15 avr. 2012

أسلو

أسير في شوارع "أسلو" أتفحّص الواجهات على عادتي... فجأة أجدني أمام معهد "نوبل"، هناك غير بعيد عن القصر الملكيّ... ثمّ بعد أقل من نصف ساعة مشيا أجدني بجوار "مركز نوبل للسلام، المواجه لقصر البلدية المطلّ على الميناء. والذي أدخله متطلّعا إلى روائعه الفنيّة فأجدني بأحد أروقته قبالة صور حفل تسليم جائزة نوبل للسلام لسنة 2011.
حينها فقط، وليس قبلها أو بعدها، انبثقت في وجداني صورة : صورة لينا بن مهني تتسلّم جائزة نوبل للسّلام لسنة 2011... فارتعدت وارتعبت وحاصرني إحساس بالغثيان... ورأيتُني يومين قبل الإعلان عن الفائز أو الفائزين أجيب صحافيتين سويديتين دون سابق ولا طول تفكير أنّني أتمنى أن لا تفوز ابنتي بالجائزة... ورأيتني أعود مساء إلى المنزل وحتّى قبل أن أنزع معطفي أخبر رفيقة دربي عمّا قلت، فلا تنتظرني حتّى أكمل وأسأل وأتساءل بل تسارع لتؤكّد لي أن إحساسها إحساسي وأنّ الجائزة خطر يداهم ابنتنا وأنها تودّ لو يقف القدر إلى جنبنا... وتواترت المشاهد والذكريات : أسابيع ونحن نعيش جحيما جحيما بحق : مئات المكالمات، صحافيون يتوافدون على المنزل دون سابق إعلام، تصريحات وتصريحات وتصريحات، فرق إعلام تتوالد وتتعدّد دون أن تعلن عن ذلك، وتلك المنشطة في راديو كندا التي لا تقتنع بأنه لم يكن في وسع أمّ لينا أن تربط بينهما، وبغية إفحامها تقول لها في شبه أمر : "اتّصلي بها عن طريق أحد حرّاسها الشخصيين، من فضلك !" والأصدقاء الذين تحوّلوا واسطات يقدمون إلى المنزل ووراء ظهورهم إعلاميون قرؤوا على "الفايسبوك" أنّني لمجرّد حفاظ على صحّتها أمنع لينا من أي اتّصال".
ومثلما ينهمر على ذاكرتك فجأة لمجرّد أنّك رأيت صورة أو تذوّقت نكهة أو أبصرت شعاعا أو سمعت نغما، شريط أحداث كنت لأمر ما دفعت بها عميقا في ملفّات دماغك، أو غمرها الزّمن  بغيرها، أو أردت طمرها لتهرب منها، غمرتني تلك الأيام الشاقة : كتابات وكتابات وكتابات في "الفايسبوك" وفي بعض الصحف، وتصريحات في إذاعات وتلفزات، وهرج كبير ومرج أكبر : هذا يتساءل كيف رشحت لينا نفسها للجائزة والآخر يقول أن على تونس أن ترشح غيرها، وذاك يرشح هذا أو تلك، وغيرهم يقذف لينا بأقذف النّعوت... بل إن بعضهم يذهب حتّى المبادرة بمكاتبة جهات عليا وربّما حتّى القائمين على جائزة "نوبل" ليقول أنّ لينا ليست جديرة بالجائزة وليتوعّد أو يحتجّ أو يعارض...
مئات من الإذاعات والتلفزات والصحف الأجنبية من كلّ بلدان الدنيا يهتفون باسم لينا وقلّة قليلة من بنات وبني وطني يدعون لها أن تفوز بالجائزة...
وبنوا/ بنات بلدنا -إلاّ قلّة منهم، هم بعض من جماعة الضلال والتيه والعهر والفساد- يجادلون ويحتجّون ويثلبون ويحنقون ويغتاظون ويجهدون أنفسهم حتّى لا تفوز لينا... ولعلّ بعضهم أشعل شموعا من أجل ذلك أو تعكّف راغبا من الربّ أن يلهمه إلى فعلة تقطع الطريق بين الجائزة وبين لينا...
تونس تكاد تدخل قائمة "نوبل" لأوّل مرّة ، ولا أحد من الرسميين حكومة وأتباع حكومة والأحزاب والمنظمات وغالبية الجمعيات قد عبّر، بصورة أو بأخرى، عن سعادته أو ترحيبه أو تثمينه أو مجرّد قبوله بهذه الفرضية التي لم تنبن –واقعا- على ترشّح أو ترشيخ بل عن اختيار من القائمين على الجائزة ذاتهم...
فرصة لتبرز تونس، وثورة تونس، وتمسّك التونسيين بالسلام ومجانبتهم للعنف، وغالبيتنا تفكّر بعقلية "إمّا أنا أو أخي أو صاحبي أو فلنفسد كلّ شيء..." وفي ذلك ذهب بعضهم ومازالوا يذهبون مذاهب غريبة عجيبة... فمنهم من رشّح واختار وعيّن ومنهم من صفّق لأن الجائزة لم تؤل للينا، ومنهم من يدعو لترشيح المؤقت لهذا العام وكأن الأمر حقّ وطنيّ، لزام على جماعة نوبل أن يأخذوا به تكفيرا عن ذنب...
...ووصلت إلى الفندق حيث لينا...
وفاجأتها واستغربت وتعجبت إذ قلت لها : أنا ذاهب إلى غرفتي لأكتب رسالة شكر إلى كل من لم يؤازرك ولم يساندك ولم يفرح لك ولتونس إذ تم ترشيحك لجائزة نوبل..."
نعم أن أشكركم جميعا حكومة وأحزابا ومنظمات وجمعيات وبعضا من الشعب وأفراد مقدامين ورئيسا مؤقتا (سابقا ولاحقا) ووزيرا أوّل (سابقا ولاحقين)، فلقد استمدّت لينا واستمدّ أهل لينا وأحبّة لينا من غيرتكم وانحيازكم البليد وقلّة وعيكم الوطنيّ وتكلّس أذهانكم ما قوّانا جميعا لنواجه البلادة والتخلّف والبهامة والجشع والانحياز الأعمى...
ولم تخسر لينا جائزة "نوبل"... لأنّها إذ ناضلت لم تكن تفكّر في جوائز ومكافآت، وإذ حملت روحها على كفّها ومضت إلى حيث لم تمضوا، لم تكن تنتظر عونا من أيّ منكم.

6 commentaires:

  1. نهيق الحمار و هو منكر يطغى على تغريد البلبل رغم عذوبته. فلينا في قلوب الشباب الحر رمز لتونس المناضلة و إن طالتها مخالب عقبان الثورة.

    RépondreSupprimer