5 juin 2010

Lost science

الأسبوعَ الأخير حصُل لي شرفُ حضور مناقشة أعمال الدكتور الطاهر اللبّاسي ـ إبن الجزيرة ـ الذي رامَ قطفَ ثمار جُهده لسنين طويلة بتتويج شهائده ومراتبه الجامعية العديدة بالتأهيل الذي سيساعده على الإنتقال إلى مرحلة جديدة أرقى في حياته المتميّزة بالبحث وتأطير البحوث.

ولأنّ الدكتور الطاهر اللبّاسي مختصٌّ في الإنقليزية وفي الألسنية الإنقليزية بالذات، ولأنّ عُلوّ همّته جعله لا يروم أقلّ من الإشعاع على المستوى الدّولي ولا يرنو إلاّ الى اجتراح دروب جديدة، فإنّ عرضَه الموجز لمجمل أعماله المنجزة والجارية ومناقشة لجنة التحكيم له ارتقيا الى قمم عَسُر عليّ ارتيادُها ولو سماعا ومتابعةً من بعيد.

ذلك أنّني وإن كنت ما فتئت أعمل على أن أمسك من اللغة الإنقليزية ولو ببعض من تلابيبها، قَصُرْتُ عن الفهم والمتابعة رغم كلّ الجهد الذي بذلته.

فالطّاهر تحدّث عن دروب بحث متشعّبة، وخاطر بارتياد مسالك وعرة أُقامر بذكر بعضها ـ مستعملا في ذلك عبارات وتعريفات قد ينكرها الطاهر عليّ ـ : هل اللّغة الإنقليزية وهي قد هيمنت على العالم، نقمة أم نعمة؟ هل اللّغة الأجنبية المهيمنة بالنسبة للشعوب الناطقين أصلا بلغات أخرى لعنة أم «غنيمة حرب» وفقا لعبارة كاتب ياسين؟ هل يمكننا أن نُسهم في صناعة المعرفة والعلوم على المستوى العالمي ونحن لا نتقن الإنقليزية؟ لماذا لا نتقن الإنقليزية؟ وهل توجد لدى بلادنا خطّة ناجعة لتدارك الوضع؟ وهل يمكن لعلمائنا وباحثينا وطلبتنا وفنّانينا ومثقّفينا أن يؤثّروا في محيطهم العالمي، بل وحتّى أن يسايروه فحسب، وهم لا يحسنون كتابة الإنقليزية بل وحتّى مجرّد قراءتها؟...إلخ

الصّديق الحميم الطّاهر بنى أبحاثه على قواعد التجربة الملموسة حيث درّس اللغة الإنقليزية لتلامذة الثانوي وللطلبة المتخصّصين فيها، وخصوصا للطلبة والبحّاثة غير المتخصّصين فيها من أقسام العلوم المختلفة...

ومن أهمّ ما لفت نظري ورسخ في ذهني من استنتاجات الطّاهر ما لاحظه من تبديد للعلوم أو المعارف. فهو قد كتب ـ انطلاقا من معاينات ميدانية ـ بحثا في المعرفة المبدّدة التي لا يفلح أصحابها في إبلاغها أو في إبلاغها كلّها وكما يجب بسبب قصورهم اللغوي...وهذه فكرة سبق أن سمعتُها من صديقة راسخة التجربة في علم الآثار ـ الأستاذة الباحثة عائشة بلعابد بن خضر ـ إذ أكّدت لي أنّ غالبية زملائها التونسيين ذوو خبرة وعلم واسعيْن لكنّ إشعاعهم الدّولي محدود بمحدودية علمهم باللغة الإنقليزية.

طبعا لم يقف الطّاهر عند هذا الموضوع أو هذه المسألة، فهو قد توسّع أيضا في تعريفه، بل وفي تشكيله، لمجالات اللّغة التي يمكن، بل يجب، تناولها من قبل أهل الألسنية... ومن ذلك أنّه ارتاد مجالات بحث جديدة كلغة الدبلوماسية، ولغة الإرساليات القصيرة، ولغة الإيجازات (briefings)، ولغة «فرق التفكير» (Think tanks)...كما أنّه طمح الى تدقيق تفاصيل الوجه الآخر من نتائج هيمنة اللّغة الإنقليزية على العالم: وجه تأثُّرِ هذه اللّغة ـ على مختلف المستويات ـ باللّغات والثقافات الأخرى التي أصبح أهلها يستعملون الإنقليزية ويثرونها...

الطّاهر إرتاد وعرا وركب محيطات، وأنا أحسّني أتوه وأنا ألهث لأمسك ببعض من حبال مراكبه.

فلْأعُد إلى حيث أردتُ أن أمضي ومن حيث بدأت، أو من حيث خيّل إلي أنّني بدأت: المعرفة المبدّدة Lost science. وبما أنّني أكتب هذه الخاطرة لجريدة «الجزيرة» فإنّني أودّ أن أعمّم، أن أوسّع وأن أنوّع فأطرح هذا السؤال: كم من معرفة تراكمت على مدى الأيام لدى سكّان جربة ثم تمّ تبديدها لعلل كثيرة منها اللغوي (إهمال«الجربي» أو الشلحة) وعدم إجادة الكتابة عموما، والقصور عن إتقان لغات أخرى ومنها الثقافي (الجهل بقيمة الموروث وأهمية المميّزات كما هو الحال في مجال التعمير والبناء والمعمار والتقاليد)، ومنها اللهث وراء«الجديد» دون تمحّص أو تمييز أو رغبة في الإبداع.

وأنهي باقتراح: لماذا لا تنظّم جمعيات الجزيرة وجريدتُها ملتقى علميا يُهيّأ له مسبقا وفي ما يكفيه من الزّمن، يكون موضوعه: المعارف الجربيّة «المبدّدة». ولا أخال أساتذة كحسين الطبجي والصادق بن عمران ورضا الأمين وفرحات الجعبيري وغيرهم إلاّ موافقين على تجسيد هذا الإقتراح، والأستاذ الطّاهر اللباسي إلا متحمّسا للإشراف على الإعداد...

(25 ماي 2010)

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire