29 déc. 2011

يومنا عسر...وعلينا أن نهيء لغدنا الواعد وإن تاخر !

الصادق بن مهني  08 ديسمبر 2011


الثورات كلها لا تنجز ولا تتم مرة واحدة.الثورات كلها دروب فيها شوك كثير وحفر ونتوءات وتعرجات وتأكد عودة إلى الوراء. الثورات كلها بحار فيها المد والجزر والرياح العاتية والتيارات المعاكسة. الثورات كلها يصنعها الغضب والتعب والقحط والتوق إلى الأعدل والأفضل، لكن أغلب  الثورات لا تنتهي إلى خير، أو لا تنتهي سريعا إلى خير ولا تحقق غاياتها، أو لا تدرك كل غاياتها. ومن الثورات التي تهب أشرعتها توقا إلى الحرية وتحقيق إنسانية الإنسان ثورات تنتهي خطواتها الأولى بأنظمة أشد استبدادا تستبدل لون الماضي وشكله ولسانه لكن لتحتفظ بطبعها الشرس والقامع والمذل والمعطل...
وكما يمكر الإنسان، ويمكر القدر، ويمكر الزمن، يحدث أن تمكر الثورات... وكما تراوح الشمس بين شروق وغروب، ويراوح النبت بين نماء وسبات، ها هي ثورتنا، بعد أن راوحت منذ 14 جانفي حتى انتصاب التأسيسي بين مد وجزر ومد تنسحب إلى مرحلة جزر وجزر وجزر... ويخفت المد فيها إلا من ارتعاشات خفيفة تؤشر لقادم أبهى، وتتشهد على بقاء الروح صامدة وفي توثب...
لقد خرجوا من جحورهم، واستفاق من كان منهم في سبات غيرأن الأزمان التي لا يرونها إلا ثابتة...لقد كشروا عن أنيابهم وها هي مخالبهم يشهرونها في وجوهنا سيوفا قاطعة... لقد أطلقوا عنان ألسنتهم سياطا تلسع صدور بناتنا -  أبنائنا، وارتفع عويلهم – صراخهم – نعيقهم يصم الآذان ويغطي على أهازيجنا ... انظروا كيف يتهالكون على كراسي قادتهم إليها الصدفة الماكرة وحدها وكأنهم في محل استرخاء... وانظروا إلى زعاماتهم – المعروفة والتي تتنافس لتبرز – كيف يندلع الشرر من عيونهم وكيف لا ينطقون إلا ليتهكموا ويسبوا ويفرضوا...
وانظروهم طواويس تستأسد وتنفش ريشها ... وانظروا بعض نسائهم تنسى في أي دار هي وتندلع واقفة تناصر ذويها صراخا وتطاولا ... واسمعوهم في كل الإذاعات والمنابر والتلفزات يغزونها منددين بأن الآخرين يستفردون بها، وآخذين بتكتيك و"ضربني وبكى، سبقني وشكى"... وانظروهم ينتهكون حرمات الجامعات ضجيجا وعويلا على انتهاك مزعوم لحرماتهم وتابعوهم في الفايس بوك قذارة وثلبا وخساسة هم الزاعمون أنهم حملة الطاهر الذي لا يأتيه الباطل أبدا ... وتابعوهم كيف يدفعون  ليدفعوا ويجيشون ويكذبون ويهيئون للتطاحن ويبنون جدران العزل بين الناس : أولئك كفرة ومن في صفنا نحجز لهم في الجنة ... واسمعوهم لا يتورعون عن ألفاظ كالحرب الأهلية يستدعونها صارخين أن الآخرين هم الدعاة، يهيجون الشبيبة ويتقولون عن المتظاهرين العزل إلا من تشبثهم بأحلامهم أنهم مثيرو شغب ومحترفو تهييج وعملاء فرنسا ... فيما هم يجعلون زمن التأسيسي حلبة عراك واستعراض عضلات وألسنة ويدعون لا تمثيل للشعب فحسب بل أنّهم هم الشعب !
 مكروا بالناس ... مكروا بأنفسهم ... مكروا بالثورة : أهدافها وتضحياتها ونداءات المحرومين واستغاثات الجرحى وهموم البطّالين ...
مكروا وانقادوا إلى شهوتهم يستعجلون شد وثاق السّلطات منيعا حتى لا تفلت من بين أيديهم لا اليوم ولا غدا، وتآزروا – وهم شتّى وعلى خلاف – ينصبون أنفسهم أوصياء على الناس جميعا أن ينحنوا لوصايتهم، غالبين على الناس جميعا أن يركعوا قدامهم، غالبية على الأقلية أن تخضع لهم، ديمقراطيين يتعين علينا كلنا أن نصمت في حضرتهم لا جدال ولا حوار ولا كلاما ...
مكروا واشتد بهم الصّلف، وتآخوا مع الصّفاقة وتهيؤوا لإخضاعنا ...
 وإنني لأرانا – أراكم نقاد – تقتادون إلى مخافر كالمخافر وإلى إيذاء كالإيذاء وإلى تعديات كالتعديات ... وإنني لأرانا – أراكم في شوارع بين الماشي والماشي فيها مساحات، يخيم عليها الثقل والسماكة والحراسات العديدة ...
 وإنني لأراكم – أرانا في عتمة أعتم من عتمة ... وإنني لأسمع حوافر مدرعات وأتبين كمامات، وأحسنا-أحسكم تنهال علينا هراوات، وتدمع عيوننا غازات خلنا أنها غدت من الماضي ... وإنّني لأخشى أن أرى مرة أخرى دموعا وأحزانا دكناء وحتى الأحمر الغالي يسفك ...
مكروا ومكروا ومكروا ... وصعب أن ينثنوا عن مكرهم ... فنشوة اللامتوقع وسكر اللامنتظر يجعلان المرء يهذي ويختال ويخال نفسه محصنا، والسّلطة التي أعمت بصيرتهم بمجرد أن اقتربوا منها ستذهب بكل قيمهم وتعهداتهم وما تبقى من أخلاقهم من لحظة انقضاضهم على عصيّها ودواليبها ...
مكروا ومكرهم شديد ... فهم معنا بألسنتهم وأحجامهم لكنن عقلهم هنالك عند السلطة، هنالك حيث النفوذ، وأيديهم تمسك منذ اليوم بل الأمس بحركاتنا تشلها وبأحلامنا تخنقها ...
هم يفعلون: يخططون – أو يخطط لهم – ويبرمجون ويفعلون .
 ونحن لا نفعل سوى أن نرد الفعل . نرى الأفق ولكننا لا نرسم دربنا إلى الأفق .
 قدرهم أن جاءت ثورة فخطفوها . وقدرنا أن شبابنا – شاباتنا اجترحوا ثورة فضيعناها . وقدرهم أن يتهالكوا على السلطة حتى يهلكونا ... قدرهم أن تهلكهم السلطة التي تهالكوا عليها. وأن ينهلكوا ...
 وقدرنا أن نصمد . قدرنا أن نقاوم .قدرنا أن نرجئ مرة أخرى معانقتنا لحلمنا الجميل وأن يبتعد عنا مرة أخرى غدنا الآتي .
فغدنا الواعد آت لا محالة، آت لا محالة .
علينا فقط أن نعرف هذه المرّة كيف نمضي نحوه، كيف نمسك به، وكيف لا ندعهم يسرقونه منا

17 déc. 2011

ننصركم ظالمين ومظلومين وظالمين !

صدر بجريدة الموقف يوم 17 ديسمبر

نصرناكم وننصركم وسننصركم.
نصرناكم وننصركم وسننصركم ظالمين ومظلومين وظالمين.
نصرناكم ظالمين وأنتم "تغزون" الجامعة، تتسرّبون إلى مفاصلها في سبعينات القرن الماضي ثمّ في ثمانيناته.
نصرناكم بأن تصدّينا نفسّر ونشرح ونعلّل ونفضح ونناقش ونحاور.
نصرناكم بأن لم نعاملكم إلاّ باللين، ثمّ بالصّبر على عنفكم والإصرار على أن لا نفعل أكثر من أن نتصدّى كلّما هاجمتم.
نصرناكم بأن تغاضينا عن تحالفاتكم غير البريئة ولم نصفكم لا بالعمالة ولا بخيانة الشعب ولا بالتآمر رغم أنّنا كنّا ندرك من محرّضكم وحاميكم ودافعكم بل مسخّركم.
نصرناكم بأن واصلنا نضالنا ضدّ الطاغية ولم ننصّبكم طاغية بدل الطاغية، عكس ما فعلتم.
نصرناكم بأن دعوناكم إلى الحوار، وإلى التآخي، وأن تنظروا في أنفسكم وخوالجكم وبأن مددنا لكم اليد المرّة بعد المرّة رغم هرجكم ومرجكم وتجنّيكم.
وأذكر أنّني خاطبت البعض منكم مطلع الثمانينات أدعوكم إلى الانضمام إلى جهدنا السرّي نبعث به الفرع التّونسي لمنظّمة العفو الدّولية فرفضوا واستخفّوا وثلبوا.
ثمّ نصرناكم مظلومين بأن ذدنا عنكم، وحمينا من استطعنا حمايته منكم، ولم نناوئكم لنكافئكم على مؤازرة الطاغية ضدّنا... دافعنا عنكم هنا وهناك في الغرب الذي فرّ إليه غالبيتكم... وأسندناكم وفتحنا لكم الأبواب ما استطعنا إليه سبيلا... ولم نتصدّ لكم إلاّ بالفكر والحوار والردّ على دعاويكم بالكلم الطيّب، لا باليد ولا بالترويح الظالم قذفا بالحجارة وقذفا بالألفاظ النابية والتهم المفبركة...
ونصرناكم إذ استقبلناكم وأنتم تعودون من مهاجركم القسرية والاختيارية فأكرمناكم وفتحنا أمامكم الشوارع والساحات والهيئات والقصبة...
ونصرناكم ظالمين بأن غضضنا الطرف عن مناوراتكم ولم نركّز نظرنا على تكتيكاتكم الساعية إلى الهيمنة، وسكتنا عنكم رغم أنّنا اِنتبهنا إليكم تدخلون الهيئات حينما تشاؤون وتخرجون منها كلّما شعرتم بالحرج أو لتفرضوا رأيا أو لتتفصّوا من التزام، ثمّ تعودون فأنتم تحضرون كلّما ناداكم غُنم اشتممتموه، وتغضبون كما تغضب الزوجة فتقصد منزل أبيها كلّما أربككم موقفكم أقليّة لا بدّ لها أن تتنازل... أمضيتم على ما تبيّن لكم صلاحه لكم أنتم لا صلاح الشعب والوطن، وتفصّيتم كلّما خيّل إليكم أنّ التزامكم لا يصلح بكم وإن صلح للشعب والوطن... تركتمونا ننظم ونهيّء ونخدم الانتخابات واِنتشرتم تجنّدون وتحشدون وتشتموننا...
ضممناكم إلينا إخوة وشركاء في بناء غد مشمس لنا جميعا، وتناديتم تنقضّون على الغد تبتغونه لكم وحدكم لا شريك لكم فيه إلاّ الطّماعون اللاهثون وراء فئات... رفعنا أصواتنا ضدّ المتمسّكين بسلطة بادت وحرّكنا الشوارع والدّروب وظللنا نحرس أحلام الشهداء والجرحى ونضع اللبنات الأولى لتحوّل أردناه سلميا صحيحا ثابتا وهادئا وللجميع، وهيّجتم علينا من يرمينا بالزيغ والكفر ويضربنا ويمنعنا ونصّبتم أئمّتكم  -وما هم بأئمة- كلاب فكر ينبحون كلّما عبّرنا وحتّى قبل أن نعبّر.
نصرناكم حتّى وأنتم تحصدون أصواتا كثيرة، وتتخلّون منذ الثواني الأولى لزحفكم غير الخالص، بل حتّى قبل ذلك، عن تعهّدات قطعتموها طوعا على أنفسكم وتنصبّون هذا خليفة وذاك أو ذاك رئيسا لكن صوريا، وتحوّلون الثورة عن أهدافها، وتنسحبون من تحالفات إلى تآلف، وتبنون عملا وقولا وادّعاء وتهريجا سلطة غاشمة لأيامنا القادمة... نصرناكم بسكوتنا عنكم وقبولنا بتصدّركم... نصرناكم بأن نبّهناكم وحذّرناكم ولم نناوئكم...
ونصرناكم وننصركم بأن تشبّثنا ونتشبّث بآمال  شعبنا ونادينا وننادي إلى تحقيق أهداف ثورته هو لا أهداف الساسة والمتربّصين بالغد يبتغونه نفوذا وسلطة وإن فسدت.
ونصرناكم بأن ظللنا بريئين حالمين لا نناور ولا نبيع رأينا وفكرنا ببهرج أو تنفّذ... لم نناور لا ضدّكم ولا معكم ولم نتهافت مثلكم على أجوارنا وغير أجوارنا شرقا وشمالا وفي أقصى الغرب نظهر لهم بياض أيدينا ونوايانا ولم نبحث عن دعم وسند إلاّ هنا وممّن لهم مصلحة في أن تستمرّ الثورة وتثبت... لم ننصّب أنفسنا ديبلوماسيين قبل الأوان ولم نقدّم شواهد الإخلاص ولم نحلف على أن نحافظ على الموازين والأمر الواقع ولم نتعهّد لأيّ كان بأيّ أمر لا خفية وسرّا ولا في العلن... وفعلتم...
ونصرناكم بأنّنا لم نركّز على ما فعلتم وتفعلون ؛ واكتفينا بالمناداة إلى أهداف الثورة، أهداف الكرامة والتنمية والحرّيات...
ونصرناكم وسننصركم بأن رفضنا ونستمرّ في رفضنا... رفض مجاراتكم ومحاباتكم والاصطفاف معكم...
نصرناكم وننصركم وسننصركم بفضح غيّكم وتجنّيكم وانصباب اهتمامكم على سلطة لا يهمّكم أن تكون ظلمة ونارا وريحا صرصرا...
وسننصركم ما دمتم ودام عهدكم الآتي... سننصركم بأن نتصدّى لكم منذ اللحظة ودائما كلّما أسأتم وناورتم وكذبتم ؛ وكلّما تهافتم تلقون بشباككم على توقنا إلى الشمس والأهازيج، وكلّما رأيناكم تصنعون لنا قيودا جديدة وتطوقوننا بجدران عزل كجدران العزل بل أنكى...
سننصركم بأن نقول لكم أحسنتم إن حدث أن أحسنتم ولو قليلا.
وسننصركم بأن نناديكم إلى الصالح العام كلّما أعمى بصيرتكم صالحكم أنتم دون الصالح العام.
وسننصركم بأن نتشبّث بحقّنا في ملء الشوارع كلّما عنّ لنا، وبأن نغنّي كلّما حلا لنا الغناء وأن نصرخ كلّما لم يبق أمامنا إلا الصّراخ...
سننصركم بأن لا نهدأ وأن لا نستكين وأن لا نمنح ثقتنا إلاّ ببرهان بل براهين...
سننصركم بمراقبتكم ومعاتبتكم وإثنائكم وكشف ألاعيبكم وفضح ازدواجية خطابكم بل تناقضاته...
لن نهتمّ بمن هو الرئيس ولا بمدى صلاحياته التي ضبطتموها له وقبلها (ولعلّ خير ما عبّر عن واقع الرئاسة أنّ الخليفة السادس وصفها وهو يخرج من قبّة التهافت بأنّها رئاسة بالنّيابة !)
ولن يهمّنا من هم الوزراء وكتاب الدّولة، والمحرّكون من خلف السّتر... لن تهمّنا إلاّ أفعالكم وتشريعاتكم ودستوركم الذي ستصنعون...
سننصركم بأن نذكّركم كلّ حين ولحظة بأنّ عليكم أن تنخلعوا وتنصرفوا ليس بعد حين بل بعد عام أو عام ونيف، وأن لا أحد ولا الصناديق قد نصّبتكم على البلاد والصدور لأكثر من عام أو عام ونيّف...
سننصركم بأن نضحك منكم وعليكم على تهافتكم وتمترسكم وبدعِكم (أفليس تنصيب رئيس مؤقت للجمهورية دون ضبط أجل دقيق لرئاسته بدعة ؟! وأليس الإعلان عن الحاكم الأكبر حتّى قبل فرز الأصوات بدعة ؟! أو ليس التكالب على ما تخالونه مغانم بدعة؟! أوليس اغتصابكم للكلمات بدعة ؟! انظروا ما فعلتم بكلمات كالوفاق الذي حوّلتموه اصطفافا بهيما، والديمقراطية والأغلبية وقد حوّلتموهما استبدادا وتفرّدا، وتمثيل الشعب الذي حوّلتموه إقصاء للشعب الذي هو وحده السلطة الأصلية وسيّد نفسه، والحقّ في التظاهر الذي حوّلتموه خيانة ترتكبها حثالة...)
سننصركم وننصركم وننصركم...
سننصركم بأن لا نصبر عليكم 23 سنة...
سنراقبكم وننبّهكم ونغنّي ونصرخ ونتنادى ونتجاوز عسرنا ونبني بشكل أفضل ونصلح ما بأنفسنا، وبأن لا نهاب ولا نخشى ولا نهلع...
ثورة شعبنا –شبابنا-شاباتنا نزعت من قلوبنا الخوف.
ولن يعود الخوف إلى أفئدتنا أبدا.
"غاز، كرتوش، التوانسة ما يخافوش"
"لا خوف، لا رعب، السلطة ملك الشعب".
سننصركم كما ننصركم. ولكم أن تختاروا.
سندعمكم كلّما صلح رأيكم وأصغيتم. وسندعمكم بصدّكم والتصدّي لكم كلّما تماديتم في غيّكم وفي اغتيال أزهارنا...
ولن تخضعونا... لن تخدّرونا لا بالكلمات ولا بالترويع...
ولن نقبل بأن تنقلبوا علينا كما انقلب المخلوع على بيانه...
لن نسكت ولن نستكين ولن نخدع ! 

قسما : لن نسكت ولن نستكين ولن نخدع !

ملاحظة : كتب صباح الثلاثاء 13 ديسمبر 2011 بعد النّصب وقبل التنصيب.

14 déc. 2011

هيمنوا باكرا وهاهم ينكشفون باكرا !

نشرت بجريدة المغرب
                                                                                              يوم الإربعاء 30 نوفمبر 2011

صديقي القادم من أرياف المكناسي كان يصرّ دائما على أن تكون لقاءاتنا مبكرة. وكان تفسيره لذلك أن جده رباه على التبكير منذ طفولته  : كان بين المنزل والمدرسة الابتدائية شوط كبير... وكان الجد يوقظ حفيده والنجم القطبي ما يزال يتلألأ  ("يقومني م النجمة" هكذا كان صديقي يقول) ويقول له : "ديمه امش بكري باش تروح بكري" (اذهب باكرا تعد باكرا)...
تذكرت صديقي وطرفته هذه الأيام وأنا أرى المتسترين بالدين والناطقين باسم الرب، دون أن يستظهروا في ذلك بتفويض، يتهافتون على الناس في شوارعهم ومدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم ومعارضهم والإذاعات ينهرونهم ويملون عليهم ادعاءاتهم ويغتالون قيم المواطنة التي بدؤوا يكتسبونها ويرومون جرّ الجميع –إن خدعة بمعسول الكلام أو بالوعيد بسوء المآل- إلى أن يستووا مجرد رعايا تنقاد وفقا لهوى الخليفة وأولياء الخليفة وسدنة بيت الخليفة...
كما تذكرت صديقي وطرفته وأنا أتابع شطحات سياسيين رمتهم في مجلسنا التأسيسي الصدفة وجدها، أو الصدفة مدعومة من خبراء قدموا من غرب ومن شرق وفي جيبهم أمر بأن يغدو الربيع جحيما ومع الأمر البخور والطلاسم وحتى النقود...
سياسيون أتقنوا لعبة الغش والمغالطة والبهتان فهم يؤكدون الشيء ونقيضه وينفون ما أكدوه ثم يؤكدون ما نفوه، ويعطون لألسنتهم كل الحقوق ويصدرون الفتاوي، ويشرّعون كما يحلو لهم، ثم ينهالون شتيمة وسبا وتقريعا وقدحا على كل من تحدثه نفسه بأن يجادلهم أو يخالفهم الرأي أو يعارض الصباغ القاتمة التي يريدون أن تخيّم على حياتنا... سياسيون يكيدون ليلهم ونهارهم تعلقت هممهم بأن يصنعوا لذواتهم غير البهيّة كراسي وعروشا يريدونها ثابتة.
فيتآمرون على التأسيسي يحولونه غرفة تسجيل تصفق لارساء تسلط لا شرعي، ولا قانوني ولا معقول و –حاشا وكلا !- أن يكون ربانيا، أو صالون نقاش شكلي حسمت خواتمه قبل حتى أن تحرر أوراقه بل تسوّد... سياسيون أغراهم الجاه وأغواهم النفوذ وحوّلتهم المفاجأة فاجعة لأمهاتنا-بناتنا-نسائنا ولمستقبلنا، وفتحت لهم الثورة وأضاحيها الأمل واسعا –حرية وكرامة وعدلا وتنمية- فتدافعوا يسدون أبواب الأمل ويفتعلون لشوارعنا المديدة ولساحاتنا الفسيحة ولدروبنا التي لا نهاية لها نهايات وجدران فصل وحواجز غزة... سياسيون لم يصبروا علينا حتى قدر ما صبر سابقوهم فخاتلوا من منطلقهم صناديق الاقتراع بمعسول الوعود، ثم هرعوا يبسطون شباكهم في الجوامع والمساجد ووسائل الإعلام، ويوثقون شبكاتهم شرقا وغربا، ونصبوا أنفسهم قيادات عليا وحكاما باسم الله وسلاطين ليس لأحد حتى أن ينصحهم... سياسيون أحكموا بعد وثاقنا إذ سلطوا أتابعهم –ومنهم قادمون من متاهات مختلفة ومفاسد شتى- على الناس يهتكون أعراضهم ويروعونهم على القنوات والمواقع، وأطلقوا إلى ذلك العنان لحناجرهم ولأقلام أجّروها أو أجّرتهم ليتباكوا مشتكين ومستثيرين الشفقة بزعم أن من لا يخنع ولا يخضع إنما هو المكر والكفر عينهما والمدعي الكذاب والمصر إلحاحا على شق الناس قطبين لا يلتقيان... سياسيون لم يمهلونا حتى قدر ما أمهلنا المخلوع لما ارتقى سدة الحكم فناور وغالط وتمهل.
تذكرت صديقي وطرفة صديقي وأنا أرى صبايا وفتيانا كنت سعدت بلقياهم في القصبة وسيدي بوزيد وفي الشارعين الكبيرين وأمام سفارة مصر لم تحرر بعد وعلى شاشات الحواسيب، فراشات من كل لون وعصافير تغرد بأعذب الألحان وعزائم تتصدى لكل الأغوال وتنزاح أمامه أعتى الجبال يراودهم الإحباط لتنصل ألوان أجنحتهم وتجتاح الظلمة جوانحهم، ويتحول شعرهم مراثي، ويعمي زغاريدهم ويطمس أناشيدهم نعيق الشؤم...
تذكرت صديقي وطرفة صديقي وأنا أعاين أحاديثنا وتطلعاتنا وآمالنا قد انقلبت واضمحلت وتشوهت، فبعد أن كنا نحلم بالأفضل والأنصع والأعدل والأبهى والأقرب إلى إنسانية  الإنسان ونعد العدة لكي نحلق ونطير في أفق أرحب وسماء أصفى، ها أننا غدونا نجتر هلعنا وسيء توقعاتنا ونحسب حساب الخسارة ونهيء أنفسنا للأعتم والأقسى... وبعد أن كنا نعدو نحو آت رأيناه جميلا وملونا وفيه مساواة وتآخ وأنغام عذبة وقدر روضناه، ها أننا أصبحنا نبحث عن كوى تهبنا بصيص نور... وبعد أن كنا نتآزر شبابا وشيبا ونغني للعرب ولغير العرب، لكل العالمين، أهزوجة الثورة المثلى الفاتحة لحقب لم تعرفها البشرية من قبل، ها أننا وقعنا في جب لا قاع له إلا القرون الخوالي كما حلم بها مفتو هذا الزمان وفتواته...
تذكرت صديقي وطرفة صديقي وأنا المعروف بتفاؤلي واستيطان البسمة لقسماتي قد غدوت ألم علامات البشر بملعقة قهوة : ها هو المجتمع المدني يتجند من أول يوم... ها هي حتى الحكومة المؤقتة تضيق ذرعا مما تراه من ترهات وضيق مطامح فيعلن سي الباجي، رئيسها عن غضبه وخلافه استقالة قبل الأوان وتنديدا وإن متخفيا... ها هي الكتابات المقاومة تتواتر... ها هم الشعراء والفنانون والمسرحيون يصمدون... ها هي الجمعيات المناضلة تستعيد عنفوانها... ها هم جماعة المدونين وصاحبات الشبكة ينهضون ويكابدون ويتحدون ولا ينقادون لليأس... ها هم بعض من في التأسيسي يستأسدون... ها هي الجهات تستذكر ديسمبرها وجانفيها... ها هي روافد الثورة تنساب هادئة رصينة، متحضرة، هدارة، مدرارة، حبلى... وها هم أولئك يزدادون صلفا وعنجهية فينفضحون كل يوم أزيد... وها هم تتأمل كلامهم وتقرأ مشاريعهم لتنظيم أيامنا الآتية فلا تجد ما يستجيب لما نادى به الشباب، ولا ترى إلا عجبا عجابا : تخل عن إنسانية الإنسان، وانسحاب من الأرض تشملنا جميعا ونهواها جميعا ونتقاسمها  جميعا إلى معزل الهوية ضيقة ومتهالكة ومغلوطا فهمها، وانقلاب على توقنا للحريات كاملة وغير مقيدة لا بقانون ولا بفتوى ولا بنهي ولا بأمر، وليس سوى الحب واحترام الآخر، واغتيال لبسمات أطفالنا، ولانطلاقة شبابنا ولتصالح الأجيال الأكبر مع ذواتها، وردة على اندفاعنا شعبا يعمل بل يكدّ ويفكر ويغني ويبدع ويصلي  كما يشاء، وإصرار على تشييد عرش جديد متسلط ومهيمن ومتفرد وأصم ومطلق.
تذكرت صديقي وطرفة صديقي، وأنا أنزلق إلى عتمة ثقيلة أراها تخنق أنفاسنا، تحسب علينا خطاوينا تتهمنا بما ليس فينا، تصيب آخر العام ألقنا الذي اكتسبناه أول العام بعمى الألوان والضوء وطرش الأهازيج، وتحيلنا فرادى وجماعات إلى محاكم تفتيش جديدة.
تذكرت طرفة صديقي فاندلع في قلبي شعاع وفاضت في روحي قناعة: "لقد بدؤوا باكرا لينزاحوا باكرا!".  

3 déc. 2011




                                                                                     الصادق بن مهني
                                                                                     2 ديسمبر 2011

قدرنا أن نصمُدَ. وسنصمد.
قدرنا أن نُناضل. وسنناضل.
قدرنا أن نعاني ونتعب ونضحّي.
قدرنا أن نعاند قدَرَنا.
قدرنا أن نجعل قدرنَا ينقادُ إلينا مرّة أخرى ولا ينقطع عن الاستجابة  لإرادتنا.
سيشتموننا ويهينوننا ويعتدون على الحرمات ويسرقون فرحنا  ويهدمون أحلامنا ويستأثرون بالقرار ويدّعون العصمة ويحاسبوننا باسم الربّ وينسبوننا إلى الكفر والبهتان ويلصقون بنا كلّ ما هو متأصّل فيهم من دمغجة وتسلّط...
بل إنّهم فعلوا ويفعلون : شتمونا ويشتموننا، أهانونا ويهينوننا، اعتدوا على الحرمات ويعتدون، سرقوا كثيرا من فرحتنا ومازالوا يسرقون، هدموا نسق أحلامنا ولم يكفّوا، اِستأثروا بالقرار وادّعوا لا تمثيل الشعب وحده بل قالوا أنّهم يوحى إليهم، ناوروا وكذبوا ونوّعوا الأساليب والعبارات ولم يتردّدوا يوما في نفي التأكيد وتأكيد الخطإ دون تسميته أي وسمه بأنّه عمل أو قول غير موفّق وكفى، ثمّالعودة إلى نفي نفي التأكيد، ولوّنوا مغالطاتهم وعلّوا أصواتهم ترهيبا، وتهافتوا على التلفزات والإذاعات والصحف يشبعوننا تقريعا، ويجنّدون الأقلام والألسن لتتّهمنا بما ليس فينا ولتنزّههم وتبيّض أقوالهم وتبثّ دعاويهم وتشيع كيدهم...
وهم إن استأثروا بالسلطة، ومن الأرجح أنّهم سيستأثرون، سيضربوننا بالهراوات ويسمّموننا بالغازات، ويمنعون عنّا الشوارع والساحات، ويكمّمون أفواهنا ويكسرون أقلامنا، ولوحات حواسيبنا ويدفعون بنا إلى ظلمات السراديب، وسيجرحون بل وسيغتالون حتّى الكثير منّا... إنّهم طاعون لا طعم ولا صوت ولا رائحة له، قدموا من عورات ذاك الذي انخلع لم يجد القرى إلاّ لدى مراجعهم ومثلهم الأعلى.
إنّهم ريح صرصر يريد لها أسياد من الغرب وخدم أسياد شرقيون أن تعصف بياسميننا وأن تئد ربيعنا زهرة بعد زهرة وأخضر بعد أخضر، وأن تلقي بنا في غياهب جلابيب تدّعي البياض وبراقع تنشر الحلكة ويتآزر جميعها مع أحذية مرتفعة الأثمان وسترات عسكرية تفضح أصلها وتؤشّر عمّا يعتزمونه لنا من ترويع وإخماد...
إنّهم جهلوتٌ يدّعي أنّه ينفرد بالحكمة والأصلح والأصليّ... إنّهم مسيْلَمةُ ينسج من كلماتنا شباكا تقيّدنا، ويخيّلون للناس أنّهم الأغلبية وأنّهم إنّما صعدوا بالديمقراطية وصندوق الاقتراع وتمثيلهم للشعب... ثمّ ينفخون في طبولهم ويدقّ عليها مأجورون هنا في بلدنا هذا الوديع وهناك في شرق لا يحبّنا سادته ومفتوه، وفي غرب همّه أن لا نبلغَ من الإدراك ما يزاحمه... ثمّ يرصدون لنا كلّ من هبّ ودبّ من فاسدين يتستّرون هربا من المساءلة وحتّى يستمرّوا في فسادهم، ومن طامعين في جاه أو مال أو غطاء يعوّضهم ما كان لهم من جاه أو مال أو غطاء من عهد نريد أن يندثر إلى الأبد ولا يهمّهم أن يبقى ويتضخّم مادام الصولجان-ولو زائفا- في أيديهم...
نعم، إنّهم سيغوون الشّعب أو كثيرا منه... بل إنّهم سيرصدون لنا حتّى بعضا منّا ممّا لم ينزعوا الخوف من قلوبهم، ومن المهادنين الطماعين، ومن القائلين بالمثل السّاقط "أخطى رأسي واِضرب"، وممّن هوايتهم التمسّك بسرابات الصحارى...
بلى، إنّهم سيستأسدون  بل سيتغوّلون كلّ يوم أكثر، وسنراهم يمضون نحو مغالاة لا حدّ لها في صلفهم وادّعائهم وبهتانهم، وستشتدّ شراستهم... وسريعا ما سيبثّون عنفا متخفّيا يدفعونه في السّتر ويلعنونه علنا لكن بعبارات تقبل تآويلهم وإن تكن متضاربة وشتّى...
إنّهم لحظة تاريخية صعبةٌ قدّت في مخابر خَبَرَتْهم وانقادوا إلى علمها... إنّهم ضعفنا ومهادنتنا وما انكسر فينا  طوال نصف قرن أو أكثر عُوِّدنا خلاله على القبول بما هو أقلّ سوءا وعلى أن نخنق أصواتنا طلبا للبقاء وعلى أن نقصّ أجنحتنا بأيدينا حتّى لا نُرَى نحلّق فتقصف أعمارنا...
إنّهم أقوى بلغتهم وفتاويهم وسراباتهم ووعودهم الجوفاء..
ونحن أضعف لأنّنا وإن كنّا صدى الآتي وتباشير الشمس الوضّاءة، ومستقبل المستقبل مازلنا لم نحذق الخطو الثابت، ولم ننزع منّا ما بُثّ فينا من جزع ومن تشتّت ومن تناحر الإخوة ومن براءة طفلية...    
لكنّهم الماضي يتشبّثون به، يتعلّقون بستره، يصخون إلى وحيه وأضغاثه ؛ ونحن المستقبل، نحن التوثّب، نحن الصّفاء...
لكنّهم فقهوا بعدُ كلّ شيء وكفّوا عن أن يتعلّموا ؛ ونحن نحبو، نتدرّب، نتطلّع ونزداد كلّ يوم كفاءة.
إنّهم يعدّون لنا الهراوات وصراخهم على كلّ صاحب سؤال لا يودّونه، ووعيدهم لكلّ من ليس منهم أو هو منهم ولكن بشيء من الاختلاف... إنّهم أصحاب التحالفات الهشّة والمفبركة والمضلّلة والطّمّاعة... إنّهم المتكالبون على النفوذ وعلى التاريخ وعلى مطامح الشباب وعلى المناصب والعروش ؛ ونحن شبابنا غنّى ويغنّي للحريّة / شاباتنا يهزجن بقَسَم الحياة الحلوة ونداءات المساواة والعدل والتنمية الحقّة التي لن تكون إلاّ بعرقنا ومن كدّنا تحدّي جهاتنا المتراكم من عشريات بل قرون / حَنقُ فنَانينا ومسرحيينا وكتّابنا وبحاثينا المشرّشين في وطنهم والباسقة فروعهم في سماءِ الأرض كلّها/-عزم نسائنا اللواتي يصنعن يومنا، يصدحن في مظاهراتنا، يهبن فلذات أكبادهنّ، يعشقن الفرح ويقدّسن إنسانيتهنّ كاملة ويربّيننا على العطاء وحبّ البقاء والمداومة...
قدَرُنا أن نصمد وأن نناضل وأن نبذل بسخاء.
وسنصمد ونناضل ونقاوم ونبذل بسخاء.
دَمُنا، أنفاسُنا، صِغارنا، كبارنا، فتياتنا، شيوخنا، أحلامنا، برامجنا لحياتنا، كلّها فداء لنصر قادم، قادم لا محالة !
سنصمد ولن نركع.
سنصمد ولن ننخذل... لا لأصحاب اللحى القديمة ولا لأصحاب اللحى المتنامية ولا للحجب المتطاولة على الأنوار والصّفاء !
فلتجتمعوا علينا من كلّ أرهاط وكلّ تجنّ وكلّ زيف وكلّ بطلان.
ولتتمترسوا وراء المدّعين والباغين... ولتزيدوا أحزاننا علينا وعلى الوطن وعليكم بني الوطن الخاسرين... ولكن لتعلموا، ولتتأكّدوا : لن نخنع ولن نغادر كما غادرتم ولن نهرب منكم كما هربتم ولن نضع أيدينا في غير أيادينا...
وكما الشّمس تطلع كلّ صباح سنفاجئكم، سندحر جحافل الجهل والظلماء وسنحنو عليكن ولن نقسوا-لن نثأر-لن نغدر-لن نحجب-لن نحبس-لن نعزل...
سنطلع لكم من كلّ الساحات والثنايا ومن كلّ معهد وكليّة ومشفى ومصنع، ينطلع لكم من الحقول والغابات ؛ سنطلع لكم من أفئدتنا وعزمنا وفرحنا وشدّة إيماننا بالآتي بهيّا ؛ سنطلع لكم بحناجرنا لا تسكت عن هتافها، وقبضات أيدينا تؤشر للنصر، وصناديق سنستردّها ؛ سنطلع لكم بدون عنفكم، بدون أن نكون أضرابا لكم بل نقيضا دائما حريصا ونظيفا...
لن ننتظركم نصف قرن أو عشرين سنة... لن نصبر عليكم...
قدرُنا أن نغلب حتّى القدر.
قدرنا أن يغلب النّور الدياجير، كل الدّياجير وإن تحالفت وتكاتفت.
وستنهزمون، تنهزمون وتندحرون لأنّ هزيمتكم فيكم، هزيمتكم فيكم، هزيمتكم فيكم !

26 nov. 2011

يوم انتصاب المجلس التأسيسي الثاني : قصر باردو بين باطنه وظاهره

صدر بالطريق الجديد بتاريخ 26 نوفمبر

بالأمس كنت مع من كانوا قدّام قصر باردو...
بادئ الأمر لم نكن إلاّ ثلّة يحدوها الإصرار تؤمن بإنسانيتها كاملة غير مجزّأة وتعتقد راسخة أن المقاومة ممكنة وأنّ أفقنا يمكن أن يتحرّر من السّحب المتلبّدة إن أصرّ المجتمع المدني على ذلك...
ثمّ شيئا فشيئا تبيّن لنا أنّنا لسنا قلّة، لسنا وحدنا، وأنّ آلافا يفكّرون مثلنا، ويعملون مثلنا، ويحلمون مثلنا، وكلّهم عزم على الصمود والمداومة والغلبة... وامتلأت الساحة هامات وألوانا وشعارات ونداءات...
وبادئ الأمر كان في الأحاديث خشية، وتوقّعُ الأسوإ والقبول ببؤس المصير ثمّ انقلبت الأحاديثُ ثقةً وحُسْنَ توقّع، وإصرارا على المداومة وتمسّكا بالحقّ يعلو ولا يعلى عليه...
البنات والنساء كنّ الأكثر أو هكذا خيّل لي... وتنظيمات المجتمع المدني التي لا تعمل كأبواق لأحزاب بعينها كان حضورها لافتا للنظر... رأيت "العفو الدّولية" حاضرة بقوّة ونظام وتحضّر : شعاراتها مكتوبة على لافتات لافتة وفرحانة... أولاد وبنات وأمهاتهنّ تنطلق حناجرهم من حين لآخر بندءات كانوا وجّهوها للأحزاب والقائمات وعزموا على أن تتحقّق تأسيسا وليس في غير التأسيس... ورأيت مناضلي  العفو الدولية بقمصانهم الموحّدة يطوفون بالسّاحة هم الجمال والعزّ والأنفة والعزم والهدوء وطول النفس... ورأيت "الديمقراطيات" لا تفتّ من عزمهنّ الطعنات... رأيت المدوّنين والمدوّنات... رأيت مناضلي  حزب العمّال وحزب العمل والطليعة وجماعة المبادرة وأحزاب أخرى عديدة : كلّ ينادي بما ينادي إليه، يوحّد بينهم الإصرار على تونس حرّة حديثة وعلى توانسة شامخين كرام... رأيت الشرطة منظّمة هادئة، في عيون شبابها ابتسام يضيء، مازحت البعض فلم يتجهّموا وردّوا على المزاح بمثله أو بالابتسام الخجول... رأيت رضّعا في عرباتهم ورأيت شيوخا تملأهم الأنفة يجاهدون عمرهم يطيلون حضورهم رغم الإرهاق... ورأيت نساء كبيرات يهلّلن  ويتصدّرن ويرعين أملا قادما ليس لهن بل لأحفادهنّ... بالأمس، أمام قصر باردو، كانت الشمس حليفتنا المخلصة... كانت الشمس حلوة، مساندة، داعمة وبديعة النّداء كما كانت ذات 14 جانفي...
بالأمس غلب الحدثُ الذي احتضنته بطحاء باردو الحدث الذي غلّفه قصر باردو : حُجِبَ الثاني وسطع الأوّل...في الدّاخل كانت الكهرباء والبروتوكولات، وفي الخارج كان الأوكسيجان والنور الطبيعيّ وتلقائية الاندفاع !
بالأمس رأيت في بطحاء باردو ما كنّا نخاله عجبًا عُجَابًا ومحالا : اختلاف وتنوّع يتآخيان ويتجاوران ويتحاوران : اختلاف جاوز حدود ما كنّا نحسبه غير ممكن : رجل يلتحف العلم ويرفع لافتة تنادي بنظام ملكيّ !.. وفتاةٌ تقف وعلى صدرها ما يفيد أنها امرأة لا تدعو إلى المساواة !..
اللوحة كانت جميلة وحبلى بالوعود البهيجة !
وحتّى الخدوش التي طالت اللوحة لم تكن أخطاء قاتلة بل أخطاء تدفع العين الشّريرة ونتعلّم منها ونتّعظ.. فخطأ أن يتمّ تدافع من أيّ كان نحو نائبة أيا كان صلفها وأيا كانت رجعيتها. وخطأ أن لا نكون منظّمين –رغم تعدّدنا- بما يحول دوننا ودون تجاوزات الردّ على الاعتداء بالاعتداء. وخطأ أيضا أن لا نقدر على حماية المتظاهرين والمعبّرين معا فيحدث ما حدث مع صحافي ومع محامية لم ندفع عنهما الأذى بالحزم المناسب... وخطأ أن يمنعني عضروط جديد اللحية من أن أصرّح بما أودّ أن أصرّح به لقناة سألتني...
وعلى عكس ما يفعله أولئك الذين أصبح من المفروض علينا أن نسمّيهم بأصحاب السيادة والسعادة من تبرير يتستّر بالكلمات المبهمة على كلّ الأفعال الهمجية التي ارتكبها وما يزال يرتكبها منتسبون إليهم أو محسوبون عليهم أتّفق مع جميع من سمعتهم يعبّرون عن سخطهم من التجاوزات التي حصلت وأدعو إلى أن نحرص جميعا على أن لا يصدر عنّا جميعا بكلّ ألواننا وفِرَقنا ما يسيء إلى الحريّة وعلى أن نتصدّى، بالمقابل، جماعة ويدا واحدة، لكل اعتداء وبغي يواجه جماعة أو واحدا من بيننا...
وإنّني لفخور ومعتزّ بأن أروي كيف تصدّت تلقائيا نسوة إحداهنّ في عمر أمّي أو أكبر، يغلّفها عطر الحكمة  والطيبة ويبدو من لباسها أنّها حاجّة وجدّة، لمن اعتدى على حرّيتي في التعبير، وأطّرن المندسّين معه وجادلنهم حتّى أفحمنهم...
كما أذكر بفرح كيف لاحق الشباب سارقا نطر من جميلة هاتفها... واسترجعوا الهاتف وسامحوا السارق رأفة وإشفاقا...
وإنّني لأنتظر ممّن تصدّروا المشهد ومن ناطقهم الرسمي الذي ما انفكّ يجهد نفسه ليصلح أخطاء غيره، وليثقّف ما اعوجّ من تصريحاتهم، ولينزل بالخلافة من سماوات مزعومة إلى أرض لا تطلب إلاّ شغلا وكرامة ومساواة واستقلالا وعدلا وحرّيات ... أي لا شيء غير حقوق بشرية بسيطة تولد مع الناس عندما يولدون، إنني لأنتظر منهم أن يلتفتوا الآن وقد اعتلوا فجأة السدّة أن ينادوا أتباعهم القدامى والجدد، وصفوفَ المتهافتين عليهم لا إكراما لهم بل سعيا إلى شيء من نفوذ، وإخوانَهم الخارجين من غياهب التاريخ، إلى التمسّك بحدّ من احترام إنسانية الإنسان وإلى أن يكفّوا عن تكفير من سواهم وأن لا يفسدوا في الأرض بهتك أعراض الناس كما يفعلون على الشبكة وبالتهديد والوعيد...
المجتمع المدنيّ أثبت مرّة أخرى وجوده... وإذا كنّا قبلا قد انتظرنا طويلا طويلا ليخرج الناس بالمئات بل بالعشرات ليحتجّوا على عهد لا يزال قائما وإن هرب رأسه، فإنّنا قد حقّقنا اليوم نقلة نوعية بتجنّد الرأي العام وخروجه ببضعة آلاف منذ اليوم الأوّل من انتصاب المجلس التأسيسي...
رفيقاتي، أصدقائي، أخواتي، رفاقي، صديقاتي، أخواني : لقد تحرّرنا من خوفنا، ونفضنا عنّا تخاذلنا، وفجّرنا القمصان المعطّلة التي كانت تمنع الحركة عنّا، وعادت إلى ألسنتنا رقصاتها.
... فلنداوم !
وأيّها المنتصبون في المجلس : لا تنسوا أنّكم إنّما تقتاتون من عرقنا، وأنّكم على تلك الكراسي لتخدمونا، وأنّ غضبنا يخدمكم إذ يصدّكم عن الانحراف والغطرسة والانزلاق في المنزلقات التي انتفض شعبنا من ضغطها !
نحن نخدمكم بحرصنا ويقظتنا وعزمنا، فلتخدموا  بلدكم بالإصغاء إلينا، ولتهتدوا بمن لهم الفضل الأوّل في ما أصبحتم فيه !    


 الصّادق بن مهنّي
23 نوفمبر 2011      

25 nov. 2011

قراءة ذاتية جدّا في راهن بلدنا : الأفق مدْلِهمّ لكنّ وراء الحلكة النّور

صدر في جريدة الشعب بتاريخ 25 نوفمبر


لم أكن يوما لا عرّافا ولا قارئ كتاب أو كفّ أو فنجان، ولم أفلح يوما في الاستشراف والتوقّع. لكنّني أرى الآن، أو يخيّل لي أنّي أرى، أفقا مدلهمّا : خُطبًا ملغومة، وجُمَلا تغتالُ، وطاعونا أسودّ يجتَاحُ دون أن يُلْحَظَ، وضِحْكات اختيالٍ خبيثة، وإصرارًا -إلحاحا- ثباتا- مداومة على الخطإ، وتدحرجًا بل تدهورا بالغ السرعة نحو الماضي السحيق الأغبر... وأرى دموعا، أسمع صراخا، تخنقني الغازاتُ، وتقطّع جلدي الهرم السيّاط...أرى دموعا، أسمع دماء تنزف، ويؤرّقني سوس ينخر كياننا، سمّ يتسرّب إلى وجداننا من مسامَنا، ويضنيني إصرارٌ على أن تخيّم علينا وفينا عتمةٌ كالدّياجير، كالقحط، كالطوفان المهلك الذي ما بعده صلاحٌ... أرى بلاءً شرقيً الكلمات لكنّه غزانا من غرب، أي ومعه جحافلُ. من خبراء لا يفصحون عن هويّاتهم، ومستشارون  ظاهرهم ليس كباطنهم، وأموالٌ خبيثةٌ لا تلسعُ بل تدمِّرُ في تأنٍ ولكن في العمق... أرى انقلابا على انتقال فتحَ الدّرب أمامَه فتيةٌ قضَوْا، وشباب جرحوا، وأوفياء هتفوا –وكتبوا-وصوّروا-وأخبروا-وتظاهروا-وحملوا أرواحهم على أكفّهم وساروا باتّجاه الشمس... أرى بنتِيَ التي مرّت عبر الهراوات والاستجوابات والملاحقات والتجسّس والترهيب وخيانة الأجوار وإصراري على عدم الفهم بل غياب فطنتي، أراها تنحو إلى قنوط-تبكي حظّ شعب يثور على النّهب فتنهَبُ ثورتُه-تعرّضُ غدها-جسمها-عمرها-لأخطار قدمت من وراء البحر أو هبّت من جحورها قد تكون أخطر وأفظع وأحلك وأدهى من عنف بوليس خبرناه وشراسة صبَّابةٍ أَلِفناهم ومكر أدعياء على السياسة انتهوا بأن "انخلعوا" فخلعوا... أرى صديقات ابنتي- أصدقاءها تنفسخ ألوانهم- يخبو إشعاع نواظرهم - يتلعثمون- تتعثّر خطاهم- تشتدّ بهم الحيرة- ومنهم من ينثني أو يخفت أو ينقلبُ... أرى نداءات نساء قاومن وقاومن وقاومن لا يفهمن إلى أيّ منقلب انقلبنا ولا كيف هانت تضحياتنا وتكاثفت الخياناتُ علينا... أرى ساسةً لا يرعوون- لا يخجلهم لا كيف ارتقوا ولا كيف يؤمنون ديمومتهم ولا من أين جاؤوا وكيف ولا إلى أين نمضي يلقون بنا- ينصّبُون جلاّديهم وأبواقهم باسم الربّ- يستبطنون شرّا، يعضّون بنواذجهم على سلطة كي لا تنزاح عنهم- معاولهم أموالٌ وحدهم يعلمون من أين جاءت ورفوشهم كَلِمٌ يسرقونها من كتب قديمة- حقيقتهم ادّعاءُ امتلاك الحقيقة حتّى الاعتقاد إيمانا باِمتلاك الحقيقة كلّها- سيؤلمون ويظلمون ويؤخّرون ويسدّون الأفق الذي أردناه فسيحا مشرقا ويسلّطون علينا شيئا كثيرا ممّا سُلِّطَ عليهم وعلينا من قَبْلِهم... أرى رياحا عاتية سموما لا تذرُ... أرى تناحرا وتدافعا وعناقا غادرا وتآلفا لا ألفة فيه... وأرى شعبنا مرّة أخرى يُغدَرُ ويُستَبْلَهُ وتُفعَلُ به الأفاعيل...
لم أكن يوما لا عرّافا ولا قارئ كتاب أو كفّ أو فنجان لكنّني...
أرى فخرنا وتيجان رؤوسنا –نساءنا : الأمّهات والرفيقات والأخوات والصديقات والبنات والزميلات يتهدّدهن البؤس ويَضربهنّ الحمق في كلّياتهن ومعاهدهنّ ومستشفياتهنّ ومصانعهن ومكاتبهنّ وفي الطّريق... أرى فتية يسعون إلى العلم، يجتاحهم جهلٌ منظّم يدّعي أن الصلاة أولى من الدّرس ويهاتف بدل أن يعمل ويعظّ بدل أن يفسّر... أرى شعبا ترابية ومهنية تنقضّ على الحريّات، تنفض الغبار عن شعب ترابية ومهنية عفا التراب عليها أوخلناه فعلَ  تبرزُها في ثوب جديد بدَّلَ البنفسجيّ سوادًا ولحىً وحجُبًا على كلّ ما هو جميل وبريء... أرى السّجن يتّسع... أرى الشعوذة والتدجيل يسكتُ عليهما... أرى أرهاطا ألهتها الكراسي والرغبة في الثأر تلسعنا سياطها تغتالنا ألسنتُها تهلكنا غطرستها... وأرى رأس مال خوّاف مكّار بهيم يضيع فرصَتُه التي منحها إيّاه شعبنا ليتحرّر ينقاد مرّة أخرى ويختارُ ما يحسبه أسلم السُّبل ويصطفّ مع من يحسبه أقوى فيدعمه ويبوس لحاه ويأتمر بأمره... وهو بالماضي القريب لا يتّعظ... أرى حلفا فيه أفّاكون وفيه شيء من محترفي اغتيال أحلام الشعوب وفيه أثرياءُ لا يرغبون في أن يُعْرَف كيف جمّعوا ثرواتهم وفيه سلطة قديمة متنفّذة لا تزال وفيه قوم أضاعوا بوصلاتهم.
لم أكن يوما لاعرّافا ولا قارئ فنجان أوكفّ أو كتاب لكنّني...
أرى جراحا وعذابات وبطالة تتضخّم وجوعا يستفحل... وأرى شابّات لا يستسلمن- وفتية طلّقوا الخوف بل روّضوه- وشعبا لم يعد يقبل لا بالعسف ولا بالقصف ولا بالصّمت المسلّط- ولا بالأوامر والتعليمات الجائرة حتّى وإن غُلِّفت بأغلفة قُدَّت من زيف يستفرد بالسّماء ويستحوذ على الأخلاق والقيم... أرى ما لا يراه المتهافتون والمتكالبون والمتحاملون والأدعياء وطلاّب الاستبداد : أرى حراكا لا ينثني، وأمواجا لا تنكسر، وغضبًا يستحكم، وتمرّدا يفيضُ... أرى تاريخا لا ينعطف- لا يتراجع بل يزحف –يتقدّم- يجرفُ...
لم أكن يوما لا عرّافا ولا قارئ كفّ ولا كتّاب ولا فنجان لكنّني...
أرى وراء الضباب المدلهمّ والرياح العاتية انفراجًا وحبّا وودّا وضياء وألوان قوس قزح وبسمات الرّضيع وهدوء الأمّ الحانية واندفاع الشباب !


 الصّادق بن مهنّي
21 نوفمبر 2011

22 nov. 2011

ملاحظات وأسئلة سريعة إلى" اللّجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الفساد والرّشوة " بمناسبة إصدارها لتقريرها و"العرس" الذي رافقه .

نشر بجريدة المغرب بتاريخ 22 نوفمبر
 
الآن وقد تفضّلت بإخراج تقريرك إلى" الرّأي العام حتّى يعتبر الجميع بما عاشته البلاد من ممارسات " حسب تعبيرك ، اسمحي لي " سيدتي اللّجنة." وأنا أنادي اللّجنة كلجنة حتّى لا يعود أعضاؤها المهيمنون عليها ليتباكوا بتعلّة الصّعوبات والعراقيل التي واجهوها من قبل حسّادهم ومناوئيهم، ويفصّلوا لنا من جديد التّضحيات الجسيمة التي تكبّدوها سهرا وإهمالا لأعمالهم الخاصّة وسندويتشات وإنفاقا من جيوبهم على الحفل الذي تكرّموا به على الصّحافيين، وكأن عملهم ليس انخراطا تلقائيّا في الجهد الوطني العام يكسبهم الشّرف والخيلاء،بل منّة من عارفين على شعب لا يعرف .كما يحلو لي أن أدعو " اللّجنة " باللّجنة حتى أعطيها شيئا من أنوثة كادت تغيب من تركيبتها حيث لم تضمّ بهيئتها أكثر من امرأتين مقابل 22 رجلا .
وباعتباري أحد التّوانسة الذين لا يقبلون منّة من أحد أوجّه للّجنة الكريمة سؤالا أولا هو :
- لماذا صرفت من جيوب أعضائك وقبلت أن يطبع تقريرك على حساب منظّمة غير حكومية ( أجنبية ربما؟ ) والحال أن الفصل 22 من المرسوم المحدث للّجنة ينصّ على أن تحمّل مصاريفها بما فيها تنقّلات أعضائها وتنقّلهم على ميزانية الوزارة الأولى؟
بعد هذا أسأل اللّجنة: هل انتهت أعمالك ؟ وإن نعم متى انتهت؟ لقد أكّدت منذ نهاية الصّيف الماضي أن أعضاء هيئتك الفنّية قد حدّدوا تاريخ الانتخابات التّأسيسية نهاية لنشاطهم؟ ثم أعلنت أنك ستكشفين يوم الانتخابات عن تقريرك وملفّات ثقيلة (ومن حقّ النّاس أن يتساءلوا لماذا يوم الانتخابات؟ وليس قبلها أو بعدها ؟  بل قبلها؟ ) ثم أجّلت الأمر لأسباب لم تفصحي عنها ؟ وهنا أسأل أيضا:
- ما هي طبيعة تقريرك:هل هو التّقرير الذي نص  الفصل 20 من مرسوم إحداثك على أن ترفعيه في نهاية أعمالك لرئيس الجمهورية؟ أم هو يندرج ضمن " التّقارير الأخرى" التي سمح لك الفصل 21 بنشرها ؟
و قبل أن أنتقل إلى فحوى التّقرير أستسمحك سيدتي اللّجنة في سؤالين إضافيين هما:
- إجابة عن أسئلة حول بقاء عدد من الفاسدين ذائعي الصّيت يرتعون وينعمون بما بين أيديهم من مقدّرات الوطن وحول هروب البعض منهم ، أجاب عضو منك أنك لا تملكين للأمر حلاّ ، وأن المسؤولية في ذلك تقع على السّلطات المعنيّة . وأنا أسألك، كريمتنا اللّجنة"="وإذن ما  معنى ومغزى ومفعول الفصل 14 من مُحدثك المرسوم عدد 7 لسنة 2011 المؤرّخ في 18فيفري  2011الذي يتيح لرئيسك الموقّر جدّا جدّا "أ، يطلب من السّلط المختصّة اتّخاذ الإجراءات التّحفّظية المناسبة ... لمنع إحالة الأموال والممتلكات أو التّصرّف فيها أو نقلها أو إتلافها " ؟(وهو ما تمّ على الأقلّ مرتين )
- وبخصوص التّقادم الذي مثّل أحد مواضيع مشروع مرسومك الذي سكتت عليه الحكومة ( ص 294)
ألم يكن في وسعك اعتماد الفصل  19  من مرسومك الذي  نصّ على أن " كل قيام [ أمامك] يعتبر عملا قاطعا للتّقادم ولآجال سقوط حقّ القيام " ؟
-والآن أودّ ، سيّدتي اللّجنة ، أن أشكرك على تفضّلك  بالسّهر على راحتنا ، نحن قرّاء تقريرك بما أنّك كفيتنامؤونة  قراءة  "التّوجّهات الأساسية" لعملك التي نصّ الفصل 2 من مرسومك على أن الهيئة العامّة  تتعهّد بالنّظر فيها (وأصارحك القول بأن مثلا رائجا قد راود ذهني في الخصوص لكنّني ما زلت أطارده وأطرده . والمثل هو: " فاقد الشّيء لا يعطيه " ... وأنا أطرده حتى لا أظلم أخصّائيّيك الكبار وكذلك، لأن تفسيرا آخر شاع حول طبيعتك ومقاصدك بدأ يراودني ا. ) .
كما أعبّر لك عن امتناني أيضا للجهد الكبير الذي بذلته لتعرضي علينا ، نحن  القرّاء، وعلى السّلطة الحاكمة مشروع مرسومك الإطاريّ المتعلّق بمكافحة الفساد. فأنا قد وجدت في المشروع ما يفيد بحصول قراءة للقوانين والمواثيق الدّولية ذات الصّلة ... وبعد أن كنت قد عارضت  تسرّعك في استصدار المرسوم وتهافتك عليه ( لحد أنك أصدرت بيانا عبّرت فيه عن استبشارك  بموافقة مجلس الوزراء عليه...فكنت سبّاقة السبّاقين في لوائح الاستبشار والبهجة بعد 14 جانفي) واعتقدت أنّك اقتنعت خلال ملتقى الحمّامات وندوة قمّرت بضرورة التّأنّي وتوسيع المشاورة، عدت الآن ممتنّا لك حقيقة إذ أن المرسوم سيعجّل بإراحة أعضائك الموقّرين المرهقين ويسمح للقادم – هيئة عامّة لمكافحة الفساد  - بأن يتسلّم منك ملفّاتك ووثائقك وذاكرة بلادنا التي جمعتها قبضتك  .
وبخصوص هذا القانون الإطاري اسمحي ، سيدتي اللّجنة ، بأن  ألاحظ أن تعريفه للفساد ( الذي هو التّعريف الدّولي ) الوارد في الصّفحة 304 من تقريرك تعريف ضاف وشاف لكنه – للأسف الشّديد – لا يبدو جليّا أنّك أخذت به في أعمال هيئتك الفنّية. وأرجو أن لا يعتبر كلامي هذا سعيا للتّدليل على الفرقة والقطيعة بين جناحيك .
أما في خصوص الحكايات والقصص الواردة في تقريرك، فأنا أعتذر لديك ، سيّدتي اللّجنة إذ أصارحك القول بأنها لم تأت بجديد: فأغلبها أو شبيهها اومثيلها قرأنا عنه عندما كانت قراءة بعض المنشورات مخاطرة ، أو نقرأ عنه الآن في الصّحف التّونسية والأجنبية ، وأنا أشدّد هنا على التّونسية لأن هذا مكسب محسوس من مكاسب الثّورة ونشاهد تحقيقات تفصيلية حوله في القنوات التّلفزية العربية والدّولية وأحيانا حتى التّونسية .
نعم ، لقد تفاعل معك كثيرون ممّن لم يكونوا يعرفون، أو ممّن كانوا لا يريدون أن يعرفوا،أو ممّن استهوتهم استعراضاتك وإثارتك ، وحماسك في تفصيل ما هو مفصّل ، ولم ينتبهوا انك –في الأثناء –
سكت( كيف ولماذا ؟ ) عماهو أهم = حيتان كبيرة أخرى ، والسّعي إلى تفكيك منظومات الفساد بفروعها  وعناصرها كلّها = السّياسي والتّشريعي و القضائي ... وصمتك المطبق عن موضوع العدالة الانتقالية وآلياتها الاستثنائية ، و حتمية المساءلة والمحاسبة وجبر الأضرار.
ولأنني معجب بفخارك ومفاخرتك ، ولأن في نفسي شيء من سادية تدفعني أحيانا إلى الرّغبة في إفساد العرس ( لكن بغاية أن تكون أعراسنا دائمة وحقيقية وحبلى ) ا.
أستسمحك ، سيدتي الّلجنة، في أن أبلغك بعض تساؤلات أبلغت إلي :
- قصصك وحالاتك لا تمثّل عينات . فالعيّنات تختار وفقا لمعايير . وما وضعته في تقريرك هو سرد إنشائي وضع كما اتفق وحسب ما تراكم . ولا يُظْهِرُ منهجا في التّناول والبسط ...اللّهمّ ا.
- أمن الصدفة أن لم توجد بين حالاتك ملفّات كبرى ينتظرها الناّس كملفّ جمعية " أمّهات تونس" سيّئة الذّكر؟ وملفّ الاتّحاد الوطني للتّضامن الاجتماعي الذي بلغك؟
- ولماذا لم تقدّمي ما يفيد بشأن الملفّات التي طرحتها( أي ما هو غير الملفّات المحالة على النّيابة العمومية وثلث العرائض التي لا موضوع لها ).
- ولماذا تخلّيت في تقريرك عمّا تمسّكت به طويلا من واجب حماية النّاس لأن أي متّهم بريء حتى تثبت إدانته ؟فكشفت ستر  مؤسّسات وأشخاص ليس من  دورك إدانتهم... وأنا أسألك هنا  كيف سيتعامل ضمائر أعضائك مع من ذكروا في تقريرك وثبتت براءته ( ذكر أحد أعضائك البارزين أن النّيابة العمومية لم  تأخذ ب لحد ّتاريخ تصريحه ب 6 ملفّات أحالتها) .
 ولرئيسك الذي ظهر جليّا أنّه يحب الحكايات المثيرة ويروي بحذق الغرائب والعجائب كعدد " صبابط " المخلوعة وطلبات التّطليق  أقول إنه بلغ إلى علمي  أن إحدى السيدات  التي ذكرها التّقرير ،والتي من المرجّح جدّا أن تتمّ تبرئتها ، أصبحت مهدّدة بخراب أسرتها .
- لماذا لم تفيدينا بأي شيء حول الشّكاوي التي رفضتها . ومنها ما سلّمت فيها مكاتيب تصحّ عليها تسمية "صكوك براءة" ( يهمّ بعضها وزارة الفلاحة ) ومنها  - مثالا – حالة تعدّ ضرائبي قلت عنها ما مفاده أنه لا يمكن مراجعتها لأن الشّاكي قد قبل بعد بتسوية في شأنها والحال أنه اشتكى إليك من فرض التسوية عليه؟ وكيف لم تقولي لنا شيئا عن الحالات التي استرجعت فيها أموالا ولا كيف تمّ ذلك .
- ولماذا بدل أن تتحصّني بالحصانة التي منحك إيّاها مرسوم إحداثك لا تحصّني أعضاءك  بتصريح على الشّرف يفيد عدم صلتهم بأي أعمال مخلّة بالنزاهة والشّرف .
- وأخيرا ، سيدتي اللّجنة ، أودّ أن أسرّ في آذان بعض من أعضائك ( الذين كانوا زملاء لي قبل أن أنسحب منك ) أننا دخلنا إلى عهد من المفترض أن لا يكون فيه استفراد لا بالرّاي ولا بالقرار، ولا غطرسة وتدافع ، بل إصغاء وحوار وتوافق .
                                                            الصّادق بن مهنّي      19 نوفمبر 2011
 

الأرشيف الأمني والفساد والمجتمع المدني


نشرت بجريدة الصباح الجمعة 18 نوفمبر 2011


بَدْءًا  أنَوِّهُ : الشارعُ هو الذي بادر، من يوم 14 بل قبلَهُ بأن نادى بحلّ البوليس السياسيّ والتجمّع وصاح عاليا : "وزارة الدّاخلية وزارة إرهابية !" .
بل إنّ بعضا من أجهزة البوليس ذاته قد أذكى الشّعارَ إذ نزل إلى الشارع بعد أيّام قليلة من يوم 14 ونادى بتبديل عقيدته وأقسم أنّه تحوّل من خدمة الدّكتاتورية إلى خدمة الشعب.
ثمّ نادت القصبةُ بآليات عدالة انتقالية وقالت أن لا سبيل إلى تونسَ جديدةٍ إلاّ بالمساءَلة والمصارَحَة.
والشارعُ هو الذي نبّه منذُ اللحظات الأولى للثّورة إلى الأرشيف  يُدَمَّرُ والوثائق تُحْرَقُ والحقيقَةِ تُطْمَسُ.
أمّا حكوماتُنا الوقتيّة المتتالية وأحزابنا ونُخَبُنا فقد ظلّت تَصُبُّ انتباهَها على أمورٍ أخرى ولم يَكُن من همّها لا ذاكرتُنا ولا الحقيقةُ ولا بنَاء الآتي تأسيسًا على ماضٍ يستقْرأُ ويُفَكَّكُ وحاضرٍ يُوَاجَهُ، بجِدٍّ وتدقيقٍ يوَاجَهُ !
بَعْدَ هذا التّنويه أقصُّ عليكم وقائعَ عشتُها أو سمعت عنها فيها نظَرٌ وإفادةٌ ومنطلقٌ نقاشٍ :
  • الواقعةُ الأولى : أرادَ وزيرٌ أن يَضُمَّنِي إلى فريقِه. ولم أكن راغبا. فتعلّلت بماضيّ فأصرَّ. فَنصَحتُه أن يَسْتَشِيرَ زميلَهُ في الدّاخِليَةِ.
ولمّا فعلَ قيلَ لهُ : "إنَّ الرّجل غيرُ موثوقٍ بهِ حتّى وهو قد انقطع عن سياسةِ الأحزابِ" ! ورُويتْ لهُ بالكَلم والحروف ذاتها جملَة قلتُها في مؤتمرٍ للعفو الدّولية قبل سنتين من ذلك !
  • الواقعة الثانية : ذات 14 أفريل 2010، وشبابُ الإنترناتُ يُعِدّون أنفسهم ليعبّروا عن رفضهم للرقابة بالتظاهُر في شارع استفردت به الغاشمةُ، دُوهِمَت دَارنا وخُلِعَتْ ونُهِبتْ. تمّ ذلك نهارًا وبشكل فجّ. وأوّلَ الأمرَ خَيَّمَ علينا الذّهولُ وغَدَوْنا نرى في كلً جارٍ وكلّ مارٍّ وكلّ واقف عيْنًا ومعتدِيًا. وغدا حتّى المحبّون المنزوون في سيّاراتهم حيثُ نسكن على الشاطئ عسسًا. لكن سُرْعَان ما سَأَل وَلَدِي من هامَةِ عامِهِ الرابع عشر : ألا يكونونَ قد زرعوُا في غرفنا عيونا وآذانا إلكترونية تَعُسُّ وتصُبُّ عن بعدٍ ؟".
ومن حينها، تحرّرنا، بدلَ أن نُصَابَ بالهلع تحرّرنا :
أصبحنا نتحدّثُ في كلّ شيء، وبصوت مرتفع، وانضممنا إلى بنتنا –بنية تونسية- في تعلُّقِ هِمَمِنَا بما كان يجري على الشبكة، ثمّ، بعدَها، بما جرى هناكُ في سيدي بوزيد ففي غيرها... ونحن الآن، أقصدُ هذه الأيّامَ، مُرْتاحُو البال لأنّنا نعرف أنّهم يعرفونَ، ولأنّنا نرى أنّ عيُونهم قد عادت تراقبُنا عند الباب الخارجيّ أيضًا،  ولأنّنا نزعمُ لأنفسنا أن ضربةً  تأتي منهم هم لَهِيَ أفضلُ من طعنةُ تأتي من حيثُ لا ندري !
  • الواقعةُ الثالثة : مهاجرون قطعوا البحر إلى أوروبا على خشبات رثّة تنقطع بهم السبُلُ في باريس فيحتلّون مبنًى تابعا للسّفارة التونسية (بشارع بوتساريس) والنتيجةُ وثائق بل أرشيف هائلٌ راكمَتْه المؤسّسَتَان : الدّاخليةُ والتجمّعُ ! أرشيف هائلٌ يُؤْخذُ بعضُه ويسَرَّبُ... بل وتقول عنه الصحافةُ والقنواتُ التلفزيّة الفرنسية أنّ منه ما بِيعَ في الشوَارِع.
  • الواقعةُ الرّابعة : مكاتب القصر الرئاسيّ تفتحها لجنة تقصّي الحقائق حول الفساد والرشوة (وهي على حالها وبنصّها وطرق عملها هيئة قابلة للنقاش ومدعاةٌ له. وهي على كلّ حال لم تعمل في رأيي ضمن دائرة أدوات العدالة الانتقالية) وهذه اللجنة تُعْلِمُ أنّها جمَّعت وثائق القصر وتصرّح أنّ الهارب كان يرتِّبُ أرشيفَه بتفصِيل ودقّة. وأنّ ضمن هذا الأرشيف وثائق عن أناسٍ كثرٍ .
بعد هذا- أنتقلُ إلى طرحِ تساؤلاتٍ وأسعى في ذلك إلى اقتراح مسالكِ تفكيرٍ حول موضوع الأرشيف الأمني والفساد والمجتمع المدني.
علما أنّني لا أرى في الفسادِ مجرَّدَ تعبيراتِه الماليةِ والاقتصاديةِ بل أركِّزُ على أن الفسادَ سيَاسِيٌّ وقِيمِيٌ أوَّلاً، وأن اختراق الفسادِ للسُّلَطِ الثلاثِ التنفيذية والقضائية والتشريعية هو الذي يسرّ للدكتاتوتر ولبطانته إغراق الناس في اليأس والقنوط والخنوع والاصطفاف، وسهَّلَ لهم نهب مستقبل أجيالنا القادمة.
وهذه تساؤلاتي محوصلةً سريعة :
1-   هل أنّ أرشيف البوليس السياسي يقفُ فعلا عند أبواب مقرّات الدّاخلية  أم أنّه يتضمّن أيضا ملفّاتٍ أخرى  تراكمت لدى التجمّع والإدارات والوزارة الأولى (التي كانت مثلا تشرف على التثبّتات الأمنية للانتدابات والتعيينات) والمصالح السجنية والمحجوزات والمحاضر وغيرها من الوثائق التي تحتفظ بها المحاكم المختلفة ؟ ومصالح الرئاسة ؟
ثمّ ألا يتطلّب العملُ على أرشيف البوليس أيضا أن نفهم كيف ومن قِبَل من كانت تجمّع المعلومات –صحيحة ومفتعلةً- ومن كان يستعملها. وأقصد هنا آليات الرصد والمتابعة وآليات بث الإشاعة وشبكات الإبلاغ... ومنها مثلا الصبَّابةُ والمخبرون والرقيب الإداري والشُّعَبُ التجمعيّة والعمَدُ والمعتمَدون...إلخ.

2-   هل أن التخوّف من سوء استعمال الأرشيف ومن استخدامه استخدامات قذرة للابتزاز الاقتصادي أو السياسي مثلا يبرّر كفايةً عدم فتحه أمام الراغبين في الاطلاع عليه ؟ وعلى عكس ذلك أليس في مأسسة الأرشيف وفتحه أفضلُ حلِّ لمنع الاعتداء عليه وسوءِ استخدامه ؟

3-   ونحن في مرحلة انتقالية، مرحلةِ انتقال باتّجاه الديمقراطية، أليس من الأفضل أن نعمل بمقولة "الحقّ في الحقيقة" وأن نَحُثَّ السير نحو مصالحة مجتمعية حقّةٍ نبنيها على المساءلةِ والمصارَحةِ ؟ وبالتالي أفليس  من الأنسب أن نقبل بمخاطرة الكشف حتّى عمّا هو فظيع ومذهل بغاية أن نتجاوزَ ونُعَالج ؟
ثمّ أليس الحقّ في الحقيقة أمرا يتعدّى الأفرادَ لِيشْمَلَ المجتمعَ كُلَّهُ وخصوصا كلّ من يُعْنَى  بالتأريخ خصوصا والكتابة عموما وحتّى بالإبداع المسرحيّ والسينمائي  وغيرهما ؟
وألا تتطلّب إعادة بناء التوازن النّفسي والقَيميّ للناس أن نقتلع جذور َ الفساد بأنواعه من أنفسنا جميعا وأن نفتح أعيُنَنَا عليها واسعةً مدَقِّقَةً بدل الإزوِرَار عنها ؟ (لا يجب أن ننسى أنّنا شعبٌ مريضٌ أكثر من نصفه مصابون بأزمات نفسية، وأنّنا شعب صبَرَ طويلا على ما لا يُصْبَرُ عليه). ولعلَّ اكتشافَ الحقيقة عارية خَيْرً سبيلٍ لعلاجنا !

4-   إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما سلف ذكره من أنّ الشارع هو الذي  بادر بالمناداة إلى صيانة الأرشيف. بل هناك حتّى ناس عرّضوا صدورهم لحماية الأرشيف. أليس من الأنسب أن يتولى المجتمعُ المدنيُّ بواسطة تعبيراته المستقلّة تجميع الأرشيف وصَوْنَهُ حتّى يتمّ الاتّفاق في شأن معايير الإطّلاع عليه واستعماله ؟
ثمّ أليس تكفّلُ المجتمع المدنيّ (عبر هيئة تُحْدثُ للغرض وعبر آليات عمل تعتَمِد التطوّعَ لتخفيف الأعباء المالية) هو أفضل حلّ لواقعنا ؟
5-   إذا ما أردنا أن نتوقّى من سوء استخدَامُ الأرشيف ومن استعماله خصوصا للابتزاز الاقتصادي والسياسيّ، أليس من الأنسب أن نُخرِجَهُ من يد السلطة القائمة أو التي ستقوم وأن نضعه في كفالة سلطة مستقلة، متعددّة المكوّنات، تؤمِّنُ ديمُومتَه وصونه وتقترح معايير لاستعماله ؟
وأنا، هنا، أميل إلى أن يتّم الأخذ بحذافيرها ورد في الصحافة من مقترح بعث هيئة تتكوّن من عسكريَيْن وأمنيَيْن وقاضيين ومؤرّخين بل أحبّذ أن تُفتَحَ الهيئةُ لمتطوّعين من الثقات يكونون من ناشطي المجتمع المدني المعنيين وكذلك لممثلين عن السلطة التشريعية.
كما أقترِح أن يكون العسكريان والأمنيان والقاضيان من المتقاعدين المجرّبين وغير المرتَهنين بسلطة إشراف.

6-   بالتوازي مع صون الأرشيف وتنظيمه ومع الإعداد لضوابط استخدامه، قد يكون من المناسب أن تُناقشَ في ضوء التجارب العالمية وبناء على ما سيُظهره تفكيكُ منظومة جمع المعلومات وشبكاتها التي اعتُمدت في بلادنا طوال نصف قرن وخصوصا خلال العشريتين الأخيرتين من نتائج أن تناقش منظومة جديدة لجمع المعلومات الأمنية وتخزينها تحفظ حرمة الفرد...وتخفّض أكثر ما يمكن من هذا العمل.
وإلى ذلك يبدو لي من المتأكّد أن يتمّ مراجعة المرسوم المتعلّق بحقّ الحصول على المعلومة الذي تمّ وضعُه خلال ماي الفارط بما يعزّز حقّ المواطن في الاطلاع على ملفّاته عند الحاجة.
ومقابل ذلك لا بدّ أن أشير هنا، إلى دور الإعلام الذي بدأت بعضُ صحفه في نشر وثائق من الأرشيف لكن دون اعتماد معايير حرفية كالمقارنة والتثبّت وتجنّب الإثارة وحفظ حرمة المؤسسات والأفراد.

وأخيرا، أختِم بالقول أن مسألة الأرشيف لن يُحسَم أمرُهَا حسمًا مناسبًا إلاّ متَى حُسِم أمرُ الانتقال إلى الديمقراطية بما يرسِّخُ الديمقراطيّة حقا أي بإرساء  دستور يضمن الحريات الفردية والجماعية ويكرّس المواطنة الحقّة ويفصل بين السلطات ويصدّ التفرّدُ والتسلّط. وهو ما يعني ضرُورَةً استمرارَ الشارع في ضغطِهِ من أجل حقّه في معرفة الحقيقة وبناء الذاكرة وإرساء علاقة سليمة بين السلطة والمواطن.  


مداخلة قدّمت في ملتقى : "أرشيف البوليس السياسي وموقعه في التحوّل نحو الديمقراطية " بتاريخ الأحد 13 نوفمبر 2011

خواطر الأيام السخنة


نشرت بجريدة الجزيرة عدد نوفمبر 2011


أيّام ثقيلة، مزعجة، مقلقة، تأكل من العمر عمرا. أيّام من صبرنا، ومن أملنا، ومن عزم شبابنا قُدَّت... ولكنّها بدل أن تكون ضوءا وزهرا وفراشات، غدت رهبة، وحشية، وتحسّبا، ومرارةَ !
قال صديق جديد، غارقٌ عُمْرُهُ في التاريخ والسياسة والنّقابيات والدّيبلوماسية: «شعبَنا ينتفض، يثور، ينتفض ويثور فيفاجِئ الجميع وقد يئسوا منه... لكنّنا نبدعُ دوما في التوقّف عندما يلزم مواصلةُ السّير، ونفلِحُ أبدًا في إجهاض فرحتنا، وتسحَرُنا على الدّوام نقطةُ الانطلاق نعود إليها وحتّى إلى ما قبلها !... انظر إلى تاريخنا الحديث وحدَهُ: ضيّعنا كنه استقلالنا بحرب أهلية لا مبرّر لها... ثمّ زدنا في تفتيت جهدنا بتطاحن بين النقابيين... ثمّ صنعنا مطلع السبعينات حلم ديمقراطية قصفنا عمره من يومه الأوّل... وكذلك فعلنا مطلعَ الثمانينات... وفي 1987 عوّضنا حاكما مطلقا ومتعبًا بسارق ... وانتفض الحوض المنجمّي فظلّ لوحده... ووهبنا الشباب والشابّات وبعض ممّن هم أكبر سنّا هذه الانتفاضةَ ـ الثورة، وها هي نخبُنا تبذّرها، تبدّدها، تذروها للرّياح، تشدّها إلى الوراء...»، قال ذلك وأكثر والدّموع تتساقط مدرارا على وجنتيه!
وأنا أعرف أنّه يعلَمُ، ومليء خبرةً ودرايةً بكواليس السلطة والسياسة والمجتمع!
لم تتساقط دموعي مثلَهُ ولكنّني كنت أبكي في داخلي!
ألم يقل الكثير منّا إنّ هذه الثّورة نوعٌ جديد حدَاثيَّ وطليعيَّ يؤشّرُ لثورات القرن الجديد؟ وألم يقلَ الكثيرُ منّا إنّه من المحتّمِ والمتأكّد والحياتيّ أن نفهم سيرورة ما حدث وأن نغوص في فهم ابتكاراته وإبداعاته، الإرادية والعفوية، معا لنستَخلص منها الدّروسَ والمفاهيم وطرق تنظيم بديلة، ونطوي صفحة القرنين الماضييْن ونقفز دونهما إلى المستقبل؟
وألم يجد الكثيرُ منّا صلةً وروابط بين ثورتنا وما نراهُ من انتفاضات شباب في أثينا ولندن ووال ستريت ومدريد؟
وألم يقلَ العديدُ منّا إنّ على الأحزاب والتنظيمات الحقوقية والنقابية والمهنية أن تتأمّل في ما حدث وتفكّكه وتتولاّه بإعمال العقل حتّى تقدر على تصدّره فتمضي به إلى غايته؟
وبالمقابل: ألم ينبّه بعضُنا إلى أنّ الأحزاب والتنظيمات والشخصيات الوطنية والحقوقية والنقابية التي شاخ أغلبها، عمرًا وعيشةً، قد تتهافتُ وتتدافع، وتتهاوى، وتزدَري الشباب، وتتمترس وراء حصونها الفكرية والإيديولوجية والنضالية وتضحياتها، ولا تفهم، فتصنع لنا، بدل التقدّم بالثورة، ثورة مضادّة لا تقدّمنا بل تؤخّرنا وتجرّنا، عن قصد أو لا قصد، إلى الهاوية التي لم تكد قاماتنا تتمطّط عموديا رغم الهمّ والوهن لتطلّ من حافَتها على الأفق الجميل؟ أليس الحال ـ حالنا نحن ـ نحن جميعا ـ جميعا: من وعى ومن لم يعِ، من أراد ومن لم يُرد، من تشفّى ومن حزن، بيميننا وبيسارنا وبوسط الحلبة؟  أليس الحالُ ـ حالُنَا كمسخرةٍ ـ مهزلةٍ ـ لظًى ـ مشفقَةٍ ـ مأساة؟ 
لقد حدَث أن تناقشنا من قبل عن النكسة: أنكسةٌ هي أم هزيمة؟ ولحدّ اليوم لم نتّفق على إجابة بيّنة، وواضحة، وصريحة.
وها أنّني أتساءَل: أنحن قد سلكنا متاهة نكسةٍ؟ أم أنّنا قد أخذنا نتدحرج إلى أعماق هزيمة؟
شعبٌ أطاح سلميا بنهّاب سرّاق سفّاح ومخذولين طمّاعة مأجورين متهافتين جهلة أفّاكين.
شعبٌ عرّضت أمّهاته وبناته وبنوه وشيوخه صدورهنّ/صدورهم لرصاص لا/قتلة ولا/قنّاصين، أشباح لم يؤجّرهم أحد ولم يأمرهم أحدٌ، ولا يدري أحدٌ لا من أين قدموا ولا إلى أين انسحبوا.
شعبٌ ضمّ إلى جراحاته ومفازات المخاطر التي كان يعبرها جراحات شعوب كثيرة قدمت إليه من حدوده الجنوبية فكفكف دموعهم وأطفأ ضمأهم وحنا عليهم فأعاد إليهم البسمة والعزم.
شعبٌ بطل واجه بأيد عاريةٍ أو لم تضمّ إلاّ حجارةً رخوةً عند الحاجة القصوى، شعب ابتدع ذاكرتَه التي طُمِسَتْ، وجمع بين تقاليده في الزحف مشيا، والعصيان بلا سلاح، والصّبر تنطّعا، وبين استملاك أحدث تكنولوجيات التواصل، واستبله مستبلهيه  وناورَ وداور وحاور و... غلب لكن لم ينتصر... لحدّ الساعة لم يزل لم ينتصر...
ونُخَبٌ قلَّةٌ منها رافقت شعبَها وتحمّلت معه بل عانت... وقلّةُ أخرى اختارت المهاجر والصّالونات والمؤتمرات والملتقيات وأرسلت أبناءها وبناتها يعيشون ويدرسون في رفاه الغرب الكافر ـ العاهر الذي لا نريد مثل حُكْمه وفكره وقِيمهِ لنا...
نخبٌ قلّة قليلة منها لم يتهافت مع المتهافتين لإخماد اللهب، بل ومنهم من بذل قصارى الجهد حتّى يسكت الهتاف، وتُخْلَى القصبة وبطاحٌ أخرى في صفاقس وغيرها، ومنهم من سكت أو حتى تآمر كي لا يستمرّ هرج القلّة من عشاق الشمس وملازمي الأمل والحالمين بغد بديل ـ  بديلٍ كلّه، الذين استعادوا شارعهم ذات 15 أوت، استعادوه بعزم وإصرار لكن، على عادتهم، بلا عنف، فضرِبوا، وسمّموا  وكاد يسقط منهم شهداء جدّد...
نخبٌ وزّعت أقطابها وأساطينها، بل وحتّى الباهتين منهم على هيئات ولجان دعيّة ـ فاشلة ـ متكاسلة ـ غلب عليها جامعيون فاشلون سياسيّا تعرف العديد منهم الكتابات الكاذبة أو السطحية، وتكاثروا في اختصاصات لا تفسير لتكاثرها في عهد انعدم فيه موضوعُها، وأغْرِقَتْ بالمستشارين وذوي الخبرة والتقنيين فاختزلت تحقيق أهداف الثورة في تنظيم انتخابات صفّقت لنجاحها وهي تدرك أنّها الفشل كلّه: في الانحراف بها عن مقصدها، وفي المناورات والتحالفات اللامبدئية التي سبقتها والتي تخلّلتها، والتي لحقتها وتتلوها، وفي نسبة المشاركة فيها، وفي مجرياتها وحملتها، وفي نسب الأصوات التي حَصُلَ عليها «الفائزون» وحقيقة قيمتها.
نُخبٌ ألهاها الظّفرُ المزعوم عن واجباتها فتهافتت تتوزّع كَرَاسي لم تصْنَعْ بعدُ، وأعمى أبصارَها ضوءٌ ناصعٌ لم تستشعر انبثاقَهُ، فتداعت إليه وكأنّه مائدة نزلت إليها من السّماء لتتدافع حولها (كم تبدو لي هذه العبارةُ التي قدّتها «النّهضةُ» مؤخّرا مليئة بالمعاني والمدلولات و...التدافع !)... وها هم يتدافعون... وتغلبهم طفولتهم البائسة، وأحلامهم السريّة الباهتة، وعُقَدُهم التي راكموها، وشماتاتهم الخاصّة، فيندفعون يتدافعون على هذا القصر وذاك، وعلى هذه الوزارة وتلك، ويغلبهم طمعهم فمنهم من يطلّق أمّ أولاده وحمّالة مصائبه، ومنهم من يرى نفسه ذا أحقية في أن ينزل عليه الوحي، ويكلّم النّاس ـ الذين لا يرى فيهم إلاّ قطيعا يُقاد فينقاد ـ باسم الربّ، ويلوّح لمن سواهم ـ الذين لا يرى فيهم إلاّ كفرة ومنافقين ـ بالويل والثّبور!
باللّه علينا! هل نُخبُنا هذه هي القادرة فعلا على أن تسوس البلد، ولا تفسد له مجده، وتحثّ سيره نحو تحقيق التنمية والعدل والحرّيات؟ هل نُخبُنا هذه التي تتقاسم السلطات والرئاسات والوزارات والمناصب (وغدا النّصب؟) قادرة فعلا على أن تملأ كراسي السلطات والرئاسات والوزارات والمناصب بما يحقّق للشّعب وشبابه أهدافه في الشّغل والتّعبير وبناء غد أفُقُه الإنسانيّة كلّها والشّمس تسطعُ؟
إلى أيّ منقلب نمضي؟
اليوم فقط فهمت معنى عبارات «البلاد داخله في حيط»!
وأنا أكتب هذا، النّابع من وجداني على علاّته عفويا، يصيبني الدّوار، ويهزمني الغثيان، وأرتبك، وتتكاثف الحلكة أمام ناظريّ.
لكنّني تعلّمت أن أجد حتّى في أحلك القتمات مهربا إلى ضوء شمعة!
*****
مجتمعنا المدنيّ الذي كنّا نخاله راكدا، خنوعا، جبانا، انتهازيّا، أحلامه ماديّة صرفة وفرديّة محض، تبدّى يزخر بالطّاقات والعزائم والإبداعات...
مجتمعنا المدنيّ الذي أمّن للثّورة استمرارها وإن بغير ما نريده لها من زخم وارتفاع نسق.
مجتمعنا المدني هو الذي أمّن تلقائيا حماية أهله وناسه وأحيائه، ومجتمعنا المدني هو الذي أمّن لمن جاؤوا من وراء الحدود غذاءهم والمأوى ودواءهم وهدّأ من روعهم، وهو الذي كفكف دموع من داهمته السّيول. 
مجتمعنا المدني هو الذي هبّ ينتظم، يتنظّم في جمعيات وأندية، ويدفع ـ بكلّ جهده يدفع ـ حتّى لا ينحرف الحراك عن مساره، وحتّى لا «ندخل في حيط».
مجتمعنا المدني هو الذي ارتفع على جراحه يطلب للشهداء والجرحى وأمّ الشهداء والجرحى حقوقهم، وهو الذي تصدّى يفضح المناورات والمخاتلات وخداع حكّام السلطة القديمة وخدّامها وينادي إلى المساءلة والمحاسبة وفي قلبه عزم على المصالحة راسخة، وهو الذي أجبرهم على بعض إصلاحات اِضطرّوا إليها وأخرجوها، وإن هم قد مكروا أو تكاسلوا أو جرجروا أقدامهم، ومسخوا، وفسخوا، وبدّلوا، على أيّ حال قد أخرجوها... ومنها العفو التشريعي، ومكافحة الفساد، والمساواة في الحقوق بين الجنسيْن، وجبر الأضرار...
مجتمعنا المدنيّ هو الذي دفع إلى الخوض في مسائل كإصلاح النّظام الأمنيّ وحفظ الذّاكرة الوطنيّة وتأمين... مستلزمات إقامة عدالة انتقاليّة حقّة!
مجتمعنا المدني هو الذي تصدّى ويتصدّى وسيتصدّى لمختلف المهازل والمهاترات التي تريد أن تدفعنا حيث لا يكون لنا إلاّ واحد من خياريْن: التطاحن أو الانقياد إلى غياهب القرون الخوالي باسم الوفاء لسلف صالح لا يراه ولا يرى صلاحه سواهم!
*****

جميل أنت يا اللّه! جميل أنت يا ربّي، وخلقت الجمال وأبدعت فيه ونوّعت وزوّقت النّور، والألوان، والفراشات، والزقزقات، والإنس، واضطرام المشاعر، والأحلام، والحبّ، والمشاهد الخلاّبة التي لا حصر لأنواعها، والفكر المنطلق دائما، والرياضيات، والملذّات، والفلسفة، وسكون الرّضيع إلى أمّه، واحتضان العاشقة عشيقها، والتكاثر، والتطوّر...
جميل أنت يا اللّه! فلماذا يريدون أن يعمّ شوارعنا السّواد، وأن نصمّ أدمغتنا إلاّ على صوت واحد، وأن نطفئ أعيننا إلاّ من أفق ضيّق الضّيق رسمه غيرُنا، وأن لا تصدح حناجرنا إلاّ بدعاء ليس ضرورة دعاءنا؟
بديع أنت يا اللّه! ولم تظلم، ولم تقهر، ولم تُهِنّا، بل بوّأت الإنسان أعلى المراتب!
فبأيّ حقّ يريدوننا قطيعا طيّعا مطيعا يتحرّك حين يريدون، ويرتع حيث يريدون، ويسكن متى يشاؤون، ويذبحوننا واحدا بعد واحد ونحن ساكتون كما يشاؤون؟!
*****

أمّي العزيزة! سامحيني على فشلي وضعفي وهواني: لست جديرا بك، وأنا أراك تقضّين ما تبقّى لك من عمر في بلد تخيّم عليه عاصفة هوجاء تريد أن أقرّ  بأنّك أدنى منّي إنسانيّة.
*****

يداهمنا خطر مهول لا نملك إلاّ أن نتصدّى له، هو:
أن نتحوّل من حلم الانتقال من جمهوريّة لم تعاملنا كمواطنين نحو جمهوريّة نحن نصنعها وبنا تشتغل مواطنين كاملي الحقوق والواجبات، إلى خضوع لأمر الارتماء في حضن خلافة تدّعي لننفسها الربّانية وتحسبنا رعايا علينا أن ننقاد لها كالأنعام!
*****

فيما كان النّاس يصارعون ويقاومون ويحتجّون ويهتفون ويتحدّون ويُضربون ويُضرَبون ويعانون وكان حفنة ممّن يزعمون امتلاك الحقيقة ويحتكرون صوت الربّ، ويدّعون الرّيادة للدّنيا والآخرة، يعتدون على الجوامع والمساجد والزّوايا والأضرحة والقبور، فينصّبون عليها أرهاطا منهم لا أحد اختارهم، ويغيّرون من ملامحها، ويشوّهون ما تحمله من معاني وألغاز وإشارات، وينزعون عنها ما تنطق به من تاريخ فيه الحلم، والحرب، والتعايش الأخوي، والحضارة، وفلسفة بديعة وفّقت بين المعنى والمادّة، وإبداع وفّق بين الحاجة وبين القيم.
*****

ولدي المنطلق نحو الرّحب: اعذرني على عجزي وفشلي! أو فلتلعنّي، فأنا باللّعنة أجدر!
لم يكن من حقّي أن أعيش وخفافيش تتكاثر لتحيد بنا من حلمنا في أن ننتخب من يمثّلنا بالاقتراع النّزيه إلى من يسوسنا بناء على أوامر تُنسب إلى الربّ!
*****

يا كلّ النّساء اللّواتي أحببتهنّ وأحبّهنّ وسأحبّهنّ، يا كلّ النّساء اللّواتي وثقن بي: أقبّل جباهكنّ وأياديكنّ وأقدامكنّ وأبكي ذلاّ في أحضانكنّ!
واللّه ما كنت أدري أنّني سأبلغ أرذل العمر وفي نفسي لوعة وحرقة وحسرة على كلّ الفرص السّانحة التي ضاعت، وعلى الإخفاق في حسن قراءة اللّحظة واستقراء الما ـ بعد، وعلى التلكّؤ والتردّد والإشفاق.
واللّه ما كنت أحسبني أعيش زمنا يهدّدكنّ فيه الكبت، والبهتان وعتمة الجهّال، وقصر النّظر، والتهافت، والانحطاط، والادّعاء بأن تنحدرن مرتبة، وبأن تُحجب عنكنّ الشّمس وأنتنّ شمسُنا، وأن تصبحن عورة وأنتنّ فخرنا، وأن نُصاب معكنّ بلعنة تزيحنا عن غدنا الذي كنّا نراكنّ إشراقه.
*****
أتصفّح جرائد... ألقي نظرة على الحاسوب... تهاتفني ابنتي... تضحك في وجهي زميلتي... أصحّح ما كتبت..: يطالعني وجه جدّتي التي كانت تساوي ألف رجل... يداعبني همس أبي وتشرق في وجداني بسمته البهيّة... يرتفع نبضي... تنتفض إرادتي... أسترجع توازني... وأسأل نفسي: ألم أقل أكثر من مرّة إنّ الثّورة سيرورة بالكاد انطلقت بعدُ... وهي ستمضي قُدُما لكن بين مدّ وجزر ومدّ حتّى تفلح... وألم أحذّر أحبّتي أنّنا ما زلنا سنعاني، وندفع، ونُضرَب، ونُقمع، ونُصدّ، وحتّى نُذبح... لكنّنا سننتصر... لأنّنا تعلّمنا كيف نروّض خوفنا وكيف يدوّي صوتُنا: سننتصر.
بدون أن أدّعي إلهاما أو وحيا وبدون أن أنتسب إلى لحظة ربّانية أقول: «لأنّنا أقسمنا على انتصار الشّمس... سننتصر!».
17 نوفمبر 2011