22 janv. 2012

قد يكون في فرز الصفوف... الخلاص!"

صدر بجريدة الطريق الجديد بتاريخ 21 جانفي
                                                                                   الصادق بن مهني

يوم 14 جانفي 2012 وأنا أغالب أوجاع ظهري وأتناسى تعب ساقيّ وأريد أن أستمرّ في تظاهري وفي تنقّلي بين هذا الجمع وذاك سعيا إلى الفهم، لفت سمعي حوار بين شابّين سينيمائيين اِنتهى إلى جزم أحدهما بالتّالي :
-         "أهمّ ما استخلصه هذا اليوم أن الشعب التونسيّ انشطر إلى قسمين، وهذه كارثة !"
لم أتدخّل في النّقاش، لكنّ رفيقة دربي فعلت. قالت :
-         -"ومتى كان الشعب التونسي أو أيّ شعب آخر فصيلا وحيدا ؟"
وانطلقت في وجداني "ماكينة" التذكّر والتّفكير :
نشأنا في زمن هيمن عليه بورقيبة... وكان الشعب فيه –حسبَهُ وحسب خدّامه والموالين له والساكتين عنه- شعبا واحدا لا فكر له ولا صوت له ولا بصر له إلاّ ما فكّر ونطق به ورآه بورقيبة... الزّعيم كان واحدا أحدا والشعب كان ظلّهُ والمصفّق له وتابعه حتّى في ضلاله، أو وهو يخطئ أو وهو يجدّف في خَرَفِه... أمّا من تجرّأ فَنَاقش أو عبّر أو تهيّأ ليختلف فهو شرذمة وخارج عن الشعبَ وضالّ وفاشل وخائن و"يصطاد في الماء العكر"...
والحالَ أنّ الشعب كان شعبين بل أكثر... فيه السعيد وفيه التّعس، فيه المحظوظ وفيه البائس، فيه فاحش الثراء وفيه الرث، فيه الجلاد وفيه الضحيّة، فيه المتمتّع وفيه المحاصر...
وسخر منّا القدر زمن المنخلع فكان الشعب واحدا أحدا، بنفسجيا كلّه، ضاحكا كلّه، مصفّقا كلَه... واِصطفّ كلّه... ولم يعد فيه كلّه إلاّ صانع واحد، ومخطّط واحد، وديبلوماسيّ واحد، ومترشّح وحيد... ومُنِعَ عن الشعب حتّى مجرّد الصّمت والسكوت... وأصبحنا جمعا واحد متجمّعا رحيما ببعضه بعضا... وسادت عتمتة بنفسجية جعلتنا قطيعا واحدا مرتعه واحد ومقصده واحد ومضربه واحد... حتّى اكتشفنا ذات شتاء أنّنا لسنا واحدا !
ولأنّ الناس، أو كثيرون منهم، قُتِّر عليهم في قوتهم، وملّوا انتظار شغل لا يأتي، ورأوا مواطنهم يغشاها الظلّ والإذلال، وشاهدوا نعيما يغتصبه وينفرد به أوغاد، وضاقوا ذرعا  بأنفاسهم تعدُّ عليهم فاِنفلقوا-وانفجروا-وهبّوا-وانتفضُوا- ونشدوا الاستشهاد- وابتدعوا أصواتهم- وابتكروا علاقات جديدة في ما بينهم ومع ساحاتهم- ولأنّهم انتصروا، بل بدؤوا ينتصرون، أو كادوا ينتصرون، فلقد خيّلَ إليهم وقد تهاوى رأس الفساد أننا شعب واحدٌ وحيدٌ، وأنّه يكفي أن ينزاح السرطان وبعض من أصابع السّرطان لنعرف الرفاه والسعادة وننتقل إلى الدّيمقراطية... اليد في اليد، معًا جميعا، وفي وئام بل في وفاق...
ولكنّنا ما إن توحّدنا واتّحدنا وتواءمنا وتوافقنا حتّى اندلع الشدّ والجذب والدّفع والتدافع والركض والقنص والقصف والوعيد والتهديد والضرب الخفيّ في مقتل ومحاكم التفتيش والدفاع عن الأخ ظالما ومعاداة منافس الأخ مظلوما والهيستيريا والانفصام وازدواجية المقال وتلميع ظاهر المبطن والاتكال على الله باطلا والغرور والادّعاء والقهر والسعي إلى سلطة بلا قيم والوعُود الكاذبة والنّفاق وإنكار ما لا ينكَرُ... وتبيّنّا أنّنا لسنا شعبا موحّدا واحدا أحدًا... وظهر تنافرنا وتزاحمنا وحتّى عداواتنا المتخفية في ذاكرات جيناتنا... واندفقت من مواضينا : الباشية /الحسينية، واليوسفية/البورقيبية، وسكّان الحواضر سكّان الأعماق، والسلفيون/الحداثيون، والأحزاب المائة ونيّف، وآلاف الجمعيات، والعاملون/البطّالون، وقدماء التجمّع/لحيُّه الجديدة، والخاطفة لطفلة والخاطفون للملك العام والذائدون عنه الذين لا يذودون عن شيء حتّى جلدهم...
وبعد أن تنادينا إلى تأسيس جديد عادته فشاكسته ثمّ طوّعته قوى الأمس-قوى الردّة – قوى الظلّ أو الظلام... وبعد أن صوتنا فرحين ونحن نخال أننا هذه المرّة نُصَوِّتُ ولا نُصوِّتُ ظهرت لنا غالبية مطلقة وغالبة قد يحلو لها أن تتنازل فتقبل تآلفا وتوافقا ممّن يقبلون الذوبان في مطلقها وقد تتعملق وتنتفخ مثل ضفدعة الحكاية قبل أن تنفلق فلا تتنازل أبدا أو لا تتنازل إلاّ عن فتات الفتات... بل ظهر أنّ الماضي الذي خلنا اِنهياره حاضرٌ لم يبدّل إلاّ لونه وشيئا من ألفاظ خطابه وأنّه اِستدعى ليدعمه شيوخ النفط والغاز وفقهاء العهود الغابرة...
وتبيّنا أنّنا شعبٌ كالشعوب : فينا انشطار وصفوف وتدافع وتنافر وتنافس وعراك... وارتسم بيننا خطّ فاصل : من جهة ناس طلاّب سلطة يتحالفون مع كلّ من يعينهم على ذلك أيّا كان لونه ولفظه وماضيه فيركبونه حتّى يفلقوه ويزيحوه (ولقد بدؤوا يفعلون بل بعدُ بالبعض فعلوا) ؛ ومن جهة ناس كثر، وإن وصفوا بجماعة صفر فاصل صفر وبالأقلية فيهم من همّه السياسة أو الفكر أو حرّياته، وفيهم من ديدنه لقمة عيشه، وفيهم من لم يعد يقوى على القبول بقدره اللعين، وفيهم من علّمه الشتاء الماضي أن يقهر هلعه...
وليس عيبا أن يفرز المجتمع صفوفه وأن تظهر فيه الكتل والتكتلات والتبانياتُ...
بل إنّما العيب في أن يدهس صفٌ صفّا، وأن يغمط صفّ حقّ صفّ، وأن يسرق صفّ رزق صفّ، وأن يطمس صفّ أحلام صفّ، وأن يدّعي صفّ على صفّ...
والعيبُ أيضا أن يخضع صفٌّ ويهادنَ وينكفئ وينخذل...


                                                               17 جانفي 2012

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire