29 déc. 2011

يومنا عسر...وعلينا أن نهيء لغدنا الواعد وإن تاخر !

الصادق بن مهني  08 ديسمبر 2011


الثورات كلها لا تنجز ولا تتم مرة واحدة.الثورات كلها دروب فيها شوك كثير وحفر ونتوءات وتعرجات وتأكد عودة إلى الوراء. الثورات كلها بحار فيها المد والجزر والرياح العاتية والتيارات المعاكسة. الثورات كلها يصنعها الغضب والتعب والقحط والتوق إلى الأعدل والأفضل، لكن أغلب  الثورات لا تنتهي إلى خير، أو لا تنتهي سريعا إلى خير ولا تحقق غاياتها، أو لا تدرك كل غاياتها. ومن الثورات التي تهب أشرعتها توقا إلى الحرية وتحقيق إنسانية الإنسان ثورات تنتهي خطواتها الأولى بأنظمة أشد استبدادا تستبدل لون الماضي وشكله ولسانه لكن لتحتفظ بطبعها الشرس والقامع والمذل والمعطل...
وكما يمكر الإنسان، ويمكر القدر، ويمكر الزمن، يحدث أن تمكر الثورات... وكما تراوح الشمس بين شروق وغروب، ويراوح النبت بين نماء وسبات، ها هي ثورتنا، بعد أن راوحت منذ 14 جانفي حتى انتصاب التأسيسي بين مد وجزر ومد تنسحب إلى مرحلة جزر وجزر وجزر... ويخفت المد فيها إلا من ارتعاشات خفيفة تؤشر لقادم أبهى، وتتشهد على بقاء الروح صامدة وفي توثب...
لقد خرجوا من جحورهم، واستفاق من كان منهم في سبات غيرأن الأزمان التي لا يرونها إلا ثابتة...لقد كشروا عن أنيابهم وها هي مخالبهم يشهرونها في وجوهنا سيوفا قاطعة... لقد أطلقوا عنان ألسنتهم سياطا تلسع صدور بناتنا -  أبنائنا، وارتفع عويلهم – صراخهم – نعيقهم يصم الآذان ويغطي على أهازيجنا ... انظروا كيف يتهالكون على كراسي قادتهم إليها الصدفة الماكرة وحدها وكأنهم في محل استرخاء... وانظروا إلى زعاماتهم – المعروفة والتي تتنافس لتبرز – كيف يندلع الشرر من عيونهم وكيف لا ينطقون إلا ليتهكموا ويسبوا ويفرضوا...
وانظروهم طواويس تستأسد وتنفش ريشها ... وانظروا بعض نسائهم تنسى في أي دار هي وتندلع واقفة تناصر ذويها صراخا وتطاولا ... واسمعوهم في كل الإذاعات والمنابر والتلفزات يغزونها منددين بأن الآخرين يستفردون بها، وآخذين بتكتيك و"ضربني وبكى، سبقني وشكى"... وانظروهم ينتهكون حرمات الجامعات ضجيجا وعويلا على انتهاك مزعوم لحرماتهم وتابعوهم في الفايس بوك قذارة وثلبا وخساسة هم الزاعمون أنهم حملة الطاهر الذي لا يأتيه الباطل أبدا ... وتابعوهم كيف يدفعون  ليدفعوا ويجيشون ويكذبون ويهيئون للتطاحن ويبنون جدران العزل بين الناس : أولئك كفرة ومن في صفنا نحجز لهم في الجنة ... واسمعوهم لا يتورعون عن ألفاظ كالحرب الأهلية يستدعونها صارخين أن الآخرين هم الدعاة، يهيجون الشبيبة ويتقولون عن المتظاهرين العزل إلا من تشبثهم بأحلامهم أنهم مثيرو شغب ومحترفو تهييج وعملاء فرنسا ... فيما هم يجعلون زمن التأسيسي حلبة عراك واستعراض عضلات وألسنة ويدعون لا تمثيل للشعب فحسب بل أنّهم هم الشعب !
 مكروا بالناس ... مكروا بأنفسهم ... مكروا بالثورة : أهدافها وتضحياتها ونداءات المحرومين واستغاثات الجرحى وهموم البطّالين ...
مكروا وانقادوا إلى شهوتهم يستعجلون شد وثاق السّلطات منيعا حتى لا تفلت من بين أيديهم لا اليوم ولا غدا، وتآزروا – وهم شتّى وعلى خلاف – ينصبون أنفسهم أوصياء على الناس جميعا أن ينحنوا لوصايتهم، غالبين على الناس جميعا أن يركعوا قدامهم، غالبية على الأقلية أن تخضع لهم، ديمقراطيين يتعين علينا كلنا أن نصمت في حضرتهم لا جدال ولا حوار ولا كلاما ...
مكروا واشتد بهم الصّلف، وتآخوا مع الصّفاقة وتهيؤوا لإخضاعنا ...
 وإنني لأرانا – أراكم نقاد – تقتادون إلى مخافر كالمخافر وإلى إيذاء كالإيذاء وإلى تعديات كالتعديات ... وإنني لأرانا – أراكم في شوارع بين الماشي والماشي فيها مساحات، يخيم عليها الثقل والسماكة والحراسات العديدة ...
 وإنني لأراكم – أرانا في عتمة أعتم من عتمة ... وإنني لأسمع حوافر مدرعات وأتبين كمامات، وأحسنا-أحسكم تنهال علينا هراوات، وتدمع عيوننا غازات خلنا أنها غدت من الماضي ... وإنّني لأخشى أن أرى مرة أخرى دموعا وأحزانا دكناء وحتى الأحمر الغالي يسفك ...
مكروا ومكروا ومكروا ... وصعب أن ينثنوا عن مكرهم ... فنشوة اللامتوقع وسكر اللامنتظر يجعلان المرء يهذي ويختال ويخال نفسه محصنا، والسّلطة التي أعمت بصيرتهم بمجرد أن اقتربوا منها ستذهب بكل قيمهم وتعهداتهم وما تبقى من أخلاقهم من لحظة انقضاضهم على عصيّها ودواليبها ...
مكروا ومكرهم شديد ... فهم معنا بألسنتهم وأحجامهم لكنن عقلهم هنالك عند السلطة، هنالك حيث النفوذ، وأيديهم تمسك منذ اليوم بل الأمس بحركاتنا تشلها وبأحلامنا تخنقها ...
هم يفعلون: يخططون – أو يخطط لهم – ويبرمجون ويفعلون .
 ونحن لا نفعل سوى أن نرد الفعل . نرى الأفق ولكننا لا نرسم دربنا إلى الأفق .
 قدرهم أن جاءت ثورة فخطفوها . وقدرنا أن شبابنا – شاباتنا اجترحوا ثورة فضيعناها . وقدرهم أن يتهالكوا على السلطة حتى يهلكونا ... قدرهم أن تهلكهم السلطة التي تهالكوا عليها. وأن ينهلكوا ...
 وقدرنا أن نصمد . قدرنا أن نقاوم .قدرنا أن نرجئ مرة أخرى معانقتنا لحلمنا الجميل وأن يبتعد عنا مرة أخرى غدنا الآتي .
فغدنا الواعد آت لا محالة، آت لا محالة .
علينا فقط أن نعرف هذه المرّة كيف نمضي نحوه، كيف نمسك به، وكيف لا ندعهم يسرقونه منا

17 déc. 2011

ننصركم ظالمين ومظلومين وظالمين !

صدر بجريدة الموقف يوم 17 ديسمبر

نصرناكم وننصركم وسننصركم.
نصرناكم وننصركم وسننصركم ظالمين ومظلومين وظالمين.
نصرناكم ظالمين وأنتم "تغزون" الجامعة، تتسرّبون إلى مفاصلها في سبعينات القرن الماضي ثمّ في ثمانيناته.
نصرناكم بأن تصدّينا نفسّر ونشرح ونعلّل ونفضح ونناقش ونحاور.
نصرناكم بأن لم نعاملكم إلاّ باللين، ثمّ بالصّبر على عنفكم والإصرار على أن لا نفعل أكثر من أن نتصدّى كلّما هاجمتم.
نصرناكم بأن تغاضينا عن تحالفاتكم غير البريئة ولم نصفكم لا بالعمالة ولا بخيانة الشعب ولا بالتآمر رغم أنّنا كنّا ندرك من محرّضكم وحاميكم ودافعكم بل مسخّركم.
نصرناكم بأن واصلنا نضالنا ضدّ الطاغية ولم ننصّبكم طاغية بدل الطاغية، عكس ما فعلتم.
نصرناكم بأن دعوناكم إلى الحوار، وإلى التآخي، وأن تنظروا في أنفسكم وخوالجكم وبأن مددنا لكم اليد المرّة بعد المرّة رغم هرجكم ومرجكم وتجنّيكم.
وأذكر أنّني خاطبت البعض منكم مطلع الثمانينات أدعوكم إلى الانضمام إلى جهدنا السرّي نبعث به الفرع التّونسي لمنظّمة العفو الدّولية فرفضوا واستخفّوا وثلبوا.
ثمّ نصرناكم مظلومين بأن ذدنا عنكم، وحمينا من استطعنا حمايته منكم، ولم نناوئكم لنكافئكم على مؤازرة الطاغية ضدّنا... دافعنا عنكم هنا وهناك في الغرب الذي فرّ إليه غالبيتكم... وأسندناكم وفتحنا لكم الأبواب ما استطعنا إليه سبيلا... ولم نتصدّ لكم إلاّ بالفكر والحوار والردّ على دعاويكم بالكلم الطيّب، لا باليد ولا بالترويح الظالم قذفا بالحجارة وقذفا بالألفاظ النابية والتهم المفبركة...
ونصرناكم إذ استقبلناكم وأنتم تعودون من مهاجركم القسرية والاختيارية فأكرمناكم وفتحنا أمامكم الشوارع والساحات والهيئات والقصبة...
ونصرناكم ظالمين بأن غضضنا الطرف عن مناوراتكم ولم نركّز نظرنا على تكتيكاتكم الساعية إلى الهيمنة، وسكتنا عنكم رغم أنّنا اِنتبهنا إليكم تدخلون الهيئات حينما تشاؤون وتخرجون منها كلّما شعرتم بالحرج أو لتفرضوا رأيا أو لتتفصّوا من التزام، ثمّ تعودون فأنتم تحضرون كلّما ناداكم غُنم اشتممتموه، وتغضبون كما تغضب الزوجة فتقصد منزل أبيها كلّما أربككم موقفكم أقليّة لا بدّ لها أن تتنازل... أمضيتم على ما تبيّن لكم صلاحه لكم أنتم لا صلاح الشعب والوطن، وتفصّيتم كلّما خيّل إليكم أنّ التزامكم لا يصلح بكم وإن صلح للشعب والوطن... تركتمونا ننظم ونهيّء ونخدم الانتخابات واِنتشرتم تجنّدون وتحشدون وتشتموننا...
ضممناكم إلينا إخوة وشركاء في بناء غد مشمس لنا جميعا، وتناديتم تنقضّون على الغد تبتغونه لكم وحدكم لا شريك لكم فيه إلاّ الطّماعون اللاهثون وراء فئات... رفعنا أصواتنا ضدّ المتمسّكين بسلطة بادت وحرّكنا الشوارع والدّروب وظللنا نحرس أحلام الشهداء والجرحى ونضع اللبنات الأولى لتحوّل أردناه سلميا صحيحا ثابتا وهادئا وللجميع، وهيّجتم علينا من يرمينا بالزيغ والكفر ويضربنا ويمنعنا ونصّبتم أئمّتكم  -وما هم بأئمة- كلاب فكر ينبحون كلّما عبّرنا وحتّى قبل أن نعبّر.
نصرناكم حتّى وأنتم تحصدون أصواتا كثيرة، وتتخلّون منذ الثواني الأولى لزحفكم غير الخالص، بل حتّى قبل ذلك، عن تعهّدات قطعتموها طوعا على أنفسكم وتنصبّون هذا خليفة وذاك أو ذاك رئيسا لكن صوريا، وتحوّلون الثورة عن أهدافها، وتنسحبون من تحالفات إلى تآلف، وتبنون عملا وقولا وادّعاء وتهريجا سلطة غاشمة لأيامنا القادمة... نصرناكم بسكوتنا عنكم وقبولنا بتصدّركم... نصرناكم بأن نبّهناكم وحذّرناكم ولم نناوئكم...
ونصرناكم وننصركم بأن تشبّثنا ونتشبّث بآمال  شعبنا ونادينا وننادي إلى تحقيق أهداف ثورته هو لا أهداف الساسة والمتربّصين بالغد يبتغونه نفوذا وسلطة وإن فسدت.
ونصرناكم بأن ظللنا بريئين حالمين لا نناور ولا نبيع رأينا وفكرنا ببهرج أو تنفّذ... لم نناور لا ضدّكم ولا معكم ولم نتهافت مثلكم على أجوارنا وغير أجوارنا شرقا وشمالا وفي أقصى الغرب نظهر لهم بياض أيدينا ونوايانا ولم نبحث عن دعم وسند إلاّ هنا وممّن لهم مصلحة في أن تستمرّ الثورة وتثبت... لم ننصّب أنفسنا ديبلوماسيين قبل الأوان ولم نقدّم شواهد الإخلاص ولم نحلف على أن نحافظ على الموازين والأمر الواقع ولم نتعهّد لأيّ كان بأيّ أمر لا خفية وسرّا ولا في العلن... وفعلتم...
ونصرناكم بأنّنا لم نركّز على ما فعلتم وتفعلون ؛ واكتفينا بالمناداة إلى أهداف الثورة، أهداف الكرامة والتنمية والحرّيات...
ونصرناكم وسننصركم بأن رفضنا ونستمرّ في رفضنا... رفض مجاراتكم ومحاباتكم والاصطفاف معكم...
نصرناكم وننصركم وسننصركم بفضح غيّكم وتجنّيكم وانصباب اهتمامكم على سلطة لا يهمّكم أن تكون ظلمة ونارا وريحا صرصرا...
وسننصركم ما دمتم ودام عهدكم الآتي... سننصركم بأن نتصدّى لكم منذ اللحظة ودائما كلّما أسأتم وناورتم وكذبتم ؛ وكلّما تهافتم تلقون بشباككم على توقنا إلى الشمس والأهازيج، وكلّما رأيناكم تصنعون لنا قيودا جديدة وتطوقوننا بجدران عزل كجدران العزل بل أنكى...
سننصركم بأن نقول لكم أحسنتم إن حدث أن أحسنتم ولو قليلا.
وسننصركم بأن نناديكم إلى الصالح العام كلّما أعمى بصيرتكم صالحكم أنتم دون الصالح العام.
وسننصركم بأن نتشبّث بحقّنا في ملء الشوارع كلّما عنّ لنا، وبأن نغنّي كلّما حلا لنا الغناء وأن نصرخ كلّما لم يبق أمامنا إلا الصّراخ...
سننصركم بأن لا نهدأ وأن لا نستكين وأن لا نمنح ثقتنا إلاّ ببرهان بل براهين...
سننصركم بمراقبتكم ومعاتبتكم وإثنائكم وكشف ألاعيبكم وفضح ازدواجية خطابكم بل تناقضاته...
لن نهتمّ بمن هو الرئيس ولا بمدى صلاحياته التي ضبطتموها له وقبلها (ولعلّ خير ما عبّر عن واقع الرئاسة أنّ الخليفة السادس وصفها وهو يخرج من قبّة التهافت بأنّها رئاسة بالنّيابة !)
ولن يهمّنا من هم الوزراء وكتاب الدّولة، والمحرّكون من خلف السّتر... لن تهمّنا إلاّ أفعالكم وتشريعاتكم ودستوركم الذي ستصنعون...
سننصركم بأن نذكّركم كلّ حين ولحظة بأنّ عليكم أن تنخلعوا وتنصرفوا ليس بعد حين بل بعد عام أو عام ونيف، وأن لا أحد ولا الصناديق قد نصّبتكم على البلاد والصدور لأكثر من عام أو عام ونيّف...
سننصركم بأن نضحك منكم وعليكم على تهافتكم وتمترسكم وبدعِكم (أفليس تنصيب رئيس مؤقت للجمهورية دون ضبط أجل دقيق لرئاسته بدعة ؟! وأليس الإعلان عن الحاكم الأكبر حتّى قبل فرز الأصوات بدعة ؟! أو ليس التكالب على ما تخالونه مغانم بدعة؟! أوليس اغتصابكم للكلمات بدعة ؟! انظروا ما فعلتم بكلمات كالوفاق الذي حوّلتموه اصطفافا بهيما، والديمقراطية والأغلبية وقد حوّلتموهما استبدادا وتفرّدا، وتمثيل الشعب الذي حوّلتموه إقصاء للشعب الذي هو وحده السلطة الأصلية وسيّد نفسه، والحقّ في التظاهر الذي حوّلتموه خيانة ترتكبها حثالة...)
سننصركم وننصركم وننصركم...
سننصركم بأن لا نصبر عليكم 23 سنة...
سنراقبكم وننبّهكم ونغنّي ونصرخ ونتنادى ونتجاوز عسرنا ونبني بشكل أفضل ونصلح ما بأنفسنا، وبأن لا نهاب ولا نخشى ولا نهلع...
ثورة شعبنا –شبابنا-شاباتنا نزعت من قلوبنا الخوف.
ولن يعود الخوف إلى أفئدتنا أبدا.
"غاز، كرتوش، التوانسة ما يخافوش"
"لا خوف، لا رعب، السلطة ملك الشعب".
سننصركم كما ننصركم. ولكم أن تختاروا.
سندعمكم كلّما صلح رأيكم وأصغيتم. وسندعمكم بصدّكم والتصدّي لكم كلّما تماديتم في غيّكم وفي اغتيال أزهارنا...
ولن تخضعونا... لن تخدّرونا لا بالكلمات ولا بالترويع...
ولن نقبل بأن تنقلبوا علينا كما انقلب المخلوع على بيانه...
لن نسكت ولن نستكين ولن نخدع ! 

قسما : لن نسكت ولن نستكين ولن نخدع !

ملاحظة : كتب صباح الثلاثاء 13 ديسمبر 2011 بعد النّصب وقبل التنصيب.

14 déc. 2011

هيمنوا باكرا وهاهم ينكشفون باكرا !

نشرت بجريدة المغرب
                                                                                              يوم الإربعاء 30 نوفمبر 2011

صديقي القادم من أرياف المكناسي كان يصرّ دائما على أن تكون لقاءاتنا مبكرة. وكان تفسيره لذلك أن جده رباه على التبكير منذ طفولته  : كان بين المنزل والمدرسة الابتدائية شوط كبير... وكان الجد يوقظ حفيده والنجم القطبي ما يزال يتلألأ  ("يقومني م النجمة" هكذا كان صديقي يقول) ويقول له : "ديمه امش بكري باش تروح بكري" (اذهب باكرا تعد باكرا)...
تذكرت صديقي وطرفته هذه الأيام وأنا أرى المتسترين بالدين والناطقين باسم الرب، دون أن يستظهروا في ذلك بتفويض، يتهافتون على الناس في شوارعهم ومدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم ومعارضهم والإذاعات ينهرونهم ويملون عليهم ادعاءاتهم ويغتالون قيم المواطنة التي بدؤوا يكتسبونها ويرومون جرّ الجميع –إن خدعة بمعسول الكلام أو بالوعيد بسوء المآل- إلى أن يستووا مجرد رعايا تنقاد وفقا لهوى الخليفة وأولياء الخليفة وسدنة بيت الخليفة...
كما تذكرت صديقي وطرفته وأنا أتابع شطحات سياسيين رمتهم في مجلسنا التأسيسي الصدفة وجدها، أو الصدفة مدعومة من خبراء قدموا من غرب ومن شرق وفي جيبهم أمر بأن يغدو الربيع جحيما ومع الأمر البخور والطلاسم وحتى النقود...
سياسيون أتقنوا لعبة الغش والمغالطة والبهتان فهم يؤكدون الشيء ونقيضه وينفون ما أكدوه ثم يؤكدون ما نفوه، ويعطون لألسنتهم كل الحقوق ويصدرون الفتاوي، ويشرّعون كما يحلو لهم، ثم ينهالون شتيمة وسبا وتقريعا وقدحا على كل من تحدثه نفسه بأن يجادلهم أو يخالفهم الرأي أو يعارض الصباغ القاتمة التي يريدون أن تخيّم على حياتنا... سياسيون يكيدون ليلهم ونهارهم تعلقت هممهم بأن يصنعوا لذواتهم غير البهيّة كراسي وعروشا يريدونها ثابتة.
فيتآمرون على التأسيسي يحولونه غرفة تسجيل تصفق لارساء تسلط لا شرعي، ولا قانوني ولا معقول و –حاشا وكلا !- أن يكون ربانيا، أو صالون نقاش شكلي حسمت خواتمه قبل حتى أن تحرر أوراقه بل تسوّد... سياسيون أغراهم الجاه وأغواهم النفوذ وحوّلتهم المفاجأة فاجعة لأمهاتنا-بناتنا-نسائنا ولمستقبلنا، وفتحت لهم الثورة وأضاحيها الأمل واسعا –حرية وكرامة وعدلا وتنمية- فتدافعوا يسدون أبواب الأمل ويفتعلون لشوارعنا المديدة ولساحاتنا الفسيحة ولدروبنا التي لا نهاية لها نهايات وجدران فصل وحواجز غزة... سياسيون لم يصبروا علينا حتى قدر ما صبر سابقوهم فخاتلوا من منطلقهم صناديق الاقتراع بمعسول الوعود، ثم هرعوا يبسطون شباكهم في الجوامع والمساجد ووسائل الإعلام، ويوثقون شبكاتهم شرقا وغربا، ونصبوا أنفسهم قيادات عليا وحكاما باسم الله وسلاطين ليس لأحد حتى أن ينصحهم... سياسيون أحكموا بعد وثاقنا إذ سلطوا أتابعهم –ومنهم قادمون من متاهات مختلفة ومفاسد شتى- على الناس يهتكون أعراضهم ويروعونهم على القنوات والمواقع، وأطلقوا إلى ذلك العنان لحناجرهم ولأقلام أجّروها أو أجّرتهم ليتباكوا مشتكين ومستثيرين الشفقة بزعم أن من لا يخنع ولا يخضع إنما هو المكر والكفر عينهما والمدعي الكذاب والمصر إلحاحا على شق الناس قطبين لا يلتقيان... سياسيون لم يمهلونا حتى قدر ما أمهلنا المخلوع لما ارتقى سدة الحكم فناور وغالط وتمهل.
تذكرت صديقي وطرفة صديقي وأنا أرى صبايا وفتيانا كنت سعدت بلقياهم في القصبة وسيدي بوزيد وفي الشارعين الكبيرين وأمام سفارة مصر لم تحرر بعد وعلى شاشات الحواسيب، فراشات من كل لون وعصافير تغرد بأعذب الألحان وعزائم تتصدى لكل الأغوال وتنزاح أمامه أعتى الجبال يراودهم الإحباط لتنصل ألوان أجنحتهم وتجتاح الظلمة جوانحهم، ويتحول شعرهم مراثي، ويعمي زغاريدهم ويطمس أناشيدهم نعيق الشؤم...
تذكرت صديقي وطرفة صديقي وأنا أعاين أحاديثنا وتطلعاتنا وآمالنا قد انقلبت واضمحلت وتشوهت، فبعد أن كنا نحلم بالأفضل والأنصع والأعدل والأبهى والأقرب إلى إنسانية  الإنسان ونعد العدة لكي نحلق ونطير في أفق أرحب وسماء أصفى، ها أننا غدونا نجتر هلعنا وسيء توقعاتنا ونحسب حساب الخسارة ونهيء أنفسنا للأعتم والأقسى... وبعد أن كنا نعدو نحو آت رأيناه جميلا وملونا وفيه مساواة وتآخ وأنغام عذبة وقدر روضناه، ها أننا أصبحنا نبحث عن كوى تهبنا بصيص نور... وبعد أن كنا نتآزر شبابا وشيبا ونغني للعرب ولغير العرب، لكل العالمين، أهزوجة الثورة المثلى الفاتحة لحقب لم تعرفها البشرية من قبل، ها أننا وقعنا في جب لا قاع له إلا القرون الخوالي كما حلم بها مفتو هذا الزمان وفتواته...
تذكرت صديقي وطرفة صديقي وأنا المعروف بتفاؤلي واستيطان البسمة لقسماتي قد غدوت ألم علامات البشر بملعقة قهوة : ها هو المجتمع المدني يتجند من أول يوم... ها هي حتى الحكومة المؤقتة تضيق ذرعا مما تراه من ترهات وضيق مطامح فيعلن سي الباجي، رئيسها عن غضبه وخلافه استقالة قبل الأوان وتنديدا وإن متخفيا... ها هي الكتابات المقاومة تتواتر... ها هم الشعراء والفنانون والمسرحيون يصمدون... ها هي الجمعيات المناضلة تستعيد عنفوانها... ها هم جماعة المدونين وصاحبات الشبكة ينهضون ويكابدون ويتحدون ولا ينقادون لليأس... ها هم بعض من في التأسيسي يستأسدون... ها هي الجهات تستذكر ديسمبرها وجانفيها... ها هي روافد الثورة تنساب هادئة رصينة، متحضرة، هدارة، مدرارة، حبلى... وها هم أولئك يزدادون صلفا وعنجهية فينفضحون كل يوم أزيد... وها هم تتأمل كلامهم وتقرأ مشاريعهم لتنظيم أيامنا الآتية فلا تجد ما يستجيب لما نادى به الشباب، ولا ترى إلا عجبا عجابا : تخل عن إنسانية الإنسان، وانسحاب من الأرض تشملنا جميعا ونهواها جميعا ونتقاسمها  جميعا إلى معزل الهوية ضيقة ومتهالكة ومغلوطا فهمها، وانقلاب على توقنا للحريات كاملة وغير مقيدة لا بقانون ولا بفتوى ولا بنهي ولا بأمر، وليس سوى الحب واحترام الآخر، واغتيال لبسمات أطفالنا، ولانطلاقة شبابنا ولتصالح الأجيال الأكبر مع ذواتها، وردة على اندفاعنا شعبا يعمل بل يكدّ ويفكر ويغني ويبدع ويصلي  كما يشاء، وإصرار على تشييد عرش جديد متسلط ومهيمن ومتفرد وأصم ومطلق.
تذكرت صديقي وطرفة صديقي، وأنا أنزلق إلى عتمة ثقيلة أراها تخنق أنفاسنا، تحسب علينا خطاوينا تتهمنا بما ليس فينا، تصيب آخر العام ألقنا الذي اكتسبناه أول العام بعمى الألوان والضوء وطرش الأهازيج، وتحيلنا فرادى وجماعات إلى محاكم تفتيش جديدة.
تذكرت طرفة صديقي فاندلع في قلبي شعاع وفاضت في روحي قناعة: "لقد بدؤوا باكرا لينزاحوا باكرا!".  

3 déc. 2011




                                                                                     الصادق بن مهني
                                                                                     2 ديسمبر 2011

قدرنا أن نصمُدَ. وسنصمد.
قدرنا أن نُناضل. وسنناضل.
قدرنا أن نعاني ونتعب ونضحّي.
قدرنا أن نعاند قدَرَنا.
قدرنا أن نجعل قدرنَا ينقادُ إلينا مرّة أخرى ولا ينقطع عن الاستجابة  لإرادتنا.
سيشتموننا ويهينوننا ويعتدون على الحرمات ويسرقون فرحنا  ويهدمون أحلامنا ويستأثرون بالقرار ويدّعون العصمة ويحاسبوننا باسم الربّ وينسبوننا إلى الكفر والبهتان ويلصقون بنا كلّ ما هو متأصّل فيهم من دمغجة وتسلّط...
بل إنّهم فعلوا ويفعلون : شتمونا ويشتموننا، أهانونا ويهينوننا، اعتدوا على الحرمات ويعتدون، سرقوا كثيرا من فرحتنا ومازالوا يسرقون، هدموا نسق أحلامنا ولم يكفّوا، اِستأثروا بالقرار وادّعوا لا تمثيل الشعب وحده بل قالوا أنّهم يوحى إليهم، ناوروا وكذبوا ونوّعوا الأساليب والعبارات ولم يتردّدوا يوما في نفي التأكيد وتأكيد الخطإ دون تسميته أي وسمه بأنّه عمل أو قول غير موفّق وكفى، ثمّالعودة إلى نفي نفي التأكيد، ولوّنوا مغالطاتهم وعلّوا أصواتهم ترهيبا، وتهافتوا على التلفزات والإذاعات والصحف يشبعوننا تقريعا، ويجنّدون الأقلام والألسن لتتّهمنا بما ليس فينا ولتنزّههم وتبيّض أقوالهم وتبثّ دعاويهم وتشيع كيدهم...
وهم إن استأثروا بالسلطة، ومن الأرجح أنّهم سيستأثرون، سيضربوننا بالهراوات ويسمّموننا بالغازات، ويمنعون عنّا الشوارع والساحات، ويكمّمون أفواهنا ويكسرون أقلامنا، ولوحات حواسيبنا ويدفعون بنا إلى ظلمات السراديب، وسيجرحون بل وسيغتالون حتّى الكثير منّا... إنّهم طاعون لا طعم ولا صوت ولا رائحة له، قدموا من عورات ذاك الذي انخلع لم يجد القرى إلاّ لدى مراجعهم ومثلهم الأعلى.
إنّهم ريح صرصر يريد لها أسياد من الغرب وخدم أسياد شرقيون أن تعصف بياسميننا وأن تئد ربيعنا زهرة بعد زهرة وأخضر بعد أخضر، وأن تلقي بنا في غياهب جلابيب تدّعي البياض وبراقع تنشر الحلكة ويتآزر جميعها مع أحذية مرتفعة الأثمان وسترات عسكرية تفضح أصلها وتؤشّر عمّا يعتزمونه لنا من ترويع وإخماد...
إنّهم جهلوتٌ يدّعي أنّه ينفرد بالحكمة والأصلح والأصليّ... إنّهم مسيْلَمةُ ينسج من كلماتنا شباكا تقيّدنا، ويخيّلون للناس أنّهم الأغلبية وأنّهم إنّما صعدوا بالديمقراطية وصندوق الاقتراع وتمثيلهم للشعب... ثمّ ينفخون في طبولهم ويدقّ عليها مأجورون هنا في بلدنا هذا الوديع وهناك في شرق لا يحبّنا سادته ومفتوه، وفي غرب همّه أن لا نبلغَ من الإدراك ما يزاحمه... ثمّ يرصدون لنا كلّ من هبّ ودبّ من فاسدين يتستّرون هربا من المساءلة وحتّى يستمرّوا في فسادهم، ومن طامعين في جاه أو مال أو غطاء يعوّضهم ما كان لهم من جاه أو مال أو غطاء من عهد نريد أن يندثر إلى الأبد ولا يهمّهم أن يبقى ويتضخّم مادام الصولجان-ولو زائفا- في أيديهم...
نعم، إنّهم سيغوون الشّعب أو كثيرا منه... بل إنّهم سيرصدون لنا حتّى بعضا منّا ممّا لم ينزعوا الخوف من قلوبهم، ومن المهادنين الطماعين، ومن القائلين بالمثل السّاقط "أخطى رأسي واِضرب"، وممّن هوايتهم التمسّك بسرابات الصحارى...
بلى، إنّهم سيستأسدون  بل سيتغوّلون كلّ يوم أكثر، وسنراهم يمضون نحو مغالاة لا حدّ لها في صلفهم وادّعائهم وبهتانهم، وستشتدّ شراستهم... وسريعا ما سيبثّون عنفا متخفّيا يدفعونه في السّتر ويلعنونه علنا لكن بعبارات تقبل تآويلهم وإن تكن متضاربة وشتّى...
إنّهم لحظة تاريخية صعبةٌ قدّت في مخابر خَبَرَتْهم وانقادوا إلى علمها... إنّهم ضعفنا ومهادنتنا وما انكسر فينا  طوال نصف قرن أو أكثر عُوِّدنا خلاله على القبول بما هو أقلّ سوءا وعلى أن نخنق أصواتنا طلبا للبقاء وعلى أن نقصّ أجنحتنا بأيدينا حتّى لا نُرَى نحلّق فتقصف أعمارنا...
إنّهم أقوى بلغتهم وفتاويهم وسراباتهم ووعودهم الجوفاء..
ونحن أضعف لأنّنا وإن كنّا صدى الآتي وتباشير الشمس الوضّاءة، ومستقبل المستقبل مازلنا لم نحذق الخطو الثابت، ولم ننزع منّا ما بُثّ فينا من جزع ومن تشتّت ومن تناحر الإخوة ومن براءة طفلية...    
لكنّهم الماضي يتشبّثون به، يتعلّقون بستره، يصخون إلى وحيه وأضغاثه ؛ ونحن المستقبل، نحن التوثّب، نحن الصّفاء...
لكنّهم فقهوا بعدُ كلّ شيء وكفّوا عن أن يتعلّموا ؛ ونحن نحبو، نتدرّب، نتطلّع ونزداد كلّ يوم كفاءة.
إنّهم يعدّون لنا الهراوات وصراخهم على كلّ صاحب سؤال لا يودّونه، ووعيدهم لكلّ من ليس منهم أو هو منهم ولكن بشيء من الاختلاف... إنّهم أصحاب التحالفات الهشّة والمفبركة والمضلّلة والطّمّاعة... إنّهم المتكالبون على النفوذ وعلى التاريخ وعلى مطامح الشباب وعلى المناصب والعروش ؛ ونحن شبابنا غنّى ويغنّي للحريّة / شاباتنا يهزجن بقَسَم الحياة الحلوة ونداءات المساواة والعدل والتنمية الحقّة التي لن تكون إلاّ بعرقنا ومن كدّنا تحدّي جهاتنا المتراكم من عشريات بل قرون / حَنقُ فنَانينا ومسرحيينا وكتّابنا وبحاثينا المشرّشين في وطنهم والباسقة فروعهم في سماءِ الأرض كلّها/-عزم نسائنا اللواتي يصنعن يومنا، يصدحن في مظاهراتنا، يهبن فلذات أكبادهنّ، يعشقن الفرح ويقدّسن إنسانيتهنّ كاملة ويربّيننا على العطاء وحبّ البقاء والمداومة...
قدَرُنا أن نصمد وأن نناضل وأن نبذل بسخاء.
وسنصمد ونناضل ونقاوم ونبذل بسخاء.
دَمُنا، أنفاسُنا، صِغارنا، كبارنا، فتياتنا، شيوخنا، أحلامنا، برامجنا لحياتنا، كلّها فداء لنصر قادم، قادم لا محالة !
سنصمد ولن نركع.
سنصمد ولن ننخذل... لا لأصحاب اللحى القديمة ولا لأصحاب اللحى المتنامية ولا للحجب المتطاولة على الأنوار والصّفاء !
فلتجتمعوا علينا من كلّ أرهاط وكلّ تجنّ وكلّ زيف وكلّ بطلان.
ولتتمترسوا وراء المدّعين والباغين... ولتزيدوا أحزاننا علينا وعلى الوطن وعليكم بني الوطن الخاسرين... ولكن لتعلموا، ولتتأكّدوا : لن نخنع ولن نغادر كما غادرتم ولن نهرب منكم كما هربتم ولن نضع أيدينا في غير أيادينا...
وكما الشّمس تطلع كلّ صباح سنفاجئكم، سندحر جحافل الجهل والظلماء وسنحنو عليكن ولن نقسوا-لن نثأر-لن نغدر-لن نحجب-لن نحبس-لن نعزل...
سنطلع لكم من كلّ الساحات والثنايا ومن كلّ معهد وكليّة ومشفى ومصنع، ينطلع لكم من الحقول والغابات ؛ سنطلع لكم من أفئدتنا وعزمنا وفرحنا وشدّة إيماننا بالآتي بهيّا ؛ سنطلع لكم بحناجرنا لا تسكت عن هتافها، وقبضات أيدينا تؤشر للنصر، وصناديق سنستردّها ؛ سنطلع لكم بدون عنفكم، بدون أن نكون أضرابا لكم بل نقيضا دائما حريصا ونظيفا...
لن ننتظركم نصف قرن أو عشرين سنة... لن نصبر عليكم...
قدرُنا أن نغلب حتّى القدر.
قدرنا أن يغلب النّور الدياجير، كل الدّياجير وإن تحالفت وتكاتفت.
وستنهزمون، تنهزمون وتندحرون لأنّ هزيمتكم فيكم، هزيمتكم فيكم، هزيمتكم فيكم !