22 nov. 2011

الأرشيف الأمني والفساد والمجتمع المدني


نشرت بجريدة الصباح الجمعة 18 نوفمبر 2011


بَدْءًا  أنَوِّهُ : الشارعُ هو الذي بادر، من يوم 14 بل قبلَهُ بأن نادى بحلّ البوليس السياسيّ والتجمّع وصاح عاليا : "وزارة الدّاخلية وزارة إرهابية !" .
بل إنّ بعضا من أجهزة البوليس ذاته قد أذكى الشّعارَ إذ نزل إلى الشارع بعد أيّام قليلة من يوم 14 ونادى بتبديل عقيدته وأقسم أنّه تحوّل من خدمة الدّكتاتورية إلى خدمة الشعب.
ثمّ نادت القصبةُ بآليات عدالة انتقالية وقالت أن لا سبيل إلى تونسَ جديدةٍ إلاّ بالمساءَلة والمصارَحَة.
والشارعُ هو الذي نبّه منذُ اللحظات الأولى للثّورة إلى الأرشيف  يُدَمَّرُ والوثائق تُحْرَقُ والحقيقَةِ تُطْمَسُ.
أمّا حكوماتُنا الوقتيّة المتتالية وأحزابنا ونُخَبُنا فقد ظلّت تَصُبُّ انتباهَها على أمورٍ أخرى ولم يَكُن من همّها لا ذاكرتُنا ولا الحقيقةُ ولا بنَاء الآتي تأسيسًا على ماضٍ يستقْرأُ ويُفَكَّكُ وحاضرٍ يُوَاجَهُ، بجِدٍّ وتدقيقٍ يوَاجَهُ !
بَعْدَ هذا التّنويه أقصُّ عليكم وقائعَ عشتُها أو سمعت عنها فيها نظَرٌ وإفادةٌ ومنطلقٌ نقاشٍ :
  • الواقعةُ الأولى : أرادَ وزيرٌ أن يَضُمَّنِي إلى فريقِه. ولم أكن راغبا. فتعلّلت بماضيّ فأصرَّ. فَنصَحتُه أن يَسْتَشِيرَ زميلَهُ في الدّاخِليَةِ.
ولمّا فعلَ قيلَ لهُ : "إنَّ الرّجل غيرُ موثوقٍ بهِ حتّى وهو قد انقطع عن سياسةِ الأحزابِ" ! ورُويتْ لهُ بالكَلم والحروف ذاتها جملَة قلتُها في مؤتمرٍ للعفو الدّولية قبل سنتين من ذلك !
  • الواقعة الثانية : ذات 14 أفريل 2010، وشبابُ الإنترناتُ يُعِدّون أنفسهم ليعبّروا عن رفضهم للرقابة بالتظاهُر في شارع استفردت به الغاشمةُ، دُوهِمَت دَارنا وخُلِعَتْ ونُهِبتْ. تمّ ذلك نهارًا وبشكل فجّ. وأوّلَ الأمرَ خَيَّمَ علينا الذّهولُ وغَدَوْنا نرى في كلً جارٍ وكلّ مارٍّ وكلّ واقف عيْنًا ومعتدِيًا. وغدا حتّى المحبّون المنزوون في سيّاراتهم حيثُ نسكن على الشاطئ عسسًا. لكن سُرْعَان ما سَأَل وَلَدِي من هامَةِ عامِهِ الرابع عشر : ألا يكونونَ قد زرعوُا في غرفنا عيونا وآذانا إلكترونية تَعُسُّ وتصُبُّ عن بعدٍ ؟".
ومن حينها، تحرّرنا، بدلَ أن نُصَابَ بالهلع تحرّرنا :
أصبحنا نتحدّثُ في كلّ شيء، وبصوت مرتفع، وانضممنا إلى بنتنا –بنية تونسية- في تعلُّقِ هِمَمِنَا بما كان يجري على الشبكة، ثمّ، بعدَها، بما جرى هناكُ في سيدي بوزيد ففي غيرها... ونحن الآن، أقصدُ هذه الأيّامَ، مُرْتاحُو البال لأنّنا نعرف أنّهم يعرفونَ، ولأنّنا نرى أنّ عيُونهم قد عادت تراقبُنا عند الباب الخارجيّ أيضًا،  ولأنّنا نزعمُ لأنفسنا أن ضربةً  تأتي منهم هم لَهِيَ أفضلُ من طعنةُ تأتي من حيثُ لا ندري !
  • الواقعةُ الثالثة : مهاجرون قطعوا البحر إلى أوروبا على خشبات رثّة تنقطع بهم السبُلُ في باريس فيحتلّون مبنًى تابعا للسّفارة التونسية (بشارع بوتساريس) والنتيجةُ وثائق بل أرشيف هائلٌ راكمَتْه المؤسّسَتَان : الدّاخليةُ والتجمّعُ ! أرشيف هائلٌ يُؤْخذُ بعضُه ويسَرَّبُ... بل وتقول عنه الصحافةُ والقنواتُ التلفزيّة الفرنسية أنّ منه ما بِيعَ في الشوَارِع.
  • الواقعةُ الرّابعة : مكاتب القصر الرئاسيّ تفتحها لجنة تقصّي الحقائق حول الفساد والرشوة (وهي على حالها وبنصّها وطرق عملها هيئة قابلة للنقاش ومدعاةٌ له. وهي على كلّ حال لم تعمل في رأيي ضمن دائرة أدوات العدالة الانتقالية) وهذه اللجنة تُعْلِمُ أنّها جمَّعت وثائق القصر وتصرّح أنّ الهارب كان يرتِّبُ أرشيفَه بتفصِيل ودقّة. وأنّ ضمن هذا الأرشيف وثائق عن أناسٍ كثرٍ .
بعد هذا- أنتقلُ إلى طرحِ تساؤلاتٍ وأسعى في ذلك إلى اقتراح مسالكِ تفكيرٍ حول موضوع الأرشيف الأمني والفساد والمجتمع المدني.
علما أنّني لا أرى في الفسادِ مجرَّدَ تعبيراتِه الماليةِ والاقتصاديةِ بل أركِّزُ على أن الفسادَ سيَاسِيٌّ وقِيمِيٌ أوَّلاً، وأن اختراق الفسادِ للسُّلَطِ الثلاثِ التنفيذية والقضائية والتشريعية هو الذي يسرّ للدكتاتوتر ولبطانته إغراق الناس في اليأس والقنوط والخنوع والاصطفاف، وسهَّلَ لهم نهب مستقبل أجيالنا القادمة.
وهذه تساؤلاتي محوصلةً سريعة :
1-   هل أنّ أرشيف البوليس السياسي يقفُ فعلا عند أبواب مقرّات الدّاخلية  أم أنّه يتضمّن أيضا ملفّاتٍ أخرى  تراكمت لدى التجمّع والإدارات والوزارة الأولى (التي كانت مثلا تشرف على التثبّتات الأمنية للانتدابات والتعيينات) والمصالح السجنية والمحجوزات والمحاضر وغيرها من الوثائق التي تحتفظ بها المحاكم المختلفة ؟ ومصالح الرئاسة ؟
ثمّ ألا يتطلّب العملُ على أرشيف البوليس أيضا أن نفهم كيف ومن قِبَل من كانت تجمّع المعلومات –صحيحة ومفتعلةً- ومن كان يستعملها. وأقصد هنا آليات الرصد والمتابعة وآليات بث الإشاعة وشبكات الإبلاغ... ومنها مثلا الصبَّابةُ والمخبرون والرقيب الإداري والشُّعَبُ التجمعيّة والعمَدُ والمعتمَدون...إلخ.

2-   هل أن التخوّف من سوء استعمال الأرشيف ومن استخدامه استخدامات قذرة للابتزاز الاقتصادي أو السياسي مثلا يبرّر كفايةً عدم فتحه أمام الراغبين في الاطلاع عليه ؟ وعلى عكس ذلك أليس في مأسسة الأرشيف وفتحه أفضلُ حلِّ لمنع الاعتداء عليه وسوءِ استخدامه ؟

3-   ونحن في مرحلة انتقالية، مرحلةِ انتقال باتّجاه الديمقراطية، أليس من الأفضل أن نعمل بمقولة "الحقّ في الحقيقة" وأن نَحُثَّ السير نحو مصالحة مجتمعية حقّةٍ نبنيها على المساءلةِ والمصارَحةِ ؟ وبالتالي أفليس  من الأنسب أن نقبل بمخاطرة الكشف حتّى عمّا هو فظيع ومذهل بغاية أن نتجاوزَ ونُعَالج ؟
ثمّ أليس الحقّ في الحقيقة أمرا يتعدّى الأفرادَ لِيشْمَلَ المجتمعَ كُلَّهُ وخصوصا كلّ من يُعْنَى  بالتأريخ خصوصا والكتابة عموما وحتّى بالإبداع المسرحيّ والسينمائي  وغيرهما ؟
وألا تتطلّب إعادة بناء التوازن النّفسي والقَيميّ للناس أن نقتلع جذور َ الفساد بأنواعه من أنفسنا جميعا وأن نفتح أعيُنَنَا عليها واسعةً مدَقِّقَةً بدل الإزوِرَار عنها ؟ (لا يجب أن ننسى أنّنا شعبٌ مريضٌ أكثر من نصفه مصابون بأزمات نفسية، وأنّنا شعب صبَرَ طويلا على ما لا يُصْبَرُ عليه). ولعلَّ اكتشافَ الحقيقة عارية خَيْرً سبيلٍ لعلاجنا !

4-   إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما سلف ذكره من أنّ الشارع هو الذي  بادر بالمناداة إلى صيانة الأرشيف. بل هناك حتّى ناس عرّضوا صدورهم لحماية الأرشيف. أليس من الأنسب أن يتولى المجتمعُ المدنيُّ بواسطة تعبيراته المستقلّة تجميع الأرشيف وصَوْنَهُ حتّى يتمّ الاتّفاق في شأن معايير الإطّلاع عليه واستعماله ؟
ثمّ أليس تكفّلُ المجتمع المدنيّ (عبر هيئة تُحْدثُ للغرض وعبر آليات عمل تعتَمِد التطوّعَ لتخفيف الأعباء المالية) هو أفضل حلّ لواقعنا ؟
5-   إذا ما أردنا أن نتوقّى من سوء استخدَامُ الأرشيف ومن استعماله خصوصا للابتزاز الاقتصادي والسياسيّ، أليس من الأنسب أن نُخرِجَهُ من يد السلطة القائمة أو التي ستقوم وأن نضعه في كفالة سلطة مستقلة، متعددّة المكوّنات، تؤمِّنُ ديمُومتَه وصونه وتقترح معايير لاستعماله ؟
وأنا، هنا، أميل إلى أن يتّم الأخذ بحذافيرها ورد في الصحافة من مقترح بعث هيئة تتكوّن من عسكريَيْن وأمنيَيْن وقاضيين ومؤرّخين بل أحبّذ أن تُفتَحَ الهيئةُ لمتطوّعين من الثقات يكونون من ناشطي المجتمع المدني المعنيين وكذلك لممثلين عن السلطة التشريعية.
كما أقترِح أن يكون العسكريان والأمنيان والقاضيان من المتقاعدين المجرّبين وغير المرتَهنين بسلطة إشراف.

6-   بالتوازي مع صون الأرشيف وتنظيمه ومع الإعداد لضوابط استخدامه، قد يكون من المناسب أن تُناقشَ في ضوء التجارب العالمية وبناء على ما سيُظهره تفكيكُ منظومة جمع المعلومات وشبكاتها التي اعتُمدت في بلادنا طوال نصف قرن وخصوصا خلال العشريتين الأخيرتين من نتائج أن تناقش منظومة جديدة لجمع المعلومات الأمنية وتخزينها تحفظ حرمة الفرد...وتخفّض أكثر ما يمكن من هذا العمل.
وإلى ذلك يبدو لي من المتأكّد أن يتمّ مراجعة المرسوم المتعلّق بحقّ الحصول على المعلومة الذي تمّ وضعُه خلال ماي الفارط بما يعزّز حقّ المواطن في الاطلاع على ملفّاته عند الحاجة.
ومقابل ذلك لا بدّ أن أشير هنا، إلى دور الإعلام الذي بدأت بعضُ صحفه في نشر وثائق من الأرشيف لكن دون اعتماد معايير حرفية كالمقارنة والتثبّت وتجنّب الإثارة وحفظ حرمة المؤسسات والأفراد.

وأخيرا، أختِم بالقول أن مسألة الأرشيف لن يُحسَم أمرُهَا حسمًا مناسبًا إلاّ متَى حُسِم أمرُ الانتقال إلى الديمقراطية بما يرسِّخُ الديمقراطيّة حقا أي بإرساء  دستور يضمن الحريات الفردية والجماعية ويكرّس المواطنة الحقّة ويفصل بين السلطات ويصدّ التفرّدُ والتسلّط. وهو ما يعني ضرُورَةً استمرارَ الشارع في ضغطِهِ من أجل حقّه في معرفة الحقيقة وبناء الذاكرة وإرساء علاقة سليمة بين السلطة والمواطن.  


مداخلة قدّمت في ملتقى : "أرشيف البوليس السياسي وموقعه في التحوّل نحو الديمقراطية " بتاريخ الأحد 13 نوفمبر 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire