يحدث كثيرا أن
لا أنام إلا نوما متقطّعا تختلط فيه أضغاث الأحلام بإرهاق الأرق بثقل الكوابيس
بسرابات اليقظة غير المكتملة و بما يفيض من الأنا المتخفيّة أو يتسّرب من مزيج
يجمع بين ذكريات الماضي و عذابات الحاضر و انتظارات المستقبل.
و في ليلة من
ليالي الأسبوع الماضي رسخ في ذاكرتي ما
سأرويه هنا و أنا لا أدري هل هو حلم أو كابوس، أم فكر وليد فترات اليقظة التي
تخلّلت لحظات النوم المتقطعة، أم خليط من هذا و ذاك:
حلمت أو تخيّلت أو خامرتني فكرة أنّ التونسيين يتخلّون
عن المطالبة بمحاكمة الجبان الهارب و لا تعود تستهويهم الرّغبة في محاسبته و
محاكمته و معاقبته ... ,و أنّهم يوجّهون وفد شبّان و شابّات يعاهدونه هو و السلطات
التي وهبته القرى على أنّه إن عاد إلى البلاد سيحظى بالأمان فيؤويه حتّى فيضان
روحه الخبيثة ذاتُ المنزل الذي سجن فيه سلفه و تبذل له فيه الخدمات ذاتها التي
أمّنها هو لمن انقلب عليه... و رأيت الوفد يؤكد للفارّ أنّه سيسمح له حتّى بأن
يخرج من حين لآخر ليزور الأمكنة التي فتنته فيها ليلاه و حتّى بأنّ يقدّم
للتأسيسيّ أو لمن يعيّنه التأسيسي رئيسا
مؤقتا شهادات الولاء و الإخلاص ، بل حتّى و بأنّ يقرأ على النّاس خطابا أخيرا يعدّه المختصون الذين كتبوا
له خطاب الثالث عشر من جانفي 2011 يروي فيه وقائع اليوم الموالي الخالد ، يوم 14
جانفي، كما يراه هو ، و يبكي فيه بلادته الذهنيّة و عماه و صممه و ينهيه بأنّ
يعتذر لا لليلاه، لبل لمحمّده و لجميع أبناء و بنات شعبنا الذين سدّ أمامهم الأفق
و أورثهم تركة تكبّل أعمالهم و تكبح مطامحهم و تعطل مساعيهم لأمد طويل... و رأيت
الصّانع الصنيعة يهش و يبش و يسارع بالاستجابة و بقبول كلّ شروط الوفد و في روعه
أنّه إن عاد سيفلح في صنع انقلاب آخر يهيء له ظروفه و عوامله صنائعه المنبثّون في كلّ مكان من مواقع صنع
القرار و مفاصل النفوذ... و رأيت وفد الشابات و الشبان يعودون بالواجف الراجف
المخلوع(بالمعنى العاميّة للكلمة) ، فيضعونه حيث قالوا و يضعون أمامه كاميرات و
مسجّلات و حتّى أوراقا و أقلاما رغم علمهم بأنّه لا يكتب... و اتضح لي أنّ الوفد
إنّما اشترط على المستردّ أن يسرد تاريخه الحقيقيّ و سيرته الذاتيّة التي لا
يعرفها أحد سواه أفضل منه و اعترافاته بكلّ ما فعله و ما فعل به و ما فعل تحت
إمرته أو بحمايته... رأيت الأمان يبذل للمخلوع لقاء إحياء الذاكرة و إذكاء الفهم و
تفكيك منظومات الفساد ... و رأيت صاحب مؤسسة التميمي مبتهجا جذلان ...
و حلمت أيضا بأبناء و بنات الشّعب ممّن صنعوا الثورة و
ليس ممّن ركبوها أو زايدوا عليها أو من الساعين لاستدراجها إلى عدمها يهبّون إلى
القصبة، و ينادي مناد منهم بمنح الأمان للباجي و رشيد و فؤاد و بعض آخرين ممّن
حولهم ، عهد أمان يضمن لهم أنّهم لن يساءلوا عن الماضي و أنّ جميع ما قد يثبت عنهم
من خطايا لن يلاقي إلاّ الصفح شريطة أن ينصرفوا إلى خدمة الشعب وحده، خدمة أهداف
الضحايا الذين لولاهم لما احتلّوا مواقع لم يكونوا حتّى ليحلموا بها ليوم بل للحظة
... و رأيت المذكورين يهبّون يغالبون تردّدهم و تذبذبهم و يلتفون إلى ستائر ورائهم
ينفضونها فتنقطع و تصبح حبائل تكبّل حركات أشباح لم أتبينّهم... و رأيت الانفلاتات
الأمنية و الطرقية و الاقتصادية و الإعلامية تتراجع كجزر عظيم لكن ما بعده
تسونامي... و رأيت البناء الفوضوي يتهاوى... و رأيت الناس يهتفون:"مساءلة
فمحاسبة فصفح". و رأيت بني التجمّع يعتذرون متباكين عن إسهاماتهم في بناء
مملكة الظلم و الظلام... و رأيت المرحلة الانتقالية تقطع على نسق الأنترنات و ليس
على وتيرة سير الإبل أيّام الريح السموم... و رأيت بلدي يتوهّج ألقها من جديد... و
رأيت النجمة في علمنا تراقص هلالها و الأحمر فيه يضحك جذلان... و رأيت رضّعا و
أطفالا بل و حتّى جنينا منشرحين في تاله و الرقاب و مدنين... و سمعت زغردات لا
تنقطع... و رأيت الناس يتزاورون و يتحابون و يتضامنون و يصّر كلّ منهم أن يكون هو
خادم الآخرين... رأيت التونسيين يستعيدون أخلاقهم النضرة التي رأيتها فيهم في
جانفي و فيفري 2011 ... و لم أعد أسمع سؤال الحيرة الذي أنهكني:"كيف ترى
المستقبل القريب. و هل ستنجح الانتخابات و هل ستنتهي الفوضى؟"
الصادق بن مهنّي
12 سبتمبر 2011
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire