2 mars 2012

جربة في خطر، فلنهبّ كلّنا للتصدّي!

جربة جِرْبَةٌ فيحاء قدّها الزّمن ورسمت ملامحَها الكبرى الطبيعةُ واِجترح تفاصيلَها إنسان كان عليه دائما أن يوائم بين اندفاعه وبين توازناتها.
حتّى غلب الاندفاع وساد التهافتُ وانفتح البحر والسماوات وسَهُل التوافد سيّاحا وعَمَلة من كلّ فجّ لم يتعوّدوا، حيث عاش أهلُهم، لعبة التوازن، ومستثمرين أغلبهم أشباهٌ لا يعنيهم إلاّ الربح السّريع ولا يهمّهم إستشرافُ الغد لصَوْنه وفاسدين ملؤوا جيوبهم من غضّ الطرف وتجاوز القوانين والتراتيب وانتهاك حقوق الغير حاضرين وأجيالا قادمة.
وتعوّدت جربة أن تصبر وتصمت وتنحني.
حتّى فاض الكأس إذ عمّ النّهش والبتر وطغى المتنفّذون وتغابى المتعاملون وتصامم الحماةُ وتبدّلت المعاول والرفوش منظوماتِ عمل متجبّرة قوامها آليات متعملقة أوجعت الشواطئ وأكواز الرمل والمناطق الرطبة وطوابي الجدود، وكشفت ستر عروق الزيتون الدّهري والنخل الباسق في الاتجاهين، نحو السماء وباتّجاه الماء، ولم تستح حتّى من حجر وفخار ورفاتٍ ومرمر ومعالم ظلّت على حالها رغم القرون فجرفتها أو حفرتها أو نهشتها طمعا في كنوز وفسخا لماضٍ مخالف واستيلاء على عقار..
ولماّ فاض الكأس هبّ الناس يفضحون ويكشفون ويفسّرون ويوعّون وبدؤوا حتّى في التصدّي ورفض التجبر ونبذ التخاذل..
وإذ تكلّمت الثّورة تحرّرت العزائم ومُزّقت الكمّامات وتنادى البواسل وقالت بنات الجزيرة «أن لا خلاص إلاّ بالمقاومة والتصدّي وأن لا شمسَ إلاّ من التّوق الهدّار».
غير أنّ للثورة مَكْرَها... ولمن حذقوا فنون المراوغة والمخاتلة واغتنام الفرص وتسخير العام للشخصيّ خداعٌ يخدع ويتجنّى ويهدم.. لذلك تهافت المتهافتون من كلّ حدب وصوب: هذا يقضم أرض جاره، وذاك يكدّس دنانير سرقها رملا وأتربةً أو نخيلا اقتلعه، والآخر يبدل دُرَرَ المعمار المتميّزة اِسمنتا وملاطا أخرس لغايات في نفسه فيها ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وفيها الاستكراش واللهثُ المتخفّي وراء المغانم الخسيسة، وآخرين دمّروا كلّ شيء: البحر والشواطئ والأجنّة والهضاب ومنازل الناس، وغيرهم غافل حرّاس المشاريع فأنشأ طرقات لن تدوم وملاعب لن تصمد...
ورغم توقّف السياحة لم يفتأ «مستثمرون»، بل منتفعون من سياسات الاستثمار، لا يهمّهم غدُنا يبنون لا لشيء إلاّ لأنّ غنيمتهم من البناء تأتي وليس من السياحة..
 وإذ أنّ الضغط المتعالي والشطط المستفزّ يولّدان الانفجار فقد انفجرنا صيحة استغاثة وإعلان ثبور ونداء إلى إيقاف الفواجع..
غير أنّ انفجارنا لم يزل رفيقا بالفاسدين، رحيما بالمتقاعسين، وما تزال خطاه غير منظّمة وغير منتظمة ولا تسير على هدى. الخُطاف لا يصنع الربيع، وبضعة عشرات من المتحمّسين لا يصنعون التحدّي، وأسبوع أو أسبوعان من الإعلام لا يصنعان رأيا عاما، وتنابيه عدول التنفيذ ومكاتيب الإدارة لا تحرّك سواكن الخامدين.
هذا تراث طبيعي يُدمّر، وهذا تراث إنسانيّ يُزال، وهذا المستقبل تُشَوَّه عناصر بنائه.. وهؤلاء «أعيانُ الجزيرة» المسؤولون عن حاضرها لأنهم هيمنوا على ماضيها ساكتون متغاضون أو متواطؤون وحتى شامتون.. وهذه السلطة تخرّف عن أولويات غير أولويات الواقع المرّ، ولا تريد أن تنتبه إلى أنّ ما يُدمّر الآن جربة لا سبيل البتّة لا لعلاجه ولا لتداركه.. وهذه الإدارات ناعسة خائبة.. وهؤلاء متضرّرون كُثُر لا يدفعون الأذى لا على الملك المشترك ولا حتّى على أملاكهم.. وهؤلاء مموّلون موّلوا الفساد وما يزالون يموّلون الفساد ويصمّون آذانهم عن صرخاتنا..
معالمنا، صروحنا، أضرحتنا،  جوامعنا تُشوّه وتنهار وتُنهَب وتُحرَث.. ما يجري في «مينانكس» و«هنشير بورقو» ألا يذكّركم بحرث قرطاج ورشّها ملحا؟! وهذه الجوامع والمساجد والأضرحة التي ميّزتنا بنقائها وصفائها وتواضعها وبهائها ألا يهمّهكم أن تبقى؟ اِرجعوا الى القواميس وكتب الاختصاص ومنشورات الفكر والثقافة وحتّى مطويات السياحة وسترون كيف أنّ ما يُدمّر إبداعٌ إنسانيّ متميّز ومتفرّد؟... وهذه المشاهد الطبيعيّة ـ ما أبدعته الطبيعة منها وما اجترحه الإنسان ـ ألا يهمّكم أن تتبدّل وتزول؟ حُفر بل فوهات براكين في كلّ مكان، وفصائل نخل انقرضت، ومبان لا فكر ولا فنّ وراءها تسدّ الأفق، والزيتون الذي لم تخلُ الجزيرة منه منذ الإغريق والذي موّن روما والباب العالي وبايات العاصمة يُجتثّ،  والفنادق رغم فراغها تتكثّف وتتعملق، ونحن هامدون!...
 كيف نتغاضى ونتصامم ونتعامى عن فتية قدّوا من جهلهم قناعات علينا يفرضونها، ويسكت «شيوخنا» و«فقهاؤنا» ومن كانوا يرون أنفسهم «أولى الأمر فينا»؟ لماذا كلّ هذه الفوضى العارمة المدمّرة؟  ولماذا يسرق السرّاق الإرث والأرض وأملاك الناس ونستحي حتّى من أن ننبس بطرف؟
نعم أنا أشهد للجمعيات ولبعض من الناس والرجال بتحفّزهم وحماسهم وتناديهم وتعاليهم على الجراح والسموم والتعدّيات التي طالتهم لتثبط عزائمهم، لكنّني أنشد المزيد وأعتقد أنّنا قادرون على المزيد.
لنصرخ مرّة ومرّات وكلّ يوم..  ولنناشد المؤسّسات الدُّولية ولننافح المؤسسات الوطنية، ولنفسّر، ولْنَبْكِ غير مستحين ولا متحفّظين، ولنصرخ ونندّد، ولنتصدّ للسرّاق والفاسدين بحزم يقظتنا وبهدوء دفعنا، وبتنادينا لنصدّهم وإن برفق ودون عنف.
وليقم أصحاب الأعمال الحقيقيون بالتصدّي معنا نحن ـ عامة الناس ـ فهم أيضا متضرّرون بل إنهم متضرّرون أكثر منّا.
وليبادر المختصّون في الآثار بتسييج المواقع وحراسة المعالم ونحن معهم لنجد التمويل والأيادي العاملة.. عليهم فقط أن يغيّروا من أنفسهم ومن مقارباتهم وأن يختطّوا   حملات حفر وكشف ننادي لها اِختصاصيّي العالم ونجنّد لها أبناءنا من العاطلين فنحقّق معا وفي نفس الآن أهدافا كثيرة.
وليوفّر أصحاب العقارات في «الحوم» أراضي للمساجد الجديدة تحمي الجوامع العتيقة من التشويه والهدم..
وليشهد من في وسعه أن يشهد على سرّاق الآثار وحجارة الجوامع فييسّروا التصدّي لهم..
وليتوسّع التصدّي إلى كلّ من له في جربة مصلحة:  المستثمرون والمتساكنون الجدد ومنهم آلاف العمّال جاؤوا من كلّ حدب وصوب وولاية وأصبحوا يستفيدون من جربة أكثر من سكانها الأقدم عهدا..
ولننتبه: جزيرتنا، وهي قطعة من وطننا، ودرّة من الملك الإنسانيّ العام، تنزلق نحو هاوية سحيقة..
ونحن إن فقدنا ذاكرنا وتراثنا ومميّزاتنا فقدنا غَدَنا..
ولننتبه أيضا: جزيرتنا لا تفقد مشاهدها ومعالمها ومميّزاتها الطبيعية والمشهدية والمعمارية والنباتية فحسب، بل هي تفقد أيضا عنصرا بشريا أسهم في جمالها وتفرّدها وأثراها: يهودُها..
منازل جربة ومبانيها والشبابيك التي تنتزع منها عن غير حق لتُباع خردة أو أثاث تزويق، والأبواب وأدوات الفلح والحليّ وأشياء أخرى كثيرة تشهد ليهودنا..
ويهودُنا لم يتبقّ منهم إلا قلّة قليلة علينا أن نحميها: أن نحميهم من الهمّج منّا، وأن نحميهم من الصهيونية التي تناديهم، وأن لا نتركهم للفقر والزحام فيفنى جميعهم...  «زاكينو» أحد الجرابة المتميّزين لم أقابله إلا مرّة  أو مرّتين، ولكنّني أعترف أنّني تعلّمت منه عن جربة الكثير الكثير، وأنّني من حبّه لجربة استَمْدَدْتُ شيئا من عشقي لتراثها وناسها.. هم منّا ونحن منهم وجربة منّا جميعا ولنا جميعا.. وعلينا ـ لأنهم قلّة قليلة ـ أن ننتبه إليهم ونحميهم مواطنين كاملي الحقوق والواجبات، ونسند ظهرهم حتّى لا تغريهم باريس ولا تغويهم إسرائيل..
لنهبّ جميعا، كلّ من موقعه ومعا بكل ألوان قوس قزح، لنحمي جزيرتنا، درّتنا، تراثنا، ثراءنا، غد تونس الجميلة!

عمار منصور!

الصادق بن مهني

عرفتك بدءا، عن بعد، أحد أفضل تلامذة المعهد الثانوي بقابس تحريرا، ثم عرفتك شاعرا أبهر في جمعه بين رقة اللغة والصورة، وبين عمق الثقافة. بعدها كنت «نجمة الشمال» التي قادتني الى  النضال مع أجيال من الرفيقات والرفاق الذين بدأنا منذ وهلة، نفتقدهم الواحد تلو الآخر.
حللنا، المختار اللغماني ومصطفى الزمزاري وآخرون وأنا، بكلية الآداب أواخر 1971، وكان في عزمنا أن ننضم الى «آفاق برسبكتيف» فكنت مدخلنا الى «آفاق برسبكتيف»، وكنت أنا أول من اخترته منا للانضمام.
لم أنس يوما، ولن أنسى أبدا ذلك اليوم الذي أخذتني فيه من يدي ونحن نتحول في حديقة الكلية وزففت لي الخبر: «بعد التدقيق والملاحظة، قررت المنظمة أن تفتح لك باب الانتساب اليها»!
عمار! أناديك كما ناديتك، وسأظل أناديك وفي عيني وجهك لم أره يوما عبوسا. نعم لا أذكر أنني رأيتك يوما إلا ضاحكا.. فأنت حتى متى  غضبت تقهقه.. قد تزمجر وتهدر وتغدق سيلا من السباب الذي لا يحسه سواك.
عمار! أما زلت وآنت في غير اكفهرار وفي قسمات وجهك الـ«السماحة».
عمار! أمازلت تذكر لقاءاتنا مع عمار الآخر (الزمزمي ـ العربي) ومحمد التومي ومحمد معالي ومحمد قندوز والطاهر البكري.. أمازلت تذكر مقهى الديوان بالمدينة العتيقة، ومقهى «الدينار»، وذلك الولد «الجندوبي» الذي ـ في ظلك ـ تعلمت معه خطاي الأولى في «الربط» مع الطبقة الشغيلة.. وكان بائعا متجولا أصر ذات يوم وقد قرأنا عليه بعضا من «العامل التونسي» فطرب لأنه أدرك أننا استثقناه، فخلع عليك كسوة.. وكنت لم تغير كسوتك شهورا، بل دهورا لأن منحتك الجامعية كانت تذهب للتنظيم..
عمار! أراك تقهقه وتهديني لفظا بذيئا.. لكنني معك «مسامح على طول».
عمار! أنت من فتح النضال أمامي.. ومع أنك كنت صاحبا وصديقا، فقد كنت شديدا معنا، علمتنا أن ندرس كثيرا وأن نناقش كل شيء وأن ننقد.. وعولت علينا وكنت على الدوام أفضل منا، لكنك فتحت أمامي الأبواب..
منحتني الثقة في نفسي، ودفعتني، وأقنعتني أن المناضل كامل أو لا يكون.. شجعتني على الشعر، ورافقتني الى السينما، وكلفتني بترجمة كراريس «برسبكتيف»، وبينت لي أنه علينا ونحن طلبة آداب، أن نتقن الفلسفة وعلوم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس وكل العلوم..
وفتحت  أمامي أيضا باب التحدي.. جعلتني أدرك أننا ـ لا محالةـ ماضون الى التعذيب والسجن، فلما كان التعذيب والسجن كانا أهون على النفس، أو هكذا بدا لي..
عمار!  لم أقلها لك من قبل حياء من حيائك: لك فضل كبير عليّ فيما تعلمته، وفي ما استفدته، وفي منحي الحياة التي سلكتها!
عمار!  كم شربت على نخبك.. والآن سأشرب على نخبك كل مرة مرتين، مرة لك ومرة لي..
عمار!  قد نكون محظوظين لأننا لم نحقق الكثير من غاياتنا، ولأن هذه الثورة التي أحيتنا لم تكتمل ـ ولا  أريد أن أقول أنه يعسر أن تكتمل ـ فأنا  أرغب في أن أتمسك معك بحبل الأمل، ولكننا ـ اعترف بذلك ! ـ حققنا ثورات وثورات، التفت الى تلك الطفولة التي عشتها في المنصورة، والى الحرمان، والى القحط الفكري الحضاري، ثم انظر الى نفسك كيف أصبحت وأصبح أبناؤك؟
لقد نجحت، وإن لم يكتمل النجاح! التفت الى الكفاف والقمع وانتظرنا وقد طالنا الطغيان وتحديناه ولم نركع، سترى أننا أفلحنا، وإن الى حد.
عمار!  أراك الآن تمشي في آرية برج الرومي راويا آخر ما اكتشفته في ثنايا الكتاب.. وأراك تقاوم الاحباط والتخاذل والجو الخانق.
حينا تثمل وحينا تنهك صدرك بالدخان، وحينا تغرق في الضحك والنوادر، وحينا  تلتهي بمقال ترسله الى «الصباح» أو «الطريق الجديد» أو «المغرب»، وحينا تعود الى حبك الأول: الشعر.
ويجتاحني الحزن لأنك لم تر شعرك في كتاب منشور.. غير أنني سأفي لما  علمتنيه من تصد وتحد، ومع رفيقتك الصبور وأولادك، لا شك سنفلح في أن نهديك كتابك بعد حين غير بعيد.
عمار!  كثيرون لا يعلمون أنك في «برسبكتيف» ثم في «العامل التونسي» كنت على الدوام في المقدمة، وكثيرون لا يعلمون أنك كما علمت الأجيال وأنت مدرس وكاتب مقال، علمت كثيرين مثلي كيف يكون حبهم للوطن ولادا وفاعلا!
عمار!  ألححت عليّ أن أراك وانت في مشفاك، لكنك أصررت أن «لا موجب»!
وصدقا أقول لك أنني أدركت حينها أنك على أهبة تترجل، بل أن ترقى، وصدقا أقول أنني  تيقنت وقتها أنني قريب منك أكثر مما كنت أتصور. وما كنت أتصور كان يكفيني..
عمار!  أنت العطاء والمسامحة وسعة الصدر والصداقة والانعتاق والتحليق والنضال والاخلاص والتواضع والإباء والقهقهات الحلوة والشعر البديع، والصبر والقلم الوضاء والثبات على المبدإ والانغراس في تضاريس كينونتنا.
عمار!  كالعادة كنت سبّاقا، وأنت الآن تتكشف على ما نجهل.. بصداقتنا إن كانت هناك حقا  سماء للأرواح، سلم على نور الدين بن خضر وأحمد العثماني وفتحي المسدي، وصديقك الذي دفناه قبلك بأسبوع يوما بيوم محمد بن جنات ولا تنسى الآخرين،  فأنا لا أريد للقائمة أن تطول.. ولهم جميعا، قل إننا على العهد  باقون، ونحو الشمس ماضون وإن تبدّل المغول!

من إحباطنا نستمد ... المقاومة




أنا مُحبَط. أنت مُحبَط. هي محبَطَة. هم محبَطون. هنّ محبَطات
نحن جميعا محبَطون.
محبَطون لكننا لم ننحن.
محبَطون لكننا لن ننحن.
محبَطون لكننا نقاوم إحباطنا ونسعى إلى أن نفعل.
إدراكنا يحبِطنا. و إرادتنا تجعلنا نفعل، أو نسعى إلى الفعل.
و لكن لمَ الإحباط ؟ !
لمَ الإحباط و كل شيء على ما يرام؟ !
أردنا تأسيسيا و أصبح لدينا تأسيسي.
و أردنا مقاومة الفساد ودرءه و أصبح عندنا وزير للحكومة و مقاومة الفساد.
و أردنا عدالة انتقالية و أصبح لدينا ثلث وزارة مكلفة بالعدالة الانتقالية... و إلى جانبه مرصد رسمي...
و أردنا المساءلة و المحاسبة، وفي ذهننا، أنهما تفضيان إلى المسامحة، فاختصروا لنا الطريق و بلغنا" طوّالي " و دون عقبات إلى ... التغاضي.
وأردنا شغلا، وهاهم يعدوننا بشغل للجميع إن لم يكن اليوم فغدا، و إن لم يكن غدا فبعد غد، وإن لم يكن ففي الجنة التي شرّعوا لنا أبوابها واسعة و لا تدافع أمامها.
و أردنا كرامة، فأعطونا كرامات و كرامات و كرامات: بياعو كلام نستضيفهم ليهينونا، ونفرح بهم، فيستهدفون أمهاتنا و أخواتنا و بناتنا، و نكرمهم فيحضوننا على الانقسام، و يدعون لنا بالويل و الثبور و يدفعوننا إلى الاقتتال.
و أطلقنا الحريات، فهرع جمع ممن حرروا إلى السلاح الغربي الحديث، و الكتب الشرقية الموغلة في القدم، و تنادوا لوأد الحريات و تكميم الأفواه وسوقنا إلى جناتهم مسلسلين أو مذبوحين.
و أردنا عزة الوطن، وهاهو الوطن تضوع عزته في المنتديات و الصحافة الدولية، و يتعلم
- كما الأمس – كيف يطأطئ رأسه لدولار- و إن مزيف- و لنفط لن يجود بشيء من ريعه إلا ليزيد همومنا.
ورمنا الديمقراطية، وها نحن نسمع كل يوم من يشتمنا و يؤذينا و يودّ قطع أيدينا و أرجلنا من خلاف، و يعايرنا بأننا أقلية عليها أن تصمت أو ترحل، و يبين لنا، ببرهانه الرباني حسبه أن الوكيل أدرى بالحق و الحلم و المنشود و أعلم بالطريق من موكليه...
و ابتغينا قطعا مع الماضي و منظومات الماضي و رموز الماضي، و ها نحن و قد أبدلنا السروج، بل و راكبي السروج، نسير على نفس المنوال و ننتهج خطط مقاومة الفقر و اختلال التوازن الجهوي و تجهيز البلاد و نشر فرحة الحياة التي أعيتنا و دمرتنا و أثارتنا ذاتها.
ونادينا بالخبز لغير الجائعين و للجائعين و لأنصاف الجائعين، وهاهي القفة تغدو القفة ذاتها للجميع و تكاد ترمز إلى التكافؤ و تقريب الشقة ففيها خفة و أسى لكل أم و أب.
و تقنا إلى اتقاد الفكر و اختلاف الرأي و تفتق الإبداع، و ها نحن قد انقطعت أنفاسنا من نكد يحثوه علينا غانم مال كان أجدى به أن يداوي جرحانا و من وعيد سيف الضغينة و بلادة الإدراك سيفه و من مزاج ثقيل كالرواسي ينفثه من اختار أفخر فنادقنا ليخلد فيها.
و أخضعنا الرياح لمشيئتنا فطوعها ملاحونا ليركبوها و يركبونا.
و انحنى لدماء شهدائنا القدر، فاكتشفنا من استبدل " القدر " بالوطن حتى في نشيدنا الرسمي، ومن برع في المساومة حتى ساوم على حقوق عائلات شهدائنا و مستلزمات جرحانا و أجلها أو قزمها و جعلها موضوع جدل ليس إلاّ.
و نشدنا الفرحة فضحكنا و غنينا و كنا نواجه الهراوات و الغاز و الرصاص الحي، وتفتقت قرائح شاباتنا و فتياننا عن رسوم و أهازيج و صور و شعارات بهية و ها أننا ندفعهم إلى أن لا ينطقوا إلا بما ينطق به دعاة الاستفراد بإرث السلف – سلف ليس دونه سلف ... و لا خلف- و نعاقبهم على كل زلة أو ظلها، وننسى أن نعطيهم هدنة ليتعلموا الديمقراطية فيما نحن نطيل الوقت كله، ليتوزعوا و ينتشروا في حبالنا الصوتية و خلايانا جميعها بكل أنواعها.
و اقسمنا أن نقوى من ضعفنا وأن نحيى أحرارا و إن على خبز و ماء، وتعلمنا أن نتكاتف و نتآزر، وهاهم يتركوننا نتدبر أمرنا لوحدنا إذ انقطعت السبل ببعضنا ثلجا و فقرا و معاناة فتدثروا، واعتصموا بالقدر تفسيرا بل تبريرا، وقعدوا على أولياتهم و- أولوياتهم لا تكون إلا من أولوياتنا لو صدقوا و أخلصوا – و تفضلوا علينا بأن لم يمنعونا من جمع الإعانة و إغاثة المنكوبين ... وفيما كنا نتعب و نصدق و ننقد، كانوا من على عرشهم يقهقهون : " ألا ابذلوا وأجهدوا و أنهكوا أنفسكم ، فإن خراج فعلكم سيأتيننا !"
و فرحنا بالتناصف إنسيا و إنسية، و هاهم يشطروننا مالكي الحق المطلق و الشرع الحق و كافرين يقام الحد عليهم و يمنعون من الصراخ.
وقلنا : " الفساد الذي أسقطناه ولد الحلكة، و علينا بنزاهة الحاكمين طريقة حكم و تصرف و بشفافية القرار و وضوح الإجراء ضمان نزاهة و صواب".
فقالوا: " نحن الغالبية. ونحن من لا يرتقي الشك إلينا. و نحن نعرف من أين تؤكل الكتف، ومن لم يقبل بما نفعل أو نقول آبق فاسق"، و طفقوا يعقدون الاتفاقات و يهبون الأعطيات و الصفقات و المشاريع خلف الأبواب و المتاريس و دونما مقاييس.
و أردنا ثورة تجمّع و تسير، وتمضي بنا نحو أهداف غدنا، فقالوا: " الثورة في أيدينا و نحن ربّها و الانتقال تمّ أو سنتمّه و عليكم أن تخمدوا و تنتظروا و أهدافكم انسوها، فنحن استلمنا الثورة و وحدنا نقرر مآلها."
الإحباط؟ الإحباط ؟
لا داعي للإحباط ! فلنا شيوخ كثر، ودعاة يومهم بمليون، وساسة يفعلون ما لا يقولون ويعدّلون و يكذبون ما يقولون، ويجيشون و يشترون و يفترون و يتوعدون و حتى يسجنون..
لا داعي للإحباط ! فلنا أن نأمل و نحلم و نطمح و نتوق، لكن في أعماق أعماقنا و في الزوايا السرية من مساكننا... و لنا أن نفرح لأننا لم تقطع بعد لا أيدينا و لا سيقاننا، ولم يمنع عنا لحد الساعة أوكسجين الحياة.
حقا لا داعي للإحباط !
قد نكون محبطين، مصدومين، حائرين و نلعن طهرنا و نقاوتنا و إخلاصنا للقيم، لكننا خائبين، ولن نركع و مها قتـّلنا سنظل واقفين، ولن نفرّ فلا مفرّ لنا إلاّ هنا و الآن...
إحباطنا سنقاومه و نسخّره و نصيّره خصبا و ولاّدة.
و ستنخذلون و نرى النار !

الصادق بن مهني

الطريق الجديد 25 فيفري