27 oct. 2011

تعم ، أنا لم أصوت

حتّى عشية السبت كان في النفس شيء من رغبة في طرد كلّ الاعتراضات و عيش إحساس الماشي – و لو غير واثق الخطوة – نحو الصندوق . و ممّا زاد ما في نفسي نفسا أن روى لي صديق كيف التقى في محلّ تجاريّ شيخا ثمانينيا يقيس كسوة جديدة في زهو و خيلاء و يقول : "منذ أمد نسيت لبس الجديد و تركت فرحة الأعياد و الأعراس و الطهور للأبناء و الأحفاد ... لكنّني اليوم أعود صبيّا جذلان بهذه الكسوة أختارها لأجمل عيد و أجمل عرس و أحلى مناسبة أعيشها لأوّل مرّة ، و لعلّني لن أعيشها مرّة أخرى ..." ... و مّما زاد كلام الشيخ أثرا اعتراف صديقي أنّه هو أيضا كان في المتجر ليشتري قميصا جديدا (مخفّض الثمن) ليذهب به إلى مركز الاقتراع . غير أنّ أشياء متزاحمة و إحساسات متدافعة و توقعات او تخمينات ملحاحة و قراءات أو استشفافات يصعب صدّها ما انفكّت تغمرني... و على عادتي تركت قيادي لقلبي و توقّعي .
انا لم أسر نحو صندوق الاقتراع لأنّني لم أعد أحسّ أن انتخاب المجلس التأسيسي فعل تأسيسي حقّ، و لم أعد أرى الّلحظة التي نعيشها لحظة تكريس لانهيار عهد طال أكثر من نصف قرن و انبثاق عهد جديد، و بعد أن كنت من الدعاة المتحمسين لطيّ صفحة نظام و فتح الباب مشرّعا لنظام بديل بدستور جديد، أصبحت أستشعر انتخاب التأسيسي مجرّد خدعة تغيير و التأسيسيّ مجرّد تزويق لنظام سابق يتلوّن و لا يتحوّل يثبت و يثبّت ...
ذلك أنّني رأيت الناس ينادون بإسقاط النظام، ثمّ يسعون إلى اندثار كامل مؤسساته الواحدة تلو الأخرى : التجمّع، و المجلسان، و الرموز و الدّخلية، و الوزراء... و رأيت بالمقابل انحلالا يدعو اليسر الذي حدث به إلى الشّك للمجلسين و التجمّع، و استمرارا بيّنا لرموز و ووراء و الداخليّة... و رأيت الحكومات الثلاث المتتابعة لا تعدو أن تكون غير تواصل للعهد القديم بطوريه في لغتها و طرق عملها و امتلائها قناعات راسخة، و رفضها التواصل الحقّ الذي يعني أن نسأل و نستشير و نفهم و لا ننصب أنفسنا فاتحين و سحرة و خارقين، و في رفضها السير الحثيث كلّما تعلّق الأمر بإصلاح أو مساءلة أو محاسبة أو تخلّ عن الممارسات القديمة بل و حتّى في تجرّؤها المتكرّر على الناس و حريّة التعبير، و رموز الثورة كالقصبة...
و رأيت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإنتقال الديمقراطي و الإصلاح السياسي . بدل أن تصبح صرحا يفهم كنه الثورة موردا و مدّا و تحرّكات و تعبيرا و تطلّعا، و يعقلن سيرها و يعبّد دربها و يدفع بها إلى الأمام في  يسر و ثبات، تغدو حلقة نقاش فضفاض هجرها حتّى المنتمون إليها و قبلت لنفسها أن تصغر و تصغّر حتى تجرّأ عليها من هي أعلى منهم. و من كان من المفروض و الوارد أن تسائلهم و تحاسبهم و تثقّفهم...
ثمّ رأيت هذه الهيئة العليا تكتفي فخرا و نصرا بوضعها القاعدة لإعداد الإنتخابات.
و هو ما تولّته هيئة أخرى أراها تمثّل اللحظة الفارقة و النجم الساطع في سمائنا موضوعية و كفاءة و جلدا و إرادة. و تنظيما... و هي بذلك قد أعطت الدليل على أنّه كان على الاخرين و في وسعهم أن يبذلوا أكثر و أن يحقّقوا خيرا ممّا حقّقوه...
و رأيت هيئة اجتهدت و عطّلت... فلم تتكلّم إلاّ بمقدار و لم تفضح إلاّ بمقدار، و لعلّها في ذلك قد تمسّكت بنصّها المحدث... و الحال أنّنا في زمن و وضع لا أحد يتقيّد فيه بنصّ... ثمّ إنها  لو رأت ذاتها فعلا انتقاليا حقيقيّا لتجرّأت و وسّعت نصّها أو ... لتمرّدت و قفزت من موضعها الرسمّي المكبّل إلى الموضع الذي كان خيرا لها و للناس أن تكون فيه : موضع الفعل و التحوّل و المساءلة الصريحة و المحاسبة أو الإعداد للمحاسبة الحقّة ...
و رأيت لجنة لم تفلح إلاّ في تأليب الناس جميعا عليها... و تعملقت و استغولت... و جرؤت على تجاوز حدودها لكن باتجاه الابتعاد أكثر عن الناس و عن واجباتها و عمّا ينتظر منها... و حقّرت من شأن منتقديها و مغادريها بل و حتّى من شأن الهيئة العليا، و جرّت الحكومة و الرئاسة إلى ما اختارته بل اختاره المتحكّم الوحيد في خطاها رئيسها الذي نصّبه النصّ حاكما مطلقا، و عنيد الطبع بطبعه... لجنة ما تزال تذكّرنا بأسوإ ما سلّط علينا طوال نصف قرن : الإدّعاء بالريادة و الأهلية المطلقة و الفلاح المبين ، و تغليق المسامع ، و الإصرار على معاداة الشفافية مطلقا .
و رأيت متنفّذين ما يزالون متنفّذين ، و فسادا يتوالد ... و رأيت تجمّعا ينحلّ و يفرّ منه الفاعلون الأبرز فيه، و لّكن ليظهروا سريعا في خمسين حزبا ( و الحال أن القانون لا يخوّل لحزب أن يرخّص فيه و هو يشابه حزبا قائما أهدافا و برنامجا) لا شكّ أنّها برمجت بعد لتوحّد و شيك و لم أر واحدا من هؤلاء يعترف بذنب أو خطإ أو تخاذل أو مسؤوليّة ...
و رأيت أحزابا و تنظيمات و منظّمات و هيئات تتكالب و تتهالك على الإنتخابات همّها أن تكون في التأسيسي و أن تتعدّد كراسيها فيه... بعضها بل جلّها تهالك و تكالب يوم 13 جانفي ( و لم يعتذر عن سوء تقديره أو يعلّله بعد.) ثمّ تكالب و تهالك بعد 14 جانفي ( و اكتفى لنفسه بقدر كان أصغر من قدره ، و بدل أن ينحاز للجماهير الهادرة كدّ يناديها إلى الإنسحاب و يبوّئ نفسه قيادتها، و لمّا لفظته
عاداها جهارا و حتّى ناضل... لتعنّف) ثمّ راح بعدها يكدّس المال ليشتري أصواتا و يعقد تحالفات و نسي كنهه
وماضيه,وحتى مناضليه أو بعضهم ...
رأيت الأحزاب جميعا لا أحد منها يبذل جهدا ليفهم من أين جاء هذا الحراك الهادر, هذه الموجة العاتية, و كيف فاجأنا الزخم... لا أحد يسائل نفسه لماذافوجئ و لماذا كان فعله في الفعل غائبا أو هيّنا... لا أحد يسعى ليفهم من أين جاء هؤلاء الشباب, وكيف كبر الغضب حتى انفجر نداء واحدا موّحدا في بلد لافرصة فيه لتنظيم أو تجميع أو تهيئة خارج السلطة ولا كيف تفطّن أبناؤنا و بناتنا لمكسب بشري جديد فطوّعوه و وظّفوه و تجاوزنا بل و تصدّروا وفقا لما يقوله كبار في العالم و لايجاملوننا ووفقا لما يستشعره قلّة منا وكما يتشدّق به كثيرون,
ثورة عظمى افتتحت القرن الجديد و تجاوز صداها بل فعلها أرض افريقية امتدادا عربيا متوّسطيا,بل نصرا جديدا للنوع الانساني .
ورأيت نخبا ليست نخبا:جامعيون تهافتوا على المنابر يقولون ما يقولون لا عن تدبّر و رويّة بل لمجرّد أن يقولوا...ورجال ونساء قانون نصّبوا أنفسهم دولة ودستورا وبناء مستقبل,ولأنّ بعضهم كان له دور في الحراك وفي الثورة جسب جلّهم أو تهالكوا ليحسب غيرهم أنّ الحراك وليدهم وأنّ الثورة فعلهم...
و رأيت جماعات و عائلات وقبضات من ناس كانوا لا يلتقون الاّ في تستّر أو في المقاهي و البارات وباحات الجوامع,ينصّبون أنفسهم دعاة و قيادات , و يشكّلون القائمات الانتخابية ...ويبتغون التأسيس لغد أبنائنا وبناتنا!
ورأيت إعلاما تائها أحيانا,ومتسلّقا أحيانا, و متعملقا أحيانا, وذليلا أحيانا,ومتزلّفا,دعيّا غالب الوقت...
و رأيت جميع هؤلاء يؤجّلون الفكر,ولا يحفلون بحتميّة المراجعة ولا يستقرؤون المقبل,ويعطّلون مواصلة الهدم مساءلة و محاسبة وإسقاطا لما لابدّ له أن يسقط ,ولايتحدّثون في البناء الجدّ بل يؤجّلونه لما بعد التأسيسي,ورأيت جميعهم لا يهمّهم إلاّ العديد و العدد و التمويلات (لا يقلقهم التساؤل:من أين جاءت؟) و استمالة الأنصار و أشباه الأنصار حتّى متى كانوا من خصومهم الألدّاء السابقين
ورأيت نظاما قديما بل عتيقا يتماسك من جديد بحزم وفي صمت لم نعهده فيه ,يعيد التشكّل ,و يتمظهر في مظاهر جديدة و يجذب إليه المنجذبين الكثّر حتى من مناوئيه السابقين ... رأيت السلطة لا تخرج من بين يدي السلطة ... رأيت نظاما يعيد طلاء جدرانه ولا شيء غير طلاء جدرانه ...رأيت شعارات ونداءات و مطالب خلعت من خلنا أنّه لا يخلع, وهزّت كياننا و استدعت العالم إلينا,تبدّل معانيها و تصبح عناوين لغير أهلها,و تغدو طعما لشعب مايزالون يحسبونه سمكا همّه الوحيد إطفاء جوعه
رأيت تأسيسيا لن يكون فعل تأسيس...و رأيت تقاسما لسلطة بل لزيف سلطة تباركه السلطة القديمة بل تفعل فيه بل تفعله...و رأيت يمينا لا تفرّق بينه و بين اليسار و يسارا كاليمين و وسطا ليس في الوسط.و تحالفات ووفاقات لا كنه لها أو كنهها طمع أو استكانة أو هلع...رأيت شيوعيين يتأسلمون ,و متأسلمين ينزعون لحاهم و أنقبتهم ,,و تجمعيون يغدون نهضويين و ديمقراطيين و تكتّلا وربّما حتّى بدلاء...
رأيت عجبا عجابا:أموالا تغدق,و موادّ غذائية تحجب لتوزّع نداءات انتخابية,وشجرا يهدر أوراقا ملوّنة لا يقرؤها أحد وتزعج أعوان النظافة... و رأيت خطابات كخطابات مللناها و خلنا أنّها انصرفت. و لم أر أحدا معارضا ,أو كالمعارض:لم أرمن نادى بمكافحة الفساد أو بالتصدّي لاستبداد أصحاب العصيّ و الغاز ...لم أر من تساءل أين الشباب و الشابات في قيادات الأحزاب و الهيئات و في القائمات وغدا في التأسيسي؟
ورأيت قيادات حقوقيين ينسون اهتماماتهم الإنسانية و الحقوقية و يتحوّلون ساعين إلى كرسيّ هناك أو هنالك ,يهرولون ليتموقعوا دون أن يعنيهم لا محيط الموقع و لا مآل الأمر ...
ورأيت أن لا أحد يتريّث و يصبر و يتأمّل ... لا أحد ينظر في ما كان و في ما هو صائر و ما قد يكون ...لا أحد يحلّل و يفكّك ...و يبني أو يسعى إلى أن يبني بناءجديدا يقطع مع الثوابت القديمة أو القناعات القاطعة و المطلقات , ويستنبط نظما جديدة و قيما من قيم الشباب و الشابات , و مناهج فعل ليست كالمناهج المتهاوية...


رأيت كيانا قديما خلع رأسه لكنّه بعد أن غدا يتخبّط,على قديمه استوى ,و إلى كلّ المواقع عاد جهرا أو متسلّلا , برجاله و نسائه عاد و بنساء ورجال لم يكونوا منه أو هكذا كان يخيّل لنا ...
ومع أنّني لم أسر إلى مكتب الاقتراع: أنا لا أخشى نتائج الاقتراع.
فأيّا كانت النتائج سيكون الاستمرار: استمرار السلطة في تشبّثها بالسلطة و استمرار شعب في عزمه على أن ينتقل إلى نظام جديد و قرن جديد و مصير جديد...
الموجة الجارفة ستجرف وتجرف وتجرف...و حتى مع كلّ الجزر , و الخفوت , و السكون ستستمرّ الموجة العارمة تهدم و تهدم لنبني البناء القويم .
و أيّا كانت الأغلبية, أيّا كانت التحالفات و التآفات و التواطؤ, سينفضحون كلّهم , سيهزمون بل سينهزمون, و مثلما تهالكوا و تكالبوا سيفرنقعون...
الصادق بن مهني
صبيحة الأحد 23أكتوبر

1 commentaire:

  1. سي الصّادق، أجادلك احتراما وتقديرا لأنّك في قلّة قليلة لا ينقض حاضرها ماضيها، ولن أجادلك إلاّ في أمر واحد ؛ فأنا أكاد أرى جميع ما جرى وما يجري كما تراه وكما وصفتَه، ولعلّك إن زرت مدوّنتي تلمس بعض القرب بين ما تكتب وما أكتب ؛ بل إنّي أعترف ههنا أنّ فكرة الإحجام عن التّصويت قد راودتني طويلا ولازمتني حتّى آخر لحظة، ولئن انتهى بي الأمر إلى الذّهاب إلى مكتب الاقتراع ووضع العلامة على الورقة ودسّ الإصبع في المحبرة، ولم أكن قد فعلت شيئا من ذلك قبل هذا الأحد منذ ولدت، فإنّي لم أفعل وأنا واثق ممّا أنا فاعل ولم يساورني أيّ من مشاعر البهجة والنّخوة الّتي سمعت عنها ناهيك عن الاعتزاز والفخر، كما أنّي لا أملك اليوم أن أجزم أنّي لم أندم على ما فعلت... لست مخالفك إلاّ في تفاؤلك أو حسن ظنّك بـ"الشّعب" وحتميّة إزالته لكلّ ما وصفت (ومن وصفت) من درن وفحش ؛ لَكَم أتمنّى ذلك إلا
    أنّي لا أحسبه كائنا قريبا، ولا تظنّنّ
    أنّ ما حصل إلى الآن ليس سوى نتيجة كيد الكائدين وتدبير المدبّرين، بل هو إلى حد
    كبير وبوجه من الوجوه نتيجة "إرادة الشّعب" أو هو على الأقلّ لم يكن رغم تلك الإرادة ؛ وقد رأينا أنّ تلك الإرادة لم تقهر ولم تنطل عليها حيلة المحتالين حينما لم ترض بحكومة الغنّوشي الأولى وحينما شاءت أن يكون البدء بدستور جديد يعدّه محلس تأيسيسيّ منتخب (إلا
    أنّها رضيت بحكومة السّبسي أو سكتت عنها كما رضيت أو سكتت إزاء كلّ ما كان ممّا وصفت، ثمّ إنّها انتخبت واختارت) ؛ أمّا أن تكون لتلك الإرادة حدودها من الإدراك والرّويّة والتّمييز بين الصّالح والفاسد وما (ومن) ينفع وما (ومن) يضرّ وما يهمّ وما لا يهمّ فذاك شأن آخر.

    RépondreSupprimer