6 janv. 2012

أفكار وملاحظات حول تفاعلات المشهد الإعلامي

صدرت بجريدة الأولى يوم 4 جانفي 2012

نجح النّظام الآيل إلى الانهيار في تكميم الأفواه وتقييد الأقلام وهيمن على المعلومة وتحكّم في مصادرها وطوّع أو سخّر وسائل الإعلام المحلّية وعـدد لا يستهان به من وسائل الإعلام الخارجية لتلميع صورته وإبلاغ الرّسائل التي كانت تطبخ في مكاتبه المعلومة منها والسرية. غير أنّ إيغاله في ذلك وشططه في ملاحقته كلّ الأنفاس الحرّة وتعنّته في قطع الطّريق على أيّ مختلف، قد أدّى إلى عكس ما كان يبتغيه، حيث دفع النّاس إلى البحث عن المعلومة وتبادلها بأوراق سريّة أو بهجران وسائل الإعلام التّونسية إلى أخرى أجنبيّة سواء كانت صحفا أو قنوات تلفزيّة أو محطات إذاعيّة أو كذلك قناة "الحوار" التي التزمت النضال، وحيث أبدع الشباب في استخدامهم للتكنولوجيات الحديثة، وبفضلها تبادلوا المعلومة حينيا وبالصور وتحوّلوا إلى مواطنين/إعلاميين وانتظموا في شبكات محلية ووطنية وعالمية غير شكلية وغير مقيّدة ولا هرمية في مبادراتها، وشيئا فشيئا انقادت الأطياف المبادرة بتجميع المعلومات ونشرها إلى نوع من النّضالية تفاعلت مع هبّة جماهير العاطلين عن العمل والمحرومين من مقوّمات العيش المحرّم والممنوعين من ممارسة مواطنتهم... فكان الانفجار العظيم إذ بدأ النّظام الذي كان الجميع يحسبه قويا ومستديما بالارتباك، ثمّ سرعان ما اشتدت تناقضاته وأصاب الهلع رأسه فانخلع وفرّ...
ومن أولى المكتسبات التي حقّقها الانفجار العظيم تحرّر الكلمة وفنيات التعبير جميعها، فقد أحسّ التونسي فجأة أنه "كائن يمكنه أن يفكّر لوحده، ولا أحد من حقّه أن يمنعه من التعبير عن خفايا نفسه وخبايا فؤاده واعتمالات فكره والتماعات طموحه أيّا كان طريقه إلى التعبير نصّا مكتوبا، أو صورة، أو فلما، أو أغنيّة، أو مسرحا، أو موسيقى أو تدخلا  في إذاعة أو قناة...". وسارت لدى الجميع  قناعة  بأنّ تحرّر التعبير غدا أمرا لا رجوع فيه، وأنه الضّامن لاستمرارية الانتقال باتجاه الديمقراطية والسور الوحيد المانع دون انطفاء  الانفجار العظيم ودون العود إلى دياجير الاستبداد حتى وإن كان ذا لون جديد. وهبّ الإعلاميّون وأهل الصحافة والاتصال يقيّمون ويناقشون ويقوّمون ويبنون... وتعالت من جديد أصوات ناضلت وتحدّت، وانبثقت حناجر جديدة... وفرحنا... وفرحنا لأنّنا أحسسنا بأنّنا قادرون على الإبداع والفعل بالفكرة، وجديرون بأن نكون مواطنين حقيقيين وفعّالين...
ثم كان ما كان... وجاءت إلى السلطة قوى أحرزت أغلبية نسبية في التأسيسي! قوى تدرك أنّها لا تمثل لا غالبية الشّعب ولا غالبية من يحقّ لهم الانتخاب ولا حتى غالبيّة من صوّتوا، وتعلم خيرا من الجميع كيف ولماذا حصلت على ما مكّنها من أن تكون القوّة الأولى في التأسيسي... أي داخل المجلس وليس خارجه، وربّما لأنّها تدرك كلّ ذلك، أو لأنّ طبعها هو طبعها، تهافتت على السلطة بل انقضّت عليها انقضاضا... وآزرها  في ذلك متخاذلون وطامعون وماشون إلى سراب، وقلّة لم نعد نعرف أهُمْ أهلُ يسار أم أهل يمين بل أهل يمين اليمين، يحرصون على لبس فيهم أصبح ملتصقا بهاماتهم ومشوّشا في وجدانهم، عناوينهم قديمة وتحالفاتهم عتيقة، فقد أمدّهم بالنصح والعتاد دعاة "الشرق الأوسط الكبير" وخدّامهم في هذا الشرق ممن أعمى بصائرهم الغاز والبترول والفراغ...
ومنذ الساعات الأولى بدأنا نرى وسائل التعبير، أو بعضا من العاملين فيها ينحاز للسلطة وبعضها يعود إلى غيّه، ونرى بعضا قليلا يتمسّك بانعتاقه، ولا يرتضي اغتيال الحلم الذي شرع يتحقق...
ولأنّ التكالب على السلطة مدعاة للغلط وللخور والانقلاب حتّى على الذّات ذاتها فإنّنا سرعان ما رأينا الشبكات الاجتماعية تتحول إلى أبواق للدعاية والدّعوة والإدّعاء والنهيق والتباكي والقذف والوشاية... وسرعان ما انقضت علينا هجمة كطوفان كاسح تريد أن تعود بفكرنا ورأينا وكلامنا وفنّنا إلى ما كان عليه قبلا...
وعدنا نسمع تهجّمات على كلّ من خالف أو اختلف أو نقد أو انتقد... وعدنا نسمع ما يخلط بين عمومية الإعلام وبين "حكوميته". وتجرّأ مالكو الحقيقة المطلقة الآيل إلى الانهيار، بدأنا نُعْلَمُ ونُعَلَّمُ أن من لم يكن مع القابضين على السلطة هو -ضرورة وقسرا وذاك طبعه وقدره- غير وطني وبائع بضميره، وغير متجذّر في بيئته...
وقريبا نسمع أنّ كل من خالف "الغالبين" وعارض الحكومة وطالب بدستور ديمقراطي وعبّر عن مكنونات نفسه هو كافر وعاهر ويستحقّ التكميم بل النّفي بل التهجير بل دياجير الحبس بل الهلاك وبئس المصير.
وبعد أن كنّا نعيش كلّ يوم عيدا بل أعيادا فيها تحرّر الجمع والفرد والذّكر والأنثى والكبير والصّغير، ها أنّنا عدنا إلى التشكيك في ثوابت صنعتها الإنسانية وتعاهدت عليها، وها أنّ من ركبوا كراسي النّفوذ قد انطلقوا يعزفون، عفوا "ينعقون" أغنية رتيبة واحدة: نحن الأغلبية، نحن ممثلو الشّعب لذلك يحقّ لنا أن نقرّر ما نشاء وأن نبرمج ما نشاء وأن نضع الدّستور الذي نشاء وأن نكون الآمرين بما نشاء... وتناسوا أنّهم ليسوا إلاّ ممثلي الشعب عبر تمثيلهم لجزء منه... وبوصفهم ممثلين ووكلاء، لا يحقّ لهم أن يتغوّلوا على الشّعب كلّه أو أجزائه (من يمثلونهم لأنّهم صوّتوا لهم، ومن يمثلونهم رغم أنّهم لم يصوتوا لهم بل منحوا أصواتهم لمن سواهم في التأسيسي أو من ذهبت أصواتهم الكثيرة هباء منثورا برياح النظام الانتخابي، ومن يمثلونهم رغم أنهم لم يذهبوا إلى مكاتب الاقتراع بتاتا وعن عمد أو لتردد)... فإنّ كان نائب المرء كهو فهو في كلّ حال مجرّد نائب لا يحق  له أن يتحكم في منوبه بل للمنوب أن يسحب منه توكيله... ثمّ إن لكلّ تمثيل عهدا وميثاقا... وهؤلاء الذين اعتلوا العرش -لمكر في التاريخ، ولدفع من دافعين، ولطفولية استبدت بنا- إنّما يقعدون حيث هم متكؤون لا ليكتبوا لنا ما يريدون أن يكتبوا ولا ليملوا علينا صحائفهم العتيقة ولا ليتحكموا كما يشاؤون في رقابنا ومصائر أبنائنا وبناتنا بل ليصنعوا لنا الصّبح الذّي صرخت به الحناجر والتنمية التي قتل لأجلها الأبرار والمساواة التي نادى بها النّاس كبارا وصغارا والحريّات كاملة وكّلها كما ذكرت وتذكر في الشوارع والساحات وعلى المنابر...
أنتم في التأسيسي وعلى سدّة الحكم لا لتتسلّطوا وتسودوا أباطرة لا أحد يناقشكم، ولاحق لكم -ولا حقّ لكم بتاتا- في أن تدّعوا أن لا حقّ لنا في أن نخالفكم زعمكم وأن نختلف معكم في رؤيتكم ورؤياكم، ولا يصحّ بتاتا أن تدّعوا أنّكم الفاعل الواحد الأحد وأن لا خيار أمامنا إلاّ أن نصابر ونصمت وننظر ما أنتم فاعلون... فأنتم فعلتم وتفعلون وتقولون وتمدّون أصابعكم وتتحالفون وتنفضون، وتدّعون، وتسرّبون وتتسربون، ومن حقنا أن ننقدكم ونختلف معكم ونصدّكم ونردّكم وننبّهكم ونصرخ كلّما مشيتم على أقدامنا ونهبّ كلّما دستم على أقدارنا...
المعركة بدأت بعد، وهي آخذة بالاشتعال للتوّ، وقدرنا أن نقبل بها ونخوض لهبها الآن وهنا... نحن لم نختر المعركة ولم نردها ولم نسع إليها... لكنّها، والحال أنّكم فرضتموها، لا تخيفنا ولا نرهبها... وسنربحها... حتما سنربحها، فقدرنا أن تستمرّ الثورة وأن ينحني القدر لمشيئتنا..
ونحن لكم خير سند، دعّمناكم مظلومين، ونقف لكم ظالمين فإن شئتم فهمتم وتآلفتم كما التآلف، وتحالفتم حلفا صدوقا لا تحالف الخنوع والخضوع والضلال من جهة والغرض والإملاء منكم...
نحن مثلكم تونسيون... نحن مثلكم بشر... نحن مثلكم ذوو عقل ودراية ولا يزيد منكم إلاّ أن نسير معا، جنبا إلى جنب، لكلّ لونه وصوته، يجمعنا سيرنا في أفق واحد: الأفق الذي من أجله سالت دماء الشهداء والجرحى ومن أجله هبّت مدننا وقرانا ومناطقنا... نحن مثلكم لا نختلف عنكم إلاّ بإصرارنا على الآتي وعلى حقّنا في أن نختلف عنكم في تفاصيل الحلم الجامع... وإلاّ  فإننا سنخالفكم ونختلف عنكم ونقول ونصرح أنّنا نخالفكم ونختلف معكم ولا ضير  في أن تصيبنا حممكم... فنقاوم ونقاوم ونقاوم.
سنقاوم... ولن نخافكم أو نهلع أو نثني !
سنتكلّم، ونعبّر، وننشد، ولن تلجمونا حتّى وأنتم تلجموننا...

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire