22 janv. 2012

لابِد للبُومة مِن غادِي"

"لابِد للبُومة مِن غادِي"


نشر بجريدة الأولى بتاريخ 18 جانفي
بقلم الصادق بن مهني
وأنا أسمع صراخ وهياج وصياح وسباب سلفيين بالشارع الكبير وأشهد اعتداءاتهم المكتوبة والملفوظة على من يخالفهم الفكر والرأي وموقفهم من الحياة وتهجمهم على نساء في عمر أمهاتهم ونهيهم لرجال في عمر آبائهم وسعيهم إلى تعليم ناس هم أكثر منهم علما ودراية وفقهًا، انبثقت من ذاكرتي فجأة هذه الجملة !
السنة ١٩٧٥ - المكان جناح العقاب والسجن المضيّق بحبس ٩ أفريل بتونس...
كنا خمسة : أبو السعود الحميدي وعبد الله الحسني وابراهيم الميداسي وحمة الهمامي وأنا... وكنا محشورين في زنزانة واحدة تم تخصيصها لنا اثر إضرابات جوع عديدة كان تجميعنا أحد أبرز مطالبها... ورغم تواجدنا معا كانت حركة الزمن بطيئة متثاقلة...  ولم يكن بيننا من يحذق الغناء ليروّح عنّا...  أو لنقل كنّا نغنّي شيئا هو ليس غناء ولا كالغناء فعبد الله أعذبنا صوتا كان يغنينا في اليوم الواحد عشرة مرّات "طالعة من بيت أبوها رايحة لبيت الجيران" ولكنه لم يكن يتجاوز أبدا البيت الثاني... وابراهيم –المدرّس-  كان ينشدنا القصيدة أو الأغنية الوحيدة التي حفظها ليعلّمها لتلاميذه  «c'est triste un train qui   siffle» ... وأما حمة فكان يقرأ علينا أطول قصائد السياب... وأما أنا فلمّا تجرّأت ليلة على أن أغني نزولا تحت إلحاح رفاقي فلقد قاطعني الحارس الليلي ناهرا قبل حتى أن أنهي السطر الأول من البيت الأول من أغنية للشيخ العنقة.
ولكن دعنا من الاستطرادات... ولنعد إلى "اللاّبد للبومة من غادي"... كان عبد الله ظريفا ويحفظ طرفا كثيرة وحتى يصنعها... ذات ليلة روى لنا طرفة عن عامل مناجم من المتلوي كان تلميذا حريصا في أقسام محو الأمية...  وذات يوم حضر المتفقد الدرس...  وكتب المعلم على السبورة التي كان بها خدوش كثيرة وبقع هرب عنها السواد "لا بدّ لليوم من غد" ولم يفلح أي كان في القراءة ... واجتهد التلميذ الحريص حتى ينقذ قسمه ومعلمه وهتف  "لابد للبومة من غادي"... ذلك أنه كان في صغره يطارد البومة ليقتنصها دواء للسعال.
استحضرت هذه الطرفة وأنا أخوض غمار تلك الجماهير التي نزلت إلى شارعها الكبير وسط العاصمة تستحضر أحداث العام الماضي، فوجدت الجماهير جمهورين : جمهور نساء وبنات وأطفال وشباب وكهول وحتى شيوخ مثلي أذكر أنني رأيت العديد منهم العام الماضي يهتفون بالحرية والديمقراطية والعدل والعدالة والمساواة، وجدتهم هذا العام يهتفون بالهتافات ذاتها وعلى سماتهم علامات فجيعة وفي عيونهم إصرار وتحدّ... بدوا لي أكثرية لكن ممزّقة... وجمهورثانٍ أغلبه ذكور، منظم، وله أدوات الصراخ، يغلب عليه السواد يتهكم على الجمهور الأول ويسبه ويريد أن يفجعه أكثر... جمهور ببغاوي مطبّل ودعيّ.. رُبِّيَ ليستجيب أيا كان النداء وأيا كان المنادي.
استحضرت هذه الطرفة وأنا أقف غير بعيد عن زاوية الشارعين التي كنت أقف عندها قبل عام بالضبط يحيط بي شباب وشابات يتحدّون قناصين يحتلون سقف البناية الكريهة وصفوف هراوات ما انفكّت تتراجع تحت ضغط نداءاتهم البديعة...
"لابد للبومة من غادي"
"لا بدّ لليوم من غد"
"فلا بدّ أن يستجيب القدر"
واستجاب القدر وانخلع رأس الفساد والاضطهاد...  لكنهم كانوا "لابدين للبومة من غادي"، عفوا كانوا لابدين لغدكم /غدنا هناك في منافيهم الفاخرة غربا وشرقا وفي حسينيات الشام وخلف الصفوف "لابدين" خاتلين، متربصين، متهيئين...
وحالما قبضتم على "البومة".. عفوا على غدكم، انقضوا عليه وعليكم... انقضوا عليه وعليكم بعرقكم وحناجركم ودمائكنّ وعزمكنّ وطفولتكم ووداعتكنّ وديمقراطيتكم وهدوئكنّ وابداعاتكم... وهاهم الآن يصفونكم أنتم يا من ملأتم الساحات والشوارع والبطاح بأنكم جماعة ٠.٠ وينعتون أنفسهم بأنهم الغالبية الغالبة ويرفضون أن يستمرّ الشعب في الكلام لأنهم نوّابه ولهم وحدهم أن يتكلموا عنه وباسمه... هاهم يستعملون ألفاظكم وعباراتكم ونداءاتكم كلما خدمهم استعمالها.
ويردونها عليكم كلما لم تحل لهم ويخادعون بظاهرها دون المعنى كلما اضطروا .
لقد "لبدوا للبومة"، ولليوم، وللغد، غدكم - غدنا - غد هذا الوطن...
لقد مكروا...
هم غالبية في التأسيسي... لكن همّهم ليس  في التأسيس بل...
وأنتم غالبية في الشوارع والبطاح، تُشتمون وتُكفرون وتُخوّنون، همّكم التأسيس لكن...
هم نظام وانتظام ودربة وظهر مسندٌ ونهم إلى النفوذ، وسلطة وتسلّط وكلام سهل ومسهل ظاهره خلاف باطنه، يستعدون الناس عليكم بكل لفظ وكل حبر وكل صورة وكل فقه، يضربون ويسبقون بالتشكي... هم قوة وهيمنة وتجبّر وأنتم تشتت، وعنفوان عفوي، أنتم تشرذم وغواية، وتسامح صبياني... غير أن...
ضعفهم في قوتهم، ووهنهم في جبروتهم، وهشاشتهم في حماة ظهورهم... فلتستمرّوا...
لتستمروا وراء حلمكم ولتنتبهوا لكل "اللابدين من غادي وغادي وهنا

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire