14 déc. 2011

هيمنوا باكرا وهاهم ينكشفون باكرا !

نشرت بجريدة المغرب
                                                                                              يوم الإربعاء 30 نوفمبر 2011

صديقي القادم من أرياف المكناسي كان يصرّ دائما على أن تكون لقاءاتنا مبكرة. وكان تفسيره لذلك أن جده رباه على التبكير منذ طفولته  : كان بين المنزل والمدرسة الابتدائية شوط كبير... وكان الجد يوقظ حفيده والنجم القطبي ما يزال يتلألأ  ("يقومني م النجمة" هكذا كان صديقي يقول) ويقول له : "ديمه امش بكري باش تروح بكري" (اذهب باكرا تعد باكرا)...
تذكرت صديقي وطرفته هذه الأيام وأنا أرى المتسترين بالدين والناطقين باسم الرب، دون أن يستظهروا في ذلك بتفويض، يتهافتون على الناس في شوارعهم ومدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم ومعارضهم والإذاعات ينهرونهم ويملون عليهم ادعاءاتهم ويغتالون قيم المواطنة التي بدؤوا يكتسبونها ويرومون جرّ الجميع –إن خدعة بمعسول الكلام أو بالوعيد بسوء المآل- إلى أن يستووا مجرد رعايا تنقاد وفقا لهوى الخليفة وأولياء الخليفة وسدنة بيت الخليفة...
كما تذكرت صديقي وطرفته وأنا أتابع شطحات سياسيين رمتهم في مجلسنا التأسيسي الصدفة وجدها، أو الصدفة مدعومة من خبراء قدموا من غرب ومن شرق وفي جيبهم أمر بأن يغدو الربيع جحيما ومع الأمر البخور والطلاسم وحتى النقود...
سياسيون أتقنوا لعبة الغش والمغالطة والبهتان فهم يؤكدون الشيء ونقيضه وينفون ما أكدوه ثم يؤكدون ما نفوه، ويعطون لألسنتهم كل الحقوق ويصدرون الفتاوي، ويشرّعون كما يحلو لهم، ثم ينهالون شتيمة وسبا وتقريعا وقدحا على كل من تحدثه نفسه بأن يجادلهم أو يخالفهم الرأي أو يعارض الصباغ القاتمة التي يريدون أن تخيّم على حياتنا... سياسيون يكيدون ليلهم ونهارهم تعلقت هممهم بأن يصنعوا لذواتهم غير البهيّة كراسي وعروشا يريدونها ثابتة.
فيتآمرون على التأسيسي يحولونه غرفة تسجيل تصفق لارساء تسلط لا شرعي، ولا قانوني ولا معقول و –حاشا وكلا !- أن يكون ربانيا، أو صالون نقاش شكلي حسمت خواتمه قبل حتى أن تحرر أوراقه بل تسوّد... سياسيون أغراهم الجاه وأغواهم النفوذ وحوّلتهم المفاجأة فاجعة لأمهاتنا-بناتنا-نسائنا ولمستقبلنا، وفتحت لهم الثورة وأضاحيها الأمل واسعا –حرية وكرامة وعدلا وتنمية- فتدافعوا يسدون أبواب الأمل ويفتعلون لشوارعنا المديدة ولساحاتنا الفسيحة ولدروبنا التي لا نهاية لها نهايات وجدران فصل وحواجز غزة... سياسيون لم يصبروا علينا حتى قدر ما صبر سابقوهم فخاتلوا من منطلقهم صناديق الاقتراع بمعسول الوعود، ثم هرعوا يبسطون شباكهم في الجوامع والمساجد ووسائل الإعلام، ويوثقون شبكاتهم شرقا وغربا، ونصبوا أنفسهم قيادات عليا وحكاما باسم الله وسلاطين ليس لأحد حتى أن ينصحهم... سياسيون أحكموا بعد وثاقنا إذ سلطوا أتابعهم –ومنهم قادمون من متاهات مختلفة ومفاسد شتى- على الناس يهتكون أعراضهم ويروعونهم على القنوات والمواقع، وأطلقوا إلى ذلك العنان لحناجرهم ولأقلام أجّروها أو أجّرتهم ليتباكوا مشتكين ومستثيرين الشفقة بزعم أن من لا يخنع ولا يخضع إنما هو المكر والكفر عينهما والمدعي الكذاب والمصر إلحاحا على شق الناس قطبين لا يلتقيان... سياسيون لم يمهلونا حتى قدر ما أمهلنا المخلوع لما ارتقى سدة الحكم فناور وغالط وتمهل.
تذكرت صديقي وطرفة صديقي وأنا أرى صبايا وفتيانا كنت سعدت بلقياهم في القصبة وسيدي بوزيد وفي الشارعين الكبيرين وأمام سفارة مصر لم تحرر بعد وعلى شاشات الحواسيب، فراشات من كل لون وعصافير تغرد بأعذب الألحان وعزائم تتصدى لكل الأغوال وتنزاح أمامه أعتى الجبال يراودهم الإحباط لتنصل ألوان أجنحتهم وتجتاح الظلمة جوانحهم، ويتحول شعرهم مراثي، ويعمي زغاريدهم ويطمس أناشيدهم نعيق الشؤم...
تذكرت صديقي وطرفة صديقي وأنا أعاين أحاديثنا وتطلعاتنا وآمالنا قد انقلبت واضمحلت وتشوهت، فبعد أن كنا نحلم بالأفضل والأنصع والأعدل والأبهى والأقرب إلى إنسانية  الإنسان ونعد العدة لكي نحلق ونطير في أفق أرحب وسماء أصفى، ها أننا غدونا نجتر هلعنا وسيء توقعاتنا ونحسب حساب الخسارة ونهيء أنفسنا للأعتم والأقسى... وبعد أن كنا نعدو نحو آت رأيناه جميلا وملونا وفيه مساواة وتآخ وأنغام عذبة وقدر روضناه، ها أننا أصبحنا نبحث عن كوى تهبنا بصيص نور... وبعد أن كنا نتآزر شبابا وشيبا ونغني للعرب ولغير العرب، لكل العالمين، أهزوجة الثورة المثلى الفاتحة لحقب لم تعرفها البشرية من قبل، ها أننا وقعنا في جب لا قاع له إلا القرون الخوالي كما حلم بها مفتو هذا الزمان وفتواته...
تذكرت صديقي وطرفة صديقي وأنا المعروف بتفاؤلي واستيطان البسمة لقسماتي قد غدوت ألم علامات البشر بملعقة قهوة : ها هو المجتمع المدني يتجند من أول يوم... ها هي حتى الحكومة المؤقتة تضيق ذرعا مما تراه من ترهات وضيق مطامح فيعلن سي الباجي، رئيسها عن غضبه وخلافه استقالة قبل الأوان وتنديدا وإن متخفيا... ها هي الكتابات المقاومة تتواتر... ها هم الشعراء والفنانون والمسرحيون يصمدون... ها هي الجمعيات المناضلة تستعيد عنفوانها... ها هم جماعة المدونين وصاحبات الشبكة ينهضون ويكابدون ويتحدون ولا ينقادون لليأس... ها هم بعض من في التأسيسي يستأسدون... ها هي الجهات تستذكر ديسمبرها وجانفيها... ها هي روافد الثورة تنساب هادئة رصينة، متحضرة، هدارة، مدرارة، حبلى... وها هم أولئك يزدادون صلفا وعنجهية فينفضحون كل يوم أزيد... وها هم تتأمل كلامهم وتقرأ مشاريعهم لتنظيم أيامنا الآتية فلا تجد ما يستجيب لما نادى به الشباب، ولا ترى إلا عجبا عجابا : تخل عن إنسانية الإنسان، وانسحاب من الأرض تشملنا جميعا ونهواها جميعا ونتقاسمها  جميعا إلى معزل الهوية ضيقة ومتهالكة ومغلوطا فهمها، وانقلاب على توقنا للحريات كاملة وغير مقيدة لا بقانون ولا بفتوى ولا بنهي ولا بأمر، وليس سوى الحب واحترام الآخر، واغتيال لبسمات أطفالنا، ولانطلاقة شبابنا ولتصالح الأجيال الأكبر مع ذواتها، وردة على اندفاعنا شعبا يعمل بل يكدّ ويفكر ويغني ويبدع ويصلي  كما يشاء، وإصرار على تشييد عرش جديد متسلط ومهيمن ومتفرد وأصم ومطلق.
تذكرت صديقي وطرفة صديقي، وأنا أنزلق إلى عتمة ثقيلة أراها تخنق أنفاسنا، تحسب علينا خطاوينا تتهمنا بما ليس فينا، تصيب آخر العام ألقنا الذي اكتسبناه أول العام بعمى الألوان والضوء وطرش الأهازيج، وتحيلنا فرادى وجماعات إلى محاكم تفتيش جديدة.
تذكرت طرفة صديقي فاندلع في قلبي شعاع وفاضت في روحي قناعة: "لقد بدؤوا باكرا لينزاحوا باكرا!".  

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire