5 juin 2010

خواطر

خواطر ولّدتها في ذهني قراءة كتاب فتحي ليسير : من "الصعلكة الشّريفة" إلى البطولة الوطنية -دراسة في سير بعض "المستبعدين" من تاريخ تونس المعاصر
(نشر ميدياكوم وكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس-تونس 1999)

*-*-*-*

هذا كتاب وقع بين يديّ صدفة : لفت نظري عنوانُه وأنا أتجوّل بين رفوف مخزن الكتب بدار "سيراس"... وما إن تصفّحته لأكوّن فكرة عن محتواه حتّى غلبني نهمي، وغرقت في القراءة... واِنبهرت...واِستمتعت... واِستفدت...
ذلك أنّ موضوعي الصّعلكة والاستبعاد من التاريخ هما من المواضيع التي شدّتني منذ الصّغر، وخصوصا منذ خوضي للمرحلة الثانية من تعليمي الثانوي : الشعراء الصّعاليك، روبن هود، ثمّ ظاهرة الصّعاليك المثقّفين التي انتشرت في فرنسا خلال الشطر الثاني من السّتينات، وبعد ذلك : علي لا بوانت...
وفي حفلات الأعراس لم أكن أطلب من الطّبالة إلاّ أغنية "خمسة اللي لحقوا بالجرّة..." بعدها، وأنا أنخرط في النضال الثقافي والسياسي، ثمّ وأنا أنهل المعرفة بأنواعها في سجون بلدي طوال سبعينات القرن الماضي لمست في بعض من رفاقي صعلكة أو تمرّدا كالصعلكة يتخفّى في ثياب الثورة ويكسبهم ألقا وجاذبية، على الأقل في ناظريّ... وعايشت صعاليك حقيقيين شهيرين حدث أكثر من مرّة أن أحسست لديهم انجذابا إلى الثورة واستعدادا للتحوّل من "الصعلكة" المجرّدة إلى "الصعلكة الشّريفة"... ولّد إحساسي ذاك ما وجدناه، ونحن في الاعتقال، من تعاطف ومساعدة من بعضهم، أو ما عبّر لي عنه بعضهم في لحظات تجلّ لديهم أحلّها شعور قويّ بالضّيم، أو إعجاب مثير بتصدّينا المتواصل نحن العزّل لكلّ أشكال الضّيم والحيف...
بعد ذلك سمعت عن صعاليك قاوموا وعن "مُعَبَّدِين" ثاروا، وقرأت عن "المهمّشين" في بغداد العبّاسية وفي الثقافة العربية عموما، وحضرت تقديم الأستاذ عبد السّتار السحباني لأطروحته الجامعية عن الموضوع... وعلمتُ أنّ عمّي رمضان –الذي أذكر عنه انعزاله في منسجه وحدّة طبعه التي كثيرا ما كنّا نشعر أنها ليست سوى ستر لقلب بالغ الطيبة-
وكذلك ابن حومتي وقريبي البشير الوغلاني كانا هما أيضا، زمن الاحتلال، من "الصّعاليك الشّرفاء".
وفي الأثناء، قبل انخراطي في النضال السياسي، وبعد استعادتي لحرّيتي، كثيرا ما رُمتُ التحوّل إلى "صعلوك" و"هامشيّ" ورافض لكلّ نظام أو قاعدة أو واجبات وقيم اجتماعية غير حبّ البشريّة والامتناع عن الإساءة... لكنّ جبني ثمّ حبّي حرماني من ذلك.
وفي السّجون أيضا تعرّفت على مستبعدين من التاريخ -رجالٌ أغلبهم رجالٌ- حوّلتهم دولة الاستقلال من مقاومين بالسّلاح إلى عسس أحباس...
كما مكنتني قراءاتي والحكايات التي سمعتها من رفاق ومن سجناء ومن حرّاس أنّ أتأكّد أنّ تاريخ بلدي وجغرافيتها أوسع فعلا، وبكثير ممّا أشاع عنهما النّظام الحاكم ورأسه... وهو ما أدركته أيضا بالنسبة لتاريخ وجغرافية العالم الأرحب.
تلك هي الخلفية التي تفسّر إقبالي على كتاب "فتحي ليسير" بنهم وشغف وبكلّ جوارحي. ولذلك ابتغيت التعريف بالكتاب.
منذ المقدّمة يؤكّد المؤلّف أنّه "في بلادنا أيضا ظهر مقاومون على عهد الحماية أهملتهم ذاكرة التّاريخ ولكنّ ذكراهم وأسماءهم ظلّت قائمة في الضّمير الشعبيّ مستقرّة في وجدانه"، ثمّ يلاحظ –بعد أنّ يذكر أن اهتمامه قد تركّز على "مقاومي الأرياف من فلاّحي الجنوب الشرقي الذين شكّلوا العصب الرئيسي للانتفاضات وأعمال المقاومة بتلويناتها المختلفة" –أنّ "من حسن حظّنا أن عددا من "أبطالنا" عالجوا الشّعر بل نبغوا في قوله".
ولقد قسّم المؤلف كتابه –عدا المقدّمة والخاتمة- إلى 4 أبواب عنونها كالتالي :
- "الباب الأوّل : السّمات العامّة "للصعلكة الشريفة"،
- الباب الثاني : منصور الهوش (1834 ؟ - 1891 ؟)،
- الباب الثالث : محمّد بن مذكور (1861 ؟ - 1916)
- الباب الرابع : بلقاسم بن ساسي (1895 ؟ -1928).
وإذا كانت الأبواب الثلاثة الأخيرة قد عرّفت بالصّعاليك الشرفاء أبطال الكتاب من حيث نشأتهم ومساراتهم وأعمالهم ونهاياتهم، فإنّ الباب الأول قد سلّط الأضواء على "الصعلكة الشريفة" عموما من حيث تعريفها كصعلكة وكشرف ومن حيث التمرّد الذي يكتنهها أو تجُرّ إليه ومن حيث هي "طريق إلى البطولة الوطنية" و"حركة محافظة".
وبمجرّد النّظر في تواريخ ولادة ووفاة أبطال الكتاب يفهم القارئ أنّ الأمر يتعلّق بصعاليك جنوبيين صدّوا أو حاولوا صدّ جيوش الاحتلال الفرنسيّ لتونس، وأنّهم أصبحوا " من رموز العصيان والثورة على المستعمر ارتقت السّيرة الشعبية بالبعض منهم إلى مرتبة البطولة الملحميّة وليس محض صدفة أن يجيء ترتيب هذا الرّهط من الثوّار في الأعمّ الأغلب مباشرة بعد الأولياء الصالحين".
وممّا يظهر من الباب الأوّل من الكتاب ثمّ من استعراض سير الأبطال الثّلاثة أنّهم "وغيرهم ممّن نشطوا على الأطراف الجنوبية النّائية للإيالة قد التجأوا إلى القطر المجاور (ولا سيما القسم الغربيّ منه المسمّى إقليم طرابلس)، إمّا غداة إعلان ثورتهم، أو خلالها، أو بعد انكسار حركتهم المسلّحة".
وهذه معلومة لا شكّ أنّها لا تفرح المؤرّخين وأشباه المؤرّخين الرسميين الذين دأبوا على القول بأنّ ليبيا لم تبذل جهدا يذكر لفائدة استقلال تونس، وركّزوا –بالعكس من ذلك- على تضخيم مساعدتها للحركة اليوسفية، وعلى الدّعم الذي وجده سكّان طرابلس وقت غزو الطليان لبلادهم.
كما يكشف الكتاب وجوها من السياسة الاستعمارية في الجنوب الشرقي واعتمادها على مقولة "فرّق تسد" واستمالتها لبعض السّكان –مع اعتمادها في ذلك على ما أدركته من تناقضات داخلية كانت سائدة في الجهة وأهمّها التناقض بين قبائل الودارنة وبين الجبالية- بغاية حملهم على مهادنتها وحتّى على خدمتها.
كما يكشف عدم إفلاح السياسة المومإ إليها في عديد الحالات.
وبالمقابل يظهر من الكتاب "أنّ متمرّدي الحقبة الواقعة بين 1881 و 1915 كانوا ينطلقون في تنفيذ عملياتهم الخاطفة، التي استهدفت الحاميات الفرنسية، وقوافل التموين، وجانبا من القبائل الخاضعة، من الشريط الحدودي الشّرقي، أي أنّهم غادروا مجالاتهم وفضّلوا التحرّش بفرق جيش الاحتلال انطلاقا من "الخارج".
وممّا عرفته وأنا أقرأ هذا الكتاب –وهذه معلومة لا أذكر أنّني اطّلعت عليها في غير هذا الموضع رغم معاشرتي لكتب كثيرة تناولت تاريخ تونس انطلاقا من عهد الحماية- أن مقاومي الاحتلال الفرنسي "قد قرّ رأيهم [خصوصا بعد استسلام مدينة القيروان في أكتوبر 1881] على الانكفاء نحو الثّغور الجنوبية للإيالة رفقة أسرهم وأنعامهم..."
ونتيجة لذلك "شهدت المنطقة الواقعة بين وادي الزّاس وجهة زوارة الليبية تقاطر أعداد هامّة من القبائل التّونسية" حتّى أنه "خُمِّنَ عدد المهاجرين بحوالي عشر سكّان الإيالة آنذاك"...
كتاب فتحي ليسير أثرى ممّا ذكرته وأشرت إليه... وهو يتميّز بجمعه بين التأريخ وبين البحث الاجتماعي والأنتروبولوجي ولا يستقرأ الأحداث والوقائع وحدها بل يستنطق الشّعر والحكايات ويستعين بذاكرات الأجيال... وهذه ميزات استثارت شهوتي إلى قراءة أبحاث أخرى ذات صلة بموضوع الكتاب كمسألة استخدام السلطة، في بدايات الاستقلال، لصعاليك (غير شرفاء ؟) وتحويلها إيّاهم إلى وجاهات لمزيد توسيع قاعدتها ولمواجهة مناوئيها- ولعلّ لبعض كبار الحومة في الماي وغيرها شهادات في المعنى-، وكمسألة الانتقال المضادّ من البطولة الوطنية إلى الصعلكة (الشريفة أو غير الشّريفة).

26 ماي 2010

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire