5 nov. 2011

رؤية في يومنا هذا

يُخَيَّلُ إلي أن المفاوضات الجارية بين الأحزاب والتكتّلات والائتلافات ليست إلاّ مجرّد مساع لتعديل قسمة حاصلة وتحسين أنصبة على حساب أنصبة ا.
ولا يهمّني كثيرا من كان وراء القسمة ، ولا من يحرّك الخيوط التي ينصاع إليها المتقاسمون ، ولا كيف ستكون الأنصبة النّهائية ا.
ولا أحسبني مخطئا ولا أتردّد حين أقول إن مسارين هما بصدد التّحرّك : مسار ثورة حقيقيّة جديدة نوعيا وأعمق من أن نفهمها منذ الآن ولن تتوقّف ولن يُفْلَحَ في صدّها، لكنها ستظل بين جزر ومدّ و جزر حتى يحين تفجّرها  كالبركان، ومسار انتقال ديمقراطي متعثّر و مرتبك تخلّف عنه كثيرممّن لهم مصلحة فيه وأعرض عنه كثيرون لأنهم لم يتبيّنوا ملامحه ولم تغرهم مآثره وتشدّه، كي لا ينطلق  ،   قوى الفساد السّياسي والمالي والاجتماعي والتّشريعي المرتعدة خوفا والمتخفّية كالثّعالب بل كالذّئاب. وهذا مسار سيظلّ يتدحرج من أمام إلى خلف  ومن خلف إلى أمام وفقا لما سيكون عليه شأن المسار الأول اندفاعا أو تراخيا، ووفقا للتّجاذبات الجارية بين الأحزاب و التّكتّلات وا لا ئتلافات التي حقّقت نتائج في الانتخابات والتي لم تحقّق، ووفقا لما تكون عليه أفعال شارع وردود أفعال شارع في ما يتعلّق بالحريات عموما وبالحرّيات الفردية خاصة ا.
أمّا ما يبدو لي متأكّدا وعاجلا وحيويّا ومصيريّا في مرحلتنا هذه المباشرة فهو هذه الأفعال وردود الأفعال كيف ستتطوّر ؟ ومن يغذيها ويحرّكها ؟ ومن منها سيفوز بالغلبة : الأفعال أم ردود الأفعال؟
وأنا أرى الأفعال تتخفّى وتتغلّف بالمناداة إلى الحوار والتّجميع والوفاق و المشاركة في الحكم لكنّها تنبثق تتدفّق خرساء حينا و صاخبة حينا و تتلوّن كما الحرباء لتتستّر ... لكنّها تستمرّ بوثوق ولا ترعوي: كلمة هنا واعتداء خفيف هناك، ودعوة في جامع، وشتيمة في جامعة ونهي عن  منكر بل عن المنكربالألف واللآم وكما ضبطوه ،وإقصاء واستحواذعلى التّاريخ والحضارة،وانفراد بالدّين وأحكام الدّين وتفسير الدّين ،وتجاهل بل إنكار للزّمن والوقت والتّطوّر و التّوافقات الإنسانية .
وأنا لا أرى من لهم قدرة على الفعل في هذه الأفعال من أولي أمرهم يتحرّكون جادّين. فهم وإن نادوا سواهم إليهم ليزيّنوا بهم سلطة خُيّْلَ إليهم أنّهم ارتقوها بعد وأنّها ستثبت بل تدوم لهم ،لم يُظْهروا أبدا جدّية في مناداتهم لجحافل الجهاديين والسّلفيين والمعتدين على الغيربأصنافهم ليرعووا، بل عمدوا ويعمدون غالب الوقت إلى تحميل الضّحية وزر فعل الباغي في جمل أنيقة فيها مقدّمات عن نبذ العنف والتّطرّف وعن الانفتاح والسّماحة ،ثم تحاليل وخاتمات تلقي باللّوم على الآخر ويُفْهَمُ منها أن استمرّوا كيفما شئتم فالحقّ معكم ا.
وأنا أرى ردود الأفعال على  الأفعال الظّالمة حييّة خجولة وتتردّد، فهذا يقول أنّنا استُدرجنا لنقاشات ومناكفات خسرنا جرّاءها أصوات العامة. وذاك يقول أن الوقت للتّحالفات والتّآلفات وحكومة الوحدة الوطنية  والوفاق والإنقاذ وينسى أو يتناسى التّاريخ- حتى حديثه الذي لا يتعدّى قدما 1987 و1988- ولا يريد أن ينتبه إلى أن دعوتك إلى الإجماع ممن يملك أو يخيَّلُ إليه أنّه يملك مقاليد السلطة و يتصرّف بعنجهية المتسلّطين وإن هو غلّفها كلاما حلوا ، ما هي إلاّ خديعة تجرّدك من ميزاتك وتسوّيك بضدّك وتحوّلك خادما طيّعا يسخر منك النّاس .و لا يتبيّنون سوى نقائصك فينفضّون عنك إلى أحضان من ناداك أنت فارتميت تبغي حضنه وقد يعطيكه للأي أو ينفضك و...يذلّك ا.
نعم أنا أرى أيضا بعض ردود أفعال على الأفعال،أساتذة جامعات يصمدون ، وصفحات إلكترونية تنادي إلى التّآزر والتّكاتف والصّمود وبعض متدخّلات ومتدخّلين في برامج تلفزية يتعالون على خوفهم ويتكلّمون مخلصين ومفلحين ، وخصوصا مفلحات ومخلصات ، رغم صوت أضدادهم المتعالي والمخوّف ونظراتهم التي يتعمّدون إلقاءها شزرا، نعم أنا أقرأ بعض كتابات تبتغي أن لا نقع مرّة أخرى ، وأن لا يُضحك علينا مرّات ومرّات ا.
نعم أنا أسمع أناسا ينادون إلى أن لا نهادن في ما لا مهادنة فيه : حرياتنا ،حرياتنا كاملة في المعتقد والهيئة والعيش كما نرى ونحلم ونريد وفي أن نكون تونسيين كما نحن ، وفي أن يكون لنا فكرنا ورأينا ولوننا وطعمنا ، وفي أن لا يتسلّط علينا متسلّط ،أو يحكمنا قدر غاشم، أو يصرّ دعيّ أن يرينا قبلتنا حيث يراها هو وأن يرسم لنا دربنا كما يحسبه هو ...
نعم أنا أرى شابات و شبابا، وأرى أمهات وآباء وحتى أجدادا تعلّموا كيف لا يصمتون وكيف لا ينحنون وكيف لا يُثقَفُون بالعصا .
نعم ،  أنا أرى أطفالا وصبايا ويافعات ويافعين هبّوا هم أيضا يشاركون في صنع مصيرنا وقادهم أملهم إلى شوارع ملؤوها غناء وأناشيد أفزعت الجبّار ففرّ مخلوعا ،يجدّون ليحموا شمسهم وليبلغوا مبتغاهم ، وليحيوا أحرارا صناديد مختلفين متنوّعين يحبّون بعضهم بعضا ولا يصطفّون هلعا أو استكانة أو لسوء تقدير.ا
نعم أنا أرى ضربا وقمعا واعتداءات سالبة لحقوق النّاس وغمامات سوداء متراكمة لا خير فيها ورياحا هوجاء محرقة وعاقرة ...ولكنّني أرى أيضا ضياء بل شموسا تنير دروبنا وقدرة على الصّمود كنّا خلنا أنّا فقدناها ،وحناجر لن تكفّ تصدح وحقيقة تنبع من حيث لا يُنتَظَرُ ،وأرضنا خضراء تظلُّ فيها زيتون وبرتقال ونخل إكليل و سعتر برّي وأقحوان وياسمين وقمح وشقائق نعمان حمراء ،وبناتنا كما أبناؤنا إنسيّات يصنعن يومهن وغدهن كاملات منشرحات لا ينغّص عيشهن إحباط أو هزء أو خشية اللاّمساواة ا.
أرانا لا  نتحول إلى ضدّنا ولا نخنع ا.
أرى غدنا مقمرا مشمسا خصبا وإن عسُر المسير .


                                     31  10   2011            الصادق بن مهنّي
                                                                

1 commentaire:

  1. انها الحرب الباردة بين هاته الأطراف, الأحزاب والتكتّلات والائتلافات لإعادة توزيع جنرالات السلطة و لتقسيم الشارع إلى " كوريتين " : مهادن مهلهل حاضن مصفق، و طرف أخر لن يرضى بأي اختيارات, يحمل على عاتقه مسؤولية شق الدرب رغم كل العثرات

    RépondreSupprimer