31 juil. 2011

خواطر حول الوضع الرّاهن

تقتضي المرحلة الانتقاليّة التي تعيشها بلادنا، إن نحن أردناها أن تكون حقيقة تحوّلا يبني الديمقراطيّة، أن يبادر جميع المعنيين ـ على تنوّعهم: فئات اجتماعيّة وأطيافا فكريّة وسياسيّة، ومن حيث جهاتهم والقطاعات التي ينشطون ضمنها ـ بالدّفع المتواصل باتّجاه تحقيق الأغراض الأساسيّة التي كانت سببا في اندلاع الثورة، وخصوصا منها أغراض سيادة الحريات الجماعيّة والفرديّة، والعدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة.
ويعني ذلك الدّفع نحو بناء دولة جديدة تكرّس فصل السلطات التشريعيّة والقضائيّة والتنفيذيّة بما يكفل استقلاليّة كلّ منها مع تناغمها في خدمة المصلحة العامّة، أي مصلحة المواطنين عمومهم، وليس مصلحة السلطان وحاشيته وخدّامه.
كما يعني ذلك الدّفع باتّجاه مساءلة ومحاسبة جميع المسؤولين عن تعطيل التنمية في بلادنا بنهب مقدّرات الشّعب وثرواته وتراثه وببثّ الفساد في جميع الأنشطة والقطاعات ومختلف أوجه الحياة... وتعني المساءلة والمحاسبة تفكيك المنظومات والشبكات وفضح الفاسدين ـ أيّا كان دورهم ـ واعترافهم، واسترداد ما يتسنّى استرداده ممّا نهبوه، واعتذارهم للوطن، وانسحابهم من المشهد العام ولو لحين... وهو ما يفتح الباب أمام مسامحتهم... وينطبق التمشّي ذاته على من أفسدوا سياسيّا ضمن المؤسّسات المسمّاة تشريعيّة وقضائيّة وفي الإدارة، وعلى من قتلوا أو جرحوا أو عذّبوا أو حبسوا تجبّرا وظلما...
ويهمّ الدّفع والضغط اللّذان لا بدّ أن يمارسهما أحرار شعبنا ـ أيّا كان موقعهم ـ رفض قرارات الردّة والالتفاف، والانتباه إلى المخاتلات، والتصدّي لتسرّب الفاسدين إلى مواقع القرار والإدارة والتصرّف، والسّعي إلى البدء في إعادة بناء مؤسّسات الدّولة انطلاقا من قاعدة الهرم وليس ابتداء من قمّته... وهو ما يعني تعزيز الحكم المحلّي بافتكاك المتساكنين لحقّهم في أداء واجبهم المتعلّق بتدبير أمور قراهم وتجمّعاتهم الحضريّة، فجهاتهم، ثمّ أن تكون التعبيرات المؤدّية للسلطتيْن التشريعيّة والتنفيذيّة نابعة عنهم حقّا، وتمثّلهم وتخدم مصالح جميعهم...
وعليه فإنّه من الواجب واللاّزم والمفيد:
ـ أن نحيّي جميع العاملين والعاملات الذين تمسّكوا ـ طواعية وتلقائيا ودون أن يطلب منهم أحد ذلك ـ بمواقع خدمتهم في المدارس والمستشفيات والمؤسّسات السّاهرة على التزويد بالخبز والماء والكهرباء والوقود والنّقل ومختلف متطلّبات الحياة العادية من فلاحة وصناعة.. وهوما أمّن لبلدنا ومواطنينا بل ولضيوفنا الكثر الذين وفدوا إلينا اضطرارا، مستلزمات العيش العادي...
ـ أن نشيد بعموم الأهالي وفي طليعتهم الشابات والشبّان الذين هبّوا  في كلّ الجهات والأنحاء ليحموا بلدهم وليصدّوا أذيال الفساد والطغيان، وليفرضوا على الحكومات المؤقّتة والإدارة التخلّي عن قرارات لا تخدم مطامحهم واتّخاذ إجراءات تستجيب ـ ولو بقدر ـ لتطلّعاتهم، والذين تظاهروا واعتصموا، وما يزالون يتظاهرون ويعتصمون، ويكتبون ويهتفون، ويحتجّون، ويقترحون... ويضحّون،
ـ أن نسند جميع من بذلوا ويبذلون جهدا لتحريك ملفّات استقلاليّة القضاء، وحريّة التعبير، والشفافية، سواء كانوا أفرادا أم جماعات، أم هيئات وهياكل،
ـ أن ندعم المتطوّعات والمتطوّعين الذين وهبوا وقتهم وطاقاتهم ليتوزّعوا على الجهات بمدنها وأريافها ليرعوا المرضى والمحتاجين ويصلحوا المدارس والمرافق، وليفسّروا معنى المواطنة ويقنعوا بواجب الانتخاب،
ـ أن ننحني إجلالا للمرأة التونسيّة بجميع أصنافها الاجتماعيّة والمهنيّة، لصمودها درعا واقيا ضدّ الظلاميّة والتطرّف والاعتداء على الذّات البشريّة ولوقوفها ضدّ البهتان ولصبرها على تحمّل الأذى الذي لم ينفكّ يطالها فعلا وقولا وسعيا حثيثا إلى تغيير القوانين بما يمنع تحقيقها لإنسانيتها الكاملة وتحليقها بنا نحو غد أجمل وأبهى وأكثر ألوانا...

ولأنّ عمليّة الانتقال باتّجاه الديمقراطيّة ليست عمليّة لا يسيرة ولا مستقيمة ولا مستمرّة بذاتها، بل عمليّة عويصة وعسيرة وفيها مدّ وجزر، ولأنّ المتربّصين بمطامح شعبنا كثر، وثعالب، وفي جعابهم أسهم بل أسلحة كثيرة، فإنّه من واجبنا أن نتحلّى جميعا بالثّبات واليقظة وروح المداومة، وأن نتمترس مثلما يتمترسون، ونخطّط مثلما يخطّطون، ونحرن كما يحرنون، وأن نوصد أبواب الإحباط والقنوط نتمسّك بخيوط الأمل وأشعّة الفلاح فنقاوم، ونقاوم، ونقاوم...
وعلينا أن نكابد ونمضي قدما بتضحياتنا، ونصون حقّنا في مواطنة حقّة وكاملة ودائمة، ونحرص على أن نعطي ونؤدّي الواجب، ونحبّ النّاس جميعا لكن دون خنوع أو خضوع أو استسلام، وأن لا نخشى على غدنا من يومنا، وأن نبدأ بصنع أجنحتنا والتحليق عاليا نحو الشّمس منذ الآن وهنا...
هذه بعض الخواطر ملأت كياني، وأنا أتجوّل بين معتصمي المصير، ثمّ وأنا أعيش عسف المتزمّتين وأذاهم الذي ذهب ببصري لحوالي 20 دقيقة، ثمّ وأنا أطّلع على بهتان المستبدّين الجدد الذين يمزجون في خطاباتهم بين ادّعاء الديمقراطيّة والتفتّح ورفض العنف، وبين كلّ ما هو تقدّمي وإنسانيّ، ويسوّون بين الذّبيحة وجزّارها ويسرقون السّماء لينفردوا بالنّاس يملون عليهم شريعتهم ويسلّطون عليهم عقدهم هم باسمها...
هذه بعض خواطر رأيت أن أتقاسمها مع قرّائي علّها تحرّك سواكنهم وتشدّهم من أيديهم برفق إلى حيث يسهمون هم أيضا أو يزيدون من إسهامهم في حماية أمننا ومكاسبنا كشعب حرّ وحداثيّ، يضرب بجذوره عميقا في الحضارة، ويتطلّع بهامته التي لن تنحني أبدا نحو مبادئ وقيم هي مبادئ وقيم الإنسانيّة الحقّة بما تعنيه من حريّة وكرامة وعدل ومساواة وإباء.
24 جوان و7 جويلية 2011

3 commentaires: