الخاطرة الّتي كتبتها عن تعرّض مسكني بالزهراء للخلع و النّهب أردت منها أن تكون في نفس الآن و معا صرخة هلع إجتماعيّة الأبعاد و طرحا لسؤال كبير عمّا غدونا فيه ... و لم يدر في خلدي بتاتا أن يكون لنشر هذه الخاطرة الصّدى الّذي حظيت به و ردود الفعل الّتي ولّدتها...
خاطبني كثيرون و هاتفني كثيرون و خاطب كثيرون- منهم قرّاء "للجزيرة" لم أكن أعرفهم - بعضا من أهلي و أصدقائي...
و رغم أن عبارات التضامن و المؤازرة قد تخلّلت خطابات الأغلبيّة, فإنّني أحسست، بل أدركت , منها أوّلا و قبل كل شييء
أن الرّسالة قد بلغت لمتلقّيها و أنّ السؤال الكبير لم يعد سؤالي أنا وحدي (هل كان كذلك حقيقة قبل أن أكتب ؟) و أنّ صرخة الهلع ليست صرخة فرد أو أسرة بل صرخة مجتمع.
كثيرون ممّن خاطبوني عبّروا عن أسف مضاعف = أسفهم للخسارات الحاصلة و أسفهم لأنّ الجناة لن يكشفوا... و بدوا لي عصيّين عن قبول أي إحتمال -مهما دقّ- بأنّ الجناة سيكشفون اليوم ...أو غدا ...أو يوما ما.
واحد فقط عبّر لي أكثر من مرّة عن إحساسه و ثقته في أنّ الجناة سيكشفون لا محالة ... و أمام إصراره تجرّأت على التعبيرله عن رغبتي في فهم أسباب إحساسه و رسوخ ثقته ... ففهمت منه سببا وحيدا: ثقته في الله و الأقدارو معرفته لي و أيمانه بأنّ ما اكتسب حلالا لا يضيع
هنأته على إيمانه و شكرته على ثقته في و قلت له : الرّزق الحلال هو أيضا يضيع ، و ينهب ، و يفتّك ... و هنا مربط الفرس كما يقول القدامى
كثيرون سعوا إلى التخفيف عليّ بحثّي عل الحمد و الشكر لأنّ أحدا من عائلتي لم يتعرّض لمكروه في بدنه و "لأنهم" لم يأخذوا كلّ شيء.
البعض تحدّث عن "اختبار" و عن "ضارّة نافعة" ، و عن أوجه استفادة أسرتي من هذه المحنة . أحد الأصدقاء فال لي :"فكّر بإيجابية : لا تقل :نهبت داري بل قل : خلال ثلاثين سنة لم تنهب داري إلاّ مرّة واحدة" بعض من نذروا أنفسهم لارتياد الصّعب و التّوق إلى المستحيل و وثّقوا صلاتهم بالأمل و وهبوا ذكائهم و جهدهم و حاضرهم للغد المشرق و المزهر خيّل لهم أنّ سرّ الجناة في الشبكة العنكبوتية ... و بعض آخر ذكّرني بماض بعيد رآه يتجدّد لصيقا بي .
غالبية مخاطبيّ أبدو حسرتهم لأن "مساعيد" و "مسعودات" الزّمن الماضي ظلّوا بعد أن غادرونا بلا خلف ينحو نحوهم ... و قالوا إنّ على المجتمع أن يجد لنفسه حلولا . و منهم من أكّد أنّ الحلول أصبحت مطلبا عاجلا بعد أن تبيّن أنّ الآليات و الهياكل و السبل و المناهج الحديثة و حدها إمّا إنها قاصرة أو إنّها ، على الأقل ، لا تكفي ...
أمّا سكّان الدار فهم ما يزالون في شبه ذهول و إنّ هم أظهروا أنهم عادوا إلى حياتهم المعتادة : ما يزال الإحساس بالمرارة لما حصل من اغتصاب و انتهاك ، و ما يزال الإحساس بالذّنب لما لم يعالج في حينه من ثغرات استغلّها الغاصبون و ما يزال الإحساس بانعدام الطمأنينة و خسران القدرة على معايشة الأمن و الأمان ...
و ما يزال كلّ يتّهم نفسه بالتّقصير و ينظر إلى الآخرين مشفقا عليهم و لكن محمّلا إياهم أيضا بعض الوزر.
و بإسم جميع سكّان الدّار أقول = "شكرا ألف شكر" . لكلّ من آزر و تجنّد و أعطى من جهده ووقته . و لكلّ من نصح و أسهم في محو الآثار المادية للعدوان و في سدّ ثغرات سهّلته و وضع معوقات أمام تجدّده.
و أقول = "شكرا، ألف شكر" لكلّ من كلّف نفسه عناء الاتّصال ليخفّف و يتعاطف أو حتّى لمجرّد أن يهوّن على نفسه و يذهب عنها عبئا يثقلها ...
و رغم كلّ المبرّرات و الأعذار و التعلّات التي سمعتها أتمنّى أن لا يذهب بي الرأي يوما إلى القبول بحتميّة إخفاق من ورث دور "مساعيد و مسعودات" الزّمن الماضي في هذا الزمن الّذي نحياه أو نقع تحت وطأته، أو بمجاراة بعضهم في ما يومؤون إليه حين يهمسون : " الّلهم ..؟ ".
و أختم بأن أنادي المختصّين في علم الاجتماع و السياسة و علم النفس و علوم الإجرام و المهتمينّ بالأخلاق و المثل و القيم و أهل الصحافة و الإعلام و الزيّاتين إلى أن يولوا الظواهر التي أصبحت ترهق النّاس و تحرم عيونهم النّوم و فكرهم الدّعة ، ما يناسبها من تعمّق و كشف و تشخيص و علاج .
و لصديق مثقّف لامني على أنّني لم أعط خاطرتي حقّها عندما اكتفيت بنشرها على صفحات جريدة محلّية ، أقول : أنا أصرّ على مرافقة "الجزيرة" لأنّني تعلّمت أنّ العالم الأرحب يبدأ من داخل الدّار-دار كلّ منّا- ولا يقف عند بابها .
الصادق بن مهنّي
25 جوان 2010