيرة وأنّها قد تسلّلت إلى الصفوف...
وصحيح أن العروش والكراسي قد تبدّل راكبيها تبديلا... وصحيح أنّ علامات لا تخدع بدأت تتكاثر فتكشف هجمة شرسة على توقّينا وفرحنا واستمرار سيرنا نحو الأفق الحلو : فهذه قاعات عمليات أمنية تدعو العاملين تحت لوائها إلى التنسيق الميداني مع أعضاء حزب مهيمن وتتناسى أنّنا حرّرناها من ولائها للواحد رئيسا أو حزبا أو حكما أو متنفّذين وأرجعناها إلى الشعب تخدمه والجمهورية تحميها والوطن لا تعبد سواه... وهؤلاء طلبة وأشباه طلبة ومن ورائهم قوى متستّرة يستحثّون بعضهم بعضا إلى جامعاتنا يرمون عليها شباكهم وخيامهم الحالكة... وهؤلاء جماعة ينسبون ذواتهم إلى النهوض والنهضة والاستنهاض يعتدون على الكلمة التي تحرّرت ويتجرّؤون على صاحبة الجلالة يبغون أن لا تلهج إلاّ بما يملونه...
وهذا رئيس يبدأ عهده بأن ينادينا إلى هدنة، ويبتغي بذلك أن يُمْسِك بين يديه بل بين يدي الخليفة الذي عيّنه قبل أن يعيّنه بأحلامنا وآمالنا ومطامحنا وشعاراتنا... كأنّه ما يزال من الممكن والمستساغ والمعقول أن نفرّط في حاضرنا وفي مستقبل بناتنا وأبنائنا لخليفة أو رئيس أو حزب أو تآلف نسلّمه رقابنا ودمنا ودموعنا وبسمات أطفالنا وننتظر... لا يا أيّها المناضل الشعبيّ لن نؤكل مرّة أخرى من حيث أكل الثور الأبيض... لن نهدأ أو نسكت ونسكن ونهادن لنعطيكم فرصة ترسيخ نفوذ أهوج جديد... هذا ما فعل سابقاكم... ولهذا عطّلت انطلاقة شعبنا نحو الأرحب والأبهى...
لقد تغيّرت أمور كثيرة وعليكم أن تعطوا ما تغيّر حقّه وأكثر...
لن تحكموا وحدكم... ولن تضعوا الدّستور وحدكم... ولن تقرّروا لنا وحدكم... ولن تسطّروا البرامج وحدكم... ولن تبنوا علاقاتكم داخلا وخارجا كما شئتم... ولن تستطيعوا إلى  تكميم عقولنا ولجم ألسنتنا ومنع أحلامنا سبيلا...
-         "ما تغيّر شيء !"
قد يكون هذا الإقرار صحيحا إذا ما نحن تحدّثنا عن المتهافتين على السلطة وهواة الاستبداد أيّا كان لونه وخطابه والمرتدّين عن الثورة والفاسدين قدامى وجدد، والمتسلّلين من ثنايا النظام المنهار إلى دروب النظام الناشئ !
لكنّ أشياء كثيرة قد تغيّرت فينا، في شعبنا كله، في جهاته كلّها، في مدنه وأريافه، في فتيانه وفتياته، في كلّ أجياله...
خرجنا من الاستبداد... ولن نعود إلى استبداد بديل أيّا كان مسمّاه وادّعاءاته ! تعلّمنا كيف نصرخ وكيف نقاوم.
وسنصرخ كلّما لزم الأمر.
ولن نكفّ عن النّضال وعن أن نقاوم.


                                                       الصـادق بن مهني
                                               15 ديسمبر 2011

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire