7 janv. 2013

لا تدعوا جربة تندب حظّها



تستقبلكم جربة بطقس ربيعيّ يتحدّى «دجنبر» ويدعو إلى الشواطئ ونزهات صيد الأسماك... تستهويك غابة «مزراية» منذ ليلتك الأولى بهدوئها وبالضّياء الشفّاف الذي يقهر الفضاءات الفارغة والمسافات فيُظهر الزياتين وأعشاش النّخل التي ما تنفكّ تتباعد نهارا وكأنّها غابة كثيفة متراصّة لكن في كثير من الرّفق... ويلحّ ولدك على أن يسارع بتجربة زورقه المطّاطيّ فتجد في شاطئ سيدي الحشّاني ما يصطادك ويلقي عليك بشباكه فلا تعود تروم انتهاء النّهار: يأسرك بهاء البحر، ويسحرك بياض كثبان الرّمل الفاصل بين الأزرق ـ اللاّزوردي وبين بنيّ السبخاء، وترحل بك الذاكرة إلى أيّام الصّبا وأنت مع شلّة الأقارب والأصدقاء تقدمون سيرا أو على البغال أو الدرّاجات فتقضّون يوميْن أو ثلاثة تتحدّون ما كان يبدو لكم يمّا شديد الخطر وتتعلّمون شيئا من الاعتماد على النّفس فعلى الصّحبة في مأكلكم ومنامكم وفي تعاملكم مع محيط لم تألفوه...
وترتاحون من ضغط الأيّام المتسارعة التي تعيشونها منذ عامين فتتجاهلون التلفاز والمذياع وتغالبون جاذبية الانترنات... غير أنّ الأحداث تشاء غير ما شئتم، فتتسارع وتتكثّف ويبلغكم صداها فلا تستطيعون له صدّا...
هذه جربة الهادئة ـ المضيافة ـ البديعة ـ الوديعة ـ الرّائعة ـ اليسيرة ـ البشيرة ـ الكريمة ـ رحبة الصّدر ـ الوثيرة ـ قبلة الزوار ـ ملجأ الفارّين على مدى التّاريخ والحضن الدافئ للمستضعفين والأقليات والباحثين على الخروج من العوز... هذه جربة تغدو مفازة للغدر والضّنك والضّيم والعنف والعدوان والتجنّي واستعراض القوّة والإفك وتقطيع أوصال الماضي وبتر معالم المستقبل... هذه جربة التي فرحنا لأنّها ظلّت تحافظ على حدّ من جاذبيتها وأفلحت في أن تلفلف تناقضات شاغليها وفردت جناحيها للجميع: من يعتبر نفسه وأهليه متأصّلين، ومن قدموا على امتداد القرنين الماضيين، وحديثو القدوم من الباحثين عن شغل وعن طيب المقام، جربة هذه تتحوّل بين عشيّة وضحاها، بل في أيّام أطول إذا ما نحن لم ننس جهد الإعداد إلى حلبة، إلى مفازة، إلى ساحة وغى: يهجم فيها التونسيّ على أخيه التونسيّ وأخته التونسيّة وعلى أطفال تونس، ويزبد ويرغي ويشتم ويضرب ويكسّر ويتجنّى ويصنع لنفسه بطولات من الافتراء على النّاس ومن المنع والبتر والقمع وتكميم الأفواه وكبت الاختلاف...
هذه جربة التي كانت تتبختر في خيلاء لأنّها بلد المسلم ـ مسلمين، هذا إباضيّ وهذا مالكيّ وهذا حنفيّ وهذا بين هذا وذاك أو بين ذاك والآخر، والآخر آخذ من كلّ شيء بطرف حسب الحاجة والاجتهاد وفي أمان لا يكدّره مكدّر... وبلد اليهوديّ، هذا من الحارة الكبيرة والآخر مختلف عنه بعض شيء إذ هو من ديغت ـ الحارة الصغيرة جارة الغريبة مجمّعة أهل تونس بل أهل المغرب كلّه من القائلين بدين موسى.. وبلد المسيحيّ ـ مسيحيين من أتباع الكاتدرائيّة، ومسيحيين أورثودوكس أجدادهم قدموا من بلاد أثينا أو من صخرة مالطا أو من الباحثين عن الدفء من سكّان أوروبا... جربة هذه تطأطأ برأسها لا حياء بل خجلا وتصيبها الرعدة لا خوفا بل إحساسا بالذّنب وحتّى بالمهانة...
جربة التي لم تعرف المطر هذا العام تتلبّد الأفق فيها حلكةً فيها القتامة وفيها رائحة الدّم...
وتنطلق الأفواه في كلّ مكان لا همسا بل جهارا: هم لم يتظاهروا بل اعتدوا، لم يحتجّوا بل أهانوا وعنّفوا، لم يتصدّوا بل هاجموا وتعدّوا... هم أرهاط قدموا بل جُلبوا من كلّ حدب وصوب... هم خليط من منحرفين وقوّادين و«متشعبطين» ومن قفّافي شُعب العهد الذي انخلع رأسه... لقد شُحنوا وهُيّجوا وجُنّدوا تجنيدا.. منهم بعض أبناء البلد ممّن تخفّوا بعد انخلاع رأسهم وسلكوا المسالك المهجورة هلعا وخوفا وحتّى ينساهم النّاس، وها هم اليوم يطلعون على الملإ حماةً لإرث ليس إرثهم وجنودا في جيش كانوا حاربوه..
ولا يقف حبل الأحاديث والتأكيدات والتوقّعات: الأمن كان غائبا.. عدد رجال الأمن كان دون المطلوب... من رجال الأمن من تواطأ... سبق الهجوم تخطيط محكم.. يوجد مخيّم أقيم في ناحية ما من الجزيرة آوى أناسا اِستُقدموا للحدث وتدرّبوا عليه... الجوامع والمساجد جيّشت النّاس...
سيتكلّم الكثير منّا في المقاهي والمآتم وما تبقّى من أفراح صغيرة وسيكتب بعضُنا على الصفحات الاجتماعيّة، ثمّ سيعود كلّ منّا إلى شؤونه الصّغيرة وينسى أو يتناسى الشأن العام ويبذل الجهد كلّ الجهد ليطرد من ذاكرته ما حدث، وسيعاودنا إغراقنا في الابتذال بحثا عن حليب لا لأنها نحتاجه بل لأنّه شحّ، أو عن «عركة» مع جار لا لأنّه اعتدى علينا بل لنرشّ شيئا من الملح على أيّامنا الباهتة...
ومثلما رأينا الإيطاليين والمالطيين والإغريق يرحلون، ومثلما رأينا أبناء شعبنا من اليهود يقعون في فخاخ الصهيونيّة أو يهاجرون إلى أوروبا بحثا عن حياة أفضل وعن مناعة أطفالهم... ومثلما نرى أباضيينا وغير إباضيينا يُحملون ـ بعضا بعد بعض ـ على الاصطفاف وراء اختيار يدّعي احتكار الحقيقة كلّها بل جوهر الدّين كلّه، سنرى الباقين يُجرّون إلى الدّين الواحد والفكر الواحد والولاء الواحد والخليفة الأوحد، وسيتحوّل فرحنا باكتساب الحقّ في المواطنة واجبا وحقوقا إلى كآبة الإذعان للسلطة الربانيّة التي لا نقاش لأحكام مستبدّيها..
عشّاق جربة يُنشدون دوما ببطولاتها القديمة: وهبت امبراطورا لروما وإن لأيّام قليلة، اِختصّت بصنع صباغ كساء الامبراطور، ظلّت تزوّد تونس كلّها بل وربوعا ومدنا أخرى من المتوسّط بزيت الزيتون حتّى في الحقب التي كادت إفريقية خلالها تنسى زراعة الزيتون، واجهت الغزاة مرّة ومرّة ومرّة وصنعت من جماجم الأعداء برجا سيظلّ التّاريخ يذكره حتّى وقد قُبرت الجماجم والعظام، حافظت على الدّوام على نوع من الاستقلال حتّى متى كانت ضريبة ذلك دفع الجزية والأداءات مضاعفة لتونس والأستانة، انقسمت بين مقاوم للاحتلال وبين مناور براغماتي ثمّ اتّحدت ضدّه، وانقسمت بين بورقيبة وبن يوسف لكنّها سرعان ما تجاوزت، التزمت دوما بحميميّة دنيا ولم تفقد خصوصيّة انغلاق أهل الجزر لكنّها في نفس الآن ومعا عرفت كيف تتفتّح على الدّنيا فأصبحت مقصد السوّاح من كلّ الأصقاع، وقبلة الباحثين عن شغل وكرامة وشيء من بذخ العيش من كلّ جهات تونس... ولكنّ الإنشاد يبدو وكأنّه بلغ مداه، بل منتهاه!
فلقد أصبح من المرجّح والمحتمل جدّا أنّ جربة ستدخل التّاريخ هذه المرّة على أنّها كانت محطّة مفصليّة في بسط نفوذ الاستبداد الجديد... صحيح أنّها لم تعرف سحل تطاوين ولا رشّ سليانة ولا غازات قابس وقفصة! لكنّها كشفت عن تنظيم محكم وتجييش ناجع وحبكة في الإخراج وصلف في المقال وإصرار على المواصلة.
لا تدعوا جربة تندب حظّها! انقذوها بل انقذوا الوطن! كلّ حسب ما هو مؤهّل له، وكلّنا مؤهّلون لفعلٍ ما.

4 janv. 2013

بلد المتوّثبين الى الابهى مقال صادر في ضد السلطة بتاريخ 5 جانفي 2013


كنّا في الصّالة بين الكتب والجرائد والحواسيب والتّلفاز- كلّ منهمك فيما يقرأ وجزء من سمعه يتابع الحوار – العراك...
قالت :"مرّة أخرى يتأكّد أنّ الجواسيس والبوليس السّياسي  و" الصّبّابة " كانوا في كلّ مكان ... ألا ترون كم عرّضنا أنفسنا للأخطار وكم غفلنا ،أحيانا كثيرة ،عن أن نحمي بعضنا بعضا ؟ "
وهي تنضمّ إلينا، على حين غفلة ،علّقت لينا:" بل أعتقد أنّه كان في وسعنا، بل في وسع التّوانسة جميعا ،أن يفعلوا أكثر ممّا فعلوه ،وأن يبدؤوا المقاومة باكرا ، وأن لا يخشوا "الصّبّابة " والمخبرين والقمع بتاتا ... لقد ثبت أنّ كلّ هذه الأجهزة والشّبكات سرعان ما يجرفها التّاريخ بشرط انهيار حاجز الخوف أو تدجين النّاس لخشيتهم وهلعهم ..."
في العدد السّابق من " ضدّ السّلطة " كتبت أنّني  "أرى تونس تُونسيْن  : واحدة تبلع والأخرى تبتلع ."...أنا أعتقد أنّ الأحداث الجارية لا تفعل سوى أن تؤكّد ذلك كلّ يوم بل كلّ ساعة ...كما يخيّل لي أنّ أناسا كثيرين انتبهوا أو استفاقوا أو هم بدؤوا ينتبهون ويستفيقون ...
فلنقل الآن إنّ تونس انشطرت تُونسَيْن : واحدة تَبْلَعُ وتَبْتَلِع، والأخرى تُبْلَعُ وتُبْتَلَعُ،
الأولى تستثري وتستكرش وتنشر حبائلها وشباكها وشبكاتها ، وتستقوي بكلّ ما أوتيت من مناورات ودسائس وتحالفات (حتّى مع الشّيطان بل مع الشّياطين جميعا وأتباع الشّياطين كلّهم )...وهي تكشف كلّ يوم أكثر صلفها وعنجهيّتها واستهتارها...لكنّها تحقّق كلّ يوم تقدّماعلى درب بسط نفوذها المطلق وسلطتها الاستبدادية وتحكّمها الجائر في مصائر الأجيال القادمة وفي رقاب النّاس جميعا .. وهي تفرض في "التّأسيسي" الذي لم تعد له صلة بالتّأسيس الحقّ ، قرارات نهب المال العامّ تعويضات وأجورا خيالية ... وهي تمسك كلّ يوم أكثر بالسّلط جميعها فتحتكرها وتجمّعها وتسخّرها تسخيرا ...وهي تغالط كما شاءت ، وتضرب كما شاءت ،وتدّعي كما شاءت ، وتتعامل كما شاءت ومع من شاءت ...وتطوّع القوانين والشّريعة والأخلاق كما شاءت...
أمّا الثّانية فهي تعاني كلّ يوم أكثر ...وهي تتشظّى وتتباين وتختلف وتتوه وتنساق كلّ يوم أكثر ...هؤلاء تشغلهم الأسعار وتضاؤل الدّخل وشحّ الموادّ (وأغلب الشّحّ مفتعل) ويلهثون وراء شغل أوّل أو ثان أو وراء"تدبير الرّأس"ببيع أو شراء أو حيلة ...وأولئك يتصدّون بإضراب أو اعتصام أو جوع أو مناداة لكنّ مطامحهم تظلّ جزئيّة ومباشرة كما أنّهم يظلّون بعيدا عن إدراك السّائر والصّائر والمتحوّل ...والنّخب السّياسية ما تزال مصدومة من أنّ ما حدث في البلاد حدث  خارج إرادتها وخارج رؤيتها تلهث وراء المسك بخيوط سبقها إلى المسك بها هؤلاء القادمون من فنادق الخليج وإقامات أوروبا حيث استراحوا واستأثروا وتدرّبوا وتحنّكوا ومن معهم من شركاء كانوا مرتاحين في الظّلّ يقبضون الإعانات والهبات وينتظرون ساعتهم ...النّخب السّياسية ما تزال تغازل متنفّذين انزاح الزّمن عنهم وانخلع رأس سلطتهم ومتنفّذين جددا كم خدعهم كلامهم المعسول عن اعتدال تسلّل إليهم ...وقلّة أغلبهم في الجمعيّات واللّجان وينشطون أساسا خارج الأحزاب يجهدون النّفس ليبقوا وليستديموا تونس السّمحة التي صنعوها أيّام ديسمبر 2010 وجانفي وفيفري ومارس وأفريل 2011 ويقاومون ...غير أنّهم لم يعودوا يحلمون بالقمر والضّياء وقوس قزح بل يكتفون بالقليل :أن يبقوا وأن لايضطهدوا وأن لا يهوي بلدهم إلى العتمة ...
فتونس الثّانية إذن تونسان هي أيضا ، بل ثلاث :
- تونس العامّة –الجمهور- المحرومون –الكادّون – الجهات الدّاخلية – طوق المدن – وهؤلاء يلهثون وراء العيش –اكتووا بنار الخيبة –أفرحتهم الهبّة وسرّهم انخلاع رأس السّلطة لكنّهم لم يعودوا يرون آمالهم في طريقها إلى أن تتحقّق ...هؤلاء سيصطفّون أو ينسحبون-  سيهادنون ويشترون أو يخافون – وسيخبو البريق في عيونهم وينعقد العقال مجدّدا حول ألسنتهم ، وبعضهم سينتظرون فرصة أخرى أو وجعا لا يطاق وضيقا يكتم المعدة والأنفاس لينفجروا – لينفجروا كما اتّفق ...
- وتونس الأحزاب والهيئات وأصحاب الاختصاص وذوو المهن الذين ما انفكّوا يناورون ويداورون همّهم الأوّل الاستقرار –استقرار حالهم ، والذين يرفضون أن يروا الواقع والإبداع ...وغالبية منهم ينصبّ همّهم الأوّل على افتعال العلل لتبرير صمتهم ومهادنتهم في الزّمن الماضي لكنّهم لا ينتبهون إلى أنّهم يصمتون ويهادنون ويختلقون لأنفسهم الأعذار في الزّمن الرّديء هذا أيضا .
َ
-وتونس الشّابات والشّبّان الذين أخذتهم النّخوة لأنّهم أبدعوا انتصارا ...ثم كاد يغلبهم الانكسار لأنّ انتصارهم سرعان ما اختلس منهم ...لكنّهم عازمون لم يفلّ فيهم التّخويف ولا التّرهيب ولا ما اعتراهم أحيانا من خيبات وهؤلاء هم الذين سيواجهون البلع والابتلاع ، وسيجرّون تونس معهم تونس وتونس وتونس فيدحرون معا الاستبداد والاستغباء ...وهم لن يكتفوا هذه المرّة بانخلاع رأس النّظام بل لن يهدؤوا إلّا بعد أن يسقط النّظام كلّه ...هؤلاء هم النّاهضون –المتوثُبون دوما إلى الأبهى ...