2 mars 2012

جربة في خطر، فلنهبّ كلّنا للتصدّي!

جربة جِرْبَةٌ فيحاء قدّها الزّمن ورسمت ملامحَها الكبرى الطبيعةُ واِجترح تفاصيلَها إنسان كان عليه دائما أن يوائم بين اندفاعه وبين توازناتها.
حتّى غلب الاندفاع وساد التهافتُ وانفتح البحر والسماوات وسَهُل التوافد سيّاحا وعَمَلة من كلّ فجّ لم يتعوّدوا، حيث عاش أهلُهم، لعبة التوازن، ومستثمرين أغلبهم أشباهٌ لا يعنيهم إلاّ الربح السّريع ولا يهمّهم إستشرافُ الغد لصَوْنه وفاسدين ملؤوا جيوبهم من غضّ الطرف وتجاوز القوانين والتراتيب وانتهاك حقوق الغير حاضرين وأجيالا قادمة.
وتعوّدت جربة أن تصبر وتصمت وتنحني.
حتّى فاض الكأس إذ عمّ النّهش والبتر وطغى المتنفّذون وتغابى المتعاملون وتصامم الحماةُ وتبدّلت المعاول والرفوش منظوماتِ عمل متجبّرة قوامها آليات متعملقة أوجعت الشواطئ وأكواز الرمل والمناطق الرطبة وطوابي الجدود، وكشفت ستر عروق الزيتون الدّهري والنخل الباسق في الاتجاهين، نحو السماء وباتّجاه الماء، ولم تستح حتّى من حجر وفخار ورفاتٍ ومرمر ومعالم ظلّت على حالها رغم القرون فجرفتها أو حفرتها أو نهشتها طمعا في كنوز وفسخا لماضٍ مخالف واستيلاء على عقار..
ولماّ فاض الكأس هبّ الناس يفضحون ويكشفون ويفسّرون ويوعّون وبدؤوا حتّى في التصدّي ورفض التجبر ونبذ التخاذل..
وإذ تكلّمت الثّورة تحرّرت العزائم ومُزّقت الكمّامات وتنادى البواسل وقالت بنات الجزيرة «أن لا خلاص إلاّ بالمقاومة والتصدّي وأن لا شمسَ إلاّ من التّوق الهدّار».
غير أنّ للثورة مَكْرَها... ولمن حذقوا فنون المراوغة والمخاتلة واغتنام الفرص وتسخير العام للشخصيّ خداعٌ يخدع ويتجنّى ويهدم.. لذلك تهافت المتهافتون من كلّ حدب وصوب: هذا يقضم أرض جاره، وذاك يكدّس دنانير سرقها رملا وأتربةً أو نخيلا اقتلعه، والآخر يبدل دُرَرَ المعمار المتميّزة اِسمنتا وملاطا أخرس لغايات في نفسه فيها ادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وفيها الاستكراش واللهثُ المتخفّي وراء المغانم الخسيسة، وآخرين دمّروا كلّ شيء: البحر والشواطئ والأجنّة والهضاب ومنازل الناس، وغيرهم غافل حرّاس المشاريع فأنشأ طرقات لن تدوم وملاعب لن تصمد...
ورغم توقّف السياحة لم يفتأ «مستثمرون»، بل منتفعون من سياسات الاستثمار، لا يهمّهم غدُنا يبنون لا لشيء إلاّ لأنّ غنيمتهم من البناء تأتي وليس من السياحة..
 وإذ أنّ الضغط المتعالي والشطط المستفزّ يولّدان الانفجار فقد انفجرنا صيحة استغاثة وإعلان ثبور ونداء إلى إيقاف الفواجع..
غير أنّ انفجارنا لم يزل رفيقا بالفاسدين، رحيما بالمتقاعسين، وما تزال خطاه غير منظّمة وغير منتظمة ولا تسير على هدى. الخُطاف لا يصنع الربيع، وبضعة عشرات من المتحمّسين لا يصنعون التحدّي، وأسبوع أو أسبوعان من الإعلام لا يصنعان رأيا عاما، وتنابيه عدول التنفيذ ومكاتيب الإدارة لا تحرّك سواكن الخامدين.
هذا تراث طبيعي يُدمّر، وهذا تراث إنسانيّ يُزال، وهذا المستقبل تُشَوَّه عناصر بنائه.. وهؤلاء «أعيانُ الجزيرة» المسؤولون عن حاضرها لأنهم هيمنوا على ماضيها ساكتون متغاضون أو متواطؤون وحتى شامتون.. وهذه السلطة تخرّف عن أولويات غير أولويات الواقع المرّ، ولا تريد أن تنتبه إلى أنّ ما يُدمّر الآن جربة لا سبيل البتّة لا لعلاجه ولا لتداركه.. وهذه الإدارات ناعسة خائبة.. وهؤلاء متضرّرون كُثُر لا يدفعون الأذى لا على الملك المشترك ولا حتّى على أملاكهم.. وهؤلاء مموّلون موّلوا الفساد وما يزالون يموّلون الفساد ويصمّون آذانهم عن صرخاتنا..
معالمنا، صروحنا، أضرحتنا،  جوامعنا تُشوّه وتنهار وتُنهَب وتُحرَث.. ما يجري في «مينانكس» و«هنشير بورقو» ألا يذكّركم بحرث قرطاج ورشّها ملحا؟! وهذه الجوامع والمساجد والأضرحة التي ميّزتنا بنقائها وصفائها وتواضعها وبهائها ألا يهمّهكم أن تبقى؟ اِرجعوا الى القواميس وكتب الاختصاص ومنشورات الفكر والثقافة وحتّى مطويات السياحة وسترون كيف أنّ ما يُدمّر إبداعٌ إنسانيّ متميّز ومتفرّد؟... وهذه المشاهد الطبيعيّة ـ ما أبدعته الطبيعة منها وما اجترحه الإنسان ـ ألا يهمّكم أن تتبدّل وتزول؟ حُفر بل فوهات براكين في كلّ مكان، وفصائل نخل انقرضت، ومبان لا فكر ولا فنّ وراءها تسدّ الأفق، والزيتون الذي لم تخلُ الجزيرة منه منذ الإغريق والذي موّن روما والباب العالي وبايات العاصمة يُجتثّ،  والفنادق رغم فراغها تتكثّف وتتعملق، ونحن هامدون!...
 كيف نتغاضى ونتصامم ونتعامى عن فتية قدّوا من جهلهم قناعات علينا يفرضونها، ويسكت «شيوخنا» و«فقهاؤنا» ومن كانوا يرون أنفسهم «أولى الأمر فينا»؟ لماذا كلّ هذه الفوضى العارمة المدمّرة؟  ولماذا يسرق السرّاق الإرث والأرض وأملاك الناس ونستحي حتّى من أن ننبس بطرف؟
نعم أنا أشهد للجمعيات ولبعض من الناس والرجال بتحفّزهم وحماسهم وتناديهم وتعاليهم على الجراح والسموم والتعدّيات التي طالتهم لتثبط عزائمهم، لكنّني أنشد المزيد وأعتقد أنّنا قادرون على المزيد.
لنصرخ مرّة ومرّات وكلّ يوم..  ولنناشد المؤسّسات الدُّولية ولننافح المؤسسات الوطنية، ولنفسّر، ولْنَبْكِ غير مستحين ولا متحفّظين، ولنصرخ ونندّد، ولنتصدّ للسرّاق والفاسدين بحزم يقظتنا وبهدوء دفعنا، وبتنادينا لنصدّهم وإن برفق ودون عنف.
وليقم أصحاب الأعمال الحقيقيون بالتصدّي معنا نحن ـ عامة الناس ـ فهم أيضا متضرّرون بل إنهم متضرّرون أكثر منّا.
وليبادر المختصّون في الآثار بتسييج المواقع وحراسة المعالم ونحن معهم لنجد التمويل والأيادي العاملة.. عليهم فقط أن يغيّروا من أنفسهم ومن مقارباتهم وأن يختطّوا   حملات حفر وكشف ننادي لها اِختصاصيّي العالم ونجنّد لها أبناءنا من العاطلين فنحقّق معا وفي نفس الآن أهدافا كثيرة.
وليوفّر أصحاب العقارات في «الحوم» أراضي للمساجد الجديدة تحمي الجوامع العتيقة من التشويه والهدم..
وليشهد من في وسعه أن يشهد على سرّاق الآثار وحجارة الجوامع فييسّروا التصدّي لهم..
وليتوسّع التصدّي إلى كلّ من له في جربة مصلحة:  المستثمرون والمتساكنون الجدد ومنهم آلاف العمّال جاؤوا من كلّ حدب وصوب وولاية وأصبحوا يستفيدون من جربة أكثر من سكانها الأقدم عهدا..
ولننتبه: جزيرتنا، وهي قطعة من وطننا، ودرّة من الملك الإنسانيّ العام، تنزلق نحو هاوية سحيقة..
ونحن إن فقدنا ذاكرنا وتراثنا ومميّزاتنا فقدنا غَدَنا..
ولننتبه أيضا: جزيرتنا لا تفقد مشاهدها ومعالمها ومميّزاتها الطبيعية والمشهدية والمعمارية والنباتية فحسب، بل هي تفقد أيضا عنصرا بشريا أسهم في جمالها وتفرّدها وأثراها: يهودُها..
منازل جربة ومبانيها والشبابيك التي تنتزع منها عن غير حق لتُباع خردة أو أثاث تزويق، والأبواب وأدوات الفلح والحليّ وأشياء أخرى كثيرة تشهد ليهودنا..
ويهودُنا لم يتبقّ منهم إلا قلّة قليلة علينا أن نحميها: أن نحميهم من الهمّج منّا، وأن نحميهم من الصهيونية التي تناديهم، وأن لا نتركهم للفقر والزحام فيفنى جميعهم...  «زاكينو» أحد الجرابة المتميّزين لم أقابله إلا مرّة  أو مرّتين، ولكنّني أعترف أنّني تعلّمت منه عن جربة الكثير الكثير، وأنّني من حبّه لجربة استَمْدَدْتُ شيئا من عشقي لتراثها وناسها.. هم منّا ونحن منهم وجربة منّا جميعا ولنا جميعا.. وعلينا ـ لأنهم قلّة قليلة ـ أن ننتبه إليهم ونحميهم مواطنين كاملي الحقوق والواجبات، ونسند ظهرهم حتّى لا تغريهم باريس ولا تغويهم إسرائيل..
لنهبّ جميعا، كلّ من موقعه ومعا بكل ألوان قوس قزح، لنحمي جزيرتنا، درّتنا، تراثنا، ثراءنا، غد تونس الجميلة!

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire