26 nov. 2011

يوم انتصاب المجلس التأسيسي الثاني : قصر باردو بين باطنه وظاهره

صدر بالطريق الجديد بتاريخ 26 نوفمبر

بالأمس كنت مع من كانوا قدّام قصر باردو...
بادئ الأمر لم نكن إلاّ ثلّة يحدوها الإصرار تؤمن بإنسانيتها كاملة غير مجزّأة وتعتقد راسخة أن المقاومة ممكنة وأنّ أفقنا يمكن أن يتحرّر من السّحب المتلبّدة إن أصرّ المجتمع المدني على ذلك...
ثمّ شيئا فشيئا تبيّن لنا أنّنا لسنا قلّة، لسنا وحدنا، وأنّ آلافا يفكّرون مثلنا، ويعملون مثلنا، ويحلمون مثلنا، وكلّهم عزم على الصمود والمداومة والغلبة... وامتلأت الساحة هامات وألوانا وشعارات ونداءات...
وبادئ الأمر كان في الأحاديث خشية، وتوقّعُ الأسوإ والقبول ببؤس المصير ثمّ انقلبت الأحاديثُ ثقةً وحُسْنَ توقّع، وإصرارا على المداومة وتمسّكا بالحقّ يعلو ولا يعلى عليه...
البنات والنساء كنّ الأكثر أو هكذا خيّل لي... وتنظيمات المجتمع المدني التي لا تعمل كأبواق لأحزاب بعينها كان حضورها لافتا للنظر... رأيت "العفو الدّولية" حاضرة بقوّة ونظام وتحضّر : شعاراتها مكتوبة على لافتات لافتة وفرحانة... أولاد وبنات وأمهاتهنّ تنطلق حناجرهم من حين لآخر بندءات كانوا وجّهوها للأحزاب والقائمات وعزموا على أن تتحقّق تأسيسا وليس في غير التأسيس... ورأيت مناضلي  العفو الدولية بقمصانهم الموحّدة يطوفون بالسّاحة هم الجمال والعزّ والأنفة والعزم والهدوء وطول النفس... ورأيت "الديمقراطيات" لا تفتّ من عزمهنّ الطعنات... رأيت المدوّنين والمدوّنات... رأيت مناضلي  حزب العمّال وحزب العمل والطليعة وجماعة المبادرة وأحزاب أخرى عديدة : كلّ ينادي بما ينادي إليه، يوحّد بينهم الإصرار على تونس حرّة حديثة وعلى توانسة شامخين كرام... رأيت الشرطة منظّمة هادئة، في عيون شبابها ابتسام يضيء، مازحت البعض فلم يتجهّموا وردّوا على المزاح بمثله أو بالابتسام الخجول... رأيت رضّعا في عرباتهم ورأيت شيوخا تملأهم الأنفة يجاهدون عمرهم يطيلون حضورهم رغم الإرهاق... ورأيت نساء كبيرات يهلّلن  ويتصدّرن ويرعين أملا قادما ليس لهن بل لأحفادهنّ... بالأمس، أمام قصر باردو، كانت الشمس حليفتنا المخلصة... كانت الشمس حلوة، مساندة، داعمة وبديعة النّداء كما كانت ذات 14 جانفي...
بالأمس غلب الحدثُ الذي احتضنته بطحاء باردو الحدث الذي غلّفه قصر باردو : حُجِبَ الثاني وسطع الأوّل...في الدّاخل كانت الكهرباء والبروتوكولات، وفي الخارج كان الأوكسيجان والنور الطبيعيّ وتلقائية الاندفاع !
بالأمس رأيت في بطحاء باردو ما كنّا نخاله عجبًا عُجَابًا ومحالا : اختلاف وتنوّع يتآخيان ويتجاوران ويتحاوران : اختلاف جاوز حدود ما كنّا نحسبه غير ممكن : رجل يلتحف العلم ويرفع لافتة تنادي بنظام ملكيّ !.. وفتاةٌ تقف وعلى صدرها ما يفيد أنها امرأة لا تدعو إلى المساواة !..
اللوحة كانت جميلة وحبلى بالوعود البهيجة !
وحتّى الخدوش التي طالت اللوحة لم تكن أخطاء قاتلة بل أخطاء تدفع العين الشّريرة ونتعلّم منها ونتّعظ.. فخطأ أن يتمّ تدافع من أيّ كان نحو نائبة أيا كان صلفها وأيا كانت رجعيتها. وخطأ أن لا نكون منظّمين –رغم تعدّدنا- بما يحول دوننا ودون تجاوزات الردّ على الاعتداء بالاعتداء. وخطأ أيضا أن لا نقدر على حماية المتظاهرين والمعبّرين معا فيحدث ما حدث مع صحافي ومع محامية لم ندفع عنهما الأذى بالحزم المناسب... وخطأ أن يمنعني عضروط جديد اللحية من أن أصرّح بما أودّ أن أصرّح به لقناة سألتني...
وعلى عكس ما يفعله أولئك الذين أصبح من المفروض علينا أن نسمّيهم بأصحاب السيادة والسعادة من تبرير يتستّر بالكلمات المبهمة على كلّ الأفعال الهمجية التي ارتكبها وما يزال يرتكبها منتسبون إليهم أو محسوبون عليهم أتّفق مع جميع من سمعتهم يعبّرون عن سخطهم من التجاوزات التي حصلت وأدعو إلى أن نحرص جميعا على أن لا يصدر عنّا جميعا بكلّ ألواننا وفِرَقنا ما يسيء إلى الحريّة وعلى أن نتصدّى، بالمقابل، جماعة ويدا واحدة، لكل اعتداء وبغي يواجه جماعة أو واحدا من بيننا...
وإنّني لفخور ومعتزّ بأن أروي كيف تصدّت تلقائيا نسوة إحداهنّ في عمر أمّي أو أكبر، يغلّفها عطر الحكمة  والطيبة ويبدو من لباسها أنّها حاجّة وجدّة، لمن اعتدى على حرّيتي في التعبير، وأطّرن المندسّين معه وجادلنهم حتّى أفحمنهم...
كما أذكر بفرح كيف لاحق الشباب سارقا نطر من جميلة هاتفها... واسترجعوا الهاتف وسامحوا السارق رأفة وإشفاقا...
وإنّني لأنتظر ممّن تصدّروا المشهد ومن ناطقهم الرسمي الذي ما انفكّ يجهد نفسه ليصلح أخطاء غيره، وليثقّف ما اعوجّ من تصريحاتهم، ولينزل بالخلافة من سماوات مزعومة إلى أرض لا تطلب إلاّ شغلا وكرامة ومساواة واستقلالا وعدلا وحرّيات ... أي لا شيء غير حقوق بشرية بسيطة تولد مع الناس عندما يولدون، إنني لأنتظر منهم أن يلتفتوا الآن وقد اعتلوا فجأة السدّة أن ينادوا أتباعهم القدامى والجدد، وصفوفَ المتهافتين عليهم لا إكراما لهم بل سعيا إلى شيء من نفوذ، وإخوانَهم الخارجين من غياهب التاريخ، إلى التمسّك بحدّ من احترام إنسانية الإنسان وإلى أن يكفّوا عن تكفير من سواهم وأن لا يفسدوا في الأرض بهتك أعراض الناس كما يفعلون على الشبكة وبالتهديد والوعيد...
المجتمع المدنيّ أثبت مرّة أخرى وجوده... وإذا كنّا قبلا قد انتظرنا طويلا طويلا ليخرج الناس بالمئات بل بالعشرات ليحتجّوا على عهد لا يزال قائما وإن هرب رأسه، فإنّنا قد حقّقنا اليوم نقلة نوعية بتجنّد الرأي العام وخروجه ببضعة آلاف منذ اليوم الأوّل من انتصاب المجلس التأسيسي...
رفيقاتي، أصدقائي، أخواتي، رفاقي، صديقاتي، أخواني : لقد تحرّرنا من خوفنا، ونفضنا عنّا تخاذلنا، وفجّرنا القمصان المعطّلة التي كانت تمنع الحركة عنّا، وعادت إلى ألسنتنا رقصاتها.
... فلنداوم !
وأيّها المنتصبون في المجلس : لا تنسوا أنّكم إنّما تقتاتون من عرقنا، وأنّكم على تلك الكراسي لتخدمونا، وأنّ غضبنا يخدمكم إذ يصدّكم عن الانحراف والغطرسة والانزلاق في المنزلقات التي انتفض شعبنا من ضغطها !
نحن نخدمكم بحرصنا ويقظتنا وعزمنا، فلتخدموا  بلدكم بالإصغاء إلينا، ولتهتدوا بمن لهم الفضل الأوّل في ما أصبحتم فيه !    


 الصّادق بن مهنّي
23 نوفمبر 2011      

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire