29 avr. 2012

في الشارع والشرعية وقنص الثورة

من انتفض فانتهت هبّته بهرب رأس السلطة وتفكك أوصالها ؟
هناك من يتحدّث عن أطراف خارجية وداخلية أوحت بالثورة أو حرّضت عليها أو ساعدتها.  وهناك من يروي قصصا وأساطير عن انقلاب هيئ له وانقلاب انقلب على الانقلاب أو تقاطع معه أو أفسده عن سبق إصرار أو صدفة.
وهناك من يخيّل إليه أن لا شيء حدث بالمرّة... وبعضهم يريد أن يخيّل إلينا أن الفعل فعله حتى وهو لم يشارك فيه، بل وربما عارضه أو لم يعتقد فيه ولم ينضمّ إليه حتى آخر لحظة بل وحتى بعد ذلك ببرهة أو حين أو متّسع وقت...لكن لا احد يستطيع أن ينكر أنّ من انتفض وانتهت هبّته إلى تقطع أوصال السّلطة وتفككك مختلف أحزمتها الرّابطة والواقية والنّاسفة هم الشّبان والشّابات الذين انتهى صبرهم وضاقت عليهم فسحة الأمل الكاذب وانسدّ الأفق أمام أعينهم فلم يعودوا يرون إلا عتمة فيها فقر وجوع و"حقرة" وبهتان وامتهان...لا أحد يستطيع أن لا يعترف أن شابّات تونس وشبّانها الذين وهبوا صدورهم وحناجرهم وأيّامهم للأمل الحقّ فتصدّوا عارين إلاّ من حبالهم الصوتية لجحافل القمع وأبواق العسف ولقنّاصي الأرواح البريئة من المأجورين والطمّاعين والمخدوعين والمصنوعين صنعا للغرض، هم الذين حرّكوا السواكن ونفضوا رماد الذّعر والاستكانة عن نفوس الشّعب عامّة فانضموا إليهم : شباب وشابّات الشّبكة العنكبوتيّة يصنعون صدى ومدّا لهبّتهم وينادون النّاس لنصرتهم، فأصحاب الثّوب الأسود، وكثير من أهل النقابة، ثمّ –شيئا فشيئا- أهل المسرح والفنّ، فطوائف كثيرة من مختلف أصناف المجتمع رأيناهم في القيروان وصفاقس والعاصمة ومدن أخرى عديدة يستعيدون ملكية الشارع ويتوافدون إليه صغارا وكبارا، نساء ورجالا يوحّدهم نبذهم للرّكون وترويضهم للخوف وعزمهم على صنع غد يرضيهم. فالشارع إذا هو الذي كان الفاعل بدءا، وأثناء، وانتهاء-انتهاء فصل وليس نهاية.
الشّارع هو الذي قلب الأوضاع، ولا يهمّ كثيرا إن كانت فواعل أخرى قد يسّرت له ذلك أو سرّعت تعرية السّلطة وانخلاع رأسها وتقطّع أوصالها.>
الشّارع هو الذي صنع يومنا الجديد...وهو أب الشّرعية الجديدة... وهو الذي نحّى السلطة القديمة، أو ما نحّي بعد من السّلطة القديمة: مؤسسات ودستورا انتهك وامتهن، وأجهزة، وأشخاصا فاسدين ومتواطئين ومتورّطين...
الشّارع هو الذي هيّأ للانتخابات، وهو الذي أخلى السجون، وهو الذي قلب الموازين، وأطلق الأقلام والحناجر والتصوير والتعبير... الشارع هو الذي هيّأ الكراسي  والأرائك والنفوذ وفتح أبواب المستقبل واسعة فسيحة أمام انتقالنا إلى فصل ثان من الثّورة نصنع به لبنة أخرى في غدنا الذي سنغدو فيه بشرا مواطنين لا أحد يحكمهم بالعسف ولا أحد يرميهم بهتانا بالعجز ولا أحد يغتال آمالهم وينسف أحلامهم ويغطّي شمسهم لا بحلكة ولا بغربال...
***
فالشارع إذا هو الأصل، وله القول الفصل... والشّارع له الفضل وهو الحقّ، وإليه العود، ومنه العون والمدّ والمدد...
 
انتخبنا، بل انتخب بعضنا : نصف من يحقّ لهم التصويت أو أقلّ...
وامتحنّا بنظام اقتراع مخادع ابتدعه لنا أساطين قانون بوؤوا ذواتهم حماة لثورة لم تعرف أغلبهم من قبل وما كانوا حماة بل متهافتين، وبحملة انتخاب غلب عليها المال والنفاق والوعود الخادعة وممارسات لم يكن الشّارع الذي انتفض لينتظرها: بعضها اعتمد فيها على مخلّف السّلطة المتهالكة وبعضها ابتدعته لنا مفوّضيات العمّ سام وخدّامه من أصحاب الجلابيب والعمامات والكروش... وأصبحت لنا هيئات شرعيّة وإن وقتية... رئيس جمهورية ورئيس مجلس تأسيسي ورئيس حكومة...ومن الثّابت الآن أن قلب الترتيب أفضل تصويرا للقيمة وحقيقة الفعل والوزن في اتخاذ القرار...
وفور انتصاب السلطة الجديدة، بل وحتى قبل انتصابها، شرعت هي ومن وراءها من قابضين على مسالك وأسلاك القرار والفعل والمخاتلة، وعلى رأسهم حبرهم الأعظم والعظيم جدّا، في الإيهام و الإيحاء والتصريح على كل المنابر-منابر الجوامع التي انصبّوا عليها ومنابر الإعلام التي دجّنتهم والتي دجّنوها أو أحيوها أو صنعوها-بأن دور الشارع قد انتهى، وأن شرعيتهم هم قد غدت الشّرعية الوحيدة والمطلقة التي لا تحتمل منازعة أو نقاشا أو اعتراضا أو حتى محاورة أو نقدا أو ملاحظة بل وحتى رفض اصطفاف...
 وعلى عكس مؤسسات الدولة وحكوماتها في الدول عريقة الديمقراطية أو المتحوّلة حقّا إلى الديمقراطية التي لا تنازع الشّارع ومختلف فئات الشعب في حقه المطلق والدائم وغير المشروط في أن يردّها ويصدّها ويصرخ في وجهها ويقوّمها و في أن يسعى إلى استبدالها حتى وهو قد انتخبها وأيّا كانت الأصوات التي وهبها إيّاها، انصبّ جهد مؤسساتنا الجديدة على نزع الشرعيّة عن الشارع وعلى القول بأنّه على النّاس جميعا أن ينصرفوا في حال سبيلهم وأن يدعوا ممثّليهم المنتخبين- بل بعض ممثّليهم المنتخبين دون سواهم ممّن يصطفون في صفّ من أسموا أنفسهم غالبين- يصنعون لنا الدستور الذي يبتغونه هم ويعيدون كتابة أهداف الثّورة على هواهم وليس كما هتف بها الشّارع من 17 ديسمبر 2010 حتّى إنهاء العمل بالدّستور بل حتّى الساعة- ثمّ قالوا أن على النّاس أن يفرنقعوا وأن يبتلعوا ألسنتهم ويكتموا طوعا أنفاسهم ويشدّوا أكثر على بطونهم وأن ينتظروا ما ستفعله حكومتهم حكومة الخلافة الربّانية القادرة على كل  شيء بإذن شرعيّتهم التي قسّمت المواطنين إلى مصطفين معها فهم رعاياها الصّالحون المسلمون وإلى عباد لا يصطفون معها وإن لم يصطفّوا مع سواها فهم الكفرة الذين يحق قطع أطرافهم من خلاف..
وإذ ناقش الشارع شرعية الحكومة والهيئات المؤقّتة لا من حيث توفّرها بفعل الانتخاب بل من حيث تحوّلها إلى ولاية أو كفالة لا قبل له حتى بمجرد التّذكير بمستنداتها وأغراضها، فإن الحكومة والمؤسّسات التّابعة للحكومة قد أقرّت قفل الشّارع في وجه الشّارع ...طالما أنه ليس من مواليها ومن هراواتها...
وهكذا تحولت السلطة الجديدة من سلطة وقتية عليها أن تهيئ لانتقال يبني- لبنة بعد لبنة وطورا بعد طور-تونس الجديدة المرتكزة على المواطنة من حيث هي احترام متبادل وعدالة اجتماعية وتوازن جهوي، وتكريس لإنسانية الإنسان، تحوّلت إلى سلطة تبني ذاتها وتستديم البقاء بأي ثمن وبأي منهج وليس لها من هدف سوى ذاتها... ومن سلطة ثورة تحوّلت السلطة الجديدة إلى سلطة تسعى إلى إخضاع المجتمع وتركيعه فتشري من يشترى، وتركّع من لا قبل له برفض التّركيع، وتقصي كل من سواهم... واستبدّت وهي تواصل استبدادها...بشتّى الطّرق...
ومن بلد تضامن كل بناته وكل أولاده وتآزروا ووقفوا صفّا واحدا ضدّ الطّغيان تحولنا بفضل السلطة وحزب السّلطة وأصدقاء السّلطة إلى بلد انشطر: قسم هو الحقّ وإن بالعنف بل بالعنف وقسم هو الشّر كلّه لا يحق له إلا أن يسكت أو يهاجر أو ينحني أو يضرب كلّ يوم ولا يصرخ...
ولأن الشّارع لم يعد شارعا يصرفه الخوف والقمع والظّلم والغاز من الشّارع، قرّ قرار السلطة على تفريق الشارع بكلّ ما يتيسّر لها من أدوات وخطط... ومضت السّلطة تستبدّ ...وهي لن تفعل إلا المضي قدما في استبدادها وهمجيّة أفعالها... ذلك أنها أعجز من أن تناقش الشّارع بله أن تقنعه، وأنها فقيرة لا تملك استجابة اقتصادية واجتماعية لمطالب النّاس الذين أهلكهم التّرقّب، ولأن غرامها بالتّشبث بما استقرّ بين أيديها في مصادفة تاريخية لم تكن لتنتظرها يدفعها إلى مزيد الابتعاد عن الشّارع و اللّجوء حتّى لأبشع الوسائل وحدها لترويضه...
                                                    ***
 
ولأن السّلطة تدرك أن الشّارع هو الأصل وموقع الفصل ومكمن الفعل الحقّ، وتعلم أن الشّارع الذي انتفض على خوفه واستبطن توقه إلى غده مشرقا وضّاء لن يستكين أيّا كانت ألاعيبها وأيّا كان بطشها، فهي قد عمدت، أيضا في ما عمدت إليه، إلى ضرب رموز الشّارع-رموز الثورة-رموز الشّعب وقنصها الواحد تلو الآخر.
وفي هذا لايوجد فرق بين ما فعلته سلطة ما قبل الانتخاب وسلطة ما بعد الانتخاب: فالسّلطتان حالتا بين الشّارع وبين الاحتفاء بثورته، الأولى فسخت كل ما رسم أو كتب والثانية سمحت حتى بضرب المحتفين بالمسرح والشّمس... والسّلطتان لم تيسّرا للنّاس أن يملؤوا الساحات والأنهج شعرا وألوانا وغناء صدّاحا وسيركا وانفجار إبداع... والسّلطتان استهانتا بشهداء الثّورة وجرحاها وأهاليهم وبدل تكريمهم قتلتهم كلّ يوم وكلّ أسبوع وكلّ شهر ولأكثر من عام وربع عام عدّا وتثبّتا ووعودا، ثم أهانتهم وجرّحتهم وحتى ضربتهم وعاملتهم لا كأصحاب فضل علينا بل كما يعامل المتكبّر المتجبّر سائلا  ملحاحا... والسّلطتان تجاهلتا توق الناس إلى الكلام تقبّلا وبثّا فلم تستمعا ولم تحسنا التّواصل ... بل هدّدتا وتوعّدتا وأعدّتا للإعلام الحرّ أو السّاعي إلى حرّيته أكثر من لجام وقيد... والسّلطتان تعامتا على رموز آخرين للثّورة جادوا بجهدهم في سبيلها وحملوا أرواحهم على أكفهم وهبّوا يتنادون وينادون لنصرة المنتفضين... كرّمهم الآخرون عبر العالم وتغاضتا عنهم... بل إن السّلطة الجديدة مضت حتى إلى تسليط كثيرين لنهشهم وثلبهم والتّحريض عليهم... والسّلطتان هادنتا الفاسدين والمارقين وسارقي أموال الشّعب... والسّلطتان قنصتا القنّاصة بأيد خفيفة وخفية سحبتهم من الواقع الدّامي إلى الخيال المجافي للحقيقة... والسّلطتان تآزرتا على العدالة الانتقالية تؤجلانها وتفرغانها من معانيها وتحودان بها عن مسارها الحقّ... والسّلطتان حوّلتا أنظارنا عن غد زاه أردنا اجتراحه إلى معاناة يوم اشتد ضيقه علينا : أسعارا صاروخية التصاعد، وبطالة تتفاقم، وجهلا ينصّب علينا يريد أن يردم بالسّواد بناتنا المتوثّبات للحياة والعطاء، وكفرا بكل ما يسّر ثورتنا وما ميّزنا عن الجهلوت وعبدة الدّرهم والدّولار واستفرادا بالشّريعة يروّضونها لأهدافهم ويستولون على أحكامها عن غير وجه حقّ.
                                                *** 


استملاك للشرعية وتحجير للشّارع وقنص للرّموز وسلطة ترمي بكلكلها على مجتمع هدّه التّعب واستبدّ به الأمل حتّى كاد يهلكه، وشارع قرّ قراره على أن يمضي نحو الشّمس والأبهى وإن هو أثخن جراحا من نصال طالته كثيفة لا تنقطع حتى تراكم بعضها على بعض.
هذه هي المعادلة ... سلطة مستبدّة وشارع بحلمه وتوقه يتشبّث .
فهل تطول وحتّام تطول العتمة؟ !
 






                                                                                   20 أفريل 2012

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire