25 nov. 2011

قراءة ذاتية جدّا في راهن بلدنا : الأفق مدْلِهمّ لكنّ وراء الحلكة النّور

صدر في جريدة الشعب بتاريخ 25 نوفمبر


لم أكن يوما لا عرّافا ولا قارئ كتاب أو كفّ أو فنجان، ولم أفلح يوما في الاستشراف والتوقّع. لكنّني أرى الآن، أو يخيّل لي أنّي أرى، أفقا مدلهمّا : خُطبًا ملغومة، وجُمَلا تغتالُ، وطاعونا أسودّ يجتَاحُ دون أن يُلْحَظَ، وضِحْكات اختيالٍ خبيثة، وإصرارًا -إلحاحا- ثباتا- مداومة على الخطإ، وتدحرجًا بل تدهورا بالغ السرعة نحو الماضي السحيق الأغبر... وأرى دموعا، أسمع صراخا، تخنقني الغازاتُ، وتقطّع جلدي الهرم السيّاط...أرى دموعا، أسمع دماء تنزف، ويؤرّقني سوس ينخر كياننا، سمّ يتسرّب إلى وجداننا من مسامَنا، ويضنيني إصرارٌ على أن تخيّم علينا وفينا عتمةٌ كالدّياجير، كالقحط، كالطوفان المهلك الذي ما بعده صلاحٌ... أرى بلاءً شرقيً الكلمات لكنّه غزانا من غرب، أي ومعه جحافلُ. من خبراء لا يفصحون عن هويّاتهم، ومستشارون  ظاهرهم ليس كباطنهم، وأموالٌ خبيثةٌ لا تلسعُ بل تدمِّرُ في تأنٍ ولكن في العمق... أرى انقلابا على انتقال فتحَ الدّرب أمامَه فتيةٌ قضَوْا، وشباب جرحوا، وأوفياء هتفوا –وكتبوا-وصوّروا-وأخبروا-وتظاهروا-وحملوا أرواحهم على أكفّهم وساروا باتّجاه الشمس... أرى بنتِيَ التي مرّت عبر الهراوات والاستجوابات والملاحقات والتجسّس والترهيب وخيانة الأجوار وإصراري على عدم الفهم بل غياب فطنتي، أراها تنحو إلى قنوط-تبكي حظّ شعب يثور على النّهب فتنهَبُ ثورتُه-تعرّضُ غدها-جسمها-عمرها-لأخطار قدمت من وراء البحر أو هبّت من جحورها قد تكون أخطر وأفظع وأحلك وأدهى من عنف بوليس خبرناه وشراسة صبَّابةٍ أَلِفناهم ومكر أدعياء على السياسة انتهوا بأن "انخلعوا" فخلعوا... أرى صديقات ابنتي- أصدقاءها تنفسخ ألوانهم- يخبو إشعاع نواظرهم - يتلعثمون- تتعثّر خطاهم- تشتدّ بهم الحيرة- ومنهم من ينثني أو يخفت أو ينقلبُ... أرى نداءات نساء قاومن وقاومن وقاومن لا يفهمن إلى أيّ منقلب انقلبنا ولا كيف هانت تضحياتنا وتكاثفت الخياناتُ علينا... أرى ساسةً لا يرعوون- لا يخجلهم لا كيف ارتقوا ولا كيف يؤمنون ديمومتهم ولا من أين جاؤوا وكيف ولا إلى أين نمضي يلقون بنا- ينصّبُون جلاّديهم وأبواقهم باسم الربّ- يستبطنون شرّا، يعضّون بنواذجهم على سلطة كي لا تنزاح عنهم- معاولهم أموالٌ وحدهم يعلمون من أين جاءت ورفوشهم كَلِمٌ يسرقونها من كتب قديمة- حقيقتهم ادّعاءُ امتلاك الحقيقة حتّى الاعتقاد إيمانا باِمتلاك الحقيقة كلّها- سيؤلمون ويظلمون ويؤخّرون ويسدّون الأفق الذي أردناه فسيحا مشرقا ويسلّطون علينا شيئا كثيرا ممّا سُلِّطَ عليهم وعلينا من قَبْلِهم... أرى رياحا عاتية سموما لا تذرُ... أرى تناحرا وتدافعا وعناقا غادرا وتآلفا لا ألفة فيه... وأرى شعبنا مرّة أخرى يُغدَرُ ويُستَبْلَهُ وتُفعَلُ به الأفاعيل...
لم أكن يوما لا عرّافا ولا قارئ كتاب أو كفّ أو فنجان لكنّني...
أرى فخرنا وتيجان رؤوسنا –نساءنا : الأمّهات والرفيقات والأخوات والصديقات والبنات والزميلات يتهدّدهن البؤس ويَضربهنّ الحمق في كلّياتهن ومعاهدهنّ ومستشفياتهنّ ومصانعهن ومكاتبهنّ وفي الطّريق... أرى فتية يسعون إلى العلم، يجتاحهم جهلٌ منظّم يدّعي أن الصلاة أولى من الدّرس ويهاتف بدل أن يعمل ويعظّ بدل أن يفسّر... أرى شعبا ترابية ومهنية تنقضّ على الحريّات، تنفض الغبار عن شعب ترابية ومهنية عفا التراب عليها أوخلناه فعلَ  تبرزُها في ثوب جديد بدَّلَ البنفسجيّ سوادًا ولحىً وحجُبًا على كلّ ما هو جميل وبريء... أرى السّجن يتّسع... أرى الشعوذة والتدجيل يسكتُ عليهما... أرى أرهاطا ألهتها الكراسي والرغبة في الثأر تلسعنا سياطها تغتالنا ألسنتُها تهلكنا غطرستها... وأرى رأس مال خوّاف مكّار بهيم يضيع فرصَتُه التي منحها إيّاه شعبنا ليتحرّر ينقاد مرّة أخرى ويختارُ ما يحسبه أسلم السُّبل ويصطفّ مع من يحسبه أقوى فيدعمه ويبوس لحاه ويأتمر بأمره... وهو بالماضي القريب لا يتّعظ... أرى حلفا فيه أفّاكون وفيه شيء من محترفي اغتيال أحلام الشعوب وفيه أثرياءُ لا يرغبون في أن يُعْرَف كيف جمّعوا ثرواتهم وفيه سلطة قديمة متنفّذة لا تزال وفيه قوم أضاعوا بوصلاتهم.
لم أكن يوما لاعرّافا ولا قارئ فنجان أوكفّ أو كتاب لكنّني...
أرى جراحا وعذابات وبطالة تتضخّم وجوعا يستفحل... وأرى شابّات لا يستسلمن- وفتية طلّقوا الخوف بل روّضوه- وشعبا لم يعد يقبل لا بالعسف ولا بالقصف ولا بالصّمت المسلّط- ولا بالأوامر والتعليمات الجائرة حتّى وإن غُلِّفت بأغلفة قُدَّت من زيف يستفرد بالسّماء ويستحوذ على الأخلاق والقيم... أرى ما لا يراه المتهافتون والمتكالبون والمتحاملون والأدعياء وطلاّب الاستبداد : أرى حراكا لا ينثني، وأمواجا لا تنكسر، وغضبًا يستحكم، وتمرّدا يفيضُ... أرى تاريخا لا ينعطف- لا يتراجع بل يزحف –يتقدّم- يجرفُ...
لم أكن يوما لا عرّافا ولا قارئ كفّ ولا كتّاب ولا فنجان لكنّني...
أرى وراء الضباب المدلهمّ والرياح العاتية انفراجًا وحبّا وودّا وضياء وألوان قوس قزح وبسمات الرّضيع وهدوء الأمّ الحانية واندفاع الشباب !


 الصّادق بن مهنّي
21 نوفمبر 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire