2 mars 2012

عمار منصور!

الصادق بن مهني

عرفتك بدءا، عن بعد، أحد أفضل تلامذة المعهد الثانوي بقابس تحريرا، ثم عرفتك شاعرا أبهر في جمعه بين رقة اللغة والصورة، وبين عمق الثقافة. بعدها كنت «نجمة الشمال» التي قادتني الى  النضال مع أجيال من الرفيقات والرفاق الذين بدأنا منذ وهلة، نفتقدهم الواحد تلو الآخر.
حللنا، المختار اللغماني ومصطفى الزمزاري وآخرون وأنا، بكلية الآداب أواخر 1971، وكان في عزمنا أن ننضم الى «آفاق برسبكتيف» فكنت مدخلنا الى «آفاق برسبكتيف»، وكنت أنا أول من اخترته منا للانضمام.
لم أنس يوما، ولن أنسى أبدا ذلك اليوم الذي أخذتني فيه من يدي ونحن نتحول في حديقة الكلية وزففت لي الخبر: «بعد التدقيق والملاحظة، قررت المنظمة أن تفتح لك باب الانتساب اليها»!
عمار! أناديك كما ناديتك، وسأظل أناديك وفي عيني وجهك لم أره يوما عبوسا. نعم لا أذكر أنني رأيتك يوما إلا ضاحكا.. فأنت حتى متى  غضبت تقهقه.. قد تزمجر وتهدر وتغدق سيلا من السباب الذي لا يحسه سواك.
عمار! أما زلت وآنت في غير اكفهرار وفي قسمات وجهك الـ«السماحة».
عمار! أمازلت تذكر لقاءاتنا مع عمار الآخر (الزمزمي ـ العربي) ومحمد التومي ومحمد معالي ومحمد قندوز والطاهر البكري.. أمازلت تذكر مقهى الديوان بالمدينة العتيقة، ومقهى «الدينار»، وذلك الولد «الجندوبي» الذي ـ في ظلك ـ تعلمت معه خطاي الأولى في «الربط» مع الطبقة الشغيلة.. وكان بائعا متجولا أصر ذات يوم وقد قرأنا عليه بعضا من «العامل التونسي» فطرب لأنه أدرك أننا استثقناه، فخلع عليك كسوة.. وكنت لم تغير كسوتك شهورا، بل دهورا لأن منحتك الجامعية كانت تذهب للتنظيم..
عمار! أراك تقهقه وتهديني لفظا بذيئا.. لكنني معك «مسامح على طول».
عمار! أنت من فتح النضال أمامي.. ومع أنك كنت صاحبا وصديقا، فقد كنت شديدا معنا، علمتنا أن ندرس كثيرا وأن نناقش كل شيء وأن ننقد.. وعولت علينا وكنت على الدوام أفضل منا، لكنك فتحت أمامي الأبواب..
منحتني الثقة في نفسي، ودفعتني، وأقنعتني أن المناضل كامل أو لا يكون.. شجعتني على الشعر، ورافقتني الى السينما، وكلفتني بترجمة كراريس «برسبكتيف»، وبينت لي أنه علينا ونحن طلبة آداب، أن نتقن الفلسفة وعلوم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس وكل العلوم..
وفتحت  أمامي أيضا باب التحدي.. جعلتني أدرك أننا ـ لا محالةـ ماضون الى التعذيب والسجن، فلما كان التعذيب والسجن كانا أهون على النفس، أو هكذا بدا لي..
عمار!  لم أقلها لك من قبل حياء من حيائك: لك فضل كبير عليّ فيما تعلمته، وفي ما استفدته، وفي منحي الحياة التي سلكتها!
عمار!  كم شربت على نخبك.. والآن سأشرب على نخبك كل مرة مرتين، مرة لك ومرة لي..
عمار!  قد نكون محظوظين لأننا لم نحقق الكثير من غاياتنا، ولأن هذه الثورة التي أحيتنا لم تكتمل ـ ولا  أريد أن أقول أنه يعسر أن تكتمل ـ فأنا  أرغب في أن أتمسك معك بحبل الأمل، ولكننا ـ اعترف بذلك ! ـ حققنا ثورات وثورات، التفت الى تلك الطفولة التي عشتها في المنصورة، والى الحرمان، والى القحط الفكري الحضاري، ثم انظر الى نفسك كيف أصبحت وأصبح أبناؤك؟
لقد نجحت، وإن لم يكتمل النجاح! التفت الى الكفاف والقمع وانتظرنا وقد طالنا الطغيان وتحديناه ولم نركع، سترى أننا أفلحنا، وإن الى حد.
عمار!  أراك الآن تمشي في آرية برج الرومي راويا آخر ما اكتشفته في ثنايا الكتاب.. وأراك تقاوم الاحباط والتخاذل والجو الخانق.
حينا تثمل وحينا تنهك صدرك بالدخان، وحينا تغرق في الضحك والنوادر، وحينا  تلتهي بمقال ترسله الى «الصباح» أو «الطريق الجديد» أو «المغرب»، وحينا تعود الى حبك الأول: الشعر.
ويجتاحني الحزن لأنك لم تر شعرك في كتاب منشور.. غير أنني سأفي لما  علمتنيه من تصد وتحد، ومع رفيقتك الصبور وأولادك، لا شك سنفلح في أن نهديك كتابك بعد حين غير بعيد.
عمار!  كثيرون لا يعلمون أنك في «برسبكتيف» ثم في «العامل التونسي» كنت على الدوام في المقدمة، وكثيرون لا يعلمون أنك كما علمت الأجيال وأنت مدرس وكاتب مقال، علمت كثيرين مثلي كيف يكون حبهم للوطن ولادا وفاعلا!
عمار!  ألححت عليّ أن أراك وانت في مشفاك، لكنك أصررت أن «لا موجب»!
وصدقا أقول لك أنني أدركت حينها أنك على أهبة تترجل، بل أن ترقى، وصدقا أقول أنني  تيقنت وقتها أنني قريب منك أكثر مما كنت أتصور. وما كنت أتصور كان يكفيني..
عمار!  أنت العطاء والمسامحة وسعة الصدر والصداقة والانعتاق والتحليق والنضال والاخلاص والتواضع والإباء والقهقهات الحلوة والشعر البديع، والصبر والقلم الوضاء والثبات على المبدإ والانغراس في تضاريس كينونتنا.
عمار!  كالعادة كنت سبّاقا، وأنت الآن تتكشف على ما نجهل.. بصداقتنا إن كانت هناك حقا  سماء للأرواح، سلم على نور الدين بن خضر وأحمد العثماني وفتحي المسدي، وصديقك الذي دفناه قبلك بأسبوع يوما بيوم محمد بن جنات ولا تنسى الآخرين،  فأنا لا أريد للقائمة أن تطول.. ولهم جميعا، قل إننا على العهد  باقون، ونحو الشمس ماضون وإن تبدّل المغول!

1 commentaire:

  1. و أنا أتابع ما جرى للمسرحيين التونسين من عنف
    السلفيين أقرأ سطورك المضيئة و الحزبنة تحمل إلي في ديار الغربة نعي الصديق عمار منصور و كم كانت ثورته لا تخلو من حب ومزاح و عبث جميل مرهف
    صورته تبقى لاصقة بصورة أبناء شعبنا المتواضع السخي إلى حد نسيان النفس
    عمار كان يدخن أيامه المشتعلة كلفاف السيجارة و يحترق من نفاثة صدره حبا لتونس و ناسها الطيبين الفقراء و المهمشين الذين كانوا سر اهتمامه أدبا و شعرا وكم من مرة كان عنفوان السبعينات يحدو بنا
    إلى أحاديث قوية م صادقة و أخوية صاخبة في تلك المواضيع
    غابت عني أخباره سنوات عجاف و سعدت أخيرا بحركيته في الحامة كحامل النور لمن طال ليلهم سيبقى ضحكه يرن في اذني كجرس التحدي الأبيّ المخلص إلى شعبه

    طاهر البكري

    RépondreSupprimer