25 août 2017

خاطرة لا تأطير لها مهداة لأمين

أحيانا تغنيك حادثة صغيرة تشهدها عن ألف تحليل و نقاش .
قضّيت أوقاتا طويلة من عمري أجادل و أحاور و أناقش مسألة الهويّة ... تنقّلت من موقع القائلين بالعروبة إلى موقع المنتصرين للخصوصيّة التّونسيّة ، و كثيرا ما حسبت أن لا فرق بين إنسان و إنسان بل و ناضلت من أجل هدف أسمى هو إنسانية البشر جميعا و الإنصاف المطلق بينهم واجبات و حقوقا ...و منذ أن هبّت ثورة شباب تونس اعتدت أن أعرّف نفسي على أنّني " مواطن أسعى إلى تكريس مواطنتي و إنسان أسعى إلى تكريس إنسانيتي " ... و في نقاش تلقائيّ جدّ  بين  ولدي و بيني قبل أيّام عبّرت لأوّل مرّة أو لنقل لأوّل مرّة بهذا الوضوح و هذه الشّفافيّة عن استغرابي و وجعي من أنّ أبناء الثّورة و دارسي الثّورة لم يغادروا مصطبات الهويّة ( العربيّة و الإسلاميّة و الأمازيغيّة ) إلى بعد الثّورة الإنسانيّ أو البشريّ الشّامل ... لقد أسهم في أحداث الثّورة التّونسيّة ودعمها كثيرمن الشّباب من بلدان عديدة (آنونيموس،مدوّنون،ناشطون على مواقع الاتّصال الاجتماعيّة ...) ولم تختلف شعارات الثّورة التّونسيّة و مطالبها عن شعارات و مطالب الثّورات و التّحرّكات الأعرى ليس في البلدان العربيّة فقط بل و حتّى في البلدان الغربيّة ... و منذ أن خرق شباب تونس جدار الصّمت السّميك و غالبوا الخوف المكبّل الّذي غدا يوميّا و خيّم على الأنفس و الأماكن بدأ يتبيّن شيئا فشيئا أنّ وعيا ما أضحى  يتشكّل قاعدته الموحّدة هي إنسانيّة الإنسان ، أي بسط حقوق الإنسان الجماعيّة و الفرديّة على البشر جميعا و دون اعتبار للحدود ... ( و من وجهة نظري هذه يمكن أن نرى حتّى في تهافت عشرات الآلاف من النّاس على البحار يغامرون بعبورها إلى شواطئ شمالية ضربا من ضروب الثّورة أو المقاومة و إصرار الإنسان على إنسانيّته بإصراره على السّعي إلى الحياة حيثما توفّرت أسباب الحياة ... كما يمكن أن نرى في ما ينعت بالهجرة السرّيّة تحدّيا لأعداء إنسانيّة الإنسان و حرّياته المتمترسين وراء حدود غدت وهميّة و يتلاشى الدّفاع عنها لدى أعتى الطّغاة كلّما وجدوا في ذلك غنما ...)
وجدت نفسي أقول لولدي : " لا تتعامل مع أهل البلد الّذي أنت فيه بوجل و من موقع المقرّ بمزيّة ... لك الحقّ في أن تستقرّ حيث شئت فأنت ابن هذه الأرض جميعها ... عليك  فقط أن تضيف و ها أنّك تضيف حيثما حللت ... لا تنزعج كثيرا لمظاهر العنصريّة و لمضايقات الحدود و للرّائين لشيء من التّخلّي في من يسعون إلى بناء أنفسهم خارج آفاق البلدان الّتي ولدوا فيها وضاقت بهم ... أنت ابن هذه الأرض جميعها فاسع حيث يتاح لك السّعي و قاوم كي يتاح السّعي للنّاس أجمعين في أقطاب الأرض جميعها ..."
و مع ولدي وجدتنا نحلم بشباب تونسيّ يجترح أفقا جديدة لثورته و يبتدع أحلاما و مطامح تذكي ثورته و تؤجّج الحلم       و الفعل عنده و عند كلّ شباب العالم أفقا و أحلاما تنبني على إنسانيّة الإنسان و تأكّد شمولها للنّاس جميعا - ذكورا و إناثا ، و أيّا كان مكان مولدهم ، أفقا و أحلاما في حجم و جدّية و طلائعيّة بدايات الثّورة الّتي حيّاها شباب العالم في أماكن كثيرة و استلهمها بعضهم و رأوا فيها تباشير ثورة من نوع جديد و ربطوا بين أحداثها و أشكال تعبيرها و فعلها و بين ما يعتمل على مستوى العالم من إرهاصات ثورات فكريّة و اتّصاليّة و تكنولوجيّة و اقتصاديّة شرعت تخلخل أركان النّظام العالميّ المهيمن و تشقّ دروبا نحو إمكانية انبثاق إنسان جديد يتجاوزالإحباط و التّسليم و الخنوع الّذي ساد منذ عشريّات و يصنع للنّاس جميعا هدفا و أملا و يخترع حلولا غير معهودة عبّدت الطّريق إليها الثّورة الاتّصاليّة الزّاحفة و المتوسّعة كلّ يوم و الّتي لا يمكن أبدا أن لا تتقدّم بالإنسان أكثر باتّجاه تكريس إنسانيّته و تعميم شروطها ...

و بينما كنّا - ولدي و أنا - ننقاد شيئا فشيئا إلى نقاش عميق باغتتنا مشاهد أرعبتنا و حوّلت مجرى حوارنا : رأينا "أعرابا" يسيرون أو يقعدون زرافات يغلّفها السّواد الحالك من أخمص السّاقين حتّى أعلى الرّأس و نساءمنفردات لكن يرقبهنّ ذكريظهرون بذخهم الفاحش في شوارع البذخ الفاحش و تسير خلفهم-هنّ بنات من غير بلدانهم-هنّ من أجناس أخرى       و "عربيّات " مثلهنّ لكن سوداوات البشرة و ليس الثّياب  تثقل كواهلهنّ الأمتعة ... بل و شهدنا عائلة كاملة بصغارها و كبيراتها تتحلّق مظهرة بطرها حول مائدة يتهالك عليها ساعو المطعم بأشهى المشروبات و الأطعمة فيما لا تظفر حاضنة أطفالهم -حمّالة أثقالهم سوى بكأس ماء صغير من الحنفيّة ...

أحسست ولدي ينتفض و يكاد يغلبه حنقه .
و أحسست أمّه تغالب دموعها و تقاوم انفجارا .
و وجدتني ألعن اللّحظة و المكان و الأزمنةجميعا و أقول : " لا شيء يجمعني بهؤلاء الرّهوط ، لا العروبة و لا إسلام ... أكفر بهم و بعروبتهم و بإسلامهم ... أكفر بدعاتهم و شيوخهم و ثرواتهم ... لست منهم و ليسوا منّي ...هم طغاة و باغون وأعداء للبشريّة و يستأهلون أن يحتقروا و حتّى أن يكرهوا ... لا صلة لي لا بكم و لا بجنسكم و لا بغدكم و لا بربّكم و لا بربّ من يدعوننا إليه و إليكم ..."

و سمعت ولدي يهمس :" ألا ترى، يا صديقي ، أنّ فعل هؤلاء و ردّ فعلنا على فعلهم يؤكّدان أنّ الهويّة الّتي تستحقّ فعلا أن نرفع رايتها و نذود عنها هي حقيقة هويّة الإنسان إنسانا لا فرق بينه و بين أيّ إنسان آخر و مواطنا أرضيّا له كلّ الحقوق الّتي يتمتّع بها غيره و عليه كلّ الواجبات المحمولة على سواه ؟"

علّقت مبتسما : " تقصد : لكلّ حسب حاجته و من كلّ حسب قدرته ؟

و ضحكنا ثلاثتنا رغم الإعياء و جروح انفتحت فينا .

                                                                             فيينّا - منشن 23 و 24 أوت 2017

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire