15 avr. 2012

في زمن حرية التعبير

الصادق بن مهني جريدة الجزيرة أفريل 2012



تعافُ نفسي أن أنطلق في الكتابة وأنا أحتاط من اندفاعي وأناور حتّى لا أنقاد لوجداني وأنصاع لدواخلي، وأمسك بلجام قلمي حتّى لا يقودني إلى المحظور أو ما يبدو محظورا. وهذه هي حالي اللحظة. بل إنّها حالي منذ أسبوعين أو أكثر: أتناول الورق والقلم وأهُمُّ بالكتابة فأحسّني مكبّلا، ولا يريد النصّ/النصوص الذي/التي حرّرته/حرّرتها في داخلي أن ينساب/تنساب.
قد يستغرب قارئي ما أقول ونحن في زمن حرّية التّعبير.
وقد يستغرب ذلك أكثر قارئي المعتاد على نصوصي منذ عشريتين ـ وقبل 14 جانفي ـ  فهو قد رآني أكثر من مرّة أبلّغ ما أريدُ إبلاغه واضحا رغم عُسْرِ الآن ودقّةِ الموضوع...
وحتّى لا أرهقَ قرّائي وحَتّى لا أناورَ أكثر أفصح جليّا فأقولُ: أحسّنا انتقلنا من عهد دكتاتوري لا إلى عهد انتقالِ باتّجاه الدّيمقراطية، بل إلى لحظة تاريخية مفصليّة كلّ شيء فيها ممكنٌ ومُحتمَلٌ، فنحن كالبهلوانيّ الذي يمشي على حبل يمتدّ بين جَبَلين فوق هوّة بلا قرار، قد يفلِح في مشيه إذ يتمسّك بتركيزه ولا تخونه لا أعصابه ولا عضلاته ولا ثقته بالنّجاح وإحساسه بالقدرة والكفاءة، وقد يرتبك أو يرتعش أو تهون عليه نفسه هنيهةً فيسوء مآله... اِنتشينا أسابيع بأن اكتشفنا أنّنا حقّا نحبّ تونس كل يوم وأكثر من كلّ يوم، وأنّ لنا شبابا لا يهاب، أو لم يعد يهاب، لا اللّظى ولا ركوب المخاطر ولا المجاهَرَة بتوقِه ورؤاه، وبأن أصبحنا ننظر إلى بعضنا بعضا مباشرة في بؤبؤ العين وبفخر، وبأن اعتقدنا أنّنا واحد لا ينفصم، وهذا دربُنَا ينفتحُ أمامنا وضّاءً سهلا أو يكادُ نمضي فيه بلا تدافع، بل باندفاعِ جميل منظّم فيه تنافسٌ لكن نزيه، وفيه تسابقٌ لكن لا لتحقيق ذاتٍ ضيّقة بل لنيل الفخر بتحقيق الذّات الجمعية التي صنعتها شعارات الحريّة والكرامة والحقّ للجميع في التنمية... ثمّ داهمنا الصّقيع وأحاطت بنا الهواجرُ فإذا بنا نعود قبائل تشحذ سكاكينَها للتَناحر، وتحفر التاريخ عميقا لتتّكئ على مقولات تُنسب للسّلف الصّالح، إن عن حقّ وإن بهتانا... وإذا بنا نكتشفُ كَرهَنا لذواتنا ـ لأخواتنا ـ لأصحابنا ـ لجيراننا ـ لأمّهاتنا ـ للأفق الفسيح... وإذا بنا لسنا بُنَاةَ مستقبل وضّاءٍ بل برابرةً يسكرهم الهدم والهدر... وإذا بنا ننقلِبُ من خبر أفرحَ العالم كلَّه إلى سؤال يقضّ مضاجع كلّ حرّ وكلّ صديق... وإذا بنا ننسى أنّنا فخرُ المسلمين والعرب بما اجترحناهُ رغم الدّكتاتورية وتقتير المتاح من حضارة وتقدّم باتّجاه صنع إنسانية الإنسان بلا ميز، ونعودُ إلى تحقير الإنسان والقول باِستعباده شيعا وطوائف وأجناسا ونساءً هنّ أمّهاتنا ـ أخواتنا ـ بناتنا ـ شريكاتنا ـ حمّالات همومنا ـ مربّياتنا ورافداتنا في انطلاقتنا نحو الشمس...
ها هو قلمي يتنطّع ـ يستقوي ـ يغريه الحلم ـ تسحره الحرّية ـ يخلب لُبّهُ الجمال الحلو... وها أنّني أجدُني أميل إلى الرّغبة في كبح جماحه ـ الحدّ من انطلاقته ـ الحيلولة دونه ودون سبر أغوار الواقع على هواه...
ذلك أنّني أكتب نصّي لجريدة «الجزيرة»، وجريدة «الجزيرة» غالية عليّ، وصاحبُها ـ لطفي الجريري ـ صديقي وصاحبي وإن لم يكن مثلي ولم أكن مثله بل بيننا لقاءات وبيننا تباينات... وفي نفسي «للجزيرة» وللطفي ما يدفعني بقوّة وثبات إلى القبول حتّى بالتنازل المرّ كي تستمرّ «الجزيرة» ولا يشقى لطفي لحدّ الانهيار... وأنا لا أنسى ـ ولن أنسى ـ أنّ لطفي فتح لغيري ولي صفحات «الجزيرة» في زمن عزّت فيه الصفحات وكانت فيه موارده متأتيّة من منابعَ سِمتُها أنّها تجفّ سريعا ولأوهن الأسباب... وأنا لستُ ممّن يقدّمون هواهم وتَرَفهم وحتّى خياراتهم على هموم الناس... وأنا أدرك أنّ قلمي ـ  كما أقلام أخرى ـ أصبح في عُرف الطامحين الجدد إلى الاستفراد بالسلطة والنفوذ والحكم والقرار صوتا يُطلَبُ إسكاتُه أو على الأقلّ تطويعه... وأنا أعي أنّه قد يكون أعسر على «الجهابذة» الجدد منه على سابقيهم من الطّغاة أن يقبلوا «بالجزيرة» قوس قزح ـ طيف ألوان بهيجة ـ وسيمفونية بكلّ أنغام البلد...
ولأنّني قلتُ ما قلتُ وانتهيت إلى أن أوضحتُ وأفصحتُ فإنّني سأتطرق أخيرا إلى «جربةَ» التي سأظلّ ما بقي لي من عمر أحلم بها جرْبَةً ـ جنّة ـ فيحاء بكلّ عطورها ـ زاهية بجميع ألوانها الجميلة ـ باقية بكلّ تنويعات ساكنيها القدامى والجدد ـ هادئة بكلّ ما يضطرم عليها من أنشطة ومطامح وانتظارات وتطلّعات... جربةُ هذه الأيّام وفي هذا الزّمن المضطرب ـ الغريب ـ العجيب ـ المتقلّب ـ المفاجئ ـ المفرح ـ المفجع ـ المجنون ـ الفاتح على شتّى الاحتمالات غدت لقمة سائغة يستبيحها هُمّج يكدّسون المال الحرام، ينهبونه من سواحلها ومن دواخلها ومن إنشاءاتها، وهمّج استحلّوا تراثها فشوّهوه أو سرقوه أو عبثوا به باسم التفرّد بالحقّ والإيمان أو بدعوى التّقوى والمعروف... جربةُ هذه الأيّام تعيش تحوّلات وتبدّلات لم تعشها طوال عشريات بل طوال قرون ودهور، وستغدو قريبا شيئا جديدا وتخسر الكثير الكثير ممّا كان يميّزها فيجعل الناس جميعا ـ وإن اختلفوا في كلّ شيء ـ يدعونها «جنّة» بل «الجنّة».
لكنّ جربة تعيش هذه الأيام أيضا زخما رفيقا ـ صامدا ـ عنودا، زخم الشابات والشبان ومعهم كهول وشيوخ هبّوا جميعا يتصدّون ـ يتحدّون ـ  يقاومون نزعات الاختلاف والتضارب يجعلونها عنوان بهجة وتلاق واتّحاد ـ ينهضون لأنفسهم ولوطنهم ولمراتع طفولتهم ومرابع عيشهم ـ  يقدّون من وهنهم قوة بنّاءة بجمعياتهم وتجمعاتهم ولقاءاتهم وتناديهم وصراخهم وغنائهم... وجربة هذه الأيّام هي جربة هؤلاء الذين هبّوا يعرّضون صدورهم للمستكرشين والمنتطّعين يحولون بينهم وبين مزيد نهب طبيعتها، ويتحدّون عزّلا المتستّرين بمختلف تمظهرات السلطة، قديمة وجديدة، يفضحون تواطأها ويعرّون تخاذلها... جربة هي هذه الأيّام جربةُ عشاقها الذين يغلّبون عشقهم ويغزلون من أصواتهم المختلفة نغما متناسقا  ينشد حمايتها، وينسجون من أفكارهم المتنوّعة وحتّى المتضاربة دثارا بهيّا وأثيرا يدفئها ويحضنها...
جربة هذه الأيّام هي جربة بناتها ـ جمعياتها ـ أولادها ـ عشّاقها من كلّ جيل ومن كلّ مكان... جربة هذه الأيّام هي جربةُ حُمَاتها كلٌّ ومنهجه كلّ وأداتُه كلّ وخطوه، جربةُ «بسمة» «وآنّي» و«لينا» و«حوسين» و«النّاصر» و«آمال» و«جربة الذاكرة» و«جمعية الصيانة» وشباب الأحزاب المتيقّظ وأولئك الذين وهبتهم الثورة عمرا جديدا أو عزما كان قد خمد، وكثيرين لم أذكرهم لكن سيذكرهم التاريخ ذات زمن... ولو تطلّب الأمر: ثورة...

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire