30 oct. 2011

الآن وقد حَصُل مَا حَصُلَ : لنتجاوز !



تهافت المتهافتون ليناقشوا ويحللوا ويوجّهوا و يتعمقوا ويثقّفوا ويعلّموا ويوجّهوا ويقودوا !
تهافت كثير وأكثر من كثير من أساتذة جامعيين لم نكن نسمع عن أغلبهم، وكنّا نسمع عن بعضهم في وسائل الإعلام الرسمية، وقلّة قليلة منهم فحسب كانت تجود علينا، بعد لأي، بنصّ !
تهافت رجال قانون (لم أكن أتصوّر أبدا أنّه كان لدينا كلّ هؤلاء المتخصصين في القانون الدستوري !) وعلماء اجتماع وعلماء نفس ومحلّلون سياسيون (ماذا كان أغلبهم يحلّل و"يحلّل" قبل 14 جانفي ؟!) وصحافيون ومنشّطون عباقرة كانت تلوح على أغلبهم علامات الإجهاد لكنّهم سريعا ما تحوّلوا نجوما تحتكِر وتدَرّس وتحوصلُ وتختم حتّى متى كانوا قبالة جهابذة معترف لهم ! وها أنّ بعضهم يعود بنا سريعا إلى مقاطعة ضيوفهم متى لم يكرّروا كلامهم هم وإلى الاستدلال بشهادات الساسة والصحافيين الغربيين وكأنّها كلام الربّ الذي لا يُجَادَل، ويسلّطون أنفسهم محاكم تفتيش جديدة !
وتهافت سياسيون أو هكذا يُحِسَبون أو يحسِبُون أنفسهم : بعضهم تهافت يعلن أنّه الأجمل والأبهى والخيّر والأسمحُ. وبعضهم اِنجرّ وراء أشباح كراسي أو حتّى شبح كرسيّ وحيد ولهث وراء أوهامه الداخلية يحسبها أهدافا يجري بإتّجاهها. وبعضهم انهزم قبل أن ينهزم بل قبل أن يتبارز أو يبارز أو يتنافس. وبعضهم ارتمى في أحضان خصومه بل أضداده يقبّلهم ويلبّس لبوسهم وينافح عنهم إن شاركهم المجلس حتّى وهم صامتون متحفّظون. وبعضهم ظلّ يراوح بين اليأس القاتل يوما والتّعملق الدعيّ يوما آخر. وها هم الآن يريدون الظهور في مظهر من وعى الدّرس واستخلص الاستنتاجات القويمة : كلّهم يضعون أوزارهم على كواهل الشعب والآخرين والمفاجآت والمفاجعات والهارب والحظّ للعين. وبعضهم يتحيّن فجوة ليتسلّل إلى صفوف الغالبين ولا يفتأ يغمزهم ويتمسّح على عتباتهم وحتّى يناشدهم ويكاد يتوسّل إليهم. وبعضهم يركن في زاوية بدعوى رفض الاستجابة لمائدة لم يدع إليها.
وتهافت مثقّفون وكتّاب يحبّرون أوراقهم في ليلة أو أسبوع ويختارون عبارات وكلمات ظاهرها جميل وباطنها خواء أو عموميات، ويسوّقون لأوهام ويتستّر بعضهم عن ماضيه بالظّهور..
وبين هذا وذاك شابّات وشبّان ومحرومون ومضطَهَدون ومحقورون من كلّ الأعمار والأنحاء هبّوا وانفجروا وحيّروا العالم وأبهروه وأعطوا لتونس إشعاع قرطاج في زمانها ورجّوا عروشا وكراسي كالعروش وزلزلوها وأطاحوا بمن خالوا أنّ عزرائيل ذاته لا يقوى عليهم... بين هذا وذاك ثورة أدهشت العالم ومدّ لا حدود له واندفاع حوّل القيود والسلاسل والجبن والطمع والنفاق و"أخطاني وأخطى راسي" تاريخا بائدا ومندثرا رغم عدم بعد العهد به... بين هذا وذاك مطامح ومطالب وشعارات ونداءات وأغنيات لا تزال تردّد وأماني لا يرى بعد كيف يمكن أن تتحوّل ملموسا، وجرحى يُسامون التنكّر... بين هذا وذاك جهاتٌ هي الجهاتُ أُشبِعَتْ وعودا وأكاذيب وأذهلها تقاطر المتقاطرين عليها حتّى غابت عن وعيها ورأت في الوهم رخاءَها... بين هذا وذاك نساءٌ وبناتٌ هنّ منّا ونحن منهنّ كابدن وجاهدن وغامرن وتجرأن وحلمن وانشرحن وتفجّرن ضحكا وبكاء ونحيبا وزغاريد ولم يعدن يعرفن أنحو شمسنا نسير قُدُمًا أم نحو حفرة حالكة السواد ننجذب ... بين هذا وذاك أسئلة لا أحد يبغي طرحها أو حتّى سماعها...
وخلف هذا وذاك وهؤلاء سيرورتان لا تكادان تلتقيان رغم أنّ قدرهما أن تلتقيا : سيرورة المسار الثوري الذي انطلق ولن يتوقّف والذي لن "تبشّر" ثماره الحلوة القادمة إلاّ بعد لأي، على المدى المتوسّط، لكنّه أثمر بعد، علاوة على تصدّع النظام وفرار رأسه المخزي وانقشاع الكثير من آلياته وغطرسته، انهيار جدار الخوف واندلاع الأصوات الحرّة، وتجنّد الناس من أجل كرامتهم الفردية والجماعية، وأهبتهم الدائمة للاحتجاج والنضال عارين من أي سلاح لا تثنيهم رهبة من سلاح، وسيرورة الانتقال الديمقراطيّ الواسع والإصلاحيّ معنى ومعنيّين، والذي نراه قد انطلق وإن هو يتعثّر والذي لا بدّ له أن تثبت خطواته بإعلان آليات استثنائية لمحاربة الفساد وإصلاح القضاء وتأميم الإدارة والجماعات العمومية الجهوية والمحليّة والمؤسسات والمنشآت بما يضعها في خدمة العموم ويثنيها نهائيا عن خدمة أغراض شخصية أو فئوية أو حزبية، وييسّر، بالتّالي، انطلاق عمل تنمويّ حقّ يشرع في تحقيق مطالب التشغيل والتوازن الجهوي والعدل في توزيع الخيرات...
ولكنّ تقدّم السيرورتين يستلزم رجالا ونساء يشتغلون بحقّ وبعمق وبموضوعية على تحليل دواعي الثورة التي اندلعت، وعلى آليات اندلاعها، وأسباب انتشارها وإقناعها، وحيثيات تردّدها وتعثّرها، ويجترحون لشاباتها وشبابها إبداعا تنظيميا جديدا  ينهل من تجربتهم التي لم يُهيمن عليها التنظيم التقليدي الحزبيّ الممركز والهرميّوالمشلّ لحركة الأفراد ومبادراتهم والمعطّل للأقليّات والمعيق للإجماع متى بدا وللتمرّد على الإجماع متى كان الحلّ والمبتغى.
يلزمنا أن نراجع فكرنا ومناهجنا باِتّجاه مزيد الانفتاح على الناس ورصّ الصفوف وإطلاق المبادرات. ولكن دون أن يعني ذلك انفتاحنا على من يعادون حركة التاريخ وعلى من لا يعترفون بتطوّر البشر ولا يريدون أن يمارسوا واقعا الحقوق الإنسانية كاملة وجميعها، ودون أن يعني ذلك تعويلنا على ما اِعتمده أضدادنا من وسائل عمل مبدئية وتمشّ لا أخلاقيّ... فالتاريخ الجميل الذي ننشده لا يمكن أن نبنيه بالحيل والمناورات والخدع.
ولا ضيرَ في أن ننتظر أكثر... ولا يهمّ كثيرا أن نضحيّ أكثر !
أمّا أن ننقلب على أنفسنا حتّى نفوز فأمر فيه ضير كبير ومُنقَلَبَ المنقَلبَاتِ !
فلنتأمّل، ولنحلّل بعمق، ولنراجع أنفسها، ولنتعال على جراحاتنا وتناقضاتنا وعُسْرِنا، ولننس اللحظة المباشرة أو لنُولِها حَقّها وحقَّها فقط فلا نتركها تطغى علينا حتّى تضلّنا... ولنتقدّم... ولنضع أجوبة جديدة ولنبدع مناهج تقنع أبناءنا وبناتنا، ولنوسّع النّقاش والحوار، ولنهدأ بالا فمن أزاح الطغاة الغاشمين لن يخضع لطغاة جدد ولو تلوّنوا...
وعلى كبار السنّ منّا ممّن أعطتهم الحياةُ تجربة أو علما أن يتواضعوا... وأن يضعوا تجربتهم وعلمهم على محكّ التجربة الفتيّة التي أبانت عن فلاح وإبداع... وعلى التنظيمات القائمات أن تضع نفسها في خدمة أجيال مواجهة الرصاص بالصدور العارية والتنظّم بالفايسبوك والإيمان بحقوق الفرد والجماعة متكاملة ومتناغمة والسعي إلى تحقيقها هنا والآن وليس غدا وبتؤدة !
ولنترك هؤلاء الذين هيمنوا يتنازعون على الهيمنة، ولنحذر غرورهم وادّعاءهم ومغالطاتهم، ولنظلّ على تيقّظنا ندفعهم إلى مزيد التراجع عن ضلالهم ومزيد الاندفاع إلى ما يدّعونه من عقلانية وأنسنة وبحث عن التوافق، فإن مضوا في ذلك فنحن سنقبلهم ونزيد من دفعنا وإن بيّنوا أنّهم طاعون أسود فإنّهم سيسقطون... بتضحياتنا سيسقطون أو يهربون أو يخلعون !   



                                                                الصادق بن مهني
                                                               27 اكتوبر 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire