22 nov. 2011

خواطر الأيام السخنة


نشرت بجريدة الجزيرة عدد نوفمبر 2011


أيّام ثقيلة، مزعجة، مقلقة، تأكل من العمر عمرا. أيّام من صبرنا، ومن أملنا، ومن عزم شبابنا قُدَّت... ولكنّها بدل أن تكون ضوءا وزهرا وفراشات، غدت رهبة، وحشية، وتحسّبا، ومرارةَ !
قال صديق جديد، غارقٌ عُمْرُهُ في التاريخ والسياسة والنّقابيات والدّيبلوماسية: «شعبَنا ينتفض، يثور، ينتفض ويثور فيفاجِئ الجميع وقد يئسوا منه... لكنّنا نبدعُ دوما في التوقّف عندما يلزم مواصلةُ السّير، ونفلِحُ أبدًا في إجهاض فرحتنا، وتسحَرُنا على الدّوام نقطةُ الانطلاق نعود إليها وحتّى إلى ما قبلها !... انظر إلى تاريخنا الحديث وحدَهُ: ضيّعنا كنه استقلالنا بحرب أهلية لا مبرّر لها... ثمّ زدنا في تفتيت جهدنا بتطاحن بين النقابيين... ثمّ صنعنا مطلع السبعينات حلم ديمقراطية قصفنا عمره من يومه الأوّل... وكذلك فعلنا مطلعَ الثمانينات... وفي 1987 عوّضنا حاكما مطلقا ومتعبًا بسارق ... وانتفض الحوض المنجمّي فظلّ لوحده... ووهبنا الشباب والشابّات وبعض ممّن هم أكبر سنّا هذه الانتفاضةَ ـ الثورة، وها هي نخبُنا تبذّرها، تبدّدها، تذروها للرّياح، تشدّها إلى الوراء...»، قال ذلك وأكثر والدّموع تتساقط مدرارا على وجنتيه!
وأنا أعرف أنّه يعلَمُ، ومليء خبرةً ودرايةً بكواليس السلطة والسياسة والمجتمع!
لم تتساقط دموعي مثلَهُ ولكنّني كنت أبكي في داخلي!
ألم يقل الكثير منّا إنّ هذه الثّورة نوعٌ جديد حدَاثيَّ وطليعيَّ يؤشّرُ لثورات القرن الجديد؟ وألم يقلَ الكثيرُ منّا إنّه من المحتّمِ والمتأكّد والحياتيّ أن نفهم سيرورة ما حدث وأن نغوص في فهم ابتكاراته وإبداعاته، الإرادية والعفوية، معا لنستَخلص منها الدّروسَ والمفاهيم وطرق تنظيم بديلة، ونطوي صفحة القرنين الماضييْن ونقفز دونهما إلى المستقبل؟
وألم يجد الكثيرُ منّا صلةً وروابط بين ثورتنا وما نراهُ من انتفاضات شباب في أثينا ولندن ووال ستريت ومدريد؟
وألم يقلَ العديدُ منّا إنّ على الأحزاب والتنظيمات الحقوقية والنقابية والمهنية أن تتأمّل في ما حدث وتفكّكه وتتولاّه بإعمال العقل حتّى تقدر على تصدّره فتمضي به إلى غايته؟
وبالمقابل: ألم ينبّه بعضُنا إلى أنّ الأحزاب والتنظيمات والشخصيات الوطنية والحقوقية والنقابية التي شاخ أغلبها، عمرًا وعيشةً، قد تتهافتُ وتتدافع، وتتهاوى، وتزدَري الشباب، وتتمترس وراء حصونها الفكرية والإيديولوجية والنضالية وتضحياتها، ولا تفهم، فتصنع لنا، بدل التقدّم بالثورة، ثورة مضادّة لا تقدّمنا بل تؤخّرنا وتجرّنا، عن قصد أو لا قصد، إلى الهاوية التي لم تكد قاماتنا تتمطّط عموديا رغم الهمّ والوهن لتطلّ من حافَتها على الأفق الجميل؟ أليس الحال ـ حالنا نحن ـ نحن جميعا ـ جميعا: من وعى ومن لم يعِ، من أراد ومن لم يُرد، من تشفّى ومن حزن، بيميننا وبيسارنا وبوسط الحلبة؟  أليس الحالُ ـ حالُنَا كمسخرةٍ ـ مهزلةٍ ـ لظًى ـ مشفقَةٍ ـ مأساة؟ 
لقد حدَث أن تناقشنا من قبل عن النكسة: أنكسةٌ هي أم هزيمة؟ ولحدّ اليوم لم نتّفق على إجابة بيّنة، وواضحة، وصريحة.
وها أنّني أتساءَل: أنحن قد سلكنا متاهة نكسةٍ؟ أم أنّنا قد أخذنا نتدحرج إلى أعماق هزيمة؟
شعبٌ أطاح سلميا بنهّاب سرّاق سفّاح ومخذولين طمّاعة مأجورين متهافتين جهلة أفّاكين.
شعبٌ عرّضت أمّهاته وبناته وبنوه وشيوخه صدورهنّ/صدورهم لرصاص لا/قتلة ولا/قنّاصين، أشباح لم يؤجّرهم أحد ولم يأمرهم أحدٌ، ولا يدري أحدٌ لا من أين قدموا ولا إلى أين انسحبوا.
شعبٌ ضمّ إلى جراحاته ومفازات المخاطر التي كان يعبرها جراحات شعوب كثيرة قدمت إليه من حدوده الجنوبية فكفكف دموعهم وأطفأ ضمأهم وحنا عليهم فأعاد إليهم البسمة والعزم.
شعبٌ بطل واجه بأيد عاريةٍ أو لم تضمّ إلاّ حجارةً رخوةً عند الحاجة القصوى، شعب ابتدع ذاكرتَه التي طُمِسَتْ، وجمع بين تقاليده في الزحف مشيا، والعصيان بلا سلاح، والصّبر تنطّعا، وبين استملاك أحدث تكنولوجيات التواصل، واستبله مستبلهيه  وناورَ وداور وحاور و... غلب لكن لم ينتصر... لحدّ الساعة لم يزل لم ينتصر...
ونُخَبٌ قلَّةٌ منها رافقت شعبَها وتحمّلت معه بل عانت... وقلّةُ أخرى اختارت المهاجر والصّالونات والمؤتمرات والملتقيات وأرسلت أبناءها وبناتها يعيشون ويدرسون في رفاه الغرب الكافر ـ العاهر الذي لا نريد مثل حُكْمه وفكره وقِيمهِ لنا...
نخبٌ قلّة قليلة منها لم يتهافت مع المتهافتين لإخماد اللهب، بل ومنهم من بذل قصارى الجهد حتّى يسكت الهتاف، وتُخْلَى القصبة وبطاحٌ أخرى في صفاقس وغيرها، ومنهم من سكت أو حتى تآمر كي لا يستمرّ هرج القلّة من عشاق الشمس وملازمي الأمل والحالمين بغد بديل ـ  بديلٍ كلّه، الذين استعادوا شارعهم ذات 15 أوت، استعادوه بعزم وإصرار لكن، على عادتهم، بلا عنف، فضرِبوا، وسمّموا  وكاد يسقط منهم شهداء جدّد...
نخبٌ وزّعت أقطابها وأساطينها، بل وحتّى الباهتين منهم على هيئات ولجان دعيّة ـ فاشلة ـ متكاسلة ـ غلب عليها جامعيون فاشلون سياسيّا تعرف العديد منهم الكتابات الكاذبة أو السطحية، وتكاثروا في اختصاصات لا تفسير لتكاثرها في عهد انعدم فيه موضوعُها، وأغْرِقَتْ بالمستشارين وذوي الخبرة والتقنيين فاختزلت تحقيق أهداف الثورة في تنظيم انتخابات صفّقت لنجاحها وهي تدرك أنّها الفشل كلّه: في الانحراف بها عن مقصدها، وفي المناورات والتحالفات اللامبدئية التي سبقتها والتي تخلّلتها، والتي لحقتها وتتلوها، وفي نسبة المشاركة فيها، وفي مجرياتها وحملتها، وفي نسب الأصوات التي حَصُلَ عليها «الفائزون» وحقيقة قيمتها.
نُخبٌ ألهاها الظّفرُ المزعوم عن واجباتها فتهافتت تتوزّع كَرَاسي لم تصْنَعْ بعدُ، وأعمى أبصارَها ضوءٌ ناصعٌ لم تستشعر انبثاقَهُ، فتداعت إليه وكأنّه مائدة نزلت إليها من السّماء لتتدافع حولها (كم تبدو لي هذه العبارةُ التي قدّتها «النّهضةُ» مؤخّرا مليئة بالمعاني والمدلولات و...التدافع !)... وها هم يتدافعون... وتغلبهم طفولتهم البائسة، وأحلامهم السريّة الباهتة، وعُقَدُهم التي راكموها، وشماتاتهم الخاصّة، فيندفعون يتدافعون على هذا القصر وذاك، وعلى هذه الوزارة وتلك، ويغلبهم طمعهم فمنهم من يطلّق أمّ أولاده وحمّالة مصائبه، ومنهم من يرى نفسه ذا أحقية في أن ينزل عليه الوحي، ويكلّم النّاس ـ الذين لا يرى فيهم إلاّ قطيعا يُقاد فينقاد ـ باسم الربّ، ويلوّح لمن سواهم ـ الذين لا يرى فيهم إلاّ كفرة ومنافقين ـ بالويل والثّبور!
باللّه علينا! هل نُخبُنا هذه هي القادرة فعلا على أن تسوس البلد، ولا تفسد له مجده، وتحثّ سيره نحو تحقيق التنمية والعدل والحرّيات؟ هل نُخبُنا هذه التي تتقاسم السلطات والرئاسات والوزارات والمناصب (وغدا النّصب؟) قادرة فعلا على أن تملأ كراسي السلطات والرئاسات والوزارات والمناصب بما يحقّق للشّعب وشبابه أهدافه في الشّغل والتّعبير وبناء غد أفُقُه الإنسانيّة كلّها والشّمس تسطعُ؟
إلى أيّ منقلب نمضي؟
اليوم فقط فهمت معنى عبارات «البلاد داخله في حيط»!
وأنا أكتب هذا، النّابع من وجداني على علاّته عفويا، يصيبني الدّوار، ويهزمني الغثيان، وأرتبك، وتتكاثف الحلكة أمام ناظريّ.
لكنّني تعلّمت أن أجد حتّى في أحلك القتمات مهربا إلى ضوء شمعة!
*****
مجتمعنا المدنيّ الذي كنّا نخاله راكدا، خنوعا، جبانا، انتهازيّا، أحلامه ماديّة صرفة وفرديّة محض، تبدّى يزخر بالطّاقات والعزائم والإبداعات...
مجتمعنا المدنيّ الذي أمّن للثّورة استمرارها وإن بغير ما نريده لها من زخم وارتفاع نسق.
مجتمعنا المدني هو الذي أمّن تلقائيا حماية أهله وناسه وأحيائه، ومجتمعنا المدني هو الذي أمّن لمن جاؤوا من وراء الحدود غذاءهم والمأوى ودواءهم وهدّأ من روعهم، وهو الذي كفكف دموع من داهمته السّيول. 
مجتمعنا المدني هو الذي هبّ ينتظم، يتنظّم في جمعيات وأندية، ويدفع ـ بكلّ جهده يدفع ـ حتّى لا ينحرف الحراك عن مساره، وحتّى لا «ندخل في حيط».
مجتمعنا المدني هو الذي ارتفع على جراحه يطلب للشهداء والجرحى وأمّ الشهداء والجرحى حقوقهم، وهو الذي تصدّى يفضح المناورات والمخاتلات وخداع حكّام السلطة القديمة وخدّامها وينادي إلى المساءلة والمحاسبة وفي قلبه عزم على المصالحة راسخة، وهو الذي أجبرهم على بعض إصلاحات اِضطرّوا إليها وأخرجوها، وإن هم قد مكروا أو تكاسلوا أو جرجروا أقدامهم، ومسخوا، وفسخوا، وبدّلوا، على أيّ حال قد أخرجوها... ومنها العفو التشريعي، ومكافحة الفساد، والمساواة في الحقوق بين الجنسيْن، وجبر الأضرار...
مجتمعنا المدنيّ هو الذي دفع إلى الخوض في مسائل كإصلاح النّظام الأمنيّ وحفظ الذّاكرة الوطنيّة وتأمين... مستلزمات إقامة عدالة انتقاليّة حقّة!
مجتمعنا المدني هو الذي تصدّى ويتصدّى وسيتصدّى لمختلف المهازل والمهاترات التي تريد أن تدفعنا حيث لا يكون لنا إلاّ واحد من خياريْن: التطاحن أو الانقياد إلى غياهب القرون الخوالي باسم الوفاء لسلف صالح لا يراه ولا يرى صلاحه سواهم!
*****

جميل أنت يا اللّه! جميل أنت يا ربّي، وخلقت الجمال وأبدعت فيه ونوّعت وزوّقت النّور، والألوان، والفراشات، والزقزقات، والإنس، واضطرام المشاعر، والأحلام، والحبّ، والمشاهد الخلاّبة التي لا حصر لأنواعها، والفكر المنطلق دائما، والرياضيات، والملذّات، والفلسفة، وسكون الرّضيع إلى أمّه، واحتضان العاشقة عشيقها، والتكاثر، والتطوّر...
جميل أنت يا اللّه! فلماذا يريدون أن يعمّ شوارعنا السّواد، وأن نصمّ أدمغتنا إلاّ على صوت واحد، وأن نطفئ أعيننا إلاّ من أفق ضيّق الضّيق رسمه غيرُنا، وأن لا تصدح حناجرنا إلاّ بدعاء ليس ضرورة دعاءنا؟
بديع أنت يا اللّه! ولم تظلم، ولم تقهر، ولم تُهِنّا، بل بوّأت الإنسان أعلى المراتب!
فبأيّ حقّ يريدوننا قطيعا طيّعا مطيعا يتحرّك حين يريدون، ويرتع حيث يريدون، ويسكن متى يشاؤون، ويذبحوننا واحدا بعد واحد ونحن ساكتون كما يشاؤون؟!
*****

أمّي العزيزة! سامحيني على فشلي وضعفي وهواني: لست جديرا بك، وأنا أراك تقضّين ما تبقّى لك من عمر في بلد تخيّم عليه عاصفة هوجاء تريد أن أقرّ  بأنّك أدنى منّي إنسانيّة.
*****

يداهمنا خطر مهول لا نملك إلاّ أن نتصدّى له، هو:
أن نتحوّل من حلم الانتقال من جمهوريّة لم تعاملنا كمواطنين نحو جمهوريّة نحن نصنعها وبنا تشتغل مواطنين كاملي الحقوق والواجبات، إلى خضوع لأمر الارتماء في حضن خلافة تدّعي لننفسها الربّانية وتحسبنا رعايا علينا أن ننقاد لها كالأنعام!
*****

فيما كان النّاس يصارعون ويقاومون ويحتجّون ويهتفون ويتحدّون ويُضربون ويُضرَبون ويعانون وكان حفنة ممّن يزعمون امتلاك الحقيقة ويحتكرون صوت الربّ، ويدّعون الرّيادة للدّنيا والآخرة، يعتدون على الجوامع والمساجد والزّوايا والأضرحة والقبور، فينصّبون عليها أرهاطا منهم لا أحد اختارهم، ويغيّرون من ملامحها، ويشوّهون ما تحمله من معاني وألغاز وإشارات، وينزعون عنها ما تنطق به من تاريخ فيه الحلم، والحرب، والتعايش الأخوي، والحضارة، وفلسفة بديعة وفّقت بين المعنى والمادّة، وإبداع وفّق بين الحاجة وبين القيم.
*****

ولدي المنطلق نحو الرّحب: اعذرني على عجزي وفشلي! أو فلتلعنّي، فأنا باللّعنة أجدر!
لم يكن من حقّي أن أعيش وخفافيش تتكاثر لتحيد بنا من حلمنا في أن ننتخب من يمثّلنا بالاقتراع النّزيه إلى من يسوسنا بناء على أوامر تُنسب إلى الربّ!
*****

يا كلّ النّساء اللّواتي أحببتهنّ وأحبّهنّ وسأحبّهنّ، يا كلّ النّساء اللّواتي وثقن بي: أقبّل جباهكنّ وأياديكنّ وأقدامكنّ وأبكي ذلاّ في أحضانكنّ!
واللّه ما كنت أدري أنّني سأبلغ أرذل العمر وفي نفسي لوعة وحرقة وحسرة على كلّ الفرص السّانحة التي ضاعت، وعلى الإخفاق في حسن قراءة اللّحظة واستقراء الما ـ بعد، وعلى التلكّؤ والتردّد والإشفاق.
واللّه ما كنت أحسبني أعيش زمنا يهدّدكنّ فيه الكبت، والبهتان وعتمة الجهّال، وقصر النّظر، والتهافت، والانحطاط، والادّعاء بأن تنحدرن مرتبة، وبأن تُحجب عنكنّ الشّمس وأنتنّ شمسُنا، وأن تصبحن عورة وأنتنّ فخرنا، وأن نُصاب معكنّ بلعنة تزيحنا عن غدنا الذي كنّا نراكنّ إشراقه.
*****
أتصفّح جرائد... ألقي نظرة على الحاسوب... تهاتفني ابنتي... تضحك في وجهي زميلتي... أصحّح ما كتبت..: يطالعني وجه جدّتي التي كانت تساوي ألف رجل... يداعبني همس أبي وتشرق في وجداني بسمته البهيّة... يرتفع نبضي... تنتفض إرادتي... أسترجع توازني... وأسأل نفسي: ألم أقل أكثر من مرّة إنّ الثّورة سيرورة بالكاد انطلقت بعدُ... وهي ستمضي قُدُما لكن بين مدّ وجزر ومدّ حتّى تفلح... وألم أحذّر أحبّتي أنّنا ما زلنا سنعاني، وندفع، ونُضرَب، ونُقمع، ونُصدّ، وحتّى نُذبح... لكنّنا سننتصر... لأنّنا تعلّمنا كيف نروّض خوفنا وكيف يدوّي صوتُنا: سننتصر.
بدون أن أدّعي إلهاما أو وحيا وبدون أن أنتسب إلى لحظة ربّانية أقول: «لأنّنا أقسمنا على انتصار الشّمس... سننتصر!».
17 نوفمبر 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire