21 avr. 2012

كلاّ ! إنّهم لم ينقلبوا على أنفسهم : تلك هي أنفسهم !

 
يوم 9 أفريل 2012 يوم دخل التّاريخ إلى الأبد. ولا شكّ أنّ وقعه خلال الأشهر والسنوات القادمة سيكون كوقع 9 أفريل 1938 في الأشهر والسنوات التي تلته. يوم 9 أفريل 2012 هو يوم علّمتنا وقائعه أنّه علينا أن نعتبر من الأحداث الماضية والجارية، وأن لا ننساق وراء سرابات الأوهام والحسابات الخاطئة، والتكتيكات قصيرة النّظر، وزيف أحلامنا الوردية التي ترفض أن نرى الواقع على حاله وتجعلنا نحلّق في سماوات رومنطيقية فيها الوفاق وفيها الإخاء وفيها الانتقال السلس إلى تونس بديلة ديمقراطية وعادلة ونامية فعلا.
يوم 9 أفريل 2012، أفصح لنا عن واقع ما ينفكّ يتشكّل لبنة بعد لبنة، واقع قوامه الغطرسة والغلظة والكذب والتعسّف والعداء العاري لمقوّمات الإنسانية الحقّ... يوم 9 أفريل 2012 هو خطوة أخرى، محسوبة وبُيّت لها بليل بهيم، خطوة أخرى نحو خنق المجتمع وتعبيرات المجتمع، والرمي بكلكل حزب-حركة-جماعة- عصابة غايتها السلطة والسلطة وحدها، وإن بلا أفق، على مفاصل هذا البلد بفئاته المختلفة وبنياته الاقتصادية والاجتماعية ومقدّراته وثرواته وآفاق أبنائه وبناته ؛ خطوة أخرى نحو محو التنوّع الفكريّ والإبداعيّ والشّعري والسياسي والعقائدي وحتّى  التنوّع في الملبس والهيئة والكلام ؛ خطوة أخرى نحو فرض الاحتماء بطغاة جدد وبسادة الطغاة الجدد ؛ خطوة أخرى نحو محق كلّ ما أنجزته بلادنا عبر تاريخها العريق من تحضر وتقدّم ووحدة صفّ وهدم المستقبل الواعد الذي بدأ شبابنا يضع أساساته منذ أن هبّ ضدّ الطاغي الهارب وضدّ نظام الطاغي الهارب الذي ما يزال يراوح مع الطغاة الجدد بين المهادنة وبين الابتزاز وبين العمالة...
سمعت ناسا يقولون : "إنّهم أخطؤوا والحساب ولم يقدّروا الأوضاع خير تقدير فخسروا" ؛ وسمعت من يقول : "كيف يتحوّلون من مضروبين-مقموعين-محرومين من حقوقهم إلى ضاربين-قامعين-حارمين للناس من حقوقهم، وكيف تتملّكهم هذه الشراسة الهوجاء ؟" ولفت نظري أن بعضهم يرى في تصرّفاتهم وأعمالهم الخرقاء انقلابا من قبلهم على قيمهم-مبادئهم-منهاجهم-أنفسهم...
فهل أنّ أحداث وممارسات 9 أفريل 2012 استثنائية ومفاجئة من قبلهم حتّى يخيّل إلينا أنّهم اِنقلبوا على أنفسهم ؟
لنعد إلى ممارساتهم منذ أن أنهالوا على البلد أيّاما بعد 14 جانفي.
كلّ ممارساتهم كانت لها غاية واحدة وحيدة : الانقضاض على السلطة بأيّة وسيلة، واحتكار أجهزة الدّولة أيّا كانت التحالفات الميسّرة لذلك، والاتّكاء على المجدّفين والهمّج والمشعوذين والسّفلة والطامعين دون تردّد، واعتماد لغة لاذغة فيها إلاّ كذب وادّعاء وترهيب...
اِدّعوا وضع أيديهم في أيدي كلّ من له مصلحة في الانتقال نحو الدّيمقراطية لكنّهم قبلوا كلّ ما رأوا فيه مصلحة لهم، وفرضوا طرح كل ما لم يكن يواتيهم : مرّة بالمقاطعة، ومرّة بالتباكي، ومرّة بافتعال الأزمات، ومرّة بالتهديد بالشارع، ومرّة بتواطئ متواطئين...
اِنقادوا إلى رعاة لهم جاؤوا من وراء البحر شرقا وغربا، وظهرت عليهم الثروة –هم من يدّعون أنّهم حرموا عشريتين أو أكثر من أيّ مورد رزق- ظهرت عليهم الثروة بل الثروات في هيئتهم وفي تلك المقرّات العديدة والفخمة، وفي هذه السيّارات والدراجات النارية غالية الأثمان، وفي هذه الحملات الإعلامية والاتّصالية التي جنّدوا لها العشرات، بل المئات، وفي تنقّلاتهم وبذخ حياتهم، وفي ما يبذلونه لشراء الذّمم...
وتعمّدوا النفاق والخداع والإغراء الكريه في حملاتهم الانتخابية ولاستقطاب الأتباع والخدّام...
واستولوا على بيوت الله –حضارة وتاريخا وملكا لغيرهم- وفضاء للجميع- وقدسية- وحوّلوها أوكارا لهم ولدعاتهم الذين انشقّت الأرض عنهم فجأة كما تنشقّ عن الفقّاع (الفطر) بعد هطول المطر... وتلوّنوا وهم واحد... ونوّعوا من تحرّكاتهم وهيئاتهم وخطبهم وهم في الأصل وفي الفعل واحد : هؤلاء "شباب" هؤلاء، وهؤلاء "إخوة" أولائك، وهؤلاء عمق الآخرين وحماة ظهورهم .
وسريعا ما تغاضوا عن السلطة القديمة وعن محاربة السلطة التي خلع رأسها ولكنّها ظلّت تحكم وتخطّط، وتآلفوا معها كلّما وجدوا لذلك سبيلا، وأخافوها كلّما كان لهم في ذلك مصلحة، وسلّطوا سهامهم وكلامهم وقبضات تابعيهم على منافسيهم ومعارضيهم... كفّروهم وخوّنوهم وخوّفوهم وحرّكوا جحافلهم ليعرقلوهم...
وما إن بدت السلطة في طريقها إليهم حتّى انتفشوا وانتفخوا وتهافتوا وتوعّدوا..... ثم وما إن أخذوا بزمام السلطة بل بحلوقنا ودروب مستقبلنا الذي كان واعدا حتّى ظهر تهافتهم على المناصب والألقاب،وغدت لغتهم سوقية بليدة، وتجرّؤوا على أعراض الناس يهتكونها، ولم يعودوا يقبلون بأن يتكلّم أحد، أيّا كان، عن أهداف الثورة التي هبّوا إليها يقبرونها :  " الثورة نحن... الغالبية نحن... الدّين نحن... الأفق الوحيد نحن... فلتصمتوا... دعونا نعمل... لا تسألونا... لا تسائلونا... لا تناقشونا... أنتم خونة دعاة، قلّة قليلة عملاء، جهلة، أزلام النظام السابق وعملاء الغرب"... ومضوا حتّى إلى دين الله يستفردون به، يتملّكونه ويدّعون أنهم وحدهم العالمون بحكمته وسدنة تعاليمه... وفي الأثناء ضربوا، وقمعوا وهدّدوا بالويل والثبور... وبعد أن قمعوا أفرادا أو جماعات صغيرة، تجرؤوا على الحرّيات وعلى أبرزها : حريّة التعبير والإعلام... ثمّ طفقوا يبرّرون عجزهم وانسداد الأفق الاجتماعي والاقتصادي بمؤامرات نسجوها لا من خيالهم بل من جشعهم للسلطة والنفوذ... واتّهموا الناس والتنظيمات وهم يعلمون أن اِتّهامهم باطل... وراوحوا في خطابهم بين الكذب والمغالطة والاعتذار والتبرير والتطاول والتهجّم والتناقض... ومع ذلك فقد كان دفاعهم الأساسي عن فعلهم الحكومي- وقد ظهر جليا أنّهم غفل ولا خبرة ولا كفاءة لهم في ما يصلح منه- أنّهم يتحلّون بالنزاهة ونظافة اليد... واعتدّوا بأنفسهم وكأنّ النزاهة ونظافة اليد أمران يصحّ أن يشهد بهما المرء لخاصّة نفسه... وكأنّهم لم يمتنعوا عن اعتماد الشفافية في تصرّفهم الحكومي (وهنا أسألهم : على أي أسس وقواعد تتصرّفون في المشاريع الكبرى لتقرّروا إسنادها أو مواصلة إنجازها أو لتؤكّدوا التفريط فيها... وأذكر أمثلة : مشاريع المخلوع في تونس العاصمة ومنها المشاريع العقارية على ضفتي البحيرة والمرفأ المالي بقلعة الأندلس، وسبخة بن غياضه بالمهدية، وغيرها كثير، ومشروع مصفاة النفط بالصخيرة، ومشروع محطة الأرتال سوسة : هل شخّصتم حالتها وتبيّنتم صحة أو فساد تركيباتها المالية والمؤسساتية وحفظتم حقوق الدولة فيها، وعدّلتموها على الوجه الذي يجب أن تعدّل به،.. وكيف ولماذا أقررتم استمرارها أو تعديلها أو تحويلها إلى الغير ؟ ... ومسألة الطاقة هل تبيّنتم فعلا أنحن بلد مصدّر ومكتف أو مورّد وقليل الإنتاج ومن ينتج ومن يورّد وما تحصل عليه الدولة وما تخسره سبهللا وما ينهب ؟...)
وبعد أن كانوا يتحدّثون عن المساءلة والمحاسبة ويستعجلونهما، هاهم قد أصبحوا شديدي الحرص على أن يقفزوا مباشرة إلى المصالحة، ويجدون لذلك تعلاّت يسمّونها مصلحة عامّة وحرصا على الاستثمار والتشغيل.
وإلى ما سلف، وما يمكن أن يضاف إلى ما سلف كثير، هاهم يدقّون عظام الناس  بهمجية خلنا أنّها أصبحت من الماضي... وها هم يسلطون قمعا بالزيّ وقمعا بلا زيّ وجحافل لا تعلم إلى أيّ جحور تنكفئ ولا إلى من تنقاد وتخضع، ولا من يهيّجها ويشنّجها ويسخّرها.
فهل انقلب هؤلاء فعلا على أنفسهم –مبادئهم –مطامحهم وهل ارتقاؤهم إلى السلطة هو الذي حوّلهم إلى ضدّهم ؟
لم أجد في فعلهم منذ انهالوا علينا بعد أن تأكّدوا من حصول الثورة، وبعد أن انقضّوا على السلطة ما يجعلني أعتقد أنّ أفعالهم يوم 9 أفريل 2012 مجرّد خطإ أو اِستثناء أو غلطة لن يعيدوها... بل لم أجد فيه إلاّ تواصلا وتصعيدا أو إصرارا على هجماتهم الصغرى والكبرى وإنكارا منهم لحقّ من لا يواليهم أو لا يداهنهم في أن يعيش في هذا البلد وتكالبهم على رموز الثورة جرحى وعائلات شهداء، ومواقع، وحقائق... وما تبريراتهم وتكذيباتهم وتعليلاتهم التي ليس فيها أدنى أدنى مراجعة أو اعتراف أو تصحيح- ولا أقول أيّ اعتذار- إلاّ خير دليل على أن ما بالنفس لم يتغيّر،وساكن في أعماق أعماقها، قديم مثلها...
وهنا أسأل : كيف كانوا إذن قبل زلزال 14 جانفي 2012 ؟
وتنهمر عليّ الإجابات حتى أنّني لا أقدر على تحبيرها كلّها : ألم يكونوا يسعون إلى السلطة أيّا كانت السبل إليها ؟ ألم يتحاوروا ويتعاضدوا مع أطراف من السلطة القديمة ؟ ألم يتحاوروا مع المخلوع وصهر المخلوع ؟ ثمّ ألم يسعوا قبل ذلك إلى الاستيلاء على السلطة بالانقلاب وبالعنف وبماء النار وبالتفجيرات ؟ ومن أدخل العنف إلى الجامعة بل وسلّطه فيها على منافسيه حتّى وهم شركاؤه في التعرض لقمع السلطة ؟
وهل يصحّ أن نتغاضى عن هذا الماضي وتجلّياته بالقول أنّه ماض وأن تجاوزا قد حصل في حين أنّنا لم نسمع ولم نقرأ اعترافا أو مراجعة أو تخلّيا... وألا تؤكّد الممارسات الحالية صلابة المنهج القديم واستدامة الممارسات إيّاها ؟
وبما أنّنا التفتنا إلى الماضي فلنر كيف اكتسب هؤلاء حلّة توهم بتبنّيهم للديمقراطية وللتمشّي غير العنيف للارتقاء إلى السلطة ؟ ألم يهيّء لهم ذلك هؤلاء السياسيون والحقوقيون ونشطاء المجتمع المدني الذين حموهم ودافعوا عنهم وفتحوا لهم أبواب الرحمة، وعلّموهم كيف يطرقون أبواب الهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان، وكانوا صوتهم عندما لم يعد لهم صوت، ثمّ نادوهم لينضمّوا إليهم في كفاحهم وطهّروهم من دنس عنفهم، وجعلوا الناس-هنا وخارج الوطن- يقبلون بهم طرفا ومحاورا.
فهل رأيتموهم اليوم يعلنون تمسّكهم بما كانوا تظاهروا بالاقتناع به و بأنّ عزمهم قد صحّ على الأخذ بمبادئ الديمقراطية والحداثة ومقوّمات التعايش ؟ لم أسمعهم-ولو مرّة-يدافعون عن توافق 18 أكتوبر أو يتمسّكون جهارا ودون مراغة بما قطعوا العهد عليه ؟... ثمّ إن أفعالهم البربرية قد انصبّت على كلّ من يتشبّثون بالحداثة والحرّيات وحقّ الاختلاف، ومنهم أولئك الذين حموهم ودافعوا عنهم ولمّعوا صورتهم...
يوم 9 أفريل 2012 هو يوم كشف لكلّ غافل أنّنا وقعنا بعد تحت جزمة سلطة غاشمة أخرى لا يعنيها إلاّ الاحتفاظ بالسلطة والنفوذ، ولا يهمّها أن تبني مع الناس بلدا جديدا وجميلا ومعطاء لكل الناس، سلطة لم تتورّع عن لجم كلّ الأفواه التي لا تسبّح بحمدها، وعن قطع كلّ الأيدي والأعضاء التي لا يواليها أصحابها، وستجد طريقها –إن لم تكن قد وجدته بعد- للتسلّح بكلّ ما ييسّر لها الهيمنة والسيطرة مثلما وجدت طريقها سريعا إلى التزوّد بكلّ تلك الغازات السامّة الأمريكية والبرازيلية التي سلطتها علينا- ونحن مسالمون- بلا تقتير ولا حساب. (عجزنا عن الإسراع في إغاثة المنكوبين بالفيضانات والثلوج، ولم نعالج بما يجب من حزم وإتقان وسرعة جرحانا، وأفلحنا في إعداد العدّة لتفريق المتظاهرين شرّ تفريق، ونحن في ثورة مستمرّة وتحت حكومة تصف نفسها بأنّها حكومة الثورة !)
كلاّ ! إنّهم لم ينقلبوا على أنفسهم. ذلك هو ما بأنفسهم. تلك هي أنفسهم !
إن ما فعلوه لا يمكن أن يعدّ عرضيا. وهم سيمضون في ما مضوا فيه. وحتى إن هم اعتذروا- وإن كنت أرجح أنهم لن يعتذروا إذ ليس من طبعهم أن يعتذروا- فعلينا أن لا نصدقهم وأن لا نثق بهم. فلو كانوا ممن يقرون بالخطإ وبارتكاب الكبائر في حق الوطن والإنسان لاستقال بعضهم واعتذر بعضهم وانتفض بعضهم قبل انتهاء اليوم إياه 9 أفريل 2012.
 فلنتوقّع الأسوأ والأظلم و الأحلك والأقتم...
ولنعدّ أنفسنا لنظلم أكثر ونتعب أكثر ونقمع أكثر، ولتضحيات لا حدّ لها...ولنستمرّ في عنادنا وفي تصدّينا بصدورنا العارية وقبضاتنا الخالية من أي سلاح وحناجرنا المدويّة وتضامننا الرائع : شبابا وشيبا، نساء ورجالا، من كلّ الأطياف وبكلّ الأحلام والتّوق إلى الأبهى...
فيوم 9 أفريل 2012 قد بيّن أيضا أنّنا حقيقة شعب لا يهان، ودفق بذل وتضحيات لا ينضب، وأن شاباتنا وأمهاتنا وبناتنا كما إخوتهنّ ورفاقهنّ وآباؤهن وأزيد قد تعلّقت هممهم جميعا بأغلى ما في الوجود : الكرامة والحريّة والحقّ في حياة أفضل !
 
       11 أفريل 2012  

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire