11 oct. 2011

أيا بنات بلدي تحيّة !

كنت قد خرجت للتوّ من سجون بلدي إلى بلدي... ولاقيتهنّ : لاقيت بنات الطّاهر الحدّاد يقفن ضدّ العسف، يرمقن المستحيل يرونه قدرا متاحا، يكتبن، يتحاورن، ينازعن في رفق، يصددن في تنمّر... وفيهنّ وجدت كثيرا ممّا يجسّد كثيرا من الأفكار التي اكتسبتها في السّجن قراءةً، ونقاشا مع بعض رفاقي، وتعمّقا في أحوال الدّنيا وغوصا في ذاتي ومسيرتي...
وقبل ذلك وأنا أخاتل الجلاّدين وقمع بورقيبة وبلخوجة وأتخفّى لأكتب وأنظّم وأستمرّ مع من لم تلتقفهم الشبكة لكي يستمرّ الصّمود، عايشتها شقراء تربّت في غزّ، تتكلّم الفرنسية وتخشى سهام عائلتها أكثر ممّا تخشى عيون البوليسوتحتى لأشهر حرّيتها كاملة وهي لا تخرج من غرفة محاصرة...
وقبلاً كانت... وكانت...وكانت...وكنّ :
-         كانت جدّتي للأمّ... أمّي تومانه... سعت جهدها لأن نتعلّم "الشلحة" (لغة الأمازيغ) لأنّها لم تكن تقبل أن لا يتقن أحفادها "لغة النبيّ محمد" ؛ هكذا كانت تقول. وفي تصرّفها اليوميّ عايشنا أنفة المرأة، وعطاء المرأة، وتحدّي المرأة... أكلنا من مرقها الطيّب وبهرنا جمالها، ومازلنا إلى الآن نعجب من قدرتها على التحمّل : فهي قد أتقنت أعمالا لا تعدّ : بنت، ودهنت، وحرثت، وقلّمت الشجر، وجرّت الأحمال على ظهر بهيمها، وزرعت، وحصدت، وربّت، ورافقت المطلّقة واليتيم، والطبّبت و... و... و... وهي لسخائها كانت تُحْسَبُ جِنيّةَ خيْرِ أو وليّة صالحة... ومن سخائها أن ألبستها بناتها قسرا قميصا جديدا لتذهب إلى مناسبة فعادت دونه وصامتة إلاّ أن من بسمى ظفر ودهاء لذيذ... وبعد لأي علمنا أنّها إنّما وهبت القميص لأوّل شابة لاقتها : تستّرت هي وإيّاها في حضن زيتونة معمّرة وأصرّت على أنّ القميص للشابة أنسب !
-         وكانت أمّي، وهي ما تزال، تحضنني وتوعّيني وتوجّهني... غالبت عسر الزّمن وكافحت حتّى لا تقهرنا المسغبة وقلّة ذات اليد... وعلّمتني القراءة وإعداد دروسي، وكيف أكتب نصّا جميلا وهي لا تفكّ الحرف حتّى اللحظة...
-         وكانت سعاد... رفيقة الصبا ومطلع الشباب التي تعلّمت منها التواضع والبساطة والتي حفّزتني في صمت باسم لأن أسعى أكثر وأكثر وراء المعرفة بأن كانت أوسع منّي معرفة...
-         وكانت أخواتي، ولا يزلن، بطلات تحمّلن في عزّة نفس وعطاء لا يحدّ، وصبرن على الضّيم، وعلى قهر تفضيل الذّكر، وكابدن لنحيى، وصمدن في وجه انقلاب المنقلبين وحقارة الوضعاء...
وبعدها كانت... وكانت... وكنّ ولا يزلن : أذكر بعضهُنّ أمثلة وأنا أدري أنّني لن أفيَ بحقّ الغالبية :
-         كانت، وما تزال لعمر أتمنّاه طويلا ومع صحّة سليمة، هذه التي أهدتني شمسين... وعلّمتني الخطو في زمن كان يصعب عليّ فيه أن أحسن الخطو... وصبرت على حماقاتي وعلى نقائصي، وكابدت معي وحمت قناعاتي... هذه التي عاشت طفلة ككلّ بنات جيلها ضيق الأفق ومخاطر تطليق المدرسة بفعل مبكّر الزّواج... وأذكر أنّها روت لي ذات مرّة ونحن نغرق في رمل طريق كيف كانت صديقتها تسلك ذاك الطريق كلّ عشية أحد مشيا حتّى تصلها فتركب معها "الجردينة" التي كان والدها يحملها عليها حتّى المعهد الثانوي... ثمّ أصرّت على أن تسأل عن صديقتها فاكتشفنا أنّها سافرت من رملها إلى صواريخ "آريان"...
-         وكانت قريبات وزميلات وصديقات ورفيقات درب، ولا يزلن، علّمني، وساعدنني ودافعن عنّي عندما عزّ الزميل الصدوق، والصديق الحقّ، والرفيق المنصف...
-         وكانت نساء من بلدي ومن بلدان أخرى، أثبتن لي، دون كلام، أنّ النساء هنّ فعلا مستقبل الإنسان، وأنّ الرجال ليسوا شيئا إذا ما استعبدوا المرأة، وأنّ في معاناة النساء خسارة الرجال قبل خسارة النساء...
-         وكانت ولا تزال صديقة، قصرها كقصر لينا، ومضاءها كمضاء لينا، وجدتها عندما لم أجد أحدا، وهدتني عندما عسر الهدي... وفدتني كثيرا...
-         وكانت، وما تزال، شمس أيّامي ومحرّكة هواجسي، التي تغضبني وتفرحني، توجعني دائما وبلسمي، التي تحدّتني وهي تتحدّى معوقات القدر، وبإصرارها قادتني إلى ذكرياتي، وحرّكت ما رسب فيّ، وصفّت غديري، ودفعتني إلى شبابي، ومع أضرابها صنعت حرّيتي، حرّيتنا، وفتحت أمامي سماوات لم أكن حتّى لأحلم بمجرّد الحلم بها... وعلمتني –في صمت- كيف تُجْتَرَحُ المواطنة حقّا يفتك وواجبا ملزما...
-         وكانت، وما تزال، هناءُ أراها تدرك في لحمها يعرّيه الغوغاء ودمها يَعْتَزِمُ سفكَه هؤلاء الذين حُلُوا ولم ينحلّوا، كلاب دم المنهار، يودّون إسناد نظامه ليبقى ولو معوقا،... أراها جمل محامل دربه شوك ولا ينخذل...
وأنا إذا أكتبُ ما كتبتُ فإنّما لأقول : أنا ابن أمّي وجدّاتي وأخ أخواتي وخالاتي وعمّاتي، وأبُ بنتي التي قهرت حتّى ما لا يقهر، وصديق صديقاتي ورفيق رفيقاتي وحبيب حبيباتي وقريب قريباتي ... ولولاهنّ، ولولا نساء العالم كلّهن، لما كنتُ إنسانا يتوق ويجنّح ويثور ويتحدّى  ويتصدّى ويرغب ويحلم و"يشيخ" (بالمعنى التّونسي) ويهوى ويعشق ويبحر...
أنا رضيع ضعيف وُلِدَ وهنًا فأنقذته نساء... وأنا غرّ عنود درّبته نساء... وأنا ضعيف خوّاف قوّته نساء... وأنا عربيد قوّمته نساء... وأنا تائه مهّدت لي الدّرب نساء...
وأنا أدرك أنّه لولا النساء لما كنت، لما كنّا، ولما كان الإنسان...
من النساء جئنا، وبالنساء بقينا، ومن دفقهنّ وحضنهنّ طرنا وطرن باتجاه الآفاق الرحبة...
ولولا النساء ما كنّا رجالا، ما كنّا...
ولأنّ النساء، هنّ كلّ ذلك ولأنّهن علّمنني الإخلاص والمكابدة وطول النفس ورفض الهوان والوقوف أمام العسف فإنّني لن أكفّ، أقسم : لن أكفّ أدفع عن نساء بلدي الباغين والحقودين والجهلة والأدعياء والناطقين باسم الربّ والمتجبّرين والرافضين لدوران الأرض  وجريان الكواكب والمجرّات والزّمن والمنشّدين إلى سلف قضوا وانقضى زمنهم...
 
 
                                                               الصّادق بن مهني
                                                                6 أكتوبر 2011
 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire