30 avr. 2011

إلى المتباكين على "الإقصاء" اعتذروا أوّلا !.




سألني – وهو التجمّعي القاعدي الذي اعتاد الاستجابة غريزيا  لكلّ حملات المراقبة والمتابعة واليقظة –عن موقفي بخصوص الحيلولة دون التجمعيين ودون التقدّم إلى انتخابات المجلس التأسيسيّ.
ودون أن أفكّر أو أحسب أو أناور أو أتكتك أجبته على الفور : "من الطبيعي جدّا أن يحال دون المسؤولين عمّا عاشته بلادنا طوال عشريات الاستقلال من قمع ونهب وفساد واستغلال بشع وتعطيل للتنمية ولانطلاقة البلاد نحو سماوات جديدة لا تعنيهم-.من الطبيعي جدّا أن تحرص الثورة على أن لا يكبّلها من اعتادوا تكبيل الشعب ومنع وثبه بل وحتّى توثّبه... ثمّ إن مشروع القرار لا يمنع التجمعيين كلّهم بل بعضهم من الترشّح ولا يمنع أيّا منهم من حقّ الانتخاب... الذين سيمنعون هم من كانوا فاعلين منهم ومن كان لهم شأن في اتّخاذ القرار وفي التنفيذ على الميدان... ولا أعتقد أن أحدا سيدافع عن فاسدين وماكرين وطمّاعين وانتهازيين ومعتذين..." وسألني آخر –وقد اتّضح لي من كلامه أنّه كان من شباب التجمّع النشيطين- إن كان من المشروع أن يحرم هو الشاب المتعلّم من إعادة بناء ذاته ومن الإسهام في بناء بلدنا الجديد بما ييسّر تجاوز خطايا ارتكبها حزب انتمى إليه كغالبية المنتمين عن لاوعي أو لاإرادة أو عنوة أو إرثا أو طبعا أو تطبّعا أو لخوف أو رجاء... فأجبته أن المنع حسب ما أفهم لا يطال جميع من كانت لهم بطاقة انخراط في التجمّع ولا حتى جميع من كانوا ناشطين ضمن صفوفه بل هو يطال كل من ثبت عليهم فساد وإفساد وتزوير انتخابات وتغليط ومغالطة واستكراش وغنم غير مشروع... فأضاف : "ألا يعني ذلك أن المنع يجب أن يتوقّف على المسؤولين في الديوان السياسي واللجنة المركزية ولجان التنسيق وكفى"... أجبته دون أن أفكّر أو أحلّل : "حدث أن ناقشت احتمال المنع مع أناس من آفاق غير العاصمة، فقال لي أحدهم : لا يهمّني المسؤولون الكبار بقدر ما يهمّني رئيس الشعبة وبعض أعضائها والعمدة والمتنفذون المحليون... فمنهم من لهف المال من الناس مقابل تمكينهم من بطاقة علاج مجاني، ومنهم من اغتصب بنات الفقراء مقابل فرصة تشغيل، وكلّهم زوّروا الانتخابات والإحصاءات والمعطيات.. ألا تعلم أن فرص التشغيل كانت تباع وأن المساعدات الاجتماعية كانت سلعة وأن الرّخص بأنواعها كانت محلّ سمسرة واستغلال، وأن الناس كانوا يسامون العذاب بتهم المعارضة وبالادّعاء بأنّ ليس منّا فهو ضدّنا، وأنّ كثيرين حرموا من العمل بل من العيش وعذّبوا وحتّى سجنوا لمجرّد عدم رضاء تجمّعي من شعبة أو خديم عمدة أو عون مرتش عنهم ؟!"
ولأنّ لي عطفا على الاثنين، ولأنّني تعوّدت أن أراجع ليلا مع عملته وقلته نهارا فلقد قضّيت ليلتين أفكّر في ما يسمّيه التجمعيّون وأشباه الصحافيين والجاذبون إلى الوراء وأعداء الثورة إقصاء... بل ويضيفون بشأنه أنه إقصاء من الانتخابات...
في ما أنّ ما يسمّونه إقصاء ليس في الواقع إلاّ حيلولة بين بعض الفاسدين-سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا ومدنيا- وبين أن يترشّحوا لمجلس غايته الأولى أن يقطع نهائيا مع ممارسات هم المسؤولون عنها مع قائدهم وزعيمهم وصانع مجدهم المتهاوي.
وتسارعت الأحداث : فاعلون في الانتقال الديمقراطي يفضّلون أن ينخرط تجمّعيون في الانتخابات درءا لانضمامهم إلى جحافل الرجعيين والظلاميين... تجمّعيون تعرفهم الصفحات الأولى لجرائد ومجلات بن علي –عبد الله ونشرات الأخبار الإذاعية والتلفزية يحتجون على "إقصائهم" هم و"ثلاثة ملايين تجمّعي" من الانتخابات لا أدري كيف حسبوا عددهم ثم من أقصاهم من الانتخابات كمنتخبين، أم أنّهم كلّهم مترشّحون؟!... تجمّعيون يقولون إنّهم ليسوا تجمّعيين بل دستوريون ويستخرجون رفات بورقيبة من قبره المغوليّ... مسؤولون سابقون يغلظون الأيمان أنّهم لم يكونوا يوما مسؤولين بل مجرّد "صبّابة ماء على يدين" في أحسن الأحوال... بعض من كنستهم ثورة الشباب يباركونها وينمّقون الكلام ليجعلوا منها ثورتهم المجيدة وتغييرهم المبارك ويطلبون بل يطالبون أن تترك بين أيديهم ليأخذوها إلى برّ الأمان ويتكلّمون –واعين أو من لاوعيهم- عن "رجوع المياه إلى مجاريها" " الأمور إلى سابق عهدها"... نهضة لم تكن النهضة أبدا غرضها، تفتح أبوابها عريضة لكلّ من هبّ ودبّ حتّى متى كان دمه وجلده وعقله وقلبه في لون البنفسج، وبنفسجيون لم يكن الخيار الفكري والانتماء العقائدي ولا الفعل السياسي همهم بل الاستحواذ والتنفّذ والتكسّب غير الحلال يبكون الحداثة والرخاء وازدهار الاقتصاد ويستهجنون الفوضى وكأنّهم ليسوا محرّكيها وصانعيها والمؤملين منها، ويدّعون الوسطية والعقلانية ويتباكون في جوقات تطرح شعارات ليست منهم وليسوا منها، ويهدّدون بالويل والثبور...
وصاحبي

الجزع على البلد والثورة يهاتفني مرّة بعد مرّة : "ما موقفك ؟ ما الذي يمكن أن نفعله ؟ إلى أين نمضي ؟ وكيف نكون أوفياء للشهداء والثورة ولا نحيد على مبادئ عشناها رغم الحيف وهي ونحن سواء ؟"
صحيح أن لا أحد يمكنه أن يدّعي أنّ هذه الثورة هي من صنعه هو وحده كلّها أو جلّها ! وصحيح أنّ كل الشعب التونسي بكلّ طبقاته وفئاته ومختلف ألوان طيفه قد ساهم في هذه الثورة : البعض بيده ودمائه والبعض بفكره ولسانه وبصموده ومعاناته، والبعض بقلبه ودعائه، والآخرون برجائهم وتمنّيهم...
وقد يفاجئنا التاريخ يوما بأن يظهر لنا أنّ نجاح الثورة ليس نتاج تضافر الفعل الشبابي مع نضوج الثمرة وتهاويها فحسب بل ساعدت عليه قوى أخرى خفيّة قد يكون بعضها حتّى من داخل النظام البائد والحكم الفاسد.
غير أن هذا لا يغفر لأولاد التجمّع وبناته عدم اصطفافهم مع الحراك الثوري وإن في ربع الساعة الأخير...
والتّاريخ لن ينسى أن نوّابهم ومستشاريهم قد حرصوا على شرب الكأس حتّى الثمالة وأنّهم تلقّوا منحهم حتّى المليم الأخير بل وأن بعضهم قد قاضى الدّولة سعيا إلى الحصول على المزيد حتّى بعد أن طعنوا أنفسهم وزايدوا على بعضهم البعض في مسرحية سمجة تسلّلوا إلى ركحها كالسّراق من أبواب فرعية ليست الأبواب المشرعة التي ألفتهم...
والمواطنون لن ينسوا أن لا أحد من هؤلاء النائحين المتباكين المردّدين لشعارات ليست من قاموسهم النوفمبري، والهابطين إلى التظاهر الذي منعوه منعا باتا على شعبنا إلاّ متى تعلّق الأمر بمسرحيات ولاء وتأييد مدفوعة الأجر والمنافع والمزايا مسبقا، المواطنون لن ينسوا أبدا أن لا أحد منهم وقف حتّى بعد 14 جانفي 2011 ليعلن على الملإ تضامنه مع المدّ الشعبي وتبرّأه من السارق الناهب القامع المتعجرف الذي هرب وتركهم يتامى وثكالى منه، وندمه أو أسفه على أنه أخطأ من تلقاء نفسه أو لأنّه غولط ... لا أحد منهم تصدّى لإخوانه في تجمّعه الذين واصلوا التدخّل بالهراوات والحرق وحتّى بالرّصاص، ولا فضح إخوانه الذين تآمروا ومازالوا يتآمرون في الجهات والبلديات بتجنيد من لا يصحّ تجنيد هم وبمواصلة الاستفزاز والابتزاز وتلغيم الأوضاع الاجتماعية والانتخابات القادمة وتشويه المشهد الحضري وزرع الفتنة ... لا أحد منهم راجع نفسه وخياراته وقدّم نقدا ذاتيا واضحا وصريحا... لا أحد منهم برهن بكلمة صادقة أو فعل خيّر أنّه مع طيّ صفحة النظام البائس، ومع دفن خزعبلاته الحزبية والسياسية التي كبّلت بلادنا ومنعتها من النماء والنموّ الحقيقيين... ولا أحد منهم تعدّى ترّهات الادّعاء بأنّه لم يكن شريكا أو متواطئا أو متخاذلا أو حتّى داريا بما كان يجري...
والشعب –شعبنا الذي تجاوزنا جميعا- لن ينخدع بالعويل والنحيب والدموع المفتعلة، فهو على اتّساع صدره وسماحة أخلاقه وتعاليه على المسيئين، وهو المستعدّ أصلا ودون أن يطلب منه ذلك طالب، للمسامحة والتجاوز، يريد أوّلا أن يحدّد الجميع مواقعهم الحقيقية بدون مناورة ولا خداع ولا بهتان، وأن يعترف المجرمون بجرائمهم، والمستكرشون بما نهبوه، والفاسدون بما أفسدوه والظالمون بآيات ظلمهم والذين كانوا مخدوعين بمن خدعهم، والضعفاء بأنّهم ضعفوا أو طمعوا أو هانوا... ثمّ يسامحهم ويغفر لهم.
صحيح أنه كان في التجمّع –وحتى في المواقع الأولى منه - وطنيون وشرفاء ونظاف... وأنا موظف الدولة الذي عمل مع عديد المسؤولين الإداريين والسياسيين لا يمكنني إلا أن أشهد بذلك...
لكنّني أخجل الآن من ذكر هؤلاء لأنّهم لم يتقدّموا من تلقاء أنفسهم ليظهروا صفاتهم تلك ويميّزوا أنفسهم زملائهم الذين انصاعوا وانقادوا أو تمّ ترهيبهم أو ترغيبهم أو شراء ذممهم... أخجل منهم لأنّني أحلّ محلّهم، وأخجل لهم لأنّهم لا يقدرون على تجاوز الحقّ والصحيح...
وأنا المواطن الذي اعترف على الملإ بخجله. بل وحتّى بشعوره بالخزي، لأنه لم يبذل كل ما في وسعه حتّى لا تعيش تونسنا الجميلة ما عاشته من إذلال وهوان، ولأنّه وإن حرص على النقاوة ودفع من أجل ذلك ما دفع فهو كثيرا ما تعايش مع الباغين وجاورهم ولم يدفعهم عن صدر هذا الوطن...
أنا المواطن الذي طلب الغفران على الملإ وكتابة  من هذا الشباب الذي سخرنا منه ففاجأنا واستبلهناه فتجاوزنا واستضعفناه فصنع لنا فجرا جديدا، أنا المواطن الذي يعتقد أنّه وإن لم يصغر ولم يهن ولم يتآمر ولم ينصع ولم يأتمر، فإنّه على أي حال لم يؤدّ كل ما كان مطلوبا منه أن يؤدّيه لهذا الوطن...أنا لا أقدر على فهم هؤلاء الذين كانوا ينضوون تحت تجمّع لم يجمّع إلاّ الفاسقين والسارقين والبغاة والمصطفّين المصفّقين الأتباع تجرّأ على نعت نفسه بالديمقراطيّ وهو العسف والميز والقمع والمنع والتفرّد والعجرفة ليس إلاّ ثمّ أضاف إلى اسمه الدستور وهو من حوّل دستور البلاد إلى خرقة، واستحلّ دماء الشهداء شرابا للدكتاتور وحريمه وقوّاديه... لا أقدر على أن أجد لهم مبرّرا أو أن أبتدع لهم عذرا... ولا أفهم كيف أنهم –هم الذين أقصوا الناس جميعهم، هم الذين أقصوا بلادنا عن مستقبلها، هم الذين داسوا المبادئ والقيم والأخلاق والمواطنة- يجرؤون الآن على التباكي نائحين : "لا للإقصاء" و "تونس للجميع"...
نعم أنا ضدّ الإقصاء ومع أن يسود الوفاق، ومع أن تينع ألف زهرة وتشعّ كلّ الأطياف وكلّ الألوان... ولكنّ الوقوف ضدّ منع التجمّعيين الفاسدين والمفسدين –أيّا كانت مستويات مسؤوليتهم – لا يصحّ حتّى يعترفوا بذنوبهم ويقرّوا بأفعالهم الخسيسة ويعيدوا إلى الشعب ما ابتزّوه ونهبوه ويعتذروا عن جرائمهم بأنواعها، ويمسحوا دموع ضحاياهم ويسخّروا أنفسهم تسخيرا للعمل التطوّعي حيث يمكنهم العمل دون ادّعاء قدرة أو خبرة أو ريادة.
كما أنّ إسناد التجمّعيين الإطارات الذين تحمّلوا مسؤوليات أولى لكنّهم لم يغرقوا في الفساد ولم يزوّروا لا يمكن أن يصحّ إلاّ متى تبرّؤوا من تجمّعهم وأزاحوه تماما عن الديمقراطية والدستور وصدر هذا الوطن المتعالي على جراحه...
الغفران والمسامحة والتجاوز قيم راسخة في شعبنا...
لكنّ شعبنا يرنو إلى الاعتراف والإقرار وإبداء الحقيقة ليغفر ويسامح.
وتونس للجميع وشعبها لا يقصي أحدا... لكنّ تونس لم تعد للنّهابين والطغاة وضعاف الأنفس، وشعبها لم يعد غرّا يغرّر.
فلتعتذروا أوّلا !


                                                                                                                                       الأحد 17 أفريل 2011

أيّها المنتفعون من ثورة لم تصنعوها ما بالكم تصمتون ؟





سواء كانت الثورة "ثورة الشباب"، أو "ثورة شباب الإنترنات والفايسبوك" أو "ثورة أصحاب الشهادات المعطّلين"، أو "ثورة الجهات المهمّشة"، أو "ثورة الكرامة" فإنّها في جميع الحالات تخدم مصالح جميع الطبقات والفئات الاجتماعية دون استثناء.
والثورة من هذا المنظور تخدم فئات المستثمرين وأصحاب المشاريع ورؤوس الأموال. فالنظام البائد المتهالك قد عطّل دواليب الاقتصاد، وأخلّ بقوانين المنافسة، وابتزّ كلّ ناجح، وتسلّل إلى كلّ مشروع، واندسّ في جميع أجهزة الدّولة التشريعية والمؤسساتية والإدارية، وتجبّر على كلّ معتزّ بما بعثه من عدم أو ورثه أبا عن جدّ، ولم يترك لأحد سبيلا لأن يؤسّس ويبعث ويشغِّل وينجح، وزاحم الكبار والمتوسطين والصّغار جميعا بل ابتزّهم وأزاحهم وخنقهم وسدّ عليهم السّبل بدون وجه حقّ ولو كان حقّ السوق الحرّة الذي تقيّده هو الآخر قواعد معلومة ضرب بها عرض الخلاء...
كما أن الثورة من هذا المنظور تخدم أعوان الدّولة سواء كانوا في الوظيفة العمومية بمختلف قطاعاتها أو في مؤسسات الدّولة... فهؤلاء قد كبّلهم النظام المنهار بكلبشات الطاعة العمياء، ومطرقة التعليمات الهوجاء، وعصا التحزّب أو التجمّع رغم الأنف والأهواء، وروّضهم على انفصام الشخصية وازدواجية التصرّف : خطاب موضوعي يستند إلى قوانين وقواعد وتراتيب ومعايير مقبولة عموما وفعل يرتكز على ساقين الصلف والجشع والتجبّر أولاهما، والطمع والخنوع والخوف ثانيتهما.
كما أن هذه الثورة تخدم أعوان الدّولة من حيث أنّها تفتح أمامهم أبوابا أوصدها الفساد الفاسِدُ والمفسِدُ = أبواب الترقيات والخطط التي احتكرها النّظام لتابعيه الفالحين المفلحين في خدمة الأسياد قدامى وجددا، والمتمسّحين على كل الأعتاب طمعا أو لهثا وراء سراب وجاهة مغلوطة، والفاشلين فكرا وخُلقاً وتسييرا ؛ وأبواب المراكز العليا التي تشبّث بها العواجيز العجّز العاجزون عن غير الاستماتة في إرضاء السلطان ونهب الملك العام.
ثمّ إنّ الثورة من هذا المنظور قد حرّرت طاقات الإنتاج والخدمات وهي ستوفّر لها المناخ المناسب والتمويلات اللازمة ومقوّمات الانطلاق التي عرقلتها المحسوبية ورصد الأموال-قروضا وهبات ومساعدات- والحوافز –تمويلية وجبائية وعقارية وغيرها- لغير أهلها، وتوزيعها لا وفقا لقواعد الاستثمار المقنّنة والتصرّف السليم بل بما يرضي التعليمات الشقيّة والأطماع البلهاء وبما يقرّب من مركز حلقة النّهب لعلّها تكافئ بفتات...
وممّن أفادتهم الثّورة وخدمتهم دون أن يكون لهم يد فيها، بل وهم قد عملوا –وإن بأمر- على تعطيلها، تلك القوى التي سخّرها الطغيان للتتبّع والتنصّت وللإيقاف والعسف والتنكيل وللاستنطاق والتعذيب، وللأحكام المبنية على التزوير والبهتان، وللحبس الظالم وقطع الأرزاق وترهيب أصحاب الرأي المخالف ورافضي الاصطفاف والصائمين عن التصفيق... فهذه القوى منها من استفاد من الثورة حتى ماديا، وكلّها أطلق سراحها من غياهب الأوامر والتعليمات، وخوف "المعلّم" والرؤساء، وكلّها انفتح أمامها درب العودة إلى خدمة الوطن والمواطن، والانعتاق من ربقة الاستعباد وتسخير المصلحة العامة وقدرات الوطن للمصالح الضيّقة والنوايا الخبيثة والمطامع الرذلة.
والثورة من هذا المنظور تخدم كلّ من كان مكبّلا ومعطّلا لخوف أو رهبة أو لانسداد أفق وعجز عن التمييز أو إعاقة إرادة، أو ضبابية رؤية.
ولأنّ الأمر على هذه الصّورة وهذا الواقع فإنّني لم أفهم كيف ندر المستثمرون والباعثون وأصحاب المشاريع المحليون الذين تجرؤوا على الإصداع بالحقّ بأن يشرعوا في التنفّس وفقا لرغبات رئاتهم، والذين فكّوا عقد ألسنتهم، والذين شمّروا عن سواعدهم، والذين تنادوا إلى العمل الجادّ، والذين سخّروا مواردهم التي كانت حبيسة في صناديقها وصررها ليؤسسوا وينتجوا ويشغُّلوا، ولا كيف شحّت مبادرات المسؤولين الكبار والمتهيئين ليكبروا بالإدارة العمومية فلم نر إلاّ ما يجب البحث عنه بالميكروسكوب في كلّ ما يهمّ إعادة بناء الهياكل والمؤسسات على أسس قويمة، وقطع دابر الفساد الذي شرّش في كلّ الأنشطة : صفقات ومعاملات وانتدابات وترقيات، وفي كلّ ما يتعلّق باسترداد قيمة العمل والبذل –فعلا لا قولا- واستبعاد الفاسدين والعجزة وضعاف الأنفس، وإطلاق طاقات الشباب، ومجازاة الكفاءة...
غريب أمرنا في هذا البلد : نخضع ونطأطئ الرأس ونقبل بالهوان... ولمّا يتسارع التّاريخ وتهزّنا الأحداث، تخفق أفئدتنا مجدّدا لكن لوهلة فقط، ثم نعود إلى الترقّب بعنوان الحذر، ولا نتقدّم خطوة رغم انكسار القيود خشية أن تميد الأرض تحت أقدامنا دون سابق إنذار أو حتّى نتفادى شرّ من هدّنا شرّهم إذ أنّهم قد يسترجعون مراكزهم، أو لأنّنا هلعون من الحريّة التي لم نعاشرها من قبل، أو لأنّنا تحنّطنا في انتظاريتنا وتحوّلنا آلات بكماء وصمّاء لا عقل لها ولا إرادة لا تتحرّك إلاّ بفعل فاعل من غيرها...
غريب أمرنا في هذا البلد : نهرع إلى المكاسب السهلة، ونتكالب على المنافع حتى ونحن لا نحتاجها، ونتصارع على المواقع والمناصب خصوصا متى كنّا لا نستأهلها، ونهرب حتّى من ظلّنا، وترتعد فرائصنا حتى لمجرّد أن نسمع خفقات قلوبنا ونغمات نفسنا تنتظم بغير أمر وتتوثّب للاستجابة لحرّية تراودها...
غريب أمرنا لكنّ، مستقبلا الأزرق السماوي أفقه، وقوس القزح ألوانه، وريح الورد والياسمين والفلّ شذاه ينفتح لأبنائنا وبناتنا برغم طمعنا وهلعنا وخوفنا وحذرنا وخنوعنا وانكسارنا : فالفاعلون الأساسيون في الثورة - "الشباب " و"شباب الإنترنات والفايسبوك" و "أصحاب الشهادات المعطّلون" و "الجهات المهمّشة " و"عشّاق الكرامة"، قد قلبوا الموازين دون رجعة، وتقمّصوا الحريّة فانبثّت في شرايينهم، وعانقوا الشمس فاستهوتهم إلى الأبد، وطلّقوا الخوف  فلم يعودوا يخشون "غازا ولا خراطيش"، واحتدّ ذكاؤهم فلم تعد تضلّلهم لا الكلمات العسلية ولا المناورات المخملية ولا الوعود الجوفاء ولا ألاعيب الثورة المضادّة.
شباب الثورة شربوا أنخاب الاستشهاد والمجد، واستباحوا قلاع الجلادين وعرّوا سلاطين آخر الزمان، وخفقت أفئدتهم بوتائر الزمن الجديد، وانتظمت أنفاسهم على إيقاع التآخي والتمرّد والتّوق إلى الأجمل...
شباب الثورة عرفوا كيف لا تنقطع الصّلات بينهم، وتنادوا إلى النصر المبين وكلّما انفضّ لهم لقاءٌ ودّع بعضهم بعضا على أنغام : "إن عادوا عدنا !"


                                                                                                                                       27 أفريل 2011

19 avr. 2011

أيا السيّد الباجي قائد السبسي : لا تغتل فرحنا بالتناصف !

مسألة المساواة بين الرجل وبين المرأة ليست شأنا نسائيا فحسب وهي لم تكن يوما كذلك. فالمرأة أخت الرّجل وقرينته وزميلته وصديقته. وهي قبل كل شيء أمّه. ثمّ إنّها بنته...
والمرأة التونسية حتّى متى كانت محرومة من الدّراسة ومن العمل خارج المنزل كانت على الدّوام مربّية الناشئة، والحانية على الجميع، والعاملة من الفجر حتّى حلول المساء وبعد الحلول : تعمل في المسكن وفي المطبخ وفي الحقل وفي المنسج وفي المزرعة... وهي إلى ذلك تعمل مقتصدة ومدبّرة وراعية للصحّة وللرّاحة وللنجاح بل حتّى لمجرّد تأمين البقاء !
ولم يكن إصدار مجلّة الأحوال الشخصية انتصارا للمرأة فحسب، بل كان نصرا لكامل المجتمع... وهو لم يكن أبدا وليد رغبة فردية -وإن كان لسداد رأي فرد وكذلك لحساباته السياسية دور هامّ في توليده- بل إنّه نتاج تراكمات ثقافية واجتماعية وحضارية أسهم فيها المجتمع التونسيّ بأجياله المتعاقبة.
ولولا مجلّة الأحوال الشخصية لما حقّق وطننا ما حقّقه من رقيّ ونماء ورخاء ولما استطاع الصمود –ولو سلبيا- ثمّ الانتفاض على من امتصّوا رقيّه وعطّلوا نماءه ونهبوا رخاءه... فالفاعلون في ثورة الشباب لم يكون رجالا فقط بل كان منهم فتيات ونساء كثيرات... العديد منهنّ كنّ في الطليعة، والعديد منهنّ دفعن ضريبة الدمّ وتعرّضن للاغتصاب والتعذيب والملاحقة... فنساء تونس لم يكنّ كنساء غزوات العرب : يسرن في هوادجهنّ أو على ظهور الدوابّ خلف صفوف المقاتلين يشجّعنهم على القتال ويمنعنهم من التراجع، بل كنّ في الصفوف الأماميّة للمظاهرات والتجمّعات والاعتصامات، وقضّين الأيام والليالي بالقصبة رغم أنف العسس والمندسّين وفلول التجمّع والبوليس السياسي قاطع الأنفاس...
نعم بنات تونس واجهن الغاز والهراوات والرصاص وقدن وصنعن الحدث بل الأحداث، وتقدّمن أقرانهن... نعم : بنات تونس صرخن ضدّ الطاغية وعرّضن أنفسهن وأسرهنّ وأطفالهن لجنونه وغضب زبانيته... نعم : بنات تونس واجهن مخاطر مواجهة النظام المتهاوي وعرّضن أنفسهنّ لاعتداءات الزبانية المندسين في مظاهراتهنّ ولسوقية المتاجرين بالدّين المهرولين إلى الشارع للاستحواذ عليه باطلا بعد أن زال الخطر أو كاد.
 لولا ما حقّقته المرأة التونسية وما حقّقه مجتمعنا من انفتاح وتفتح لما كانت مستشفياتنا عامرة بالأطبّاء والطبيبات، ولما كانت جامعاتنا ومعاهدنا ومدارسنا تربّي وتكوّن، ولما كانت مؤسساتنا الإدارية والخدماتية والإنتاجية تعمل كما هي تعمل...
النّساء، يا سيّدي هنّ الذين يعملن في اليوم مرّتين : مرّة بل مرّات في المنزل، ومرّة وبأكثر تفان في عملهنّ الرسمي... وعلى من لا يدرك هذا أن يتجوّل في أريافنا لير من يعمّرها ويزرع خيرها، وليزر مصانعنا ولير من يدير سلاسل إنتاجها، وليسأل غيره ونفسه كم يرجع من ذاته له هو ذاته وكم يرجع لأبيه ولأمّه ؟
النساء يا سيّدي لسن لا ناقصات عقل ولا دين ولا دراية ولا دهاء.
بناتنا-أخواتنا-أمّهاتنا-قريناتنا، يا سيدي، صنعننا وصنعن بلادنا ولا تنقصهنّ الكفاءة ولا الخبرة ولا الجرأة... نعم نساؤنا قادرات مؤهّلات وفي وسعهنّ أن يكنّ في المجلس التأسيسي وفي البرلمان وحتّى أن تترأس إحداهنّ الدّولة الجديدة.
نساؤنا، يا سيدي، يزغردن لنا لكنهن لا يكتفين بالزغاريد... نساؤنا، يا سيدي، بشر كالبشر، إنس كامل الأوصاف... نساؤنا لم يعدن ولايا وعورات وخادمات-جاريات للرجال...
نساؤنا، يا سيّدي، -أيّها الوزير الأوّل بالنيابة- يمكنهنّ أن يتقدّمن لكلّ الانتخابات في كلّ المدن والبلدات والقرى والأرياف : فحتّى في المناطق النائية توجد مثقّفات –مدرّسات-ممرّضات-مهتمّات بالشأن العام.
وإذا كان من الأحزاب وشظايا الأحزاب من لا يقدر على تجنيد بعضهنّ فالأمر يعنيه وليس علينا أن نخصص جوائز أو عونا لمن هو مدّع قاصر... خصوصا متى كانت الجوائز وكان العون حقوق فلذات أكبادنا وفرحهنّ بأداء الواجب...
نساؤنا، يا سيّدي –أيّها الوزير الأوّل بالنيابة- لسن كمّا يترك للبعض من عشّاق المناورة والمداورة ، ولسن سلعة تسلّم للبعض الآخر من المتهالكين على الاستثراء مراكنة واحتكارا، ولسن ضعيفات  -غير عاقلات- قاصرات يقبلن أن يولّى عليهنّ...
نساؤنا، يا سيّدي –أيّها الوزير الأوّل بالنيابة-  كما أنت وكما هم وهو ونحن وأنا، لا فرق بينهنّ وبيننا... نساؤنا أرضنا المعطاءة وسماؤنا الزاهية... نساؤنا مستقبلنا الواعد- ألواننا البهيجة- سعدنا...
نساؤنا، يا سيّدي –أيّها الوزير الأوّل بالنيابة-  أمّك التي أعجبني  بل أبهرني وأنا الطالب القادم إلى عاصمة البلد من ريفنا القصيّ أن أراك تنتقل إلى شقّتها قبل مكتبك كل صباح .
نساؤنا، وبلدنا، وأرضنا، ونحن جميعا نرجوك :
"لا تغتل فرحنا وفخرنا بأن تحبط قرار التناصف !"


                                                                                                                                       19 أفريل 2011

5 avr. 2011

أيا جربة :... من العشق ما قتل !



عشقك أحياني، يحييني... عشقك يقتلني !
وأنا أعيش لحظات الفرح الذي اِنتهينا إلى أن خلناه مستحيلا فانبجس، فجأة انبجس، ونحن لم نعد ننتظره انبجس، كنت في وجداني...
كنت فيّ وأنا أنظر ابنتي أحسبها تعيش لحظاتنا الأخيرة معا... كنت فيّ وأنا أشدّ أيادي رفيقتي –ابني-أختي-بنات أختي-أصدقائي-صديقاتي-بنات وأولاد "البلوقسفار"- شباب جلمة والحامة وسيدي بوزيد وتالة والرقاب وحيّ التضامن والقصرين (التي هي في ماضيّ قصر وحيد هو سجنها) والمزّونه وبئر صالح وبنقردان و...و...
كنت فيّ وأنا أقطع إليك ومنك إلى الجمّ فسيدي بوزيد فالزّهراء طريقا وعرا رغم الأسفلت، أسابق منع التجوال وأشفق على عشيرتي الصغيرة أن يغتال هناءها طائشٌ طامعٌ أو رصاصة ذيل من ذيول النّهابين الذين طغوا...
كنت فيّ وأنا أتابع عن بعد طفلتي تنتقل إليك من لظى نيران القناصة تفضحهم شجاعتها الإلكترونية مع تلفزيون تبتغيه سندا للسياحة فيتلقّفها بوليس العهد البائد يخيّل إليه أنّه ما يزال في وسعه أن يمارس بلا متصدّ لغته البذيئة وانشداده المرضيّ إلى خدمة الأنذال وعماه عن الوطن أرضا ومواطنين، فتقهره، هي التي لم تتنه بعد عقدها الثالث، هي الرقيقة كالياسمين الهشة كالنور الخفيفة كالنسمات، تقهره بلغة الوطن الجديد وعشق الحريّة والفناء في الآخر للآخر ومن أجل الجميع... كنت فيّ وأنا أسمع وأرى "حوسين" لا يهدأ له بال : عين على سواحل الجزيرة، وعين على القصبة، وبين هذه وتلك مهجة في سيدي بوزيد وبنقردان...
كنت فيّ وأنا أهتف لأميّ أقول لها وهي المقدمة على جراحة لم يكن من المستغرب أن تذهب بها : "ألَأبشري واِهنئي بالا فطوافك بين المعتقلات صفحة طواها الماضي وأنت الآن تعيشين ثورة حقّة، ولدم عشيرتك-بناتك-أبنائك-حفيدتِك، حفيدتك تلك صعبة المراس متمرّدة الطبع غريبة الصّمت يدٌ فيها وعقلٌ...
كنت فيّ وذهني يسرح في رحاب الآتي المشمس البديع- يرسمك جنّة أحلى فيها تفّاح أصيل ونخل باسق وكروم غنّاء وناس هبّوا من كلّ حدب وصوب هائمين بك، حانين عليك يسحرهم تاريخك-ذاكرتك-بهاؤك العتيق ويومك الذي انتهيت إليه وقد أفلحت في أن تكوني أنت أنت، بخير ما ورثت وأبهى ما ابتدع العصر...
كنت فيّ وأنا أرى وطني جموعا قوسُ قزح ألوانُها، والفرح قسماتها، والتعدّد فكرها، والنوعان عماداها، والحريّةُ دروبُها، والماضي المتنوّع والأفق الزّاهي وتداها...
كنت فيّ وأنا أقاتل أرقي وأطارد جزعي ويشحذ عزمي إقدام ولدي ينصبّ طفولتَه المتحوّلة شبابا حارسا أمينا لنا لا يهزمه لا السهر ولا لعلعة النّار الحقودة...
كنت فيّ وأمّه-أمّها-أمّهما تقول لي : لاحق لك في الخوف... كلّ بنات تونس وأبناؤها فلذات أكباد الوطن الغالي... وكلّ من ذهبُوا، بل حلّقوا إلى المعالي متحدّين الخونة سرّاق البهجة وعصيّ الطاغي، هم أبناؤنا وبناتنا نبكيهم ونزغرد لهنّ، والضّير لن يكون لا أثقل ولا أدهى لو رفرف نحوّهم أخرون من صلبنا.
كنت فيّ وأنا أتشوّف إلى غدٍ-غدِ أبنائنا وأرى فيه تجسُّدَ أحلام كَم عذّبتنا وأرى سُعْدَى الحيّيةَ تدفعني إلى قدري تقول : "لا تحزن يا صادق ولا تتردّد، قدرنا الشخصيّ لا شيء أمام قدر الوطن والخيارُ واضح فلتنطلق ولتهنأ بانطلاقك : أنا معك !؟..
كنت فيّ وأنا أرى سي شعبان يبسم لي من عليائه في فخر ويهمس : "روسكم كاسحة" هذا صحيح، ولكنّي سعيد بكم : أطلت شعرك الذي كنت أريده قصيرا، وقصّت شعرها الذي كنت أريده طويلا... ولكنّها مثلك تعجبني ... وأفرحتني رغم الجزع.."ثمّ أتذكّره ينصحني-يربّيني : "لا أريدك مهزوما ولا هاربا... إن أحسست نفسك لا طاقة لك بالمواجهة لا تنهزم... بدّل سلاحك وتكتيكك وستنتصر... إن صارعك ظالم ولم تقو على الصّراع، ناور واختَر أنت توقيت الصراع ونوعه..!
كنت فيّ وأنا بين بنات وبنين كالزّهور كالورد اليانع بألوان الضوء الزاهية المتسلّلة إلى عين مغمضة تعاضد فكرا على تركيز الحلم البهيّ نتحدى البلطجية والبوليس وفرق التدخّل ونهدف على بعد شبرين من مداخل حصن الطغاة الأغبر : "ديقاج... ويسقط حزب الدستور، يسقط جلاّد الشعب..."
كنت فيّ وأنا لم أعد أعرف أأنا أحمي بنتا وأختا تكاد حنجرتاهما المتفتّقتان أملا وإرادة تجفّان أم أنّهما تحميانني...
كنت في ذاك اليوم الرابع عشر، يوم اكتمال القَمر، يوم نضج الحبّ في الأجساد، وأنا أرى شارعا يزهو وينشد ويبسم ويثق-ينشرح ويتعلّق بالمستحيل يراه ممكنا للتوّ وهنا...
كنت فيّ وأنا أرى على الأعناق بناتا كالفجر وعلى الطوار الذي كان حتّى اللحظة هنجعيّ المنع نساء أرواحهنّ على شفاههنّ أغواهنّ شبق مطلق الحريّة ولم يعد يعنيهنّ أهي الحرية بقاء أم الحريّة انتقالا عنيفا إلى المطلق !؟...
كنت فيّ وأنا أحنو على ولدي-أمّه أخته-عمّتهما-بنتي عمّتهما تتسارع دقّات قلبي إشفاقا عليهما من برد القصبة، عنف المتسلّطين فيها، ويخفق وجداني سعادةً بهذا الشّمل الثَّمِلِ بالحريّة يريدها كاملة وإن كانت حياته قد تنتهي أو تشوّه برصاصة غادرة...
كنت فيّ طوال هذه الأيّام والليالي الصّعبة الحلوة التي كنت قد كففت أو كدت أكفَ عن الحلم بها... كنت فيّ وأنا أذكر الهادي النجّار وهو يعبر من البرّ إليك منشدا أغاني كان مجرّد الترنّم بها أيّامها شبهة وخطرا.
كنت فيّ لأنّني منك وفيك مرابع صباي وأشواق كثيرة، ومنطلقي وشهوة استقرار ما قبل الرحيل النهائي...
كنت في وتظلّين فيّ اليوم... وغدا.
لكنني حزين منك، مريض بك... وعشقك يقتلني.
عشقك يقتلني ولا سبيل لأن أبرحه.
عشقك يقتلني يا جربة !
لكم سعينا لأن تبقيْ على الدّوام جرْبَةً يعني جنانا نضرا فيه الماء والشجر والخير وبهاءٌ لا مثيل له... رفاقَ "صيانة الجزيرة" ورفاق "جربة الذاكرة" وعشاقك الكثر غيرهم...
وكم تباهينا بأنّك مهد التنوّع والجمال الهادئ والكنوز البسيطة والسّهل الممتنع والممتنع اليسير والفصول الخمسة وتناغم الأرواح وتعايش الأهواء والرّحب للجميع ونقطة التقاء الأمس بأطواره وعطاياه بالغد بإبداعاته ذات الغصون المتوثبة نحو الشمس والجذور المشرّشة في ذاكرة الأرض والتاريخ.
ولكم عملنا على أن تداوي جراحاتك وأن نمنع عنك الطامعين والنهابين والبهائم والمستكبرين...
كنّا ثلّة-قلّة لم نصمت لا على اغتصاب مشاهدك- شواطئك- بحرك ولا على التغاضي-الصّمت الآثم على اندثار نهب تراثك-جوامعك-آثارك وهدر ما يزيّنك من نخل وزيتون وإتلاف معمارك المتميّز المتفرّد وتشويهه من هذا وذاك...
وأنا أفخر إذ قال لي الشيخ  الصادق بن مرزوق ذات عام وأنا أنافح على صفحات "الجزيرة" أستغيث لوقف اندثار جامع ولحي : "كفاك جهادا يا ولدي، فالجوامع كما الكائنات كلّها تموت هي أيضا ! وبارك الله فيك أن وجدت جوامع جربة فيك أنت بالذّات مدافعا صريحا لا يتردّد ولا يناور في زمن عزّ فيه من يجرأ حتّى على مجرّد ذكر الجوامع !؟"
عشقك يقتلني... فعشقك كلّي-واسع-عميق-متجذّر-ممتدّ... ويقتلني. يقتلني لأنّي أسمع أرى-همّجا يستبيحونك ؛ يستحوذون على جوامعك-يثقلون صدرك بمبان لا طائل منها-يهدرون جمالك وسحرك-ينصّبُون ذواتهم أنبياء بل ظلالا لله على أرضه يفتكّون المنابر ويغرسون الصوامع أوتادا تؤذي سماءك البهيّة وتطحن جوامع أرادها مشيّدوها كما الطفولة هشّة بسيطة رائعة جذّابة وحيّية...
عشقك يقتلني...يقتلني لأنّني لم أعهدكِ إلاّ متسامية سمحة منفتحةَ نيّرة فإذا بك تخضعين لأرهاط خرجوا للتوّ من بعبعهم يتدثّرون بالثورة زورا وبهتانا يوقظون أفاعي التفرقة، يوقدون نيران الفتن، يبتغون غبن الفكر والروح والجسد، يزعمون علما وإخلاصا ونقاوة نيّة ويَطرشون عن كلّ لومة لائم...
عشقك يقتلني... يقتلني لأنّك تُقْتلِين صبحا مساءً تذبحين في غفلةِ وعلى الملإ : دينصورات عهدي العسف وسنوات النهب التي لم يطلهم الزلزال ما يزال ينقضّون على شطآنك ينخرونها-يحيلونها إلى العدم...
عشقك يقتلني... يقتلني لأنّ مرضى العنصرية والجهوية يتهافتون عليك فمن يهود يرادُ تهجيرُهم أو يرومونه، ومن عملة داخل البلاد قادهم الأملُ إليكم يغتالهم اليأسُ والخذلان...
عشقك يقتلني... لأنّي أراك خالدةَ الجمال والرّوعة والسماحة والحضن الدافئ للجميع، مضيافة، عتيقة كزيتوناتك الدّهرية، خفيفة الظلّ كنخلك الرّشيق، زاهية الألوان كربيعك وإن لم ينهمر الغيثُ، متنوّعة كمشاهدك رغم ضيق المساحة، فسيحة الصّدر كبحرك، متواضعةً كجمالك ومساجدك...
عشقك يقتلني... ولن ينقذني منه إلاّ...عشقك أكثر !


                                                                                        الصادق بن مهني
                                                                       30 و31 مارس 2011